تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه
تناولنا فيما سبق أصولَ التفكير النقدي؛ باعتباره مفهومًا مستقلًّا، وناقشْنا كيف أنَّ زيادة قدرتِنا على التفكير المنطقي قد صارت غايةً اجتماعية مهمة، وأولويَّةً تعليمية. وتعرَّفنا أيضًا على المعارف والمهارات والخصال التي قال الباحثون والتربويون بضرورةِ توفُّرها في المفكر النقدي.
بسبب اتفاق الأغلبية على ضرورة استخدام التفكير النقدي بدرجةٍ أكبر في معالجة مشكلات العالم، فإنَّ معظم النقاشات التي تدور عن الموضوع فيما بين المعلِّمين وأصحاب الأعمال وواضعي السياسات، تُركز على كيفية تحقيق الزيادة المطلوبة في القدرة على التفكير النقدي. إنَّ التحليل السابقَ الذكر الذي يقول بأنَّ أكثر من ثلاثة أرباع أصحاب الأعمال يعتقدون بافتقار الخريجين الذين يُوظفونهم إلى تلك القدرة المهمَّة، التي زعم معظمُ المعلمين وأساتذةُ الجامعات أنهم يمنحونها الأولويَّة؛ يعكس فجوةً ينبغي دراستها في مناقشتنا للقضايا المهمة المتعلقة بطرق تعريفِ التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه.
(١) هل يمكن تعريفُ التفكير النقدي؟
في الفصل الذي يناقش أصولَ التفكير النقدي، ذكرتُ أنَّ محاولات تعريف المصطلح ألقَت الضوءَ على عددٍ من المسائل المهمة التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بكيفية تدريس التفكير النقدي وتقييمِه، أو بما إن كان ذلك ممكنًا أم لا.
(٢) تعريفات مختلفة
إنَّ عدم الإجماع على تعريفٍ لا يعني أنَّ الآخرين لا يعرفون ما نتحدث عنه عند ذكر مصطلح «التفكير النقدي». وإنما يعني وجود العديد من التعريفات المتنافسة التي صِيغَت في أوقات مختلفة وتركِّز على أولويَّات مختلفة.
لقد تناولنا بالفعل بعضَ المحاولات لتعريف المصطلح، ومنها تعريف جون ديوي للتفكير التأمُّلي الذي وضَعه عام ١٩١٠، وهو: «إمعان النظر الدَّءوب والمستمر والدقيق لأيِّ معتقَدٍ أو شكل مفترَض من أشكال المعرفة، في ضوء المسوِّغات التي تدعمه والاستنتاجات الإضافية التي يُفْضي إليها»، وتناولنا أيضًا تعريفَ إدوارد جليسر الذي صاغه عام ١٩٤١، وقدَّم فيه وصفًا متعددَ الأوجهِ للتفكير النقدي على النحو التالي: «(١) النزعة إلى التفكير المتعمِّق في المشكلات والموضوعات التي تقع في نطاق تجارِبِ الفرد، (٢) معرفة طرق الاستقصاء المنطقي والاستنتاج، (٣) التحلي بقدرٍ من المهارة في تطبيق هذه الطرق.»
تردَّد صدى هذه التعريفاتِ في الشرط الذي وضَعَته ولاية كاليفورنيا عام ١٩٨٣، الذي يتمثل في إلزام جميع الخريجين من كليات وجامعات الولاية بإكمال دورةٍ تدريبية في التفكير النقدي على أن تتناول الدورةُ «فهْم علاقة اللغة بالمنطق، مما يؤدِّي إلى القدرة على تحليل الأفكار وانتقادها والدفاع عنها، والتحلي بالقدرة على التفكير الاستقرائي والاستنباطي، والوصول إلى الاستنتاجات الواقعية أو تكوين الآراء، بناءً على استدلالاتٍ سليمة مستمَدَّة من عباراتٍ غير غامضة تعبِّر عن المعرفة أو الاعتقاد».
-
«التفكير التأملي والمنطقي الذي يركز على تقريرِ ما يؤمن به الإنسانُ أو يفعله»3
-
«تفكير قصديٌّ موجَّه لهدفٍ محدَّد، وهو «تفكير يهدف إلى تكوين رأيٍ» على أن تستوفيَ عمليةُ التفكير ذاتُها معاييرَ الملاءمة والدقة»4
-
«العمليات الذهنية والاستراتيجيات والتمثيلات التي يستخدمها الناسُ لحل المشكلات واتخاذ القرارات وتعلُّم مفاهيم جديدة».5
حكمٌ هادف وذاتيُّ التنظيم يُفْضي إلى إجراء عمليات التأويل والتحليل والتقييم والاستدلال والشرح للاعتبارات الإثباتية أو المفاهيمية أو المنهجية أو القياسية أو السياقية، التي يُبنى ذلك الحكمُ على أساسها.
وعلى الرغم من تنوُّع تلك التعريفات وتقديم بعضِها لعناصرَ معينةٍ على عناصر أخرى، فمن المبالغة القولُ إنها تختلف للغاية بعضها عن بعض، وبعدم وجود اتفاق في الآراء بشأن ماهية التفكير النقدي. فلا شك أنَّ الطبيعة الثلاثية للتفكير النقدي، متمثلةً في المعرفة والمهارات والخصال، التي ناقشها الفصلُ السابق، تضمُّ معظم التعريفات المذكورة فيما سبق.
بعض التعريفات (مثل تعريف بيرسون)، تقدِّم المعرفة والمهارات على الخصال، بينما تؤكد تعريفاتٌ أخرى (مثل تعريف مؤسسة التفكير النقدي) على مسئولية الفرد عن مُراقبة طريقة تفكيره وتحسينِها. وبالرغم من هذا، فإنه ينبغي رؤية هذا التنوع في الأولويات على أنه دلالةٌ على وجود جدالٍ صِحي، لا حالةٍ محبطة من الافتقار إلى تعريف. فحتى الموادُّ التقليدية مثل اللغة والرياضيات، تتفاوت طرقُ تدريسها وتتطوَّر، مثلما يشير إلى ذلك تغيرُ المعايير التعليمية على مرِّ العقود، ثم إنَّ العناصر التي تتلاءم مع تعريفاتٍ مختلفة للتفكير النقدي، أقلُّ كثيرًا من العناصر التي تشكل مجالات أوسع، مثل علم الأحياء.
إنَّ ما «يندرج» تحت مظلة التفكير النقدي وما «يخرج»، هو العنصر الجوهري في تلك الجدالات التعريفية. ولقد طرحنا بالفعل بعضَ الحجج بشأن السبب في ضرورة أن تتَّسع عباءة التفكير النقدي لبعض الموضوعات (أو موضوعات فرعية) مثل الدراية المعلوماتية والبلاغة والإبداع. ورغم أنَّ البعض قد يختلفون بشأن مقدار تضمين تلك الموضوعات، فإنَّ ذلك لا يُهدِّد الهدفَ من مشروع التفكير النقدي وهو: تنمية أفرادٍ فاعلين مستقلِّين قادرين على التفكير بطريقة منهجية ومستقلة.
لكن ماذا عن الأفكار التي تشكِّل تحدِّيًا أمام هذه الغاية؟
الهدف من مشروع التفكير النقدي وهو: تنمية أفراد فاعلين مستقلين قادرين على التفكير بطريقة منهجية ومستقلة. لكن ماذا عن الأفكار التي تشكل تحديًا أمام هذه الغاية؟
(٣) مقارنة بين التفكير الفردي والتفكير الجماعي
وعلى الرغم من أننا لا نفهم الآليات الداعمة للتفكير الاجتماعي بمقدارِ ما نفهم قواعد المنطق التي يعود تاريخُها إلى ألفَي سنة، فثَمة دورٌ لا يخفى للتواصل والتعاون في عملية التفكير النقدي. لكن لأغراض صياغة التعريفات، فإن سَكْب فئات جديدة بالكامل (ومعقَّدة) من المساعي البشرية في دَلْو التفكير النقدي؛ قد يُهدد بفيَضان الدلو بالعناصر التي ليس لها سوى علاقةٍ جزئية بهدفِ تنشئة مفكِّرين نقديين.
(٤) صورة أكبر
ثمَّة طريقةٌ بديلة لإضافة المزيد والمزيد من العناصر إلى بِنْية التفكير النقدي، وهي جعْل التفكيرِ النقدي ذاتِه جزءًا من شيء أكبر.
إنَّ التفكير في هذه المهارات الأربع على أنها مهاراتٌ تتقاطع معًا، ولا تترتَّب في فئاتٍ تستوعب إحداها الأخرى، يمدُّنا بطريقةٍ عمليةٍ لفهم الأدوار التي قد تؤدِّيها تلك المهاراتُ بعضُها تجاه بعض، أو لا تؤديها. فالتقاطع بين التفكير النقدي والتعاون والتواصل على سبيل المثال، يمكن أن يحدِّد المهارات اللازمة للمشاركة في التفكير المنطقي الاجتماعي، مع إتاحة المجال لمهارات التفكير النقدي الفردية خارج هذا التقاطع في الوقت ذاته. وبالمثل، قد يتضمن التقاطع بين التفكير النقدي والإبداع، أنشطةً إبداعية وثيقةَ الصِّلة بالأفكار التأملية والعلمية مثل تصور الفرضيات والتجارِب، مع السماح في الوقت ذاته بمساحةٍ كبيرة في دائرة الإبداع تُخصَّص بالكامل للمهارات ذاتِ الصلة بالمساعي الفنية الخالصة.
ومع تطبيق التحليل النقدي على التفكير النقدي ذاته، يتطوَّر إطارُ عمل مختلفٍ موسَّع وجدلي بدرجةٍ أكبر. ويُقرُّ أنصار هذا الإطار أهميةَ ممارسات التفكير النقدي التقليدية، مثل المنطق والحِجاج، التي ترتبط بما يُسمَّى في كثيرٍ من الأحيان، ﺑ «حركة التفكير النقدي»، لكنهم يُدركون في الوقت ذاته أنَّ تلك الممارسات ليست سوى خطوةٍ واحدة من بين خطوات عديدة ضرورية كي يفكرَ المرء تفكيرًا منطقيًّا.
وقد تتضمَّن هذه المعاني الغائبةُ أو المستترة هياكلَ خفيةً من السلطة أو افتراضاتٍ مغروسةً في النظام الاجتماعي لثقافةٍ ما؛ ومِن ثَم لا تُلحَظ التحيُّزات التي تولِّدها. لذا من وجهة نظر عالم أصول التعليم النقدي، تتمثَّل مهمةُ المفكر النقدي في فهم هذه الافتراضات، واستخدام تلك المعرفة لكشف الهياكل الخفية التي تستندُ إليها. وفي مقدمة كتابهما «دليل بالجريف»، يعرض ديفيس وبارنيت خطواتٍ أخرى يمكن أن تُحدد هذا المسارَ المتطور الموسَّع، ومنها «الفعل النقدي» الذي يطلب ممن تمكَّنوا من رفع الحجاب عن الأنماط التي تُخفي وراءها بعضَ جوانب كيفية عمل العالم بالفعل؛ للتصرُّف بناءً على تلك المعرفة كي يُغيروا المجتمع إلى الأفضل.
فما أنواع الافتراضات التي ربما تكون مستترةً خلف هذا الحجاب؟ سنتناول نوعًا وثيقَ الصلة بهذا الكتاب، وهو أنَّ معظم المجالات التي ألهمَت التفكير النقدي (الفلسفة الكلاسيكية، والعلوم الحديثة، وعلم النفس) وأدوات المفكِّر النقدي (مثل المنطق والحِجاج)، قد نشَأَت في الحضارة الإغريقية القديمة وأوروبا قبل العصر الحديث وفي العصر الحديث، أما مفهوم «التفكير النقدي» فقد نشأ في الأساس بالولايات المتحدة. فهل أدَّت صياغةُ مفاهيم «التفكير النقدي» إلى الكشف عن حقائقَ كونيةٍ عن طبيعة الإنسان، مثل الاكتشافات العِلمية كالجاذبية أو الطبيعة الذرِّية للمادة، أم ينبغي اعتبارُ تلك المفاهيم وليدةَ ثقافةٍ معيَّنة (غربيَّة)؟ إذا كانت الإجابة هي الخيارَ الثاني، فهل يمكن أن توجد طرقٌ فعالة للتفكير مستمَدَّة من ثقافاتٍ أخرى وينبغي مراعاتها عند تدريس مهارات التفكير، أم يمكن لأشكال المنطق التي نُدرِّسها أن تُعبر عن إبداعات ثقافية (أو حتى فروض) لا حقائق كونية؟
إنَّ مَن يتفقون مع مناهج حركة التفكير النقدي بدرجةٍ أكبر، ليسوا مستعدِّين لاختزال طرق علم أصول التعليم في الصور الميكانيكية من المنطق ومنهجيات الحِجاج، لا سيما أنهم يتبنَّون الفئات غير الميكانيكية مثل الإبداع والخصال الشخصية والأخلاقيات. ثم إنَّ البرامج السياسية التي يختارها بعضُ أنصار علم أصول التعليم النقدي والعمل النقدي، يُثيرون في أنصار المناهج الأشهر التساؤلاتِ عمَّا إذا كان علمُ أصول التعليم النقدي والعمل النقدي، هما الخطواتِ الطبيعيةَ التالية في تطور تدريس التفكير النقدي، أم إنها محاولاتٌ للاستعاضة عن تدريس كيفية التفكير، بتدريسِ ما نفكر به.
(٥) هل يمكن تدريس التفكير النقدي؟
مثلما هي الحال مع الأسئلة المتعلقة بتعريفات التفكير النقدي، فإنَّ الجدالات المتعلقة بتدريس التفكير النقدي تدور بشأنِ أفضل طرقِ تدريسه، أكثر مما تدور بشأن إمكانية تدريس مهاراته من عدمها. فبالرغم من كل شيء، تُدرَّس بعضُ أهم عناصر التفكير النقدي مثل المنطق، منذ ما يزيد على ألفَي عام، أي إنَّ هذه المادة أقدمُ كثيرًا من أي مادة دراسية أخرى تُشكِّل الآن جزءًا من المناهج الدراسية التقليدية. لذا، ينبغي أن تُركز النقاشات المتعلقة بتدريس التفكير النقدي وتعليمه على توقيتِ تدريس مهارات التفكير النقدي، وأماكن تدريسها وكيفية تحقيق ذلك، بدلًا من التركيز على إمكانية تدريس مهارات التفكير النقدي من عدمها.
(٦) التوقيت المناسب للبدء
وبعد عرضٍ تحليلي للأبحاث التي تتناول كيفية نموِّ أجزاء الدماغ وطريقة عملها منفردةً ومجتمعة، وذلك بالاستفادة من تقدُّم التكنولوجيا في مجال تصوير الدماغ، أوضحَت جنسين أنه مثلما تتَّسمُ مرحلة الطفولة بتوسعٍ هائل في القدرات الإدراكية في مجالات مثل اللغة والمهارات الحركية، تتسم المراهقة أيضًا بالنمو السريع لأجزاء الدماغ التي تتحكَّم في التفكير المنطقي. وعلى الرغم من أنَّ الدماغ قد لا ينمو من حيث الكتلةُ بينما يصل الأطفالُ إلى تلك المرحلة في حياتهم، فإنَّ الوصلات المشبكيَّة العصبية الموجودة بين العصبونات، التي تحدِّد تعقيدَ الدماغ وتحكم مستويات القدرات العقلية، تستمر في التمدُّد بسرعة وإن لم يكن ذلك بالتساوي، بينما يبلغ الأطفال مرحلة المراهقة.
إنَّ نمو الوصلات التي تدعم التفكير المنطقي يُسهِم في تفسير النمو السريع في قدرة الشباب على الجدال والحِجاج في انتقالهم من مرحلة المراهقة المبكِّرة إلى الشباب، سواءٌ أكان ذلك في كتابة الواجبات المدرسية أو المناظرات التنافسية أو التوسُّل من أجل تأخير موعد النوم أو أخذ مفاتيح السيارة. ويُسهِم عدمُ التساوي في النمو الذي توثِّقه جنسين، في تفسير السبب في أنَّ مهارات التفكير المنطقي التي غالبًا ما تظهر لدى المراهقين، لا تُترجَم إلى أحكامٍ أفضلَ على نطاق شئون الحياة اليومية.
مثلما تتسم مرحلة الطفولة بتوسُّع هائل في القدرات الإدراكية في مجالاتٍ مثل اللغة والمهارات الحركية، تتَّسم المراهقةُ أيضًا بالنمو السريع لأجزاء الدماغ التي تتحكَّم في التفكير المنطقي.
لقد اتضح للعلماء أنَّ نمو الدماغ يجري على نحوٍ «معكوس»؛ بمعنى أن قشرة الفص الجبهي، التي تقع خلف مقدمة الرأس، وهي جزءٌ مرتبط باتخاذ القرارات والتحكم في النفس، لا «تتصل» كليًّا بأجزاء الدماغ الأخرى التي تتحكم في التفكير المنطقي المنهجي إلى أن يبلغ الفردُ ما بين أوائل العشرينيَّات من عمره إلى أوسطها. ويُساعد هذا في تفسير سلوك الطلاب؛ إذ يقضون وقتَ الصباح في أداء اختباراتٍ يتفوقون فيها ويُحاجُّون عن مَواقفهم بمهارةٍ في مناقشات الفصل الدراسي، بينما ينخرطون مَساءً في تصرفاتٍ تتَّسم بالمخاطرة أو يتخذون خياراتٍ حمقاء.
وعِلاوةً على مساعدة الأطفال والآباء في فهم الأنماط السلوكية التي تظهر مع مرحلة المراهقة فهمًا أفضل، توضح هذه الاكتشافات النفسية أن مرحلة المراهقة هي التوقيتُ المثالي كي يتعرَّف الطلابُ على أنماطٍ منظمة من التفكير المنطقي والحِجاج للاستفادة من القدرات الطبيعية التي تزداد بالفعل في تلك المرحلة من حياتهم.
وبالرغم من أنَّ الأبحاث المتعلقة بنمو الدماغ تُحدد فترةً معينة (المرحلة الثانوية)، هي التي يمكن أن يستوعبَ الطلابُ فيها مهارات التفكير النقدي، فلا يوجد حدٌّ أدنى واضحٌ بشأن العمر الذي تبدأ فيه قدراتُ التفكير النقدي في النموِّ لدى الأطفال.
إنَّ هذه المناقشة بشأن المعايير الأكاديمية والمناهج التعليمية تطرح سؤالًا آخَر بشأن تدريس التفكير النقدي؛ وهو: أيُّ موضوعات المناهج الدراسية ينبغي تدريس التفكير النقدي فيها؟
(٧) في أيِّ المواد الدراسية ينبغي «إحياء» التفكير النقدي؟
في المراحل التعليمية بعد الثانوية، التي تُدرَّس فيها الدورات التدريبية المختصَّة بمجال معين جنبًا إلى جنبٍ مع الدورات التعويضية والدورات المتعددةِ التخصصات، توجد دوراتٌ تدريبية لتدريس مهارات التفكير النقدي في أنظمة العديد من الكليات والجامعات. فلا يزال نظام جامعة كاليفورنيا يَشترط إكمالَ دورة في التفكير النقدي قبل التخرج، وعلى الرغم من أنَّ مبادرة كاليفورنيا لعام ١٩٨٣ لم تُحفِّز على فرض شروطٍ مماثلة في أنظمة الكليات الحكومية الأخرى، فقد أسهَمَت في زيادة عدد دورات تدريس التفكير النقدي في المرحلة الجامعية زيادةً كبيرة، حيث كان يُقدمها في كثيرٍ من الأحيان وليس كلها، قسمُ الفلسفة بالكلية.
بدلًا من تصميم دورات تدريبية مخصَّصة للتفكير النقدي، يمكن دمجُ تدريس التفكير النقدي في موادَّ دراسيةٍ معينة مثل الكتابة والعلوم والتاريخ. وستُتيح هذه الاستراتيجية لمدرِّسي تلك التخصصات تضمينَ مهارات التفكير النقدي الملائمة للمحتوى الذي يتعلَّمه الطلاب بالفعل. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ معيار كتابة المقالات الجدلية وفقًا لمبادرة آداب اللغة الإنجليزية، يمنح الطلابَ الفرصةَ لتعلم البِنَى المنطقية وجودة الأدلة في سياق الكتابة عن موضوعاتٍ تثير اهتمامهم. وينطبق الأمر نفسُه على مُعلمي العلوم الذين يُدرِّسون المنهجية العلمية؛ إذ يستطيعون الجمع بين الرُّؤى العِلمية وأصول التعليم في التفكير النقدي كي يوضِّحوا للطلاب كيفيةَ صياغة الفرضية واختبارها، وتطبيق ذلك على أي شكل من أشكال الاستقصاء.
في حالات كثيرة، تُتخَذ القرارات المتعلقة بالمواد التي ينبغي تدريس التفكير النقدي فيها لأسبابٍ عمَلية لا لأسباب تربوية. فبالرغم من كل شيء، يمكن للكليات والجامعات تقديمُ موادَّ دراسية اختيارية تركِّز على موضوعاتٍ محددة، وهي فرصة للمرونة لا توفرها معظم أنظمة التعليم الحكومي التي تركز على المواد الدراسية التقليدية (لا سيما اللغة والرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية) التي تُدرَّس وفقًا لمعايير محددة تَزيد حسَب كل صف دراسي.
ما أعنيه ﺑ «النهج العام» هو محاولة تدريس قدرات التفكير النقدي وسماته بصورة مستقلة عن عرض محتوى دروس المادة الدراسية، بغرض تدريس التفكير النقدي …
أما «نهج التشريب» المتمثِّل في تدريس التفكير النقدي ضِمن المادة الدراسية، فهو تدريس المادة الدراسية على نحوٍ متعمِّق ومدروس ومفهوم للغاية، يُشجع الطلابَ على تبني التفكير النقدي في المادة، ويَعرض هذا النهجُ المبادئَ العامة لسمات التفكير النقدي وقدراته «بطريقة مباشرة». ومن ناحية أخرى، يُعَد نهج «الغمر» نوعًا مماثلًا من تدريس المادة الدراسية على نحوٍ يبعث على التفكير، وفيه يتعمق الطلاب في المادة الدراسية وينخرطون فيها، لكن المبادئ العامة للتفكير النقدي «لا تُقدَّم بطريقة مباشرة» عند استخدام هذا النهج …
أما النهج «المختلط» فيتمثَّل في الجمع بين النهج العام ونهج التشريب، أو الجمع بينه وبين نهج الغمر.
ووَفقًا لهذا الإطار، تندرج الدورات التدريبية المخصَّصة لتدريس التفكير النقدي في الجامعة ضمن فئة النهج العام، بينما يندرج دمجُ تدريس التفكير النقدي في دورة تدريبية لمجال محدَّد ضمن فئة النهج المباشر (التشريب)، أو في فئة النهج الضمني (الغمر)، وقد يُجمَع أيضًا بين هذا وذاك في النهج «المختلط».
(٨) الإحالة
إنَّ الأسئلة التي تدور بشأن النهج الذي ينبغي تبنيه، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأحد الأهداف الرئيسية من تدريس التفكير النقدي وهو: «الإحالة»، وتعني قدرةَ الطلاب على استيعاب المعلومات والمهارات التي تعلَّموها في مادةٍ دراسية ما، وتطبيقها على مادة دراسية أخرى أو غيرها من أنماط الحياة، بخلاف المجال الأكاديمي.
وعندما يدافع المعلمون عن صلةِ المحتوى الذي يُدرِّسونه بالحياة خارج الفصل الدراسي، فإنهم يُقدمون ادعاءاتٍ بشأن إمكانية تطبيق المعلومات والمهارات التي يُدرِّسونها على المجالات الأخرى، وهي سمةٌ تمنح الطلابَ مزايا تستمرُّ معهم في أثناء انتقالهم إلى المراحل التعليمية الأكثرِ تقدمًا، أو الحياة المهنية.
ومع تحول الأولويات التعليمية إلى موادِّ العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات على مدار عدة عقودٍ مضت، صار مُعلمو العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية يُحاجُّون في كثير من الأحيان بأنَّ حصصهم الدراسية تُزوِّد الطلاب بالوسائل لتنمية قدرات التفكير النقدي التي يمكن تطبيقها على مجالاتٍ أخرى. فبالرغم من كل شيء، لا تُعنى معلمة الكتابة بتدريس طلابها كتابةَ مقال واحدٍ ببراعة، بل بتدريبهم على مهارات الكتابة والتفكير التي يمكن تطبيقُها في العديد من المواقف في حياتهم. وبالمثل أيضًا، تُعَد القدرة على مناقشة المواقف في حصة التاريخ والدفاع عنها بِناءً على الأدلة الوجيهة والتفكير المنطقي، مهارةً بالغةَ الأهمية لاتخاذ القرارات والإقناع خارج الفصل الدراسي.
وتشير هذه الادعاءات المتعلقة بإحالة المعرفة إلى أنَّ الأنشطة التعليمية المحددة، مثل الكتابة والمناقشة، تؤدي إلى تعلُّم مهارات التفكير النقدي العامة، مثل المنطق والحِجاج وتقييم الأدلة والتواصل الإقناعي، ويحدث ذلك مباشرةً من خلال نهج التشريب الذي وصفه إنيس، أو ضمنيًّا من خلال نهج الغمر. غير أنَّ هذه الإشارة تطرح أمامنا سؤالَين. أولًا؛ هل يتمتع المعلمون الذين يحاولون تنمية تلك المهارات القابلة للنقل لدى الطلاب بالتدريبات والخبرات الكافية لتدريس عناصر التفكير النقدي مباشرة ضمن عملية التشريب؟ ثانيًا؛ هل تصبح أدوات التفكير المنطقي المكتسبة تلقائيةً بدرجةٍ تكفي لأن يؤديَ غمرها في حصص موادَّ دراسيةٍ معينة تُدرَّس جيدًا، إلى تنمية مفكِّرين نقديين عن طريق التأثر التدريجي؟
وتنطبق هذه الأسئلة نفسُها أيضًا على معلمي الرياضيات والعلوم الذين قد يقولون إن مجالاتهم تمنح الطلابَ الفرصة لتحسين قدرة التفكير النقدي لديهم وممارستها. فعلى سبيل المثال، من أولى الفرص التي يتعيَّن على الطلاب فيها معرفة الحُجج المنطقية، هي عندما يتعلمون البراهين الهندسية في مادة الرياضيات. لكنْ كم عددُ معلمي الرياضيات الذين يستفيدون من هذه الفرصة ويشرحون للطلاب كيفيةَ تطبيق المقدمات التي تُقدم أسبابًا لتصديق الاستنتاجات على أي شكل من أشكال الحجج، بما في ذلك الحجج غير القائمة على المنطق الاستنباطي، على العكس من الحجج الرياضية؟ وكم عددُ معلمي العلوم الذين يؤكدون على إمكانية تطبيق الطرق التي يُدرِّسونها على المواقف التي لا تتضمن التجارِبَ المنضبطة المرتبطة بالعلوم، مثل اختيار الكلية التي ينبغي الانضمامُ إليها أو اختيار المرشَّح الذي يستحق الانتخاب؟
إنَّ هذه الأمثلة على طرق استخدام تدريس محتويات مواد دراسية محدَّدة من أجل تدريس مهارات التفكير القابلة للإحالة، تأخذنا إلى السؤال التالي: كيف ينبغي تعليمُ التفكير النقدي؟
(٩) طريقة تدريس التفكير النقدي
أتى المقال الذي اقترح فيه إنيس إطارَه المكوَّن من أربعة أجزاء، تحت العنوان الفرعي: «التوضيح والأبحاث المطلوبة». وانتهى المقال باقتراحِ خُطةٍ بحثية طَموحة، تهدف إلى تحديد أفضل الطرق فعاليةً من بين الطرق التي يصفُها. وفي السنوات التي تلَتْ نشر المقال، أُجريت أبحاثٌ كثيرة للاستفادة بها في «التحليلات التلوية» التي تحلل نتائج العشرات — إن لم يكن المئات — من الدراسات المتعلقة بممارسات تدريس التفكير النقدي لتحديد التوجهات والرؤى.
كان للنهج المختلطِ الذي يُدرَّس فيه التفكير النقدي في صورةِ مسار مستقلٍّ ضمن محتوى مادةٍ دراسية محددة؛ أكبرُ تأثير [إيجابي]، بينما كان لمنهج الغمر الذي يُعَد التفكيرُ النقدي فيه ناتجًا ثانويًّا للتدريس؛ أصغرُ تأثير. أما النهج العام الذي تكونُ مهاراتُ التفكير النقدي فيه هي الهدفَ الصريحَ المباشر من الدورة التدريبية، ونهج التشريب الذي يتمثَّل في دمج مهارات التفكير النقدي في محتوى المادة الدراسية وتُذكر صراحةً ضمن أهداف الدورة التدريبية؛ فقد كانت تأثيراتهما متوسطة.
عندما تلقَّى المدرسون تدريباتٍ خاصةً متقدمة استعدادًا لتدريس مهارات التفكير النقدي، أو عندما حصَلوا على ملاحظاتٍ مكثَّفة بشأن إدارة الدورة التدريبية وممارسات تدريس التفكير النقدي؛ حقَّقَت التدخلاتُ أفضلَ نتيجةٍ لها في التأثير. وعلى النقيض من ذلك، كانت تأثيرات التفكير النقدي ضئيلةً عندما كانت نيةُ تحسين مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب مُدرَجةً في أهداف الدورة التدريبية فحسب، ولم تُبذَل جهودٌ في التطوير المهني أو تحسين تصميم الدورة التدريبية وتنفيذها.
تتَّسق هذه النتائج مع المثال المذكور سابقًا عن تجربةٍ ناجحة في المملكة المتحدة، تمثَّلَت في حصول المعلمين على تدريبٍ متعمق عن كيفية تنفيذ برنامج «الفلسفة من أجل الأطفال». وإضافةً إلى ذلك، فإنَّ الملاحظات المستقاةَ من هذا التحليل التلوي الواسع النطاق، تدعم أيضًا المفاهيمَ البديهية التالية: (١) كي يتعلَّم الطلابُ شيئًا ما، ينبغي أن يتَلقَّوا تعليمًا مباشرًا للموضوع، لا أن يتعرَّضوا له فحسب، (٢) ينبغي أن يُتقن المعلمون محتوى الموضوع الذي يُدرِّسونه (وهو المحتوى المرتبط بالتفكير النقدي على وجه الخصوص في هذه الحالة) والمنهجيات التعليمية المحدَّدة المتعلقة بكيفية تدريس التفكير النقدي.
لا بد لمحاولات تنشئة مفكِّرين نقديِّين من خلال المدارس أن تُراعي الاعتقادَ الواسعَ الانتشار الذي سنتناولُه في الفصل الأخير، وهو يتمثل في أن التفكير النقدي ليس محتوًى يُدرَّس فحسب، وإنما يتكوَّن من ثلاثة عناصر مترابطة؛ وهي: المعرفة والمهارات والسِّمات الشخصية. وهذا يعني أن التمتع بمهارة التفكير النقدي لا يقتصر على الاستيعاب المتعمق لموضوعات مثل المنطق والحِجاج، بل يستلزم أيضًا استخدام تلك المعرفة باستمرار.
إنَّ التمتع بمهارة التفكير النقدي لا يقتصر على الاستيعاب المتعمق لموضوعاتٍ مثل المنطق والحِجاج، بل يستلزم أيضًا استخدام تلك المعرفة باستمرار.
(١٠) الممارسة المدروسة
في عملي الخاص في مجال وضع محتوى المناهج الخاصة بالتفكير النقدي، الذي استفاد من سياسات الحملة الرئاسية لتدريس مهارات مثل التفكير المنطقي والحِجاج والبلاغة، فوجئتُ بضآلة الوقت المستغرَق لتناول أساسيات هذه الموضوعات وغيرها، مثل الإعلام والدراية المعلوماتية وعيوب التفكير المنطقي والعاطفي التي تؤدي إلى التحيُّز في التفكير. مرَرتُ أيضًا بتجرِبةٍ مماثلة حينما شاركت في برنامج لتدريس مهارات تخطيط الحجج لطلاب المرحلة الثانوية. لم يستغرق الوقت اللازم لشرح تخطيط الحُجة سوى نسبةٍ ضئيلة من الوقت الذي احتاج إليه الطلابُ للتطبيق. ففي هذه الحالات وغيرها من حالات تدريس التفكير النقدي، ينبغي التركيزُ بدرجة أكبر على تطوير المهارات من خلال الممارسة المدروسة، والتركيز على التدريس البسيط بدرجةٍ أقل.
ويمكننا فهْم السبب في هذا عندما نتخيَّل النطاقَ الواسع من المواقف الواقعية المتنوعة والمعقَّدة، التي يمكن تطبيقُ التفكير النقدي فيها. إن فهْم طريقة تحويل حجة بسيطة في تمرين ورقة عمل إلى قياس منطقي أو خُطة حجة لا يستغرق على الأرجح سوى بضعِ دقائق، لا سيما إذا كان التمرين مُصمَّمًا بحيث تكون له إجابةٌ صحيحة. غير أنَّ الحجج «في الظروف الطبيعية» نادرًا ما تُحدَّد بهذه السهولة والوضوح. فقد تتضمَّن إحدى المقالات الصحافية أو الإعلانات أو إحدى المناظرات عدةَ حجج مترابطة، بعضها قويٌّ وبعضها ضعيف، وتتفرع في كلِّ الاتجاهات. وربما يقتضي إمعانُ النظر في تلك البِنْية المنطقية تقوم عليها عمليات التواصل أو الأحداث، إجراءَ قدرٍ لا بأس به من الترجمة لإزالة الحشو اللفظي من الحجَّة وتجريدها إلى جوهرها. علاوةً على ذلك، قد يستلزم فهمُ الحجج المقدَّمة وتقييمها إجراءَ المزيد من البحث لاكتشاف الأدلة وتقييمها. ولا شك في أنَّ هذه الجهود تستغرق وقتًا، لكنها تمنح الطلاب الخبرةَ لتطبيق أدوات التفكير النقديِّ على مواقفَ متزايدةِ التعقيد.
وجد إريكسون أن تحقيق أعلى مستويات التميز في العديد من المجالات المختلفة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمقدار الممارسة المدروسة. ومن المثير للاهتمام أنَّ إريكسون قد اكتشف أيضًا درجةً ملحوظة من الاتساق بين المجالات من حيث مقدارُ ما يلزم من الممارسة للوصول إلى أعلى المستويات؛ ويستغرق ذلك بصفة عامة عشرَ سنوات من الممارسة لمدة أربع ساعات في اليوم تقريبًا.
و في ساحة القتال! في النهاية، تجمع بضعُ ألعاب رياضية ما بين الممارسة المدروسة أوقاتًا طويلة والتقدم الذي يُقاس بإظهار البراعة، مثل الفنون القتالية. إنَّ هذا النموذج من إتقان المهارات دفع آن جيه كاهيل وستيفن بلوخ شولمان من جامعة إيلون، إلى إعادة تشكيل حصة الحِجاج التي يدرسونها في مستوى التعليم العالي، على غِرار حصص الفنون القتالية:
في كل مستوًى تالٍ من التقييم في حصص [الفنون القتالية]، على الطلاب إثباتُ أنهم لا يزالون يتمتَّعون بالمهارات التي اكتسَبوها في مستويات الأحزمة السابقة. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ مُعلِّم الفنون القتالية الجيدَ لا يمنح الحزامَ بناءً على المجهود؛ أي بعيدًا عمَّا إذا كان الطالبُ قد حاول جاهدًا أن يُتقن حركةً معينة. فالسؤال هو، هل يستطيع الطالب توجيه اللكمة؟
ويطبِّق برنامج نينجا النقاش الذي ابتكره ديلابلانت، أصولَ تدريس الفنون القتالية على مهارات التفكير المنطقي التي قد يجدها المرءُ في الدورات التدريبية التقليدية الخاصة بالتفكير النقدي، إضافةً إلى الأفكار المستمَدَّة من علم النفس بشأن كيفية تفاعل الأشخاص، لا سيما في حالات الخلاف أو في محاولة إقناع بعضِهم بعضًا. وعلاوةً على تدريس مهارات التفكير النقدي وتوفير الفرص لممارستها عمليًّا، يطوِّر برنامج ديلابلانت سلسلة من مستويات الأحزمةِ ما سيتيح للمتعلمين الفرصة لإدراك ما وراء التحيُّزات وغيرها من العوامل النفسية التي تعيق قدرتهم وقدرة الآخرين على التفكير بوضوح وموضوعية.
يهدف ديلابلانت إلى تنشئة «مقنعين عقلانيين»؛ بعبارةٍ أخرى، أن يتمكَّن الخريجون من استخدام أدوات الإقناع من أجل بناء حُججٍ عقلانية (وحبَّذا أن تكون أخلاقية)، لكي تبدوَ سليمةً ومقنعة ودامغة. ويشمل هذا النهج جميعَ أجزاء نموذج التفكير النقدي الثلاثة، وهي: اكتساب المعرفة وتنمية المهارات والاهتمام بالسمات الشخصية المتعلقة بالتفكير النقدي مثل حب المعرفة والإصرار والتواضع الفكري والشجاعة الفكرية. إنَّ هذه السمات تُمثل الفضائل الفكرية التي يصعب تدريسُها في الفصول التقليدية، وهي لا تختلف في ذلك عن غيرها من الفضائل، لكنها تصبح مألوفةً لدى المشاركين في بيئات التعلم الأخرى، مثل تدريبات الفنون القتالة أو الرياضات الجماعية أو فرقة الكشافة.
(١١) المسائل المبهمة
بالرغم من أنَّ الأبحاث المتعلقة بطرق تدريس التفكير النقدي لا تزال مستمرةً، فإنه يمكننا استنباط الأفكار التالية من الأعمال المنجَزة بالفعل في هذا المجال:
-
ينبغي تدريس المعارف المرتبطة بالتفكير النقدي بالطريقة الصريحة، سواءٌ أكان ذلك في صورة دورة تدريبية مخصصة أو في صورة عنصر مكمل في دورات تدريبية أخرى.
-
ينبغي أن يتلقى المعلمون الراغبون في دمج محتوى التفكير النقدي في دوراتهم التدريبية، تدريباتٍ على مهارات محدَّدة في التفكير النقدي، وطرق تدريسها.
-
إذا أُدمج التفكير النقدي ضمن تخصُّص آخر، فينبغي أن يوفِّر هذا الدمج للطلاب الفرصةَ في التفاعل المستمرِّ مع أساليبِ التفكير النقدي، لا إقصاء موضوعات التفكير النقدي في حصة أو حصتين بمعزلٍ عن باقي جدول الدورة التدريبية.
-
وينبغي توفير فرص مهمة للطلاب، ليطبقوا فيها ما تعلَّموه من خلال الممارسة المدروسة.
وبخلاف هذه المبادئ العامة، يوجد العديد من الأساليب التعليمية المبتكرة التي طُبقت لتدريس مهارات التفكير النقدي ولا تزال تُطبَّق، ومن أمثلتها: المناقشة الموجَّهة، والتعلم القائم على المشروع والاستقصاء. وعلى الرغم من حداثة عهد دورات النقاش التدريبية المستوحاة من أسلوب تعلم الفنون القتالية، فإنها تستندُ أيضًا إلى طرقٍ تعليمية واسعة الانتشار، مثل التعلم القائم على الكفاءة، الذي يحدِّد التقدمَ بناءً على قدرة الطالب على إظهار إتقانه لأهداف التعلم الواضحة، بدلًا من تحديده بِناءً على «عدد ساعات الحضور في الصف الدراسي» أو الدرجات النهائية.
من السمات العامة التي تميز بين الاستخدام العامِّ لهذه الأساليب واستخدامها في تدريس التفكير النقدي، هي تطبيقها في مجال التفكير النقدي على «المسائل المبهمة»؛ أي المسائل التي ليس لها حلولٌ بسيطة، أو قد لا يكون لها إجابات صحيحة وغير صحيحة.
على خلاف أسئلة الاختبارات أو التدريبات الورقية التي تكون إجاباتها إمَّا صحيحةً أو غير صحيحة والتي يمكن تقييمها بموضوعية، تتَّسم المسائل المبهمة بإجاباتٍ مفتوحة، وكثيرًا ما تنطوي على قراراتٍ حيث لا يكون الحلُّ واضحًا. ومن أمثلة هذه المسائل، القضايا التي تنطوي على مستوًى من الموضوعية أو المعضلات الأخلاقية التي تقتضي تحديدَ خيار من عدة خيارات، ولكلٍّ منها مزاياه وعيوبُه. إنَّ مثل هذه المسائل المبهمة تُبرز تعقيد معظم المواقف التي يحتاج الطلاب إلى التفكير فيها، سواءٌ أكانت داخل الفصل أم خارجه، وهي المواقف ذاتها التي تحدث في بيئة التعلم والحياة الواقعية وتستلزم التفكيرَ فيها تفكيرًا نقديًّا لاكتشاف الحقيقة أو لاتخاذ قرارات عقلانية ومستنيرة ومدروسة جيدًا.
إنَّ مفهوم المسائل المبهمة يعود بنا من جديد إلى الملاحظات النفسية التي وضعها جون ديوي بشأن كيفية تعلُّم الأفراد. فالمسائل المبهمة تثير حبَّ الاستطلاع لدى الطلاب من خلال غرس الشكِّ في عقولهم، ووفقًا لفلسفة ديوي البراجماتية، فإنَّ هذا الشك يحفزنا جميعًا لنتخلص منه. ونظرًا إلى أنَّ الكثير من جوانب العالم لا يتناسب مع الإجابات البسيطة الواضحة، فمن المحتمل أن يتداخل العديدُ من المسائل المولِّدة للشك والمبهمة وذات الإجابات المفتوحة مع الاهتمامات الفعلية للطلاب. ومن ثمَّ، يكمن العامل الأساسي لنجاح تدريس التفكير النقدي في إدارة العملية التي يستخدمها الطلابُ لتبديد الشك، وتوجيهها بطرقٍ مثمِرة فكريًّا يُرجَّح أن تقودهم إلى الحقيقة أو إلى اتخاذ خياراتٍ حكيمة على الأقل.
إن الانتشار الواسع للمسائل المبهَمة ذات الإجابات المفتوحة يوفِّر للطلاب عددًا لا نهائيًّا من الفرص كي يستكشفوا القضايا المعقَّدة في أي موضوع. لكنَّ طبيعة تلك المسائل إضافة إلى طبيعة التفكير النقدي ذاتها ذات الأوجه المتعددة تثير سؤالًا مهمًّا آخرَ يرتبط بتطوير المفكرين النقديين بصفته هدفًا أكاديميًّا، لا سيما في عصرٍ يُعطي الأولوية للمساءلة الأكاديمية، والسؤال هو: أيمكن قياسُ القدرة على التفكير النقدي؟
(١٢) هل يمكن تقييم التفكير النقدي؟
يوجد عددٌ من التقييمات التجارية للتفكير النقدي تُستخدَم في مجالَي التعليم والتوظيف على مستوى العالم، والعديد منها قد صاغه بعضُ الباحثين الوارد ذكرُهم بين دفَّتَي الكتاب.
ومن هؤلاء الباحثين على سبيل المثال، إدوارد جليسر الذي شارك في تشكيل تقييم واتسون-جليسر للتفكير النقدي الذي يُعَد من تقييمات التفكير النقديِّ الشهيرة المصمَّمة على المستوى المهني، وكان جليسر ممَّن صاغوا واحدًا من أوائل التعريفات المتعددةِ الأوجُه للتفكير النقدي. ومنهم أيضًا بيتر فاسيون الذي أشرفَ على دراسة ديلفي للتوصُّل إلى تعريفٍ متَّفق عليه للتفكير النقدي، وساعد أيضًا في صياغة اختبار ولاية كاليفورنيا لمهارات التفكير النقدي استنادًا إلى التعريف المتفَق عليه في دراسة ديلفي. ونظرًا إلى أهمية السمات التي اتضحت من خلال دراسة ديلفي وغيرها من الدراسات؛ ابتكر فاسيون وزملاؤه قائمة ولاية كاليفورنيا للسمات الخاصة بالتفكير النقدي على صورة تقييم استبيانيٍّ يهدف إلى قياس الخصال الفكرية المهمة، مثل الانفتاح الذهني وحبِّ الاستطلاع.
إضافةً إلى ذلك، إذا افترضنا أن جميع الدورات التدريبية العامة التي تُدرَّس عن التفكير النقدي في المستوى الجامعي تتضمَّن اختباراتٍ وامتحانات وواجبات وغيرَها من أشكال التقييمات، فهذا يعني أنَّ مجموعةً كبيرة من تقييمات التفكير النقدي تتشكَّل في الصفوف الدراسية، أو تُنفَّذ فيها. وتتضمَّن هذه الاختبارات أيضًا، تقييماتٍ وواجبات خاصة بالمادة الدراسية في المراحل: الابتدائية والثانوية وما بعد الثانوية، لتقييم مهارات التفكير العليا، مثل القدرة على كتابة مقال إقناعي باستخدام حجج سليمة منطقيًّا وأدلة مثبتة.
إنَّ هذه المجموعة الكبيرة من محاولات قياس مهارات التفكير، وبعضها من تنفيذ باحثين قضَوا سنينَ في دراسة التفكير النقدي أو تدريسه؛ تدلُّ على أنَّ قياس قدرات التفكير النقدي أمرٌ ممكن. لكن أهي محاولاتٌ ناجحة؟
إنَّ هذه المجموعة الكبيرة من محاولات قياس مهارات التفكير، وبعضها من تنفيذ باحثين قضَوا سنين في دراسة التفكير النقدي أو تدريسِه؛ تدل على أنَّ قياس قدرات التفكير النقدي أمرٌ ممكن. لكن أهي محاولاتٌ ناجحة؟
يمكننا استخدامُ إحدى أدوات المفكِّر النقدي — وهي الخلفيَّة المعرفية — لمساعدتنا في تحقيق فهمٍ أفضل للدَّور الذي يمكن أن تؤديَه التقييمات في تحديدِ إذا ما كان الشخص يتمتع بالمعارف والمهارات والسمات التي ينبغي توفُّرُها في المفكر النقدي أم لا، أو لتحديد مدى تطوُّرِ تلك القدرات لدى الطلاب على مدار مراحل التعليم.
(١٣) صياغة الاختبارات المهنية
تأتي الخلفية المعرفية المحدَّدة التي سأستندُ إليها للمساعدة في إجابة الأسئلة المتعلقة بطبيعة تقييم التفكير النقدي وفاعليته من مجال تصميم الاختبارات المهنية، التي تستخدم طرقًا عِلمية لوضع اختبارات أكاديمية واختبارات ترخيص مهنية واختبارات تجارية معيارية ولها عواقبُها المهمة.
لا تبدأ صياغةُ الاختبارات المهنية بكتابة الأسئلة، بل بالبحث والتخطيط اللذَين يُركزان على تحديد الجوانب التي ينبغي قياسُها. في اختبار السباحة على سبيل المثال، لا يُطلَب من الشخص القفز في الماء وفعلُ ما يحلو له فحَسْب، بل يقيس قدرتَه على أداء أنشطةٍ محددة؛ مثل أداء حركات معيَّنة بطريقةٍ صحيحة في الماء، أو قطعِ مسافة في الماء في مدةٍ زمنية محددة. في تلك الحالة، تُمثل تلك الأنشطةُ «بِنية الاختبار» التي ستحدِّد مستوًى معيَّنًا في القدرة على السباحة.
وبالنسبة إلى الاختبارات الأكاديمية المعيارية، فعادةً ما تتضمَّن بِنية الاختبار إظهارَ مدى إتقان محتوى المادة؛ مثل أهداف التعلم المضمنة في المعايير على مستوى البلد، أو المعايير الإقليمية، أو الوطنية. لكن البِنية قد تأتي في صورةٍ غير مباشرة تمامًا أيضًا. فاختبارات القبول الجامعية على سبيل المثال، كاختبار القدرات المدرسية واختبار الالتحاق بالجامعات الأمريكية، المستخدمَيْن في الولايات المتحدة يستندان إلى بِنيةٍ تحدِّد إذا ما كانت قدراتُ الطالب في اللغة والرياضيات تؤهِّله للنجاح في الجامعة أم لا. وعلى الرغم من أنَّ واضعي تلك الاختبارات يستخدمون أبحاثًا أُجريَت على مدار عقودٍ لإثبات هذا الترابط، يمكن تفسير حقيقة تزايُد عدد الجامعات التي لم تَعُد تستلزم من المتقدمين لها النجاحَ في اختباراتٍ موحَّدة على أنه فقدانٌ للثقة في بنية اختباراتها.
صحيحٌ أن عدم الإجماع التامِّ على تعريفٍ لمفهوم التفكير النقدي لا يعيق تدريس التفكير النقدي بوجهٍ عام (إذ يتبنَّى المعلمون نُهُجًا مختلفةً لتدريس المادةِ ذاتِها في كل المجالات وعلى الدوام)، لكن صياغة اختبار يهدف إلى قياس قدرات التفكير النقدي يستلزم اختيارَ تعريفٍ بعينه للاسترشاد به في بناء الاختبار.
مثلما ذُكر من قبل، استندَ اختبار ولاية كاليفورنيا لمهارات التفكير النقدي إلى تعريف دراسة ديلفي للتفكير النقدي، وهو يحددُ النتائجَ في مجالات المعرفة والمهارات مثل التحليل والتأويل، والاستدلال والتقييم، والشرح والاستنتاج، والاستقراء والدراية العددية (القدرة على تأويل المعلومات الكمِّية). وتبدأ اختبارات مهنية أخرى بتعريف بديلٍ يضم من التفاصيل ما يكفي للاسترشاد به في عملية التخطيط للاختبار وصياغته.
لا شك أنَّ مرحلة تخطيط تصميم الاختبار تعتمد هي أيضًا على الأبحاث، وعادةً ما تتضمن استعراضَ أعمالِ خبراء المجال وآرائهم. ويتمثل الهدفُ من تلك المرحلة في وضع شكل الامتحان «مخطط» الذي يُحدِّد المعارف والمهارات والقدرات التي سيتناولها الامتحان، إضافةً إلى الجوانب العملية الأخرى مثل طريقة إجراء الامتحان (على الورق أم عبر الإنترنت، على سبيل المثال)، ومدة الاختبار، وفور الانتهاء من مرحلة البحث والتخطيط، تبدأ مرحلة وضع محتوى الاختبار.
عند صياغة الاختبارات، يبرز العديدُ من أنماط الاختبارات التي تفيد في قياس مختلف أنواع المعارف والمهارات والقدرات. فالسمات الشخصية والصفات السلوكية على سبيل المثال، غالبًا ما تُقاس باستخدام تقييمات استبيانية يملؤها المرشحُ نفسه أحيانًا (وتسمَّى دراسة استقصائية ذاتية) وفي أحيان أخرى يملؤها مقيِّمٌ خارجي.
ويُشار إلى أسئلة الاختبارات التي تكون لها إجاباتٌ صحيحة وأخرى غير صحيحة، باسم «الأسئلة المغلقة» أو «الأسئلة المحدَّدة الإجابة». وتُعَد أسئلة الاختيار من متعدد هي أكثر الأنواع استخدامًا من فئة الأسئلة المحدَّدة الإجابة، لكن هذه الفئة تضم تنويعاتٍ أخرى أيضًا مثل أسئلة التطابق وأسئلة الإجابة بصح أو خطأ.
بالرغم من أنَّ تصحيح الأسئلة المحدَّدة الإجابة بسيط وقابل للقياس، إذ يمكن إجراء العملية آليًّا؛ فإن الأسئلة ذاتها قد تكون معقَّدة. فيمكن مثلًا أن ترِدَ الأسئلةُ على «أشكال» معقَّدةٍ مثل فقرات نصِّية، أو الوسائط المتعددة التي تستلزم من الطلاب تجميع المعلومات أو إجراء عمليات حسابية أو غيرها من المهام للوصولِ إلى النتيجة التي يمكن استخدامها لتحديد الخيارِ الصحيح في سؤال الاختيار من متعدد.
في مرحلةٍ ما، تصبح بنيةُ الاختبار بالغةَ التعقيد أو متعددةَ الأوجه بدرجةٍ تجعل من الصعب قياسَها من خلال عناصرَ فرديةٍ في الاختبارات. وتستدعي هذه الحالاتُ إجراءَ ما يُسمى ﺑ «التقييمات القائمة على الأداء»، التي تقتضي من الطلاب تنفيذَ مهمةٍ ما تُقيَّم نتيجتُها بناءً على عدةِ معايير. يُعد المقال المكتوب أشهرَ أشكال هذه التقييمات، بالرغم من وجود أنواع أخرى من منتجات العمل (أو «الأعمال» فحسب)، التي يمكن أن تصبح أساسًا لوضع الدرجات هي وأنشطةُ الأداء؛ مثل الخَطَابة العامة التي يمكن تقييمها على يدِ مراقب. وإضافةً إلى ذلك، توجد أيضًا تقييمات أداء معينة يمكن إجراؤها آليًّا، مثل اختبارات مهارات الكمبيوتر التي يجري تقييمها بناءً على نماذج مُحاكاة للأدوات البرمجية والتطبيقات.
يتطوع مائتا طالبٍ في بداية مرحلة المراهقة لحضور مؤتمرٍ للطلاب عُقد مؤخرًا في العطلة الأسبوعية بإحدى مدن الغرب الأوسط الأمريكي. نوقِشَت في هذا المؤتمر موضوعاتُ العلاقات بين الأعراق وسُبل تحقيق السلام الدائم في العالم؛ إذ اختار الطلابُ هذين الموضوعين باعتبارهما أهمَّ المشكلات في عالمنا الحاضر.
الاستدلال الأول
-
صحيح.
-
صحيح على الأرجح.
-
البيانات غير كافية.
-
خطأ على الأرجح.
-
خطأ.
يُلاحَظ أن هذا السؤال يحتوي على فقرة توضيحية صغيرة للقراءة، ويجب على الطلاب تحليلُها للإجابة عن السؤال. وتُستخدَم الفقرات التوضيحية بكثرةٍ في تقييمات التفكير النقدي التي تطلب من الطلاب استخلاصَ استنتاجات من الأدلة، وتضمُّ بعض الاختبارات فقرات عرضية متعددة يجب على الطلاب الاطلاعُ عليها للإجابة عن سؤالٍ ما. وهذا يتيح للأسئلة المحددة الإجابة أن تُقيِّم مهارات التفكير العليا مثل القدرة على تركيب المعلومات.
-
«يكون أدائي أفضلَ في المهام التي يُتوقَّع مني أن أفكر في جميع جوانبها بنفسي.»
-
«أتريث في اتخاذ القرارات حتى أدرس كل خياراتي.»
-
«أحاول رؤية مزايا الرأي الآخر حتى إن رفضته لاحقًا.»
عادةً ما تتضمَّن هذه الأنواعُ من التقييمات الاستبيانية عددًا كبيرًا من الأسئلة التي قد يُعالج بعضها سماتٍ مماثلةً لكن من زوايا مختلفة، إضافة إلى أسئلةٍ وُضعت لاكتشاف المواضع التي قد يقل فيها صدقُ الممتحَن في التقييم الذاتي.
وتتمثَّل المرحلة الأخيرة من عملية صياغة الاختبارات المهنية في التحقق من «الصلاحية»، التي تتضمن إجراء الأبحاث لتحديد إذا ما كان الاختبار يُقيِّم البنية تقييمًا دقيقًا أم لا. ويجب أن نتذكر أن الامتحانات ليست «صالحة» في حدِّ ذاتها. وإنما تنطوي عملية التحقق من صلاحية الاختبار على جمْع الأدلة من خلال وسائلَ متعددةٍ في معظم الأحيان، ومن ثم إثبات أن الاختبار يقيس الأبعادَ التي يهدف إلى قياسها. ويمكن أن تتضمن هذه الوسائلُ مراجعةَ محتوى الامتحان على يدِ خبراء في المجال، أو مقارنةَ نتائج الاختبار بقياسات مستقلةٍ للمعارف أو المهارات ذاتِها. وعلاوةً على ذلك، عادةً ما يتضمَّن التحققُ من صلاحية الاختبارات ذات العواقب المهمة تحليلَ نتائج الاختبار لتحديد إذا ما كان الاختبار يُميِّز بالسلب بين الممتحَنين على أساس العِرق أو النوع الاجتماعيِّ أو العمر أم لا.
(١٤) ما الاختبارات الناجحة؟
خضَعَت التقييمات التجارية للتفكير النقدي إلى الانتقاد؛ مثلها في ذلك مثل معظم الاختبارات القياسية.
وتواجه اختبارات التفكير النقدي بعضًا من التحديات التي تواجهها اختبارات القدرات المعرفية العامة، مثل الاختبارات التي تهدف إلى قياس معدل الذكاء. من هذه التحديات الأسئلة المتعلقة بشأنِ ما إذا كان ينبغي اعتبار الذكاء سمة فطرية وقابلة للقياس، والمناظرات بشأن أنواع الذكاء المختلفة (بما في ذلك الذكاء العاطفي والإبداع)، التي قد لا تُمثَّل في اختبارٍ يركِّز على القدرة المعرفية وحدها، إضافةً إلى الأسئلة المتعلقة بما إن كان مفهوم الذكاء القابل للقياس برُمَّته قائمًا على افتراضاتٍ ثقافية وآراء بشأن الطبيعة البشرية والعقل البشري ربما تكون غير دقيقة. حتى أسئلة الاختبارات المحددة، مثل سؤال واتسون جليسر المذكور فيما سبق، قد تتضمَّن افتراضاتٍ ثقافيةً لا تنطبق على كل المجتمعات (مثل مجتمعاتٍ لا يستطيع الوالدان فيها تحمُّل تكلفةِ إرسال أبنائهم المراهقين لحضور مؤتمرات تُعقد في عطلة نهاية الأسبوع في أماكن بعيدة عن المنزل).
إذا لم نفترض عدم جدوى كلِّ تقييمات التفكير النقدي التجارية، وكل الاختبارات والامتحانات القصيرة والواجبات التي تُعطى في دورات التفكير النقدي التدريبية، فإن التحديَ الحقيقي لمن يريدون قياسَ التطور في قدرة التفكير النقدي هو كيفية تحديد التقييمات أو أنواع التقييمات التي تقيس عناصرَ التفكير النقدي التي يحاول الشخصُ تطويرها لدى المتعلمين. وبعبارة أخرى، ليست الصعوبة التي تُواجهنا هي قلةَ أدوات تقييم مهارات التفكير النقدي، بل في النطاق الواسع من خيارات الاختبارات، التي يستند كلٌّ منها إلى بِنيةٍ مختلفة لمفهوم المفكر النقدي.
(١٥) تقييم التفكير النقدي في الفصل الدراسي
تناولنا حتى الآن الاختباراتِ المصمَّمةَ مِهنيًّا، مثل أدوات تقييم التفكير النقدي المتوفرة تِجاريًّا. يستخدم بعض المعلمين الأدوات المنشورة ويُجْرون هذه الاختبارات في بداية تدريس المادة وفي نهايتها لتحديد معدل التطور في تعلُّم المادة على سبيل المثال، أو في صورة امتحان نهائي. لكن الأكثر انتشارًا أن يضع المعلِّمون تقييماتهم الخاصة؛ إذ يُصمِّمونها بما يتلاءم مع الجوانب المحدَّدة في المناهج التي يدرِّسونها.
ليست الصعوبة التي تواجهنا هي قلةَ أدوات تقييم مهارات التفكير النقدي، بل في النطاق الواسع من خيارات الاختبارات، التي يستند كلٌّ منها إلى بِنْيةٍ مختلفة لمفهوم المفكر النقدي.
إنَّ الغالبية العظمى من الاختبارات المستخدمة في الأوساط الأكاديمية لا تمرُّ بالعمليات الممنهَجة والمكلِّفة المصاحبة لإنشاء امتحاناتٍ صالحة مصمَّمة احترافيًّا. وبدلًا من ذلك، يَصوغ المعلمون الاختبارات الأكاديمية، وهم إذ يفعلون ذلك يقومون بجميع الأدوار التي تؤديها فرقُ الخبراء في عملية صياغة الاختبارات المهنية، وهي: تحديد أهداف التعلُّم المراد قياسها، وكتابة أسئلة الاختبار، وتقييم النتائج بأنفسهم أو تقديم إرشادات لغيرهم، مثل المدرسين المساعدين، لتقييم حلول الطلاب بصورة متسقة.
وتتسم التقييمات التي يضعها المعلمون بميزةٍ مهمة إضافةً إلى التكلفة المنخفضة والمرونة، وهي أن المعلمين يتمكنون من وضع تقييمات تعبِّر عن المناهج التي يستخدمونها في تدريس المادة تعبيرًا دقيقًا. وهم يستطيعون أيضًا الاطلاعَ على مجموعة من خيارات التقييمات التي قد تكون بالغةَ التعقيد أو مرتفعةَ التكلفة بدرجةٍ يصعب معها تنفيذها بصورة منتظمة على نطاق واسع. بالرغم من هذا، عندما يشكو الطلاب من «سوء» الاختبار الذي وضعه المعلم أو «عدم الإنصاف» فيه، فعادةً ما يعني هذا أنهم يَشْكون من وجود بعض المشكلات به مثل غياب توازن المحتوى، أو عدم اتساق الأسئلة مع أهداف التعلُّم، أو وجود أسئلة محيرة أو سيئة الصياغة، وهو ما وُضعت مبادئ صياغة الاختبارات المهنية، التي لم يتدرَّب عليها سوى قليلٍ من المعلمين، للحدِّ منه.
وقد تعتمد التقييمات المصمَّمة لدوراتٍ تدريبية معينة على مواقف للتفكير النقدي وأمثلة تتعلق بالمادة التي تُدرَّس. فعلى سبيل المثال، يمكن لاختبار مهارات تحليل الحجج في صفِّ العلوم أن يُعالج الجدالات القائمةَ بشأن تغيُّر المناخ أو أبحاث الأجنَّة البشرية، بينما يستطيع مُعلمو الدراسات الاجتماعية تقييمَ تلك المهارات ذاتِها بسؤال الطلاب عن تحديد المقدمات والاستنتاجات في وثائقَ تاريخية وتقييمها، أو تحليل المنطق الذي استخدمته المقالات الصحافية في تناول القضايا الراهنة.
من دون القيود المتعلِّقة بوضع مقياسٍ للاختبارات أو توحيدها، يمكن للمعلمين الاستفادةُ من التقنيات الواعدة في مجال التقييمات مثل برمجيات «الخرائط الذهنية» أو نماذج المحاكاة التي تُتيح للطلاب توضيحَ أفكارهم بتخطيطها والربط بينها. ويمكن للمعلمين الاستفادةُ أيضًا من أعمال المعلمين الآخرين، التي يزداد توفُّرها في المجتمعات التربوية عبر الإنترنت، أو الاستعانة بأعمال واضعي الاختبارات المهنية كي يسترشدوا بها في تصميم تقييماتهم الخاصة.
ومن أساليب التقييم الأخرى ذات الصلة بالتفكير النقدي على وجه الخصوص، «التقييم التكويني». لا تُصمَّم هذه الأنواع من التقييمات بغرض تقييمِ الطالب فيما يعرفه أو فيما يمكن أن يفعله (تُسمى الاختبارات التي تنتمي إلى هذا النوع «تقييمات تحصيلية»)، وإنما يتمثل الهدف منها في إمداد المعلم ببياناتٍ عن فهم كلِّ طالب على حدة؛ فيتسنَّى له أن يُقدم لكلِّ طالب التعقيبَ الملائم، وحبَّذا لو كان في الحال.
إنَّ طرْح سؤال بسيط على الطلاب عن رأيهم فيما تعنيه كلمةُ «الحجَّة» في بداية وحدة تتناول موضوع الحِجاج يُعد تقييمًا تكوينيًّا، إذا كان هذا السؤال سيساعد المعلم على معرفة الطلاب الذين يربطون المصطلح بالخلافات الصاخبة فحسب، مقارنةً بالطلاب الذين يفهمون الدور الأشمل للحجج في تحقيق الفهم. وبناءً على هذه المعلومة، يستطيع المعلم تصميم أنشطة فردية وجماعية للتدريس للمجموعة بأكملها، وللتطبيقات العملية أيضًا.
ويمكننا أيضًا اعتبار التمرينات اللازمة لتحقيق الممارسة المدروسة التي تتخذ أهميةً بالغة في إتقان التفكير النقدي — مثل الواجبات غير المقيَّمة بدرجات التي تتيح للطالب حلَّ المشكلات بمفرده أو مع زملائه — ضمن التقييمات التكوينية؛ ما دامت جزءًا من استراتيجية توفِّر للطلاب الفرصةَ في تلقِّي ملاحظات (من المعلم أو الطلاب الآخرين) لتحسين عملهم، بينما يتعلمون بالممارسة. إذا كان التقييم التكوينيُّ ناجحًا في غرفة الصف، فسوف نجد أنَّ التقييم والتدريس يتَّسمان بالسلاسة، وربما لا يمكن التمييزُ بينهما في الحالات المثالية.
لعلك تُلاحظ كيف أن تطبيق مبدأ واحد من مبادئ التفكير النقدي (الخلفية المعرفية) يُمِدُّنا بأفكارٍ مفيدة بشأن موضوع تقييم التفكير النقدي، ويطرح في الوقت ذاته تساؤلاتٍ بشأن مواضيعَ مهمة أخرى، تتعلق بتوحيد الاختبارات والتدريس، إضافةً إلى التقييم في غرفة الصف. وبناءً على هذا، سنرى ما يمكن تعلُّمه من استخدام عدة أساليب من التفكير النقدي في محاولة لحل قضية شائكة ومعقَّدة.
(١٦) دراسة حالة
في بعض الحالات، أيَّدَت الاستنتاجاتُ التي توصَّل إليها الكتاب التصوراتِ الموجودةَ بالفعل عن فشل نظام التعليم العالي، لكن المناقشات التي عرَضها بشأن قيمة التفكير النقدي كانت مشجعةً لنا، نحن المهتمين برؤية المزيد من المصادر تُخصَّص لمساعدة الطلاب على اكتساب تلك المهارة الضرورية.
ربما تكون المعتقَدات والدوافع الموجودةُ مسبقًا بشأن التعليم العالي، الإيجابيةُ منها والسلبية، ليست سوى تحيزاتٍ، ويُحتمل أنها أدَّت إلى تفسيرات مشوَّهة للحجج الواردة في كتاب «التخبط الأكاديمي» وما تعنيه. غير أنَّ المفكر النقدي الجيد يجب أن يُحيِّد تحيزاته من خلال محاولة فهم جوهرِ ما قاله المؤلف في الواقع، ثم يقيم الحجَّة الفعلية، لا تأويله المفضل لها.
- المقدمة المنطقية الأولى: يقيس تقييمُ التعلم الجماعي قدرةَ الطلاب على التفكير النقدي قياسًا دقيقًا.
- المقدمة المنطقية الثانية: لم يُحرِز طلاب الجامعة الذين تقدموا لتقييم التعلم الجماعي في أوائل سنوات الجامعة وفي آخرها، تقدمًا كبيرًا في درجات الاختبار على مدار هذه المرحلة.
- الاستنتاج: لا يبدو أنَّ قدرة الطلاب على التفكير النقدي قد زادت خلال سنوات دراستهم بالجامعة.
ويمكن دحضُ هذه الحجَّة برُمَّتها بالقول إن تطوير التفكير النقدي أقلُّ أهميةً لطلاب الجامعة من الأهداف الأخرى مثل تنمية المعرفة أو التعرُّف على الآداب. لكن على افتراضِ أنك تؤمن بأهمية تطوير التفكير النقدي في الدراسة الجامعية بدرجةٍ تدعو إلى تقييم الحجَّة السابقة، فلعلَّك تتذكَّر ما ورَد في الفصول السابقة بشأن المنطق والحِجَاج، وتتذكر أنَّ هذه الحجَّة ذاتَ المقدمتَين المنطقيتين «صالحة»؛ لأن القَبول بصحة المقدمات المنطقية يقتضي القبولَ بصحة الاستنتاج. غير أنَّ الحجَّة الصالحة لا بد أن تجتاز اختبارَ «الوجاهة». ولهذا ينبغي تمحيصُ المقدمتين المنطقيتين لمعرفةِ إذا ما كانت أيٌّ منهما خاطئةً أو تحتمل أن يرفضها إنسانٌ عاقل، أو يُشكِّك فيها على الأقل، أم لا.
من الناحية النظرية، ربما تكون المقدمة المنطقية الثانية خاطئةً إذا لم تُقيَّم الاختباراتُ على النحو الصحيح، أو إذا قدَّم المؤلفان نتائجهما بطريقةٍ متحيزة أو خاطئة. وعلى الرغم من ضرورة البحث الدائم عن الأخطاء أو محاولات «التزوير»، فلا يوجد دليلٌ على ذلك في الأبحاث الدقيقة التي يطرحها كتاب «التخبط الأكاديمي»، مما يجعل مهاجمة المقدمة المنطقية الثانية استنادًا إلى التخمين من أوجهِ عدم الإنصاف. ثم إنه غيرُ ضروري لأن نقطة الهجوم الأضعف هي المقدمة المنطقية الأولى.
ويمكن حلُّ تلك المسألة بإضعاف الاستنتاج بعضَ الشيء وصياغته على النحو التالي: «لم يُحقِّق الطلاب تقدمًا في المهارات المحدَّدة التي يقيسها تقييم التعلم الجماعي على مدار دراستهم الجامعية.» والحق أن الاطلاع على النص الأصلي في كتاب أروم وروسكا بدلًا من الاعتماد على التفسيرات الإعلامية لنتائج الكتاب، يوضح أنَّهما توصَّلا إلى هذا الاستنتاج الأدق، ما يُبرز مرةً أخرى أهمية الخلفية المعرفية (التي تتمثَّل في هذه الحالة في الاعتماد على المصدر الأصلي لا تفسيرات مصادر خارجية). ويقترح المؤلفان أيضًا آليات لشرح الأسباب المحتملة لعدم إحراز الطلاب للتقدُّم في مهارات التفكير النقدي، ويعرضان المزيدَ من الأدلة التي تدعم أطروحتَهما، مثل الدراسةِ السالفةِ الذكر التي توضِّح فجوةً بين عدد المدرسين الجامعيين الذين يعتقدون أنهم يُعلِّمون الطلابَ مهاراتِ التفكير النقدي (٩٩٪)، وبين نسبة أصحاب الأعمال الذين يقولون إن خرِّيجي الجامعات لا يستخدمون مهارات التفكير النقدي في مكان العمل (أكثر من ٧٥٪).
لا بد أن هذا الدليل الإضافي يستند إلى مصدرٍ ما. على سبيل المثال، تعتمد الفجوة بين رأي المدرسين ورأي أصحاب الأعمال على بحثٍ استبياني يمكن تمحيصُه بالاطلاع على أسئلة الاستبيان وعددِ المجيبين وطبيعتهم، والدلالةِ الإحصائية للنتائج. ويمكن للمفكر النقديِّ متابعةُ هذا الطريق إلى أن يجمع أدلةً كافية لتحديد إذا ما كانت مقدماتُ حجته صحيحةً (أو على الأقلِّ منطقية) أم لا، وإذا ما كانت تلك المقدمات تؤدِّي إلى ذلك الاستنتاج منطقيًّا أم لا.
(١٧) تحقيق أهداف التفكير النقدي
إن توظيف خياراتٍ عديدة من ترسانة المفكِّر النقدي يُقرِّبنا من الفهم الدقيق لما يُخبرنا به البحث الذي يستند إليه كتاب «التخبط الأكاديمي»، ومن ثَم يمكن الاسترشاد به في مناقشةٍ مثمرة ومنطقية بدلًا من المجادلات «العبثية» القائمة على تحيُّزاتٍ أو تحليلات سابقة لا تستند إلى المنطق أو الخلفية المعرفية.
وبالمثل أيضًا، فإنَّ جودة المناقشاتِ المثيرةِ للجدل بشأن القضايا المهمة التي تناولها الكتاب — أو لم يتناولها — مثل الهجرة والأمن الوطني، ستتحسَّن بزيادة جرعة التفكير النقدي بدرجةٍ أكبرَ مما نشهدُه في الثقافة القَبَلية التي تُحركها وسائلُ الإعلام اليوم، وينطبق الأمر نفسُه على المناقشاتِ الأقربِ إلى أمور الحياة اليومية، مثل المفاضلة بين شراء منزل أو تأجيره؛ إذ ستتحسَّن تلك المناقشاتُ كثيرًا عند استخدام أدوات التفكير النقدي.
وفي الفصل الأخير، سنتناول ما قد يتَّسم به مجتمعٌ يقدِّر التفكير النقدي ويعطيه الأولوية، وما يمكننا القيام به لكي نصلَ بمجتمعنا إلى ذلك المستوى.