أين نذهب من هنا؟
في عام ٢٠١١، زُرت المقر الرئيسيَّ لمؤسسة التفكير النقدي في شمال كاليفورنيا، وحظيتُ بشرف اللقاء مع مؤسسي تلك المؤسسة: الدكتور ريتشارد بول، الذي تُوفِّي للأسف بعدها ببضع سنوات والرئيس الحالي للمؤسسة، الدكتورة ليندا إلدر.
وقد تزامَنَت الزيارة مع تقاريرَ من اليابان عن كارثة فوكوشيما النووية؛ إذ انهارت محطةٌ نووية مبنية على أحد خطوط الصدع بعدما ضرَبها زلزال وإعصار تسونامي مصاحبٌ له، مما أدَّى إلى انبعاث ملوِّثات إشعاعيةٍ في البيئة.
ما المقدمات التي استخدمها صنَّاعُ القرار لتبرير إنشاء مفاعل في مثلِ هذا الموضع المعرَّض للخطر؟ وما المنطق الذي ربَط تلك المقدمات باستنتاجٍ مفادُه أنه يجب عليهم البدءُ في المشروع؟
تبيَّن أنَّ المقدمات المنطقية كانت مَعيبة؛ إذ اعتمدت على التمنِّي وتبنِّي أفضل التوقُّعات. وأتت المقدمات المنطقية فاسدةً أيضًا بسبب الجهات التنظيمية الخاضعة لمن يُريدون التوسُّعَ في استخدام الطاقة النووية في اليابان. وأدَّى هذا إلى وجودِ تحيزات أثَّرَت في اختيار صُناع القرار للاستدلالات التي توصَّلوا لها والأدلة التي صدَّقوها. وعلى غِرار المحطة النووية ذاتِها، صِيغت حجةُ تحديد مكان محطة فوكوشيما في ذلك المكان بموادِّ بناءٍ غير مناسبة وتصميم معيب.
تُقدم البيئة السياسية الحاليَّة مثالًا آخرَ على ما يحدث للأفراد والمجتمع إذا تجاهَلوا مبادئ التفكير النقدي. لا شك في أن هناك ناخبين يتَّسمون بالإنصاف عندما يستمعون إلى المرشحين السياسيِّين المعارضين، حيث يضَعون في اعتبارهم كاملَ السماتِ الشخصية للمرشحين وحياتهم المهنية السياسية قبل تكوين رأيٍ بشأنهم، إضافةً إلى تحليل مواقفهم من القضايا المهمة. فالائتلافات الحزبية (التي تدلُّ على وجود قيم مشتركة مع ناخبين آخرين) والمعتقدات السياسية الراسخة (التي تُحدِّد أولويات الفرد) لا تعمينا بالضرورة عن احتمالية أن يكون لدى «الجانب الآخر» ما يستحقُّ الإنصاتَ له. لكن كم عددُ الناخبين في العصر الحاليِّ الذين يرفضون تلقائيًّا الاستماعَ إلى أي شخص لا يتَّفقون معه بالفعل، ويرفضون ممارسةَ أيِّ شكل من أشكال التأمُّل أو التأنِّي، ويُفضلون البحث على «جوجل» عن رسومٍ هزْليةٍ مسيئة للمرشح الذي لم ينتَووا التصويت له قطُّ تحت أيِّ ظرف من الظروف، وهذه الرسوم الكاريكاتورية قد قصَّها آخرون بعنايةٍ من مقاطع فيديو واقتباساتٍ أُخرجت من سياقها؟
«تُقدم البيئة السياسية الحاليَّة مثالًا آخر على ما يحدث للأفراد والمجتمع إذا تجاهَلوا مبادئ التفكير النقدي.»
إنَّ العديد من أولئك «الآخَرين» محترفون في الاستفادة من أوجُه قصور ملَكاتنا العقلية، مثل التحيُّزات المعرفية العديدة التي تعيقنا عن التفكير النقديِّ أو قدرة العاطفة أو القبَلية في التغلُّب على التفكير المنطقي. وعلى مدار التاريخ، كان هؤلاء «الآخرون» هم المرشَّحين الذين يُقرِّرون كيف يعمون أبصارَ الناخبين أو يستجْدون عاطفتهم أو تعصُّبهم القبَلي، بدلًا من التفكير المنطقي. وكما تبيَّن في الانتخابات الأخيرة، لا يزال المرشحون يتصدَّرون هذا النوع من التلاعب، لكنهم صاروا متسلِّحين بالمستشارين السياسيين المتمرسين في الأساليب التي تعيق الناسَ عن التفكير بوضوح.
إنَّ المرء ليرجو أن تُنبهنا القوى الأجنبية المعادية التي تستخدمُ تلك الأساليب ذاتَها في التلاعب بمواطني البلدان الأخرى، فتُشعل الغضبَ من أجل إحداث انشقاقاتٍ تُعرِّض الديمقراطية للخطر، إلى مخاطر التخلِّي عن التفكير المنطقي من أجل تفضيلات بدائية. لكن هل شهدنا أي درجة من التضاؤل في شهية الجمهور إلى المقدمات المنطقية السيئة (متمثلة في «الأخبار الكاذبة») والمنطق غير الصالح ورفض اكتساب الخلفية المعرفية أو تطبيقها وعدم التحلي بالخيرية تجاه الخصوم السياسية، حين عرَفنا أننا نُعرِّض أنفسنا للخطر حين نركنُ إلى تحيزاتنا؟ هل تُشعرنا نزعتنا في الرجوع إلى فقاعاتنا حيث لا نتحدَّث إلا مع المتفقين مع أفكارنا أو ميلنا للشعور بالخزي تجاه مَن لا يتفقون معنا بدلًا من التفاعل معهم، بمزيدٍ من التمكين؟ إذا لم نتوقَّف عن نبذ الفضائل الفكرية وآلاف السنوات من الحكمة التي تُعلمنا كيف نصبح مفكِّرين نقديِّين مستقلِّين وأحرارًا، فما ينبغي لنا أن نُفاجَأ إذا كان النوع الوحيد من المرشحين الذين يتسنَّى لنا انتخابُهم هم مَن يعتقدون أنهم يفهمون نوازعَنا الحقيقية (والأرجح أنهم يفهمونها بالفعل).
إنَّ القرارات الكارثيةَ مثل تلك التي أدَّت إلى كوارثِ المحطات النووية، أو أن يحكمَنا أشخاصٌ لا يتمتعون بأية مهارات سوى استغلالِ نقاط ضعفنا هي التوابعُ الأخطر لرفض تنمية قدرتنا على التفكير المنطقي أو رفضنا استخدامها، وهي قدرةٌ تميزنا عن الحيوانات، وتزداد فعاليتها يومًا بعد يوم؛ بفضل الأساليب المتاحة في جَعبة المفكر النقدي.
كلنا قد اتخذنا قراراتٍ بناءً على شعورٍ غريزي أو بعد التفكير فيها بعضَ الوقت. واتخذنا أيضًا قراراتٍ بعد البحث المتأنِّي وقضاء وقتٍ في تحليل الخيارات المطروحة. في العديد من الحالات، يتَّضح أنَّ الخيارات الغريزيةَ أو العفوية ليست سيئةً، لكن قارِنْ بين تجربتك الشخصيةِ في اتخاذ القرارات بعد التفكير والتأنِّي وبين اتخاذها «بالارتجال»، ولْترَ النتيجة. إذا كان بإمكاننا زيادة فرص نجاحنا بتحديد الأدلة وتقييمها، وصياغتها في بناءٍ يُمدنا بالمعلومات، وتحليل النتائج، فلماذا لا نتَّبع عملية التفكير النقدي بدلًا من اتباع طريقة إطلاق السهم أولًا ثم التصويبِ على الهدف؟ وبالمثل، ألا يمكن أن يُساعدنا اختبارُ الفرضيات بشأن نواميس الكون والتخلِّي عنها — إذا لزم الأمر — في فهم الطريقة التي يسير بها الكون فهمًا أفضل؟
لننتقلِ الآن من القرارات الشخصية إلى العلاقات بين الأشخاص، من الأرجح أنك خُضتَ، مثلي، جدالاتٍ مع الزملاء أو الأصدقاء أو الأحباب، وبدا فيها أنَّ الطرَفَين لا يفهم أحدُهما الآخَر. والآن أنت تعرف السبب. الأرجح أنَّ الحجَّة كانت تتضمَّن مقدمةً منطقية خفية (واحدة من قياسات أرسطو المضمَرة)، ودون القدرة على معرفة البنية التي يستندُ إليها الكلام، ظللتَ تُجادل من دون أن تفهم الموضوع محلَّ الجدال فهمًا كاملًا. وبما أنك أصبحتَ أيضًا تعرف الفرق بين الجِدال والعِراك، فأنت تعرف كيف تُشارك مشاركةً حسَنة في الجدالات التي هي تفاعلٌ بَنَّاء، وتتجنب العِراك الذي هو مواجهة غير مثمرة وهدامة في كثير من الأحيان.
الخبرُ السارُّ أن بناءَ حياة أفضلَ من خلال التفكير بصورةٍ أفضل لا يتطلب منا إعادةَ تشكيل الجنس البشري. بل كلُّ ما يستلزمه هو استخدام ملَكات التفكير التي نمتلكها بالفعل بطريقةٍ أفضل وأكثر مما نستخدمُها الآن.
بفضل جميع النجاحات التي حقَّقها العلم، غالبًا ما يعتبر نموذجًا للتفكير المنهجي. بالرغم من ذلك، إذا تخلَّيتَ عن النظر إلى العلم بصفته نشاطًا فريدًا لا ينخرطُ فيه إلا أشخاصٌ مميزون، واعتبرته نهجًا ثقافيًّا مصمَّمًا للحدِّ من التحيُّزات التأكيدية التي عادةً ما تدفع كلَّ الناس (بمن فيهم العلماء) إلى تصديق أشياءَ غير حقيقية، فربما تبدأ في إدراك الفوائد الكبيرة التي تنبع من إجراء تحسيناتٍ بسيطة في الطريقة التي نفكِّر بها.
ومن المخاوف الأخرى التي ينبغي تبديدها هو أن التحوُّل إلى أفرادٍ يتمتعون بمهارة التفكير النقدي في مجتمعٍ يتحلَّى بالتفكير النقدي سيتطلَّب منا تحويلَ الأرض إلى كوكب «فولكان». ذلك أنَّ قاطِني عالم «ستار تريك» الخيالي كانوا يزعمون أنهم يحتكمون إلى المنطق بصورة كلية، لكن الوصف الأدقَّ أنهم كانوا يكبتون العواطفَ التي اعتقدوا أنها تتعارض مع التفكير المنطقي. ومع كل الاحترام لسوراك، المشرِّع العظيم الذي أسَّس طريقة كوكب فولكان في الحياة، فإنَّ كبْت العواطف خطأ، حتى للمفكرين النقديِّين الذين يطمحون إلى تعزيز دورِ المنطق في حياتهم.
قمْع العواطف خطأ؛ لأن العواطف وكذلك الغرائز تُمدنا بمعلومات قيمة يمكن الاسترشاد بها في مقدمات الحجَّة المنطقية. إنَّ العديد من الخيارات التي قمت بها بصفتي أبًا (بدايةً من تحديد موعد خلود أطفالي للنوم، وحتى وقت استعدادهم لتعلم التفكير النقدي)، لم تستند إلى التقارير الأكاديمية أو قراءات الرنين المغناطيسي النووي لنشاط دماغ أطفالي، بل على الارتباط العاطفي الذي يُتيح لي أن «أقرأ» أفكارَ مَن أحبهم من قبل أن يتفوَّهوا بكلمة. من المهم بالطبع أن ندقِّق في تلك المقدمات المنطقية للتأكُّد من أن العاطفة قد أثْرَتها لا ضلَّلتْها، وأن نتحلَّى بمنطقية القائد «سبوك» عند بناء الحجَّة التي ستستفيد من تلك المقدمات المنطقية، وتحليلها. فمن خلال تحقيق التوازن بين ذواتنا العاطفية والغريزية والمنطقية، نتفادى عزْلَ أنفسنا عن البيانات القيمة الضرورية لتطبيق التفكير المنطقي بفاعليةٍ في عالمٍ يتألَّف من بشرٍ لا آلات.
إنَّ تبنِّيَ معتقداتٍ راسخة، والاصطفافَ إلى جانب مَن يشاركوننا تلك المعتقدات — سواءٌ بالمشاركة في القضايا أو الانضمام إلى حزب سياسي — لا يستلزم منا أن نتخلَّى عن المنطق لصالح عقيدةٍ أو قبيلة. الحقُّ أنَّ تمحيص الفرد معتقداته قد يُعززها إذ يُساعده على تحديد إذا ما كانت تلك المعتقدات مبنيةً على أسسٍ قوية من البراهين والمنطق أم لا. فإذا كانت مبنيةً على أسسٍ قوية، فإنه يدافع عنها بقوة أكبرَ مما يَزيد من فرص جذب الآخرين إلى صفه. وإذا لم تكن مبنيةً على أسسٍ قوية، فيمكن للمرء تدعيمها أو حتى تغييرُ رأيه إذا أدرك في النهاية أن الأسبابَ الدافعةَ لمعتقده غيرُ كافية. إنَّ تكريس هذا النوع من النشاط العقلي من أجل المعتقَدات التي نعتقد أنها الأهمُّ لنا ينبغي أن يُرى على أنه علامة على القوة لا الضعف. وإذا تأمَّلْنا المناخ السياسيَّ السائد اليوم، فلا يبدو أنَّ الابتعاد عن مبادئ التفكير النقدي قد منَحَنا سلطةً أكبر أو جعلَنا أسعد.
إذا افترضنا أنك تقبلُ الحجَّة القائلة بأن التفكيرَ النقديَّ غالبًا ما يُحسِّن الحياة على المستوى الشخصي والجماعي والسياسي، وأننا يمكن أن نُصبح مفكرين نقديِّين من دون تشكيل النوع البشريِّ بأكمله من جديد، فسيظل السؤالُ الذي يواجهنا هو: كيف يمكننا تحديدًا تنشئةُ أفرادٍ يستخدمون طرقًا أفضلَ للتفكير ويتأنَّون فيه، مع تنمية مجتمعٍ يُدرك أهميةَ اتباع نهج التفكير النقدي في اتخاذ الخيارات المهمة في الحياة؟
سيظل السؤال الذي يواجهنا هو: كيف يمكننا تحديدًا تنشئة أفراد يستخدمون طرقًا أفضلَ للتفكير ويتأنَّون فيه، مع تنمية مجتمعٍ يُدرك أهمية اتباع نهج التفكير النقدي في اتخاذ الخيارات المهمة في الحياة؟
من حُسن الحظ أنَّ مَن نحتاج إلى مشاركتهم في مثلِ هذا التحوُّل من مُؤيديه بالفعل. فمعظم المدرسين والمسئولين الأكاديميِّين وصنَّاع سياسات التعليم يرون أن تعليم التفكير النقديِّ يجب أن يُصبح أولوية، ويرغب أصحاب الأعمال في توظيف المزيد ممن يتمتَّعون بمستوًى جيد في مهارات التفكير المنطقي. ثم إنَّ الآباء والأمهات لا يرغبون في تنشئة أغبياءَ لا يتسلحون بالمؤهلات اللازمة للتوظيف، وقد أظهرَ الأطفالُ في كل المراحل التعليمية أنهم يستجيبون جيدًا عند إدراج موضوعات التفكير النقدي في المنهج. إنَّ الفجوة الكبيرة بين النسبة العالية من المعلِّمين الذين يدَّعون إيلاء الأولوية لتدريس التفكير النقدي والنسبة المنخفضة التي يعتقد أصحابُ الأعمال أنها تعكس الخرِّيجين الذين تعلَّموا مهارات التفكير النقدي، تُشير إلى وجودِ الكثير مما يقتضي التحسين، لكنها لا تعني الافتقارَ إلى الدافع أو الأهداف المشتركة.
من الناحية النظرية، يمكن لإعادة تأليف منهج مهارات التفكير العليا أن يوصلنا إلى ما نريد، لكن مثل ذلك التحوُّل الكبير غيرُ عملي وغير واردِ الحدوث أيضًا؛ إذ لم نَعُد نعيش في حِقبة تتوصل فيها لجنةٌ من عشَرة أعضاء إلى منهجٍ موحَّد يعتمده الجميع. إضافةً إلى ذلك، يوجد العديد من الأولويات الشرعية المتصارعة في مجال التعليم؛ مثل تعليم الطلابِ القراءةَ والكتابة وفهْم الرياضيات والعلوم، أو تنشئتهم ليُصبحوا لائقين بدنيًّا واجتماعيًّا، ودعم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. يجب أن تعيش هذه الأولويات جنبًا إلى جنبٍ مع الرغبة في تعليم الطلاب طرقَ التفكير المفيدة، حتى إذا أمكنَ تطبيقُ مهارات التفكير النقدي على كل هذه الأهداف الأخرى.
إذا كان لنا أن نبنيَ على ما نعرفه مما ناقشناه في الفصل الأخير عن تعليم التفكير النقدي، مع فَهْم العَقَبات التي تُواجه المعلمين في عملهم، فيجب أن نوفِّر المواردَ التي تُعين المعلمين على دمج طرق تدريس التفكير النقدي «الصريحة» و«الممارسة» المدروسة في المناهج التي يُدرِّسونها بالفعل بطرقٍ تُشجِّع على «الإحالة».
لقد قرأتُ بالفعل أمثلةً على مُعلم الرياضيات الذي يستخدم البراهين الهندسية كي يُعرِّف الطلاب على المبادئ العامة للحجج الاستنباطية، أو مدرِّس العلوم الذي لا يقتصر تطبيقُه للطريقة العلمية على محتوى العلوم فحسب. ربما تبدو تلك تغييراتٍ بسيطةً في الطرق والأولويات، لكنها قد تؤدي إلى تحسيناتٍ كبيرة في التفكير النقدي بوجهٍ عام، وقد استوعبَ العديد من المعلمين بالفعل طرقَ التفكير النقدي الخاصة بتخصصاتهم، حتى وإن لم يمتلكوا الخبرةَ في تدريس تلك الطرق على نحوٍ صريح، أو في ربطها بالممارسة المدروسة التي تدعم القدرةَ على التفكير المنطقي التي يمكن إحالتها.
ويشير كتاب جون ديوي «كيف نفكِّر» الصادر عام ١٩١٠، الذي يُعَد «الأساس» في فهم التفكير النقدي وتدريسه، إلى أساليبَ قد تُساعد معلمي اليوم على تحقيق هدف تنشئة مفكرين.
وحسبما ذكرنا، اعتمدَت أفكار ديوي على مفهومٍ براجماتي يتمثل في أنَّ الطلاب يميلون إلى التفكير مدفوعين في ذلك برغبةٍ في تبديد الشك، لكن هذا الشك لا ينبتُ في عقول الطلاب حينما يمتلك المعلمون جميع الإجابات. لذا، ينبغي أن تُركز الاستراتيجياتُ الجديدة لتدريب المعلمين وتوزيع الموارد والاستراتيجيات التربوية على الاستغناء عن أوراقِ العمل والاختبارات المكونة من أسئلة لها إجاباتٌ صحيحة أو خاطئة، أو حتى الجمع بينها وبين أسئلة وأحجيات مصممة لغرس الشكِّ المحفِّز، المقترن بأساليبَ لتوجيه التفكير بطرقٍ تُبدد ذلك الشكَّ بطرقٍ مثمرة فكريًّا. ويمكن لهذه الممارسات أن تُعين الطلاب على تكوين عادات فكرية تستمرُّ معهم بينما ينتقلون من صفٍّ دراسي إلى آخَر، ونأمُل أن تنتقل معهم من مادة دراسية إلى أخرى ومن نطاق المدرسة إلى نطاق الحياة.
شهدت الغالبية منا على مدار حيواتهم، تطبيقَ أولوياتٍ تعليمية جديدة لاقت مستوياتٍ كبيرةً من الدعم على المستويَين الوطنيِّ والمحلي، وحتى على مستوى الفصل. وقد نبَعَت بعض هذه الأولويات من حركات المساءلة التي تدعو إلى وضع معاييرَ أكاديميةٍ صارمة، واختباراتٍ منتظمة لتحديد إذا ما كان الطلاب يحرزون تقدمًا ملائمًا أم لا. وبصرف النظر عن آرائنا الشخصية في هذه الأولويات، فقد شهدنا تضافرَ حكومات ومنظومات تعليمية ومنظمات غير هادفة للربح والقطاع الخاص من أجل تحقيق هدفٍ تعليمي مشترك. إذا تمكَّن الدعم الحقيقي لتعليم التفكير النقدي من تحقيق أي جزء ولو صغير من هذا الدعم، ففيما يلي بعض النقاط المؤثرة التي ينبغي استهدافها:
(١) أولويات للمعلمين
(١-١) الحرص على أن تحتويَ المعايير الأكاديمية الجديدة على بعضِ مبادئ التفكير النقدي القابلة للإحالة
(١-٢) تعديل الأنظمة الحاليَّة من أجل إعداد المعلِّمين لإدخال التدريس الصريح لمبادئ التفكير النقدي والممارسة المدروسة لمهارات التفكير النقدي في دروس الموادِّ التي يُدرِّسونها
تتناول الدوراتُ التعليمية الخاصة بطرق التدريس في معظم كليات التربية طرقَ تدريس المحتوى، وتركِّز تلك الدوراتُ على أصول التدريس العامة، وكذلك أساليب تدريس موادَّ دراسيةٍ معينة مثل الرياضيات والعلوم. ويمكن لتعديل تلك الدورات التدريبية كي تشمل طرقَ إدخال التدريس الصريح لمبادئ التفكير النقدي وفرص ممارسة مهارات التفكير النقدي، أن تُسرِّع من تعميم استراتيجيات التشريب والاستراتيجيات المختلطة لتدريس التفكير النقدي المذكورة في الفصل الأخير. نظرًا إلى ارتفاع معدَّل الدوران في مهنة التدريس بما في ذلك الأعداد الكبيرة لعمليات التقاعد المتوقعة على مدار العَقد القادم، فإن تعديل تلك الدورات التدريبية لطرق التدريس بحيث تُركز على تدريس مهارات التفكير النقدي يمكن أن تُسرع من هذا التغيير من دون الإخلال بالهيكل العام للمنهج الدراسي.
(١-٣) الاستثمار في تنمية المعلمين الحاليين على المستوى المهني
يمكن للمعلمين الحاليِّين تعلُّم الموضوعات وأساليب التدريس ذاتها المذكورة في النقطة الأخيرة بشأن الدورات التدريبية في طرق التدريس من خلال التدريبات التي يتلقَّونها؛ باعتبارها جزءًا من التطوير المهنيِّ المستمر. في العديد من البلدان، يجب على المعلمين الاشتراكُ في تدريباتٍ مستمرةٍ من أجل الحصول على الترخيص أو تجديده، أو زيادة الراتب أو التقدُّم في مسارهم المهني. وقد خلَقَت تلك الشروطُ أسواقًا كبيرة للدورات التدريبية الجامعية والورش المدرسية والندوات التدريبية خارجَ مكان العمل وخيارات التعلم عبر الإنترنت المصمَّمة لإعانة المعلمين على تحقيق أهداف التطوير المهني.
وعلى الرغم من أن معظم القرارات بشأن التطوير المهنيِّ تُتَّخذ على المستوى المحلي، فإن سياسة التعليم من المحفزات الكبرى لتحديد الموضوعات التي ستُمثل الأولوية، وخيرُ مثال على ذلك هو ما يحدث من انتشارٍ واسع للتطوير المهني لدعم المعلمين عند إطلاق معايير أكاديمية جديدة. وإذا انتقل تحسين قدرات التفكير النقدي لدى الطلاب من مرحلة التطلُّعات ليصبح سياسة فعلية، فستنبثق مواردُ التطوير المهني لدعم تلك الأولويات، مثلما حدث حين أصبحت المساءلة محفزًا في السياسة التعليمية قبل عقود.
(١-٤) إبراز دور المؤسسات التعليمية والمعلمين الذين يتبنون مبادئ التفكير النقدي بالفعل
تتمثَّل إحدى الطرق الأخرى للاستفادة من الموارد المفيدة والموجودة بالفعل، في تسليط الضوء على أماكنِ التعلُّم التي تتبنَّى مهارات التعلُّم الأربع والاحتفاء بها، وكذلك المؤسسات خارج الإطار المدرسي (مثل برامج الإثراء بعد اليوم الدراسي)، التي تدعم طرق التدريس التي تتبنَّى مبادئ التفكير النقدي أو تُجرِّبها. وينطبق الأمر نفسُه على فرادى المعلمين الذين يُنفِّذون الممارسات التي تُعين في تنمية قدرات التفكير النقدي لدى الطلاب؛ إذ يمكن أن يُمثلوا مصدرَ إلهامٍ لغيرهم من المعلمين، أو نماذج يحتذون بها.
(١-٥) إمداد المعلمين العاملين في الفصول بالموارد التي يحتاجون إليها للنجاح
ونظرًا إلى التنوُّع الكبير في المواد المتاحة عبر مختلِف المنصات، أصبح العثورُ على الموارد الجيدة تحديًا مستمرًّا للمعلمين الذين يستخدمون الموارد التعليمية المفتوحة. ويمكن للالتزام بإنشاء محتوًى عالي الجودة يدعم تدريس التفكير النقدي ويسهل العثور عليه عبر الإنترنت وتدريسه داخل الفصول، أن يُتيح للمعلمين الاستفادةَ من الأدوات والطرق المثبتة التي لا تتطلب منهم إعادة تشكيل الموارد الموجودة بالفعل.
إنَّ هذه التوصيات المتعلقة بالسياسات بشأن الأولويات الجديدة تشير إلى أن المدرسة هي أفضلُ مكانٍ لتنشئة مفكرين نقديِّين، ولكن بحلول الوقت الذي يصل فيه الطلاب إلى سنِّ المدرسة، ربما يكونون يُعانون بالفعل من ضعفٍ في مهارة التفكير النقدي بسبب التحيُّزات المعوقة التي يتلقَّوْنها من المنزل، أو مِن أقرانهم الذين يعتنقون معتقداتٍ من دون تفكير. وهذا يجعل المنزل وغيره من البيئات خارجَ إطار المدرسة هي الأماكنَ الأنسبَ لتعليم الخصال الفكرية المرتبطة بسمات التفكير النقدي. وفيما يلي بعض الأفكار للقيام بذلك:
(٢) أولويات الأُسَر
(٢-١) الالتزام بأن نُصبح نحن أنفسنا مفكِّرين نقديِّين
مثلما ذكَرنا من قبل، فإنَّ تطبيق أساليبِ التفكير النقدي عمَليًّا يُزود الأفراد على اختلاف فئاتهم العمرية بالطرقِ التي تُمكِّنهم من اتخاذ قراراتٍ أفضل، وتسوية الاختلافات، والمساعدة في بناء مجتمعٍ أفضل. وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من المناقشات المطروحة في هذا الكتاب يهتم بتعليم الطلاب الصغار، توجد مجموعة كبيرة من الكتب والدورات التدريبية وغيرها من المصادر (العديد من تلك المصادر مجَّاني، بما فيها المصادر الواردة في قسم «المصادر»)؛ كي تساعد أي شخص من أي فئة عمرية على البدء في رحلةٍ تمتد على مدى الحياة كي يصبح مفكرًا نقديًّا. ومثلما أنَّ البدء في تعلُّم مهارات التفكير النقدي لا يمكن أن يكون سابقًا لأوانه، فإنَّ أوان تعلُّمه لا يفوت أبدًا.
(٢-٢) ممارسة الخصال الفكرية في المنزل
لكي يتعلم الصغارُ الخصالَ الفكرية مثل الانفتاح الذهني والتواضع الفكري والثقة في المنطق؛ ينبغي أن تُشرَح هذه الخصال لهم، ويَشهدوا ممارستها أمامهم أيضًا. وهذا يعني أنه ينبغي رؤية العائلات التي تتَّسم بتعصُّبها السياسي أو العداء تجاه معتقداتِ الآخَرين على حقيقتها: وهي أنها عقَبةٌ غير مقصودة أمام نجاح الطفل وسعادته في نهاية المطاف.
(٢-٣) تقبُّل الشك، لكن مع توجيهه توجيهًا مثمرًا
في عرض الفلسفة البراجماتية في الفصل الثاني، تناولنا أربعَ طرق وضعها تشارلز بيرس لتبديد الشكِّ وهي طريقة «الاعتقاد المسبق» (وتعني أن يستمر المرء في تصديقِ ما يؤمن به ويعتقده بالفعل أو ما يجعله مطمئنًّا) و«السلطة» بمعنى (الإيمان بما يُخبرنا به المجتمع أو رموز السلطة)، و«التشبُّث» بمعنى (أن يعتنق الفردُ معتقداته المستقلَّة وأن يتمسَّك بها بشدة)، والتفكير العلمي القائم على وضع الفرضيات والتجربة وتنقيح المعتقدات التي تخلق الفرصَ للاقتراب من الحقيقة. إذا كان التحيُّز التأكيديُّ والتفكير القَبَلي وهما سببان للعديد من مشكلات العصر الحالي، ينبعان من الاعتماد المفرِط على الاعتقادات المسبقة ومعتقدات رموز السلطة، فيمكن رؤية نزعة المراهقين والشباب إلى التمرُّد على معتقدات آبائهم ومُعلِّميهم والمجتمع على أنها اعتناقٌ طبيعي للتشبُّث الذي يحدث بينما يحاول الشباب تكوين هُوياتهم الخاصة.
غالبًا ما يواجه الآباءُ من ذَوي المعتقدات الراسخة عن السياسة أو الدِّين أو غيرها من المسائل المهمة، بعضَ الصعوبات في هذه المرحلة من حياة أبنائهم. لكن إذا ما تغاضَيْنا عن هذا التمرد العنيف ونظرنا إلى الشكِّ الذي يُحفِّزه، فسنجد طرقًا لتوجيه هذا الشك توجيهًا مثمرًا، بدلًا من إجبارهم على اعتناقِ ما نؤمن به أو قَبول تخلِّيهم عن أفكارٍ وقيم مهمة لمجرد أن الكبار يؤمنون بها. فعلى سبيل المثال، يمكننا أن نطلبَ منهم التفكيرَ في الأفكار التي يعتقدون بصحتها بكل قوةٍ وتبريرها، ومن ثم نُعطيهم الفرصة للمشاركة في حديثٍ محترم يتَّسم باحتمالية أن يُغير كلُّ طرفٍ من أفكار الآخر. ويمكن أيضًا أن نوفِّر لهم طرقًا لاختبار أفكارهم عبر خطوات التفكير العِلمي أو من خلال طرقٍ أخرى من التحليل المنظَّم المرتبطة بالتفكير النقدي. على الرغم من أن هذا النشاط الفكري قد ينتهي إلى طريقٍ مسدود في أي محادثة، فإن خلقَ مساحةٍ من الحوار المحترم التأمُّلي يوضِّح للمشاركين في الحديث (الأطفال والكبار على حد سواء) قيمةَ التفكير النقدي بشأن المواضيع المهمة.
(٣) خلق ثقافة التفكير النقدي
ثمَّة فكرةٌ هي أقربُ إلى الطموح منها إلى الاقتراح الفعلي، وهي أنَّ المجتمعات تكافئ بالفعل القوة البدنية والبراعة في المجال الرياضي، وكذلك تكافئ الإلمام الجيِّد بالحقائق اللازمِ لتحقيقِ نتائجَ كبيرةٍ في مسابقات الاختبارات، ومن ثم يجدر بهذه المجتمعات أن تجدَ طريقةً للاحتفاء ثقافيًّا ليس فقط بما يعرفه الأفراد ولكن أيضًا بما يمكنهم تحقيقُه بتلك المعرفة عند التفكير بطريقةٍ نقدية في مسألةٍ أو قضيةٍ ما.
وبالرغم من كلِّ شيء، لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أن وضَعَت دراسةُ المواد مثل المنطق والبلاغة تعريفاتٍ لمعنى الإنسان المفكِّر المثقَّف، وهي صفةٌ يمتد تاريخها إلى ألفَي عام. فإذا كنا نُبجِّل العلماء نظير إنجازاتهم ومساهماتهم من أجل الإنسانية، أفلا يمكنُ لنا أيضًا الاحتفاءُ بعمليات التفكير التي أدَّت إلى هذه الإنجازات، وأن نوضِّح في الوقت ذاتِه كيف أن التفكيرَ العلميَّ وغيره من أشكال التفكير المنظَّم قد يُساعدنا في اتخاذ خياراتٍ أذكى والإيمان بقدرٍ أكبرَ من الأمور الصحيحة مقارنةً بما نؤمن به من الأمور الخاطئة؟
وبدلًا من ذلك، يمكننا معاملةُ مهارات التفكير النقدي باعتبارها أشبهَ ﺑ «القُوى الخارقة» التي تمتلكها أو تكتسبُها قلةٌ محظوظة تتمتَّع بالتدريب والاستعداد اللازمَين لِسَبْر أغوار أشكال التواصل التي تحجب عنا الحججَ الفعلية الكامنة خلفها، وتمتلك القدرة على تقييم تلك الحجج من حيث الجودةُ وكذلك تستخدم مهاراتها الخاصة في التفكير والإقناع من أجل تحقيق أهدافها (سواءٌ في الخير أو الشر). غير أنَّ هذا النهج التمييزي يتجاهل حقيقة أن التفكير المنطقي يوجد لدى جميع أفراد الجنس البشري، وأنَّ القدرة على التفكير الجيد شيء يفيدنا جميعًا لأن العديد من الطرق الأسوأ، مثل حكم الدَّهْماء، سيظل خيارًا متاحًا على الدوام لمن لا يتبنَّون التفكير النقدي نهجًا في حياتهم.