الفصل الأول
المشهد الأول
في قصر السلطان بغزنة١
(السلطان — رئيس ديوانه — الفردوسي.)
السلطان
(وهو جالس على فراش الملك)
:
قال لنا بعض رجال البلاط، وفيهم الشاعر والعالم، إنك من الشعراء
المُبَرَّزين.
الفردوسي
(واقفًا أمامه)
:
صدقوا، يا مولاي!
السلطان
:
وإنك عالم بقصص الملوك وأساطير الأقدمين.
الفردوسي
:
صدقوا، يا مولاي.
السلطان
(مبتسمًا)
:
وإنك على جانب من القحة يذكر ولا يشكر.
الفردوسي
(باللهجة الواحدة)
:
أما في هذا، يا مولاي، فما صدقوا.
السلطان
:
وهل يكذب الصادقون؟
الفردوسي
:
ما قلت إنهم كذبوا يا مولاي، ولكن الكمال لله.
السلطان
:
وهلا قلت: ولرسوله؟
الفردوسي
:
ولرسوله، ﷺ، ولحامل لواء الرسول السيد المالك، الغازي المظفر، يمين
الدولة، وأمين الملة محمود ناصر الدين أبي منصور سبكتكين.
السلطان
:
إنك لمن الظرفاء. اجلس.
الفردوسي
(وهو يجلس على الديوان)
:
والحمد لله على ذلك.
السلطان
:
وقد يكذب الصادقون في ما يقولون فيك، ويصدق الكاذبون.
الفردوسي
:
إني بين يدي مولاي السلطان، أيده الله، وإنه ليرى بعين قلبه ما لا يراه
الناس.
السلطان
:
أحسنت في هذا. فاعلم أننا دعوناك لغرض وطني جليل. ونحن فيه مقتدون بمن أدركوا
من السلف الصالح قيمة الشعر في تخليد أمجاد الملوك والتاريخ. فإن في مكتبتنا
كثيرًا من القصص والأساطير، المنظوم منها والمنثور، المجموعة في أيام أسلافنا
المحبين للشعراء والعلماء. وأول من اهتم بجمعها، لتُنظم في ديوان متمم الأجزاء
والتأليف، هو الملك كسرى أنو شروان. ثم ألف أبو منصور المعمري كتابه المعروف
بكتاب الملوك، وما أظنك جاهله.
الفردوسي
:
ولا منكر فضله. فقد حفزني المعمري لإحياء الأمة الإيرانية باللغة الفارسية،
وهيج نثره شعري.
السلطان
:
وما أظنك تجهل أن أبا منصور الدقيقي شاعر الأمير نوح، آخر الأمراء
السامانيين، كان قد باشر نظم الديوان المنشود.
الفردوسي
:
الدقيقي، يا مولاي، شاعر مجيد، عالي الإلهام، صادق اللهجة. وإن ما نظمه لَمِن
الشعر النفيس.
السلطان
:
رحمه الله. فقد حال القدر دون عمله، فما أنجز غير جزء صغير منه.
الفردوسي
:
ألف بيت لا غير.
السلطان
:
وإننا متيقنون أن الفردوسي يأتينا بما لم يستطعه المتقدمون.
(الفردوسي يقف وينحني أمام السلطان.)
السلطان
:
أنت يا … ما كُنيتك؟
الفردوسي
:
أبو القاسم، يا مولاي.
السلطان
:
أنت، يا أبا القاسم، محط رحال اختيارنا.
الفردوسي
:
أنحني أمام بحر التعطف والفَضل، وأَسأل الله ألَّا يغرقني فيه.
السلطان
(ضاحكًا)
:
لتَطمئِن نفسك. سنبقيك على الشاطئ ولا نُريك من قعر البحر، إن شاءَ الله،
غيرَ دُرره.
الفردوسي
:
وما درر الشعراء إذا قُوبلت بدرر السلاطين؟
السلطان
:
هذا التبذل في المجاملة لا يليق بك.
الفردوسي
:
صدقتم يا مولاي. لكل جوادٍ كبوة.
السلطان
:
أقال اللهُ كبوتك، ووفَّقك في ما اخترناك له. فالحلم الذي حلمه كسرى أنو
شروان، سيحققه السلطان محمود.
الفردوسي
(مبتسمًا)
:
إن شاء الله.
السلطان
(وقد أدرك مغمز الشاعر)
:
عفا الله عنك. إننا لمن أهل الورع
والتقوى — إن شاء الله — ومن أهل الجود والكرم، فسنجزيك على ديوانك، يا أبا
القاسم، خير جزاء.
الفردوسي
:
جزاء الشاعر عمله، يا مولاي. ولكن هذا الشاعر، عبد الله وعبدُكم، هو من أبناء
الأرض، كما أنه من أبناء السماء. فقد كان أَكارًا قبل أن صار شاعرًا. هو لذلك
يحب الأرض، ويرعى حق ما يغرس ويزرع فيها. وما قسمته من أرض ربه وسلطانه غير
القليل. ولكن هذا القليل عرفه بقلب الحياة الزراعية، فصار يحن إليها، ويرثي
لحالها. إن طوس بلدي لفي افتقار إلى كرم الله، بل رحمته تعالى. فكثيرًا ما تموت
البذرة في أراضينا من الظَّمَاء، وكثيرًا ما تهلك الأشجار. لأن القيظ بَلاؤنا
يا مولاي، وأن الجدب عدونا الأكبر. وإني واثق بالله وبمولاي الغازي المظفر أننا
سنتغلب على هذا العدو.
السلطان
:
الغيث والحياة بيد الله. فإن أمسك أو أرسل، فليس للإنسان غير الشكر. وهو في
الحالين عاجز.
الفردوسي
:
ولكن العلم، يا مولاي، يعين الإنسان في عجزه. فقد كنت منذ صباي أحلم الأحلام
لإنقاذ طوس من عدوها. ولا يزال لي أمل حي مفتاحه العلم. أريد أن أبني سدًّا
عظيمًا يجمع من المياه ما يكفي في أيام القيظ أرضَ طوس وأهلها.
السلطان
:
جليلٌ هو عملك، وشريف أملك وحلمك. فإذا
كان ينقصك المال نقول: سيتحقق الحلم إن شاء الله. سنجزيك عن كل بيت من الشعر
دينارًا واحدًا. وكلما أنجزتَ ألف بيت تجيئك الألف ذهبًا.
الفردوسي
(ينحني شاكرًا)
:
ولكنني لا أريد المال ألفًا ألفًا. أريده بكامله دفعةً واحدة. وعندما يتم
العمل نباشر بعد النظم البناء فيتحقق أملي بالري، كما يتحقق أملكم
بالشاهنامه.
السلطان
(وهو يقف)
:
حقَّق الله الأملين، يا أبا القاسم.
الفردوسي
:
في عهدكم السعيد يا مولاي، إن شاء الله.
(ينحني ويخرج.)
المشهد الثاني
في القصر بغزنة بعد بضع سنوات
(السلطان — الوزير — حسن الميمندي — أياز.)
حسن
:
إنكم تعلمون، يا مولاي، أني أول مَن سمع لشعراء البلاط الذين جاءوا بالفردوسي
معجبين به، وإني أول من حدث جلالتكم عنه واستعطفكم عليه.
السلطان
:
وهل ندم العنصري والفرخي. وهل ندمت أنت؟
حسن
:
لا والله. لست بنادم على ما تقدم مني. ولكني أعجَبُ لما تغيَّر منه. فهو
يظنني عدوه، ويرسل لسانه في الطعن عليَّ.
السلطان
:
ومن قال لك ذلك؟ شعراء البلاط؟
حسن
:
وغيرهم يا مولاي.
السلطان
(يمشي إلى الديوان ويجلس)
:
يتمتم {والشعراء يتبعهم الغاوون وهم في كل وادٍ يهيمون}.
أياز
(وقد وقف إلى يساره)
:
وهذا الشاعر الطوسي أَغوى من غوى، وأخبث من هام، ولا تنسوا، يا مولاي، أنه من
طوس، البلد الذي هو عش المعتزلة، وإن كان من ريب في انتساب الفردوسي إلى أولئك
الزنادقة، فلا ريب البتة في أنه شيعي.
السلطان
(واجمًا)
:
علمنا ذلك.
حسن
(وقد وقف إلى يمين السلطان)
:
وألبستم حكمكم حلة الحلم.
السلطان
(متبرمًا)
:
إن في الرجل ما يشفع به.
حسن
:
حتى وإن كان شتَّامًا لوزير جلالتكم.
السلطان
:
أَتُصدِّقون كل ما تسمعون؟ أَو تغضبكم كلمة قد تكون كاذبة، وقد تكون مطيَّة
للفتنة؟
حسن
(يقول: أرسل مائة دينار إلخ، كأنه يقلد الفردوسي فيضحك
السلطان)
:
هي الحقيقة يا مولاي. فهو يرسل إلى جلالتكم الأشعار ويُرسل إليَّ الطلبات
والشتائم … أرسل مائة دينار يا ابن عم إبليس … مائتين، يا ملعون الوالدين
(يضحك السلطان) منا المال ومنه قبح
المقال على الدوام.
أياز
:
وما هو والله بالشاعر الكبير ليستحق ما وعدتم به من جزاء.
حسن
(كأنه يخاطب أياز)
:
وهَبْ أنه نظم مائة ألف بيت. فهل علينا دفع مائة ألف دينار؟! أعدها لإبليس
ولا أَعدها لهذا الخبيث.
السلطان
(بلهجة صارمة)
:
اسمع يا حسن، إني أقول ما تقوله في الفردوسي. وأقول ما يقوله النبي صلى الله
عليه وسلم، في الشعراء. وأقول ما يقوله أياز في فساد مذهب هذا الرجل. ولكني
أقول أيضًا إنه يقوم اليوم بما عجز دونه سائر المتقدمين والمعاصرين من
الشعراء.
أياز
:
هو من الشعراء الذين يحسنون الانتفاع بمن تَقَدَّمهم.
حسن
:
ولا يترددون في السرقات.
السلطان
(وهو ينهض غاضبًا)
:
اسمع يا أياز! اسمع يا حسن! أيبني البنَّاء بدون حجارة؟ أَوَلا يكفي من فضله،
وإن كان المقلع مقلع غيره. إنه ينحت الحجارة ويصقلها ويشيِّد بها قصرًا
فخمًا؟
أياز
:
يأخذ مجانًا ولا يعطي مجانًا.
حسن
:
بل يتقاضى من الخزانة السلطانية أضعاف أضعاف ما يستحقه عمله. وقد أرسل أخيرًا
مع الرسول يقول إني أنا الممسك عنه. وإن جلالتكم غير راضين عني.
السلطان
(مطيبًا خاطره)
:
وما همك إذا كان الأمر خلاف ذلك؟ سَرِّي عنك. وأرسل إليه نصف ما يطلب.
حسن
:
سنرسل إليه الربع وهو لا يستحق نصف الربع، بل لا يستحق دينارًا واحدًا قبل أن
يتم عمله …
(يهم بالخروج.)
السلطان
(بشيء من الغضب)
:
حسن.
حسن
:
أمركم يا مولاي.
(يخرج حسن وأياز.)
المشهد الثالث
(السلطان وحده.)
السلطان
:
هو على شيء من الحق. ولا لوم عليه في غير غيظه وسوء ظنه. فهو يسمح للوشاة
فيقع في أشراكهم. أما إني أفرطت في ما وعدت به فهذا صحيح. إن مواد الشاهنامه هي
في هذه القصص والأساطير التي جمعناها، أجل! إن المواد منا فهلا يستكثر الدينار
الواحد بالبيت الواحد؟ بلى والله، هو كثير، كثير. الحق مع حسن وأياز. أما إن
الفردوسي مُسترفد لجوج شتام، فذلك لا يُستغرب. هو في هذا مثل سائر الشعراء،
ولكنه أعلاهم شعرًا، وأحذقهم صناعة، وأصفاهم ذهنًا، وأكثرهم علمًا. إذن
استرفاده يغتفر، وإن اشتهاه حسن بسَقر.
المشهد الرابع
في بيت الفردوسي بطوس
(الفردوسي وحده.)
الفردوسي
(يناجي نفسه)
:
يسوِّفني العبد في باب السلطان ولا تسوِّفني أرباب القريض. أتطيعني القوافي،
وتنقاد المعاني إليَّ، ويعصيني ذاك القابضُ على مفتاح الخزانة السلطانية؟ ثم
يشيع أن جزائي سيكون فضة لا ذهبًا؟ دراهم لا دنانير؟ وهل يخلف السلطان وعده؟
لِمَ لا يردعه إذن؟ ولِمَ لا يأمر في الأقل بقضَاء حاجتي؟ فهل يخشى السيد
عبدَه؟ إني أظن أن السلطان من رأي وزيره. ولا يجهر بذلك. وهل يجبن السلطان
الغازي، يمين الدولة، وأمين الملة، هل يتنصل ويتذرع كالصعاليك؟ ما كان لِيشغلني
والله أمر سلطان أو وزير لولا هذا الوعد الذي وعدت؛ هذا الوعد المنوطة به
آمالي، بل آمال طوس وأرضها، وما ضرهم وضرني إذا ما طلبت من حين إلى حين مائة أو
مائتي دينار أقضي بها حاجات يومي لأستطيع أن أتمم عملي. وما عملي؟ عملي تخليد
الملوك، نعم تخليد الملوك!
وهل يعيش كالصعلوك، مخلد الملوك؟ أأستدين ثم أستدين ثم أستدين؟ وماذا يبقى من مال السلطان بعد أن أدفع ديوني؟ … مال السلطان؟ لا، وربي. بل مالي أنا، المال الموعود به. أما إذا أخلف السلطان، والله وبالله! وكيف أحقق حلمي أنا المحقق حلم السلاطين؟ أتموت أرض طوس ظمأً، وأنا الشاعر أحلم منذ صباي بأن أبني لها السد الذي فيه الحياة والخصب والسعادة؟ أتموت طوس ظمأ، ويموت الفردوسي جوعًا، وهو يصوغ القوافي المخلدة لمجد إيران وملوكها؟
أطلب من اللئيم الجالس في باب الخزانة مائة دينار، فيرسل إليَّ عشرة دنانير — هذا إذا تَلَطَّف — أو لا يرسل شيئًا. لولا الحاجة إليها، لوضعتُ كل دينار في بعرة جَمَل وأرجعتها إليه. ولكني صبرت كل هذه السنين على لؤمه، وما سخمت اليراع بهجوه. أما السلطان محمود، فإن بيني وبينه حسابًا. إن كان من المخلفين إي وربي. فإن اليراع الذي خط آيات المجد يخط كذلك آيات السخط والنقمة. وفيها العار عليه والخزي والهوان.
وهل يعيش كالصعلوك، مخلد الملوك؟ أأستدين ثم أستدين ثم أستدين؟ وماذا يبقى من مال السلطان بعد أن أدفع ديوني؟ … مال السلطان؟ لا، وربي. بل مالي أنا، المال الموعود به. أما إذا أخلف السلطان، والله وبالله! وكيف أحقق حلمي أنا المحقق حلم السلاطين؟ أتموت أرض طوس ظمأً، وأنا الشاعر أحلم منذ صباي بأن أبني لها السد الذي فيه الحياة والخصب والسعادة؟ أتموت طوس ظمأ، ويموت الفردوسي جوعًا، وهو يصوغ القوافي المخلدة لمجد إيران وملوكها؟
أطلب من اللئيم الجالس في باب الخزانة مائة دينار، فيرسل إليَّ عشرة دنانير — هذا إذا تَلَطَّف — أو لا يرسل شيئًا. لولا الحاجة إليها، لوضعتُ كل دينار في بعرة جَمَل وأرجعتها إليه. ولكني صبرت كل هذه السنين على لؤمه، وما سخمت اليراع بهجوه. أما السلطان محمود، فإن بيني وبينه حسابًا. إن كان من المخلفين إي وربي. فإن اليراع الذي خط آيات المجد يخط كذلك آيات السخط والنقمة. وفيها العار عليه والخزي والهوان.
١
كانت غزنة في تلك الأيام عاصمة البلاد.