الفصل الثاني
المشهد الأول
في القصر بغزنة سنة ٤٠٠هـ/١٠١٠م
(السلطان في مجلسه ومعه حسن وأياز وغيرهما من رجال البلاط.)
السلطان
:
إن هذا اليوم لأسعد عندنا من غزوٍ مظفر. أجل إننا مغتبطون فرحون بما وفق الله
به عبده الشاعر العظيم الفردوسي.
فقد أَتمَّ الملحمة الكبرى — الشاهنامه — وها هي بين يدينا في سبعة أجزاء.
شَدَّ ما كانت رغبة أسلافنا من الملوك بأن يُزين عهدهم ويكلل بهذا الأثر الشعري
الخالد.
أجل، إن في هذه الأجزاء السبعة ستين ألف بيت من الشعر العالي المخلد لذِكْر
الأجداد بلغة الأجداد. وإننا مُبِرُّون بوعدنا. فبادِرْ يا حسن إلى التنفيذ.
أرسل إلى الفردوسي حِمل فيل من الذهب؛ ستين ألف دينار.
حسن
:
أمركم مطاع، يا مولاي. ولكني أستأَذِن جلالتكم بكلمة قلتها سابقًا وأعيدها
اليوم. وإني اليوم أَثْبَت قدمًا، وأشد حجة، في ما أجرؤ بهِ على جلالتكم. إن في
الخزانة المال. ولكن لدينا من أوامر صاحب الجلالة ما كاد يستنفد تنفيذه ما
فيها. وشئون الملك قبل شئون الشعراء. أفلا تأمرون إذن بأن يكون جزاء الفردوسي
حملًا من الفضة بدل الذهب؟ هو جزاء سلطاني كبير، يا مولاي، ومن أمراء هذا
الزمان وملوكه …
السلطان
:
كَفى، كَفى، ليكن المال ستين ألف درهم من الفضة.
حسن
:
سمعًا وطاعة يا مولاي.
المشهد الثاني
سوق في غزنة
(الرسول عائد من منزل الفردوسي ومعه خادمان يحمل كلاهما كيسين من
الفضة.)
الرسول
:
لله من غضب هذا الشاعر، ولله من كرمه، كأنه هو السلطان محمود. وكأن السلطان
من مواليه. فضة السلطان (يقلد الفردوسي)
خذوها ولا شكر ولا فخر. خذوها، أنا ما أبتغيتها. ولا أدنس يديَّ بها (ينتهي التقليد) ما رأيت في حياتي، وما أظن
أحدًا رأى مثل هذا الذي رأَيته اليوم. وما سمعت في حياتي وما أظن أحدًا سمع مثل
هذا الذي سمعته الآن. إني محزون والله وإني مسرور … مسرور محزون، وكيف يكون
ذلك؟ هو والله كذلك، إني محزون لأني عالم بالوعد السلطاني. وما كنت أظن أن
السلطان يخلف بوعده، وإني مسرور مبتهج، وحق الله. فمن لا يُسر، من لا يبتهج
بعشرين ألف من الفضة؟ عشرين ألفًا أعطاني هذا الشاعر. عشرين ألف درهم، هي هذه
الأكياس (يشير إلى الأكياس التي يحملها
الخادمان) لقد أصبحت من المدرهمين. عجيب هذا الشاعر في كرمه وعجيب
هو في غضبه. فقد نفح قيِّم الحمَّام الذي كان يستحم فيه عشرين ألفًا كذلك.
عشرين ألف درهم، كأنها عشرون فضة. وهَبَها وهو يقول: ما نظمت الشعر طمعًا
بالمال، بلغ السلطان ما سمعت وما رأيت. ولولا الشاهدان — هذان الاثنان — لما
صدق الناس ما سأخبر به. فبعد أن أغناني الشاعر، وأغنى صاحب الحمام، نادى بائع
«الفقاع» فصب له كأسًا، فشربه وحمد الله، وأعطى الساقي ما تبقى من المال —
عشرين ألفًا عدًّا، كذلك وزَّع الهدية السلطانية — في سورة من الغضب — لله من
غضبه! وراح يقول: ويلٌ لهذا السلطان مني، سأدك عرش مجده بقصيدة. الله أكبر.
الله أكبر …
(يخرج الرسول
والخادمان.)
المشهد الثالث
في منزل الفردوسي بغزنة
(الفردوسي ثم الزمان.)
الفردوسي
:
مولى من موالي الترك — عبد ابن عبد — يجلس على العرش ويظن نفسه من السلاطين.
وهل يخلف السلاطين بوعودهم؟ محمود بن ناصر الدين بن سبكتكين، لو كنت ذا نسب
شريف لما أَخلفت بوعدك. لو كان في عروقك شيءٌ من دم الرسول ﷺ، لأجلست
الفردوسي إلى جنبك على العرش.
(خلال هذه النجوى يدخل الزمان, وهو شيخ هرم جليل، أبيض اللحية طويلها، محدوب
الظهر، وبيده عصا يعتصي عليها. يدخل دون أن يراه الفردوسي فيباغته)
الزمان
(بصوت هادئ ناعم جازم)
:
وستجلس وحدك على عرش أرسخ من عرشه وأعلى؟
الفردوسي
:
ومن أنت أيها الشيخ؟ ومن جاء بك إليَّ؟
الزمان
:
أنا الزمان.
الفردوسي
(بلهجة السخرية)
:
ما شاء الله. وهل تحسب نفسك صديقًا تسعد زيارته؟
الزمان
(بلهجته الأولى)
:
إني صديق من آمن بي من أبناء العبقرية.
الفردوسي
:
لقد آمنت بك وسجلت إيماني في ختمة الشاهنامه.
الزمان
:
لقد قلت هناك ما يقوله كل شاعرٍ في قصائده، وهو محفوز بالأمل لا
باليقين.
الفردوسي
:
وهل تحسبني أنت من سواد الشعراء؟
الزمان
:
ذاك ما حسبته أنت بنفسك. فقد ناوأتَ من ناوأَكَ لضعف في خلقه، وغضبت منه لنقص
في جزاء مادي. وما كنت لتفعل ذلك لو أنك أدركت وتيقنت ما هو مكتوب لك من الجزاء
الأكبر.
الفردوسي
(بشيء من القنوط)
:
إني مدرك ذلك ومتيقنه، ولكنني — وأنا ابن يومي — سلوت.
الزمان
:
سلوت، نعم، سلوت. وما ذلك من شيمتك، بل من شيم الشعراء غير المجلين.
الفردوسي
(غاضبًا مستهترًا)
:
لست مسرورًا بزيارتك، ولا بكلامك، فقد طعنتني مرارًا في الصميم، وجئت الآن
تذر الملح على جروحي. بُعدًا لك.
الزمان
(دون أن يغير لهجته)
:
إني صديقك الأكبر، يا أبا القاسم. وما جئت أذر الملح على جروحك، بل جئت ببلسم
الحقيقة. أُذَكِّرك …
الفردوسي
(يقطع عليه الكلام)
:
وهلا جئت السلطان مُذكرًا؟ وهلا جئت منذرًا ذلك اللئيم الحامل مفتاح الخزانة
السلطانية؟
الزمان
:
اطْوِ كشحك عنها وعنه، يا أبا القاسم، وانساهما …
الفردوسي
:
والوعد السلطاني؟
الزمان
:
وعود السلاطين كأحلام الشعراء.
الفردوسي
:
وأحلام الشعراء حقائق إلهية.
الزمان
:
والحقائق الإلهية لا تتم، ولا تظهر للناس إلا بواسطتي. أنا الزمان عُد إلى
حكمتك وحلمك ومَزِّق هذه القصيدة التي تهجو بها السلطان. مزقها وأحرقها. وإن
ذكرت، فلا تذكُر غير فضله في اختيارك لنظم الشاهنامه.
الفردوسي
:
بِئس هذه الزيارة، وبِئس ما تقول. فهل وجد غيري مثلي وفضلني عليه؟
الزمان
:
إن فضله لفي ما عرف منك. إن فضله في إكرام العبقرية بمواهبك.
الفردوسي
(متمردًا متكابرًا)
:
ذلك فخرٌ له وليس لي. واعلم يا عدو العباقرة أن الفردوسي لا يحتاج إلى تشجيع
السلاطين، وإنه لفي غِنى عن موالاة الزمان.
الزمان
(بلهجته المعتادة)
:
إن غضبك لا يغير ما بي. أستودعك الله.
(يخرج الزمان فيتبعهُ الفردوسي ويقفل الباب بشدة
غاضبًا.)
الفردوسي
:
الزمان؟ قبَّح الله وجه الزمان!
المشهد الرابع
في قصر السلطان
(السلطان ثم الحاجب وحسن.)
السلطان
(وفي يده القصيدة التي هجاه الفردوسي بها)
:
يا عدو الله. يا ابن من ما عرف الله ولا الرسول. أهذا منك جزاء الإحسان؟
أتعيش في ظل السلطان، وتنعم بعطفه وفضله، ثم يكون هذا الغدر منك؟ أتأبى يا
فردوسي، إكرامنا وخيرنا، وترسل لسانك في الطعن علينا، ثم تهجونا هجو اللئام من
أصحاب القوافي؟ وتريد بعد ذلك أن تعلمنا
الكرم …
إننا نحمد الله لما كان من إخلاف الوعد، فقد أظهر ذلك ما في نفس الرجل من
الخبث واللؤم, ولسنا نخشى واللهِ حكم الزمان، فما الفرق بين هذا الشاعر في
سلوكه المنكر وبين غيره من الشعراء؟ غُدد السم تحت أنيابهم، لقد صدق الرسول
ﷺ، صدق والله (يصفق كفًّا على كف)
سينال اللئيم جزاء ما خطت يده الأثيمة.
(يدخل الحاجب.)
عليَّ بحسن (ينحني الحاجب ويَخِر) سيندم
وسيعفر وجهه أمامنا مستغفرًا.
(يدخل حسن.)
حسن
:
أمركم يا مولاي.
السلطان
:
عليَّ بالفردوسي، أحضره في الحال.
حسن
(يخاطب نفسه)
:
أتت النهاية كما خشيت، (يخاطب السلطان) قد
طالما قلت لمولاي …
السلطان
:
أقصِر. لا تُكلمني بـ «قد طالما قلت» أرسل الآن من يحضر الرجل.
حسن
:
قد سمعت يا مولاي، أنه رحل عن المدينة.
السلطان
(وثورة الغضب في ازدياد)
:
يا رسول السوء، يا بذرة الخبث والنتانة، أرسِل الشرطة يبحثون عنه ويأتون به
مقيدًا بالحديد، عجِّل، عجَّل الله أَجلك.
(ينحني حسن ويخرج.)
المشهد الخامس
في الطريق
(الفردوسي في زي الدراويش وجمال.)
الفردوسي
:
هل صادفت مرة قطَّاع الطرق؟
الجمال
:
مرَّات يا شيخي، ولكني لا أخشاهم لأنِّي عشيرهم. لا تخف، لست منهم اليوم، ولا
غدًا. أنا اليوم رفيقك في السفر، ودافِع عنك شرورَهم إن شاء الله.
الفردوسي
(وهو يبتسم بسمة التهكم)
:
وما قاطع الطريق بشر يتقى.
فالناس أعداء الله. وقاطع الطريق يعيد إليهم شيئًا من التقوى، أو يلقي في
قلوبهم خوف الله.
الجمال
:
إن خوف الله وافر فيك على ما يظهر، لست بحاجةٍ إلى من يقطع عليك الطريق. أنت
من رجال الله.
الفردوسي
:
ما أنا غير درويش عابر سبيل، ولا أزال في أول الطريق ينقصني كثير من العلم
والحكمة فضلًا عن مخافة الله.
الجمال
:
لا تخادعني. لأني أرى في تواضعك برهانًا على علمك وتقواك، نفعني الله
برفقتك.
الفردوسي
:
نِعمَ قاطع الطريق أنت. فإنك على شيء من الوداعة والخلق.
الجمال
:
لا فضلَ لي بذلك، فمن يعيش على الدوام في البراري، كقاطع الطرق على الناس،
تعلمه الأخطار ما لا تعلمه الكتب والأسفار. وفي الكرِّ والفرِّ ما يذكي
المشاعر، ويقصر الأجل.
الفردوسي
:
وهل تَعُد قصر العمر من النعم؟
الجمال
:
وهل تسألني ذلك أيها الدرويش الفَيلسوف؟ أَليس الموعود فيه في الآخرة خيرًا
مما تلقاه في دنياك هذه؟
الفردوسي
:
إي والله. إي والله. (مخاطبًا نفسه) خذوا
العلم والحكمة من الجمَّال (مخاطبًا الجمال)
وقد قال الشاعر الدقيقي إن الكريم لا يطيل الإقامة، وإن المياه الراكدة
تأسن.
الجمال
:
وهذا ما يقوله قاطع الطريق.
الفردوسي
:
ولك أن تقول كذلك إن المياه الراكدة أطول عمرًا من المياه الجارية؛ المياه
التي تجري إلى البحر.
الجمال
:
وزد على ذلك أن المياه الجارية — أنت وأنا وأمثالنا — هي أصفى وأنفع من
المياه الراكدة.
الفردوسي
:
ما أنت بقاطع طريق، والله، ولا أنت بجمال، أنت من أهل العلم!
الجمال
:
هذا من حسن ظنك. وهل تقول لي ما الفرق بين العالم والجاهل؟
الفردوسي
(بلهجة التهكم المُحزِن)
:
العالِم يتقرب من الملوك، والجاهل يبتعد عنهم.
الجمال
:
أحسنت، وهناك غير ذلك.
الفردوسي
:
العالم يحمل القلم، والجاهل يحمل المحراث.
الجمال
:
أعد الرمي.
الفردوسي
:
العالم يعادي الزمان، والجاهل يواليه.
الجمال
:
أظنك من العلماء الذين يعلمون أنهم يجهلون. أو أنك من الدراويش الظرفاء في ما
يجهلون ويعلمون. هاك من قاطع الطريق الجواب وقد يكون فيه ما يزيدك علمًا أو
جهلًا. الفرق بين العالم والجاهل، يا شيخي، هو أن الجاهل يموت غنيًّا، والعالم
يموت بين يدي الفقر والهجر.
الفردوسي
:
أَحسنت وربي، أَحسنت، فقد زدتني علمًا بجهلي.
(يخرجان وهما يتحدثان.)
المشهد السادس
في القصر بغزنة، بعد إحدى عشرة سنة أي سنة ٤١١هـ/١٠٢١م
(السلطان محمود ورئيس الديوان.)
السلطان
:
وماذا بعد ذلك؟
الرئيس
:
وبعد أن أكرمه أمير طبرستان، الأمير شهريار بن شروين، وأحسن، صَرَفه إكرامًا
لجلالتكم. سافر إلى بغداد، وتقرب من الخليفة العباسي، القادر بالله، فأَكرمه،
وقيل إنه نظم للخليفة قصة يوسف وزليخة فأجازه عليها. وبعد أن بلغه خبر عفو
جلالتكم عنه، عاد إلى وطنه، ولكنه عاد شيخًا مزعزعًا محزونًا.
السلطان
:
هل هو اليوم في مدينة طوس؟
الرئيس
:
هو اليوم بطوس نعم يا مولاي أَسير الفاقة، وأليف البؤس والغم، وقد علمت
أخيرًا أنه مريض.
السلطان
(متأثرًا)
:
الفردوسي فقير بائس مريض، وأنا السلطان محمود مستمتع بالخير والنعيم؟ وقد لا
أبرؤ أمام الله مما أصيب به في سنواته الأخيرة. بل قد أُعد من المسئولين عما
لقيه من الشقاء وهو ينظم ديوانه الخالد. لا، لست متذرعًا بشيء، ولست متهمًا غير
نفسي. فقد سمعت لحسن وأَياز، وكان ينبغي ألَّا أمدهما في هواهما. كان من الواجب
علي أن أعمل برأَيي في بادئ أمره، ووفقًا لقلبي في فاتحة حبه … الفردوسي فقير
بائس مريض؟ ما فات الأمر، والله، ما فات الأمر، سيتمتع ولو بيوم واحد سعيد قبل
موته؛ بيوم واحد ينسيه ما هو فيه، وينسيه ما كان من تقصير سلطانه. سارِع إلى
الخازندار وعدوا ستِّين ألف دينار ذهبًا وإذا نقص شيء منها فأرسلوا بقيمَته
نيلًا. وحمّلوها على جمالنا، وسيّروها عاجلًا إلى طوس؛ إلى الفردوسي
بطوس.
الرئيس
:
سمعًا وطاعة، يا مولاي.
(ينحني ويخرج.)
المشهد السابع
في طوس
(جنازة تمر في أعلى المسرح — اثنان من أهل المدينة أحدهما الجمال —
في وسط المسرح يتحدثان.)
الأول
:
قيل إنه كان في بغداد عزيزًا مكرمًا. ولكنه عاد إلى وطنه فقيرًا، ومات فقيرًا
حقيرًا.
الجمال
:
سبحان الله. إني أذكر حديثنا منذ عشر سنوات. كنا في الطريق إلى طبرستان. وكان
هو في زي الدراويش، فما عرفته إلا بعد أن حل ضيفًا على الأمير هناك. سأَلته في
الطريق: ما الفرق بين العالم والجاهل؟ فأجاب بما دل على ما كان في نفسه من الغم
والألم، ثم قلت له: الجاهل يموت غنيًّا والعالم يموت فقيرًا، رحم الله
الفقراء.
(يدخل رسول السلطان، فيقف عند المدخل ويخاطب رفقاءه الباقين مع
الحملة خارج السور.)
الرسول
:
انتظروا ريثما نسأل. فقد تكون البوابة الأخرى أقرب إلى البيت.
(يتقدم إلى وسط المسرح حيث الرجلان يتحدثان.)
الرسول
:
السلام عليكم.
الجمال
:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الرسول
:
هل لكم أن تدلونا على بيت الشاعر الفردوسي؟
الجمال
:
بيت الفردوسي؟ اتبع هذه الجنازة تصل إليه.
الرسول
:
وجنازة مَن هي؟
الجمال
:
أما علمت. أَلست من طوس؟
الرسول
:
لو لم نكن من رجال السلطان، أيده الله، لقلت إننا غرباء، فقد جئنا من غزنة
نحمل هدية سلطانية إلى الفردوسي.
الجمال
:
الله الله. (وهو يضرب كفًّا بكف).
الرجل الآخر
:
عودوا أدراجكم.
الجمال
:
أو سيروا في الجنازة، وضعوا الهدية مع الشاعر في قبره.
المشهد الثامن
الزمان
:
ما صدَّق الشاعر ما قلته له منذ ألف سنة، وهو أن جزاءه الأكبر عندي. فقد عاش
شاعرًا فارسيًّا ومات شاعرًا فارسيًّا، وهو اليوم من أكبر شعراء العالم. له
المنزلة العالية العزيزة في المشَارق والمغارب. والبرهان في هذا المهرجان.
والدليل في هذه الوفود الجليلة من الأمم الشرقية، ومن الجامعات الكبرى
الأوروبية والأمريكية.
أجل، قد فتح الفردوسي فتوحًا تصغر عندها فتوح السلاطين والملوك الأقدمين، فهي
دائمة في مجدها، خالدة في خيرها، وفي جميل آثارها. المجد للشاهنامه، والخير
للأمم التي تجتمع اليوم وفودُها في عاصمة إيران، وفي مسقط رأس الشاعر الخالد.
المجد والخير للأمم التي ترفع العقل على الأهواء، والروح على الأطماع، والشعر
على المشاعر الظاهرة، والثقافة على السيف والمدفع. إن الفتح الأعظم، الفتح
الخالد المجيد المفيد، إنما هو للعبقرية، وللأمم التي تمجد العبقرية، فترفع
فرحة أعلامها البيضاء المذهبة الحواشي، ترفعها عاليًا باسم الإخاء الإنساني،
والتضامن الدولي، والسلام والهناء في ممالك الانسان شرقًا وغربًا.
المجد للشاهنامه التي ولدت فارسية، وجازت القفار والبحار إلى البلدان القصية،
غازية باسم السلام. منتصرة باسم العبقرية.
فاستوت على عرشها في اللغات الأخرى الأوروبية والشرقية، الفرنسية والإنكليزية
والألمانية والطليانية والتركية والعربية.
أنا الزمان منصف الشُّعراء، ومنصف الممالك وأربابها، أقف اليوم مفاخرًا بملك
وأمير وسلطان. وبالشاه المجدد لمجد إيران. أقف مفاخرًا بكسرى أنو شروان. أول من
فكر في كتاب الملوك وشجع على نظمه.
وبالأمير نوح الثاني من آل سامان. المقتفي أثر أنو شروان. وبالسلطان محمود
الغزنوي الذي تشبه بسلفيه وفاقهما فبرزت الشاهنامه كاملة باهرة في عهده المجيد.
وبالشاه رضا خان بهلوي روح الدولة القديمة الجديدة ورب هذا المهرجان
الفردوسي.
المهرجان الفردوسي مهرجان العلم والثقافة. مهرجان الشعر والنور. مهرجان
السلام والإخاء الإنساني. مهرجان التآلف والتضامن بين الأمم. مهرجان الولاء
الدولي بين الشرق والغرب.
أنا الزمان أقول للشرق وملوكه: أشعلوا مصابيح الثقافة والوئام في الثغور
ودونها، بينكم وبين الجيران.
أنا الزمان أقول للغرب وأربابِه: أشعلوا مصابيح العلم والعدل في الثغور
ودونها، بينكم وبين الأمم الشرقية.
أنا الزمان أقول: المستقبل للعلم الذي فيه خير الناس أجمعين، وحرية الأمم
جمعاء. لا للمال المستعبِد للأمم والشعوب.
أنا الزمان أقول: المستقل لسياسة العمران العالمي، لا لسياسة الاستعمار
الدولي.
أنا الزمان أقول: المستقبل للمدنية التي تعزز العقل والروح كما تعزز المادة،
لا للمدنية التي تعززها الجيوشُ والأساطيلُ.