أصول التفكير النقدي
من أين نشَأَت الفكرة القائلة بوجود شكلٍ من أشكال التفكير فريدٍ بما يكفي لوصفه بمصطلح «النقدي»؟
بَدءًا من هذا الفصل، سنتطرَّق إلى عددٍ من المحاولات لتحديد المقصود بالمفكر النقدي، بينما يُخصَّص الفصل الثاني لوصفِ مختلِفِ العناصر التي تدخل ضمن بِنْية التفكير النقدي، ويُركِّز الفصلُ الثالث على الكيفية التي يمكن استخدامها لدمج تلك العناصر معًا في سياقِ كيفية تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه.
من المهارات التي يتفق الباحثون والمعلمون على ضرورةِ أن يتحلَّى بها المفكرُ النقدي ويمارسَها: القدرةُ على النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة؛ ولذا يتَّخذ هذا الفصلُ نهجًا تاريخيًّا تأصيليًّا من خلالِ مناقشةِ مصدر نشأة فكرة التفكير النقدي، وكيفيةِ نشأتِها وتطوُّرِها منذ ذلك الحين.
والأمر كلُّه يبدأ بالفلسفة.
(١) الفلسفة
ثَمة ثورةٌ فكرية قد حدثَت خلال الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الرابع قبل الميلاد، وحدَّدَت العديدَ من جوانب الحياة التي نراها من المسلَّمات في الوقت الحاضر. في تلك الفترة على سبيل المثال، وضَع كونفوشيوس نظرياتٍ عن السلوك البشري السليم والتنظيم الاجتماعي، وهي ما نُسميه اليوم بالفلسفة الأخلاقية والسياسية. في الحِقبة نفسِها، استكشفَ مُمارسو تقليدِ الفايشيشيكا الهنديِّ أسئلةً ميتافيزيقية تتعلَّق بطبيعة الحقيقة.
في الغرب، وقعَت ثورةٌ فكرية مماثلة في اليونان القديمة، وهي أرضٌ سادت فيها الدولُ ذات المدينة الواحدة الصغيرة مثل أثينا، حيث وُلِدَت الفلسفة الغربية.
توجد ثلاثُ شخصيات أساسية في قصة نشأة الفلسفة اليونانية. أُولى هذه الشخصيات هي سقراط الذي شكَّك في المعتقَدات الثابتة، وسعى جاهدًا لعيش «حياة قائمة على التجارِب»، وهي الأنشطة التي أكسَبَته لقبَ أبي الفلسفة الغربية، إضافةً إلى الحكم عليه بالإعدام من رِفاقه الأثينيِّين المنزعجين منه. لم يترك سقراط أعمالًا مكتوبة، لكنَّ آخرين قد دوَّنوا أفكارَه، لا سيما تلميذه أفلاطون الذي يُقدم في كتاب «المحاورات»، أفكارَ معلِّمه متداخلةً مع أفكاره الخاصة. أسَّس أفلاطون ما يُعَد أولَ مدرسة للفلسفة في الغرب، وهي «الأكاديمية»، حيث درس الفلاسفة مثل الفيلسوف النابغ أرسطو.
بالرغم من ذلك، فلِكَي نفهمَ أصول التفكير النقدي؛ علينا الاطِّلاع على الأعمال الرئيسية التي كتبَها أرسطو، تلميذُ أفلاطون.
ولِفَهم فلسفة أرسطو والفلسفة الكلاسيكية بوجهٍ عام؛ يجب مراعاةُ أنَّ التفريق الحاليَّ بين الفلسفة والعلوم لم يكن موجودًا في العصور القديمة. فأعمال الفلاسفة اليونانيِّين القدامى (يُطلق عليهم فلاسفة ما قبل سقراط) على سبيل المثال، قد ركَّزَت على طبيعة العالم المادي. ومع أنَّ أفكارهم، مثل أن الكون يتألَّف من الماء أو النار أو المغناطيس، تُعَد في حد ذاتها كائناتٍ حية، تبدو ساذَجةً اليوم؛ فقد كان هؤلاء المفكِّرون بمثابة فيزيائيِّين مُبكِّرين، يَصوغون التفسيرات الفيزيائية للظواهر الطبيعية، بدلًا من التفسيرات السحرية أو الدينية.
من بين الأدوار التي قام بها أرسطو، دورُ المنظِّم الكبير الذي وضع نظامًا للعديد من التخصُّصات التي درَسَها هو وغيرُه من المفكرين. والحقُّ أنَّ العديد من المجالات الأكاديمية في الوقت الحاضر مثل علم الأحياء وعلم السياسة، لم تُصبح تخصُّصاتٍ منفصلةً إلا عندما حلَّلها أرسطو ونظَّمَها.
وقد تَمثَّل نهجُه الذي كان فريدًا حينذاك، في جمعِ الأدلة والأمثلة، ومِن ثمَّ استخدامها لإنشاء الأنظمة التي تُحدِّد تعريف مجالٍ محدَّد. فعلى سبيل المثال، أدَّت دراسة أرسطو للنباتات والحيوانات (وكانت بعض العيِّنات قد أُحضِرت من الأراضي التي غزَاها تلميذُه الإسكندر الأكبر)، إلى تطويرِ نظامٍ تصنيفي يقوم على السِّمات المادية، وهو الذي مَهَّد الطريقَ للتصنيف الأحيائي المستخدَم اليومَ لتصنيف الكائنات الحية. وفي كتاب «السياسة» أيضًا، صنَّف أرسطو دساتيرَ الكِيانات السياسية المعاصرة له بصِفتها «نماذج» للتنظيم السياسي، ثم دمَج نظامه التصنيفي في بِنْيةٍ هي التي وضَعَت تعريفًا لمجال العلوم السياسية.
إضافةً إلى ذلك، كتب أرسطو أعمالًا أصليةً عن علم المنطق قدَّم فيها نُظمًا لتصنيف المعلومات، وطُرقًا لتنظيم الحجج المنطقية وتحليلِها، وأنواع أخطاءِ الاستنتاج (المغالَطات)، والعديد من المفاهيم الأخرى التي نتناولُها في مناقشة الفصل التالي عن موضوع التفكير المنهجي. وفي مؤلَّفاته عن اللغة التي تأتي تحت عُنوان «البلاغة»، يوضِّح أرسطو أيضًا إمكانيةَ اختيار الكلمات والعبارات المستخدَمة لطرح الأفكار والحجج وتنظيمِها من أجل الإقناع. وسوف نُناقش دورَ اللغة في التفكير النقدي في الفصل الثاني أيضًا.
ظلَّ العديد من أعمال أرسطو طيَّ النسيان على مَدار قرون. لكنها اكتُشِفت من جديد في عصورٍ مختلفة؛ ومِن ثمَّ استُخدمت هي وغيرُها من الأعمال الكلاسيكية للمساعدة في تدشين عصورٍ جديدة من الاستكشاف الفكري. ومع ذلك، فحتى حينما لم تكن كلماتُه المحدَّدة محلَّ الدراسة، فإن الأفكار التي استنبَطها، لا سيما الأفكار المتعلقة بالمنطق والبلاغة، كانت هي اللَّبِناتِ الأساسيةَ للتعليم على مدار قرون.
فعلى سبيل المثال، كان التعليمُ لدى القدماء من اليونانيِّين والرومانيين يبدأ بدراسةِ ما يُسمى ﺑ «تريفيوم» («الفنون الثلاثة»، وهي المنطق والبلاغة والقواعد (اللغة وتراكيبها)). وحالَما يُتقن الطلاب تلك الموادَّ الدراسية، كان الطلاب ينتقلون إلى دراسة «كوادريفيوم» («الفنون الأربعة» وهي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى). كانت تلك التخصصات الأربعة إضافةً إلى الفنون الثلاثة تُشكِّل الفنونَ الحرة السبعة في العالم القديم. وعلى الرغم من أن فنَّي المنطق والبلاغة لم يندرجا دومًا في إطار الفنون الثلاثة أو الفنون الأربعة؛ فقد ظلَّت تُحدِّد تعريف «الشخص المتعلِّم» على مدار العصور الوسطى وحتى فترةٍ كبيرة من العصر الحديث.
عندما كنتُ في المرحلة الجامعية في ثمانينيَّات القرن العشرين، كان أحدُ الأساتذة يقدم دورةً دراسية بعنوان «الفنون الأربعة» وكانت بمثابةِ نهجٍ حديث لتدريس المجموعة الثانية من موادِّ الفنون الحرة السبعة. وعلى الرغم من وجود تجارِب مماثلة في العديد من مدارس الفنون الحرة، فإنَّ الاهتمام بالتعلم على طريقة الفنون الثلاثة، يتَّضح بالدرجة الكُبرى في العصر الحاليِّ في بعض شرائح حركة التعليم المنزلي بالولايات المتحدة؛ إذ يمكن الجمع بين التعليم الكلاسيكيِّ والتعليم الديني بحُريَّة. تلك الإشارات الصغيرة إلى عناصر الفكر القديم، إضافةً إلى دور المنطق في كلِّ مناقشة عن التفكير النقدي، توضح جاذبية «حب الحكمة» أو الفلسفة لدى مَن يسعَوْن إلى غرسِ ما هو أكبرُ من المعرفة لدى المتعلمين.
(٢) عصر النهضة والثورة العلمية وعصر التنوير
اندلعت سلسلةٌ أخرى من الاضطرابات السياسية والفكرية في أوروبا، بدءًا من القرن الرابع عشر، وأدَّت إلى مزيدٍ من الثورات في التفكير قد أسهمَت بعناصر أساسية فيما سيُعرَف بعد ذلك بالتفكير النقدي.
ويشير مصطلح «الثورة العلمية» إلى الفترة التي بدأَت في القرن الخامسَ عشر حين أدَّت التطوراتُ المذهلة في الرياضيَّات والعلوم الطبيعية، التي اكتُشِفت من خلال تبنِّي مناهجَ جديدةٍ في البحث، إلى اكتشافاتٍ عظيمة ومثيرة للجدل؛ مثل اكتشاف أنَّ الأرض ليست مركزَ الكون.
تصف النسخةُ المختصرة الشهيرة من هذا التاريخ كيف انتهَت في أوروبا «العصور المظلِمة»، التي سيطرَت فيها الكنيسة الكاثوليكية على عقول الناس، حين أصرَّ علماءُ شجعان أمثال كوبرنيكوس وجاليليو على أنَّ الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، وأثبَتوا ذلك من خلال الحسابات الرياضية والملاحَظات العِلمية. إنَّ نجاح هذا النوع من التفكير العلميِّ قد ألهم آخَرين بالتخلُّص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرقٍ عقلانية وعِلمية.
إنَّ نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهَم آخرين بالتخلُّص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
من سوء الحظ أنَّ إنتاج أرسطو في العلوم التطبيقية ورؤية الطبيعة التي كان يُمثِّلها، لم يكن بالمتانةِ نفسِها التي اتَّسمَت بها أعمالُه في علم المنطق. ففي عصر أرسطو، كانت طريقتُه في استنتاج الحقائق بِناءً على ما تُدركه حواسُّ الإنسان بدلًا من تفسير الظواهر الطبيعية على أنها من أفعالِ الآلهة، إنجازًا فكريًّا هائلًا. لكن هذه الطريقة لا تُصيب في بعض الأحيان، فالتجرِبة الحسِّية تُخبرنا على سبيل المثال أنَّ الأرض ثابتةٌ بينما تدور الشمس والقمر والنجوم من حولها. وقد كان هذا ما أنتجَ نظريةَ نظام مركزية الأرض التي وضعَها بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، بما يتفق تمامًا مع الإدراك الحسي؛ ومن ثمَّ كانت صالحةً وفقًا لعلوم زمانه وحتى القرن الخامسَ عشر بعد الميلاد.
تجدر الإشارة إلى أن فرضية مركزية الشمس لم تحلَّ محلَّ فرضية مركزية الأرض في الكون تلقائيًّا حتى بين العلماء. كانت النظرية تحتاج إلى تفسير، وهو ما قدَّمه إسحاق نيوتن في النهاية عندما اكتشَف أنَّ الجاذبية تنطبقُ على جميع الأجسام بما فيها الشمس والكواكب، وقدَّم صِيَغًا رياضيةً يمكن تطبيقُها على حركة الأجسام السماوية. ساعدَت القوةُ التفسيرية لنظام نيوتن في صَقْل فرضيَّةِ مركزية الشمس حتى بات أبسطَ من تفسير نظام بطليموس، كما أنه كان تفسيرًا أدقَّ للظواهر المرصودة. إنَّ الحاجة إلى تأكيد الأفكار بالأدلة، وإيجاد آليات تُشكِّل حُججًا يمكن أن تتَّفق مع الأدلة (مثل ميكانيكا نيوتن)، وكذلك تفضيل التفسيرات الأبسط على التفسيرات الأعقد، كلُّ ذلك قد وضع نهجًا جديدًا في العلم امتد تأثيره إلى ما هو أبعدُ من تبنِّي نظرية محددة أو التخلي عنها.
من بين هؤلاء رينيه ديكارت، وهو فيلسوف وعالمُ رياضيات قدَّم إسهاماتٍ كبيرةً في الجبر والهندسة، وكلاهما من أساسيات الرياضيات والعلوم في العصر الحاضر، كما أنه أسَّس علم الفلسفة الحديثة من خلال تجارِبه العقلية القائمة على «الشك الجذري». بدأت تلك التساؤلاتُ بالتشكيك في حقيقة كلِّ شيء، بما في ذلك إدراكُه الحسِّي؛ وذلك لتحديد ما يمكن أن يتبقَّى ويُطلق عليه حقيقة لا شكَّ فيها. استنَدَت إجابته بأنه كائنٌ مفكر (التي أدَّت إلى مبدأ «الكوجيتو» الشهير: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود»)، إلى حُجَّة أنه لكي ينخرطَ في التفكير أصلًا، فلا بد من أنه موجودٌ بصفته كائنًا مفكرًا. امتدت أفكارُ ديكارت إلى مجال العلوم في أعمالٍ مثل «مقال عن الطريقة الصحيحة في توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم»، الذي حاول فيه أن يؤسِّس العلمَ على نوع اليقين المرتبطِ بالبراهين الرياضية.
على مدار جزءٍ كبير من التاريخ الحديث، ظلَّ المشتغلون في المجالات العلمية يوصفون بأنهم من «فلاسفة الطبيعة» لا من «العلماء».
ثمة فلاسفةٌ آخرون مثل فرانسيس بيكون وديفيد هيوم، قد اتخَذوا نهجًا آخرَ يُركز على الأدلة التجريبية أكثرَ من الاستنتاج المجرد، ويعتبرها مصدرَ المعرفة الحقيقية. ردَّد السِّجالُ بين المثاليِّين مثل ديكارت والتجريبيِّين مثل هيوم، أصداءَ الجدالات القديمة بين أتباع أفلاطون الذين رأَوا أنَّ العقل هو مصدرُ الحقيقة، واتخَذوا من الرياضيات مثالًا أعلى، وأتباع أرسطو الذين اتخذوا مجالَ علم الأحياء القائم على البراهين نموذجًا لهم.
لا يتَّسع المقامُ في هذا الكتاب لتوضيح كيف أنَّ الفلاسفة المتأخرين مثل إيمانويل كانط ساعَدوا في رأب الصدع بين الفريقين (انظر «المصادر الإضافية» للمزيد من المعلومات عن تاريخ العلوم وكذلك عصر النهضة وعصر التنوير)، لكن الأمثلة المذكورة بالفعل توضِّح كيف أنَّ المفاهيم المنبثقةَ من الفلسفة: مثل الدور الأساسي للبراهين، والحاجة إلى التفسير (في شكل آليَّات ونماذج)، ومبدأ الشك باعتباره وسيلةً للوصول إلى المعرفة، قد ساعدت في ميلادِ شكلٍ جديد من البحث العلمي.
في العصر الحاضر، يتعلَّم الطلابُ على مستوى العالم منهجًا تولَّد من تلك الجدالات يُسمى «الطريقة العلمية». يتمثل استخدام هذه الطريقة في طرح سؤالٍ ما، ثم اقتراح إجابةٍ للسؤال (تُسمى «الفرضيَّة»)، وتُعَد هذه الفرضية فكرةً مبدئية في أثناء جمْع البراهين لإثباتها أو دَحْضها. وتصبح الفرضيات التي تَصمد أمام هذا التدقيق «نظريَّات» لا يُزعَم بأنها حقيقة أبديَّة ولا شكَّ فيها، لكنها تعتبر أساسًا قويًّا يمكن استخدامُه قاعدةً للأبحاث في المستقبل.
هل نتعلَّم أو نُنشَّأ على تبنِّي معتقَداتٍ مشروطة، وإخضاعها لاختباراتٍ صادقة، وعلى أن نكون مستعدِّين لرفضها إذا لم تتفق مع الحقائق والملاحظات، بغضِّ النظر عن الموضوع قيد الدراسة؟ فبالرغم من كل شيء، لا يتطلب قرار اختيار المرشَّح الذي نُدْلي له بصوتنا معدات مكلفة ومعقدة مثلما أنَّ قرار اختيار السيارة التي نشتريها لا يتطلَّب عمليةَ مراجعة الأقران. لكنَّ اتباع منهج التفكير النقدي في هذه الموضوعات يستلزم منك عدمَ القفز إلى إجابةٍ مباشرة، بل اقتراح إجابةٍ واختبار وجاهتها، ثم الوصول إلى استنتاجٍ بناءً على نتائجِ تلك الاختبارات. ويمكن وصفُ ذلك النَّهْج بعبارة «التفكير بعقلية العالم»، لكنَّ الأدقَّ أن نقول إن كل المفكرين النقديِّين، بمَن فيهم العلماء، يعتمدون على طرقٍ مستلهَمة من تطور العلوم الحديثة، لكنها في الوقت نفسِه وثيقةُ الصلة بجميعِ مناحي الحياة.
بحلول القرن التاسع عشر، تأسَّست على الممارسات العلمية التي تطوَّرَت على مدار القرون الأربعة السابقة عليه، تخصصاتٌ جديدة، ومنها علم النفس المعنيُّ بدراسة العقل البشري. شهد القرن التاسع عشر أيضًا ميلادَ مدرسة فلسفية جديدة تُسمى «البراجماتية»، ولكلٍّ من المجالَين دورٌ مهم في تشكيل مفهوم التفكير النقدي.
(٣) علم النفس والبراجماتية
ظهر علمُ النفس بصفته مجالًا مستقلًّا في أواخر القرن التاسع عشر، وهي فترةٌ شهدت — كما ذكرنا — ظهورَ العديد من التخصصات الأكاديمية الجديدة ووضع تعريفات محدَّدة لها على أسسٍ عِلمية. في تلك الفترة، نشر سيجموند فرويد فكرةَ أن العقل البشري ينقسم بين العاطفة والغريزة الحيوانية التي تتصارع مع ذَواتنا المفكرة دومًا على السيادة. وقد قوبِل الكثيرُ من أعمال فرويد بالتشكُّك، بل بالهجوم الشرس أيضًا باعتبارها غيرَ عِلمية ولا حتى أخلاقية، لكنَّ العديد من أفكاره المستمَدة من النصوص الأدبية والفلسفية والدينية، لا تزال تُلقي الضوء على الجوانب العقلانية وغير العقلانية في تركيبنا العقلي.
وعلى الرغم من أن العالم الألماني فيلهيلم فونت لا يرتقي إلى شُهرة فرويد في الثقافة العامة بالعصر الحاضر، فإنه هو مَن يُعَد مؤسِّسَ علم النفس العلمي الحديث؛ إذ أكمل التنظيرَ الفلسفي التقليدي عن تكوين الوعي البشري بطرقٍ تجريبية مستمَدةٍ من مجالات عِلمية؛ مثل علم وظائف الأعضاء. فمِن خلال الدمج بين قياساتٍ لاستجابات الأشخاص على المحفزات والتعليقات التي جُمِعَت من هؤلاء الأشخاص في حوارات أُجريَت معهم بعناية، أنشأ طُرقًا منهجية لا تزال تُشكِّل الأساسَ للأبحاث المعاصرة في علم النفس. وقد كان لبيير جانيت الفرنسيِّ دورٌ مماثل في استخدام الطرق العلمية لدراسة العقل. ومن أهم إسهاماته تشكيلُ تسلسلٍ هرمي للميول الذهنية التي تنوَّعَت في نظره ما بين أنشطةٍ لا تتطلب سوى مستوًى معرفيٍّ منخفض، يشترك فيها كلٌّ من الحيوان والإنسان، وبين الملَكات العاليةِ المستوى التي يختصُّ بها الإنسان، مثل اللغة والتفكير الرمزي.
على الرغم من أن العالم الألماني فيلهيلم فونت لا يرتقي إلى شهرة فرويد في الثقافة العامة بالعصر الحاضر، فإنه هو مَن يُعَد مؤسِّسَ علم النفس العلمي الحديث.
في الولايات المتحدة عام ١٨٩٠، ألَّف البروفيسور الأمريكي ويليام جيمس، أخو المؤلف هنري جيمس، كتابَ «مبادئ علم النفس»، وهو أحد أهمِّ كتب علم النفس في عصره، وكان جيمس أيضًا أولَ مَن درَّس علم النفس في جامعة هارفارد.
إضافةً إلى أهمية دور جيمس في دراسة علم النفس بِناءً على مبادئَ علمية، فقد كان أيضًا شخصيةً محورية في الفلسفة الأمريكية؛ إذ نشَر مدرسةً فكرية تسمَّى البراجماتية، وتُعَد المدرسةَ الفلسفية البارزة الوحيدة التي نشأَت بكاملها في الولايات المتحدة، ويُنسَب هذا التطورُ إلى البارعِ الغريبِ الأطوار تشارلز ساندرز بيرس.
ترى البراجماتية أنَّ الأشياء تُعرَّف بآثارها العَمَلية لا بخصائصها التجريبيَّة ولا الميتافيزيقية. فالسكِّين على سبيل المثال حادٌّ، لكن ذلك ليس بسبب عرضِ حافَتِه القاطعة، ولا لأنه جزءٌ من أحد قوالب الحِدَّة الأفلاطونية. وإنما لأن استخدامنا العمَلي للسكِّين (مثل قطْعِ شيءٍ ما)، هو وحده ما يُحدِّد أن السكين حاد. ينطبق الأمر نفسُه على الرسومات؛ إذ توصَف بالجمال لتأثيرها في الناس، وليس بسبب أيِّ صفات جوهرية فيها.
يُستمَد الدورُ الذي أدَّته الفلسفة البراجماتية في أصول التفكير النقدي من تحليل بيرس البراجماتي للتفكير ذاتِه؛ إذ لم يكن يراه خاصيةً للعقل أو الروح، بل وسيلةً تؤدي إلى غاية.
من هذه الطرق «الاعتقاد المسبق»، التي تتمثَّل ببساطةٍ في الاستمرار في الإيمان بالأشياء التي يعتقدها المرء مسبقًا بالفعل أو الأشياء التي تُشعِره بالراحة. وتوجد طريقة أخرى تترسَّخ بها المعتقدات لدى الفرد وهي «السُّلطة»، مثل سُلطة الكهَنوت أو أعراف المجتمع التي تُحدد المعتقدات والأفكارَ المحلَّلة والمحرَّمة. وتلك السُّلطة غالبًا ما تُناهضها الأرواحُ الحرة؛ فالعديد من هؤلاء الأشخاص يُشكِّلون معتقَداتِهم من خلال «التشبُّث» الذي يتضمَّن الركونَ إلى نظامٍ عقَدي والتشبُّث به بشجاعة، مهما كلَّف الأمر، وبغضِّ النظر عما إذا كان صحيحًا أو خاطئًا.
وعلى الرغم من أن هذه الطرقَ الثلاثة لترسيخ المعتقد (الاعتقاد المسبق والسلطة والتشبُّث) تتَّسم بشيءٍ يُزكيها، فلا يُعَد أيٌّ منها خيارًا ممتازًا باعتبارها طرقًا حصرية للوصول إلى الحقيقة. إذا كان الهدف الوصولَ إلى الحقيقة، فإنَّ بيرس يقترح تبنِّي نموذج العلوم؛ لأنها تتعامل مع المعتقدات بصفتِها حالاتٍ شرطيةً حتى إن أُجرِيَ عليها المزيدُ والمزيد من التجارب، ثم تُجمَع البراهين كي تُقرِّبنا أكثرَ وأكثر من الأفكار التي يُحتمل أنها حقيقة.
وعلى الرغم من الدورِ المهمِّ الذي أدَّاه كلٌّ من بيرس وجيمس في التاريخ الفكري الأمريكي، فإنَّ فيلسوفًا براجماتيًّا آخرَ يعمل في مجال التعليم يُدعى جون ديوي؛ هو مَن وضَع تلك الأفكارَ في أول بناءٍ ملموس للتفكير النقدي.
(٤) جون ديوي
درَّس جون ديوي في جامعة شيكاغو وجامعة كولومبيا بنيويورك منذ تسعينيَّات القرن التاسعَ عشر حتى عامِ ١٩٣٠، ويعتبر من أهمِّ المفكرين المشهورين في القرن العشرين. وعلى غِرار ويليام جيمس، كان ديوي فيلسوفًا براجماتيًّا، ومُسهِمًا أساسيًّا في النظريات المبكِّرة عن علم النفس البشري.
وبالرغم من ذلك، فأكثر ما يشتهر به ديوي الآن، هي إسهاماتُه في مجال التعليم. ذلك أنَّ نموذجه التعليمي التقدُّمي يركِّز على ضرورة تعلُّم الطلاب من خلال الأنشطة القائمة على الاكتشاف، بدلًا من شرح المعلِّم والتدريبات القائمة على الحفظ والتلقين، مما وضَعه بين صفوف روَّاد التعليم الآخرين أمثال ماريا مونتيسوري الإيطالية ورودولف شتاينر النمساوي اللذَين تؤثِّر أفكارُهما حتى الآن في المدارس التي تتبع طريقةَ مونتيسوري، وتلك التي تتبع طريقة والدورف في جميع أنحاء العالم.
يعكس الكثيرُ من أعمال ديوي، بما فيها دوره الكبير في السياسة على مدار القرن العشرين، إيمانَه العميق بالديمقراطية الذي كاد أن يقتربَ من الإيمان الديني. غير أنَّ المجتمع الديمقراطيَّ يستلزم أن يتمتَّع مُواطِنوه بالقدرة على تولِّي أدوارٍ ريادية في حياتهم الخاصة وفي حكومتهم، وهو ما يتحقَّق بعواملَ كثيرة؛ من بينها التحلِّي بالوعي والمعرفة اللازمين لحل المشكلات بطريقة منهجية ومنطقية.
يستند كتابُ «كيف نفكر» إلى رؤيةٍ نفسية مستمَدَّة من الأفكار البراجماتية التي كان بيرس أولَ مَن عبَّر عنها، وهي تُصوِّر التفكيرَ على أنه وسيلةٌ تؤدي إلى غايةِ تبديد الشكِّ الذي هو حالةٌ عقلية تخلق ألَمًا داخليًّا يدفع المرءَ إلى فعل أيِّ شيء كي يتخلصَ منه.
إنَّ رغبة المرء في التخلُّص من الشك تُفسِّر سلوك الأطفال وصغار السنِّ وقدرتهم التي لا تُضاهى في التعلُّم؛ إذ يقودهم فُضولهم الطبيعيُّ إلى استخدام أيِّ ملَكة متاحة، مثل اللمس أو الحركة أو اللغة، كي يفهَموا العالم المحيط بهم.
بالرغم من ذلك، فمِثلما أشار بيرس في كتاب «ترسيخ الاعتقاد»، يمكن تبديدُ الشك بطرقٍ كثيرة، وبعضها أقلُّ إيجابيةً ونفعًا من البعض الآخر. يمكن على سبيل المثال تبديد الشكِّ بتصديق أول تفسيرٍ يتلقَّاه الإنسان، أو باعتناق أفكارٍ يطمئنُّ إليها الفرد بالفعل، أو بقَبول إجاباتٍ تقدمها رموز السلطة.
ووَفْقًا لديوي، تبدأ الأنشطة التعليمية الفعَّالة بتوفير أمثلة للطلاب تُحفِّز الشكَّ في عقولهم، مثل المسائل التي ليس لها حلٌّ واضح، خاصة في الموضوعات التي تهمُّ كلَّ طفل على حدة. وفور غرسِ ذلك الشك، تُصبح مسئولية المعلم هي توجيهَ محاولات الطالب إلى تبديد ذلك الشكِّ بطرق منطقية.
لم يستخدم ديوي كلمة «منطق» لوصفِ النماذج الشكلية المنطقية التي طوَّرها المفكِّرون منذ أرسطو وحتى الفلاسفة الذين عاصَروا ديوي. وبدلًا من ذلك، استخدم المصطلح في كتاب «كيف نفكر»؛ للإشارة إلى طريقة الاستنتاج المستلهَمة من العلوم، التي تتمثَّلُ في اقتراحِ حلٍّ لكنه يظل حلًّا مبدئيًّا إلى أن تُجمَع البراهين وتُجرى الاختبارات كي تؤكِّدَ محاولةَ الحل الأولى أو تدحَضَها. وفي حالة دحضِ محاولة الحل، تستمرُّ سلسلةٌ من التجارِب العقلية المماثلة؛ مما يؤدي في النهاية إلى تعلمٍ عميق ودائم.
وعلى الرغم من أن مؤلِّفين آخَرين استعاضوا في النهاية بمصطلَح «النقدي» عن مصطلح «التأمُّلي»، فقد كان ديوي هو مَن وضَع أولَ تعريف للتفكير النقدي، من بين التعريفات الكثيرة التي سترِدُ في هذا الكتاب، ويمكن رؤية جميع المؤلفات اللاحقة عن هذا الموضوع باعتبارها حوارًا مع الأفكار التي طُرِحت للمرة الأولى في كتاب «كيف نفكر».
(٥) تطوُّر فهم التعليم والتنمية البشرية والسلوك.
طبَّق ديوي أفكاره عمليًّا (أو لِنقُل إنه أخضَعها للاختبار لنكونَ أكثرَ تماشيًا مع منظومةِ معتقداته) في «المدرسة النموذجيَّة» بجامعة شيكاغو، وهي مؤسسةٌ ساعَد في تأسيسها ولا تزال قائمةً حتى الآن، وتضمُّ جميع المراحل قبل الجامعية، من الروضة وحتى المرحلة الثانوية.
على غِرار المدارس التي تتبع منهج «مونتيسوري» ومنهج «والدورف»، فإنَّ مدارسَ التعليم قبل الجامعي مثل «المدرسة النموذجيَّة»، التي تأسَّستْ على الممارسات التعليميَّة التقدُّمية، قد أثَّرَت في أنظمة التعليم العام التي كانت تتبنَّى نموذج المصنع، لكنها لم تحلَّ محلَّها قط خلال القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدَت توسُّع أنظمة المدارس العامة على مستوى العالم؛ لاستيعاب عددٍ أكبر من طلابٍ ينتمون إلى بيئاتٍ كثيرة ومتنوعة. وبالرغم من ذلك، فمِثلما انتشرَت أفكار ديوي بين المعلمين في القرن التالي، استمرَّت المفاهيمُ الواردة في كتاب «كيف نفكر» في التطور، وأضافت إليها إسهاماتٍ من مجالات مختلفة تؤثِّر في تعريفاتِ التفكير النقدي ونُهجِه السائدةِ اليوم.
إذا كان نموذج الصفحة البيضاء للعقل البشري قد بدأ ينهار مع بداية القرن العشرين، فقد اندثَر تمامًا بحلول منتصَف القرن حينما توصَّل علماء النفس إلى معلومات جديدة بشأن طريقة نموِّ الدماغ وعمله.
في مجال علم نفس النمو على سبيل المثال، كان باحثون من أمثال جين بياجيه السويسري يتعلَّمون من خلال الدراسةِ الطويلةِ المدى على الأطفال أن النموَّ الجسدي والعاطفي والعقلي يحدث في مراحلَ منفصلة، مما يوضح فائدةَ تنمية قدراتٍ محددة لدى الصغار في المرحلة المناسبة من نموهم.
شهد القرن العشرون أيضًا تطوراتٍ في تقنيات الجراحة وتكنولوجيا الطبِّ مما سهَّل التعرف المباشر على كيفية عمل العضو المسئول عن كل أنواع التفكير؛ نقديًّا كان أو غيرَ نقدي، ألا وهو الدماغ البشري. فعلى سبيل المثال، ساعدَت قدرة الجرَّاحين على إنقاذ حياة المرضى بإصاباتٍ حادةٍ في الدماغ، في تحديد وظائفِ مناطقَ معينةٍ في الدماغ؛ مما أتاح للعلماء دراسةَ السلوكيات والقدرات لدى مَن تعطَّلَت لديهم الوظائفُ في منطقةٍ أو أكثر من تلك المناطق في الدماغ. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ التطورات التي سمحَت للأطباء بالحفاظ على سلامة المريض مدةً أطول، وفَّرَت الفرصَ لرصد نشاط الدماغ في أثناء خضوع المريض للعملية الجراحية.
على مدار عقود، تطوَّرَت تقنياتٌ طبية غير جراحية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي وتحليل تخطيط كهربيةِ الدماغ؛ فمنحَت الباحثين القدرةَ على «رؤية» النشاط الفيزيائي والكهربي في الدماغ في أثناء تنفيذه للمهام. ومثلَما هو الحال في علم نفس النمو، قدَّم مجالُ علوم الدماغ الجديد أفكارًا أساسية، مثل العمليات الفيزيائية المعنيَّة بتشفير الذكريات واسترجاعها، وكان لهذه الأفكار دورٌ مهم في فَهمنا لطريقة التفكير.
أسهم رائدان آخَران بأفكارٍ قيِّمة عن كيفية عمل العقل البشري؛ وهما عالما النفس الإسرائيليَّان دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي، اللذان شكَّكت أبحاثُهما المبتكَرة في ستينيَّات القرن العشرين وسبعينيَّاته في فاعلية التفكير المنطقي ذاتِه واستقراره.
منذ زمن أرسطو ساد الافتراضُ بأن التفكير المنطقي هو ما يُميز الإنسان عن باقي الحيوانات. وبناءً على هذا الفَهم، كان السلوكُ البشري غير العقلاني يُعزَى إلى غلَبة العواطف أو الغرائز الحيوانية البدائية على التفكير المنطقي. بالرغم من ذلك، فحسبما أوضح كانمان وتفيرسكي من خلال سلسلةٍ من التجارِب المثيرة للاهتمام، فإن تفكيرنا المنطقيَّ مَعيب من عدة مناحٍ مهمة.
يتَّضح أنَّ العقل البشري لا يستخدم قوَّته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقًا مختصَرة كي يزيدَ من كفاءة إدارة المعلومات المتدفِّقة من حواسِّنا، ومن ثَمَّ تحويل تلك المعلومات إلى فَهمٍ تُبنى عليه القرارات. تُسمَّى تلك الطرق المختصَرة «الحدْس المهني» ومن المحتمل أنها نتجَت عن الانتقاء الطبيعي. إذا آمَن إنسانٌ بدائي من دون أدلةٍ مقنِعة أن صوت الحفيف في الأدغال على سبيل المثال، يدلُّ على اقتراب حيوان مفترِس، فقد كان سيَحظى بميزةٍ تطوُّرية يتفوق بها على مَن قرَّروا أنَّ الموقف يحتاج إلى مزيدٍ من الدراسة قبل اختيار الفِرار أو البقاء.
يتضح أنَّ العقل البشريَّ لا يستخدم قوَّته الكاملة من التفكير المنطقي في كلِّ المواقف، بل يتخذ طرقًا مختصَرة كي يزيدَ من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسِّنا، ومن ثمَّ تحويل تلك المعلومات إلى فهمٍ تُبنى عليه القرارات.
لكن هذه الطرق المختصَرة نفسها تخلق تحيزاتٍ قد تتسبَّب في فشل التفكير المنطقي. على سبيل المثال، يذكر كانمان في كتابه الأكثر مبيعًا «التفكير السريع والبطيء»، إحدى هذه التحيُّزات ويُسمى «تأثير الارتساء».
من الأمثلة الأخرى على هذه التحيُّزات، «التوافر الإرشادي» الذي قد يجعل البشرَ متحيِّزين إلى اتخاذ خياراتٍ بناءً على المقارنات التي تخطر على بالِهم بسهولة. فعلى سبيل المثال، قد يتأثر اختيارُ أحد الأشخاص للكليَّة التي يلتحق بها بمحادثةٍ قريبة أجراها مع صديقٍ عن تَجارِبه في تلك الكلية، أكثرَ مما يتأثر بالمقارنات التفصيليَّة التي أجراها سابقًا. يوجد مثالٌ آخرُ أيضًا على هذه التحيُّزات، وهو «الاستدلال العاطفي» الذي يربط التجارِبَ بالحالات العاطفية، وغالبًا ما تكون هذه الحالاتُ العاطفية لا تمتُّ بصلةٍ إلى التجربةِ ذاتِها. فقد تَزيد نزعةُ الشخص مثلًا إلى شراء بطاقةِ يانصيب بناءً على تجاربَ سعيدة أو تعيسة مرَّ بها مؤخرًا، لا احتمالات المكسب والخسارة في ذلك اليوم بعينه.
إنَّ وجود التحيُّزات يعني أنَّ القدرةَ على التفكير النقدي تستلزم ما هو أكثرُ من فهم الأدوات العقلية مثل المنطق والمهارات التي تتطوَّر بتطبيق تلك الأدوات. وإنما يستلزم أيضًا فَهْم عوامل التعصب التي يتعرَّض لها تفكيرنا المنطقي، وتدريب أنفسنا على التفكير في تلك النقائص والتحكُّم فيها.
(٦) نقطة تحوُّل
(٧) المواد الدراسية اليتيمة
لم تُنبَذ الموادُّ الدراسية مثل المنطق من المناهج بالكامل. فلا تزال تُخصَّص لها دوراتٌ تدريبية كاملة تُدرَّس في العديد من مؤسسات التعليم العالي، إن لم يكن في معظمها، وإذا اعتبرنا أنَّ برمجة الكمبيوتر وريثة النظم المنطقية الأصلية التي وضعها أرسطو، فسنجد أنَّ عدد الطلاب الذين يدرسون التطبيقات العمَلية للمنطق أكبرَ من ذي قبل.
بالرغم من هذا، فإنَّ التفكير النقدي يستلزم من المرء فَهْم عددٍ من الأفكار المستلهمة من الأحداث والتطورات المذكورة في التاريخ الفِكري والتعليمي الذي تناولناه في هذا الفصل. ثم إنَّ التفكير النقديَّ مهارةٌ مبنيَّة على تلك المعرفة، أي إنه تجب ممارسة العناصر التي يتألَّف منها قبل استخدام التفكير النقدي استخدامًا فعالًا في مواقفَ قد تؤدِّي فيها القرارات المستنيرة إلى نتائجَ مفيدة. علاوةً على ذلك يتطلَّب التفكير النقدي اكتسابَ عادات تُلهم الشخص باتباع مسار التفكير النقدي بدلًا من اتباع الطرق المختصرة لنبذ الشكِّ الذي قد يؤدي إلى قراراتٍ خاطئة، مثل تصديق أي شيء يُقال للإنسان.
مع استمرار السِّجالات بشأنِ ما ينبغي إدراجُه ضمن قائمة المعرفة والمهارات والسِّمات اللازمة للتحلي بمهارة التفكير النقدي، يوجد بين دارسي التفكير النقدي ومُعلميه إجماعٌ يكفي لتحديدِ ما ينبغي إدراجُه في مناقشةٍ عن التفكير النقدي وما ينبغي استبعادُه. وهذا هو الموضوع الذي سنتناوله في الفصل التالي.