مقدمة
يعيش العالم الآن الأيام الأخيرة من القرن العشرين. ومع اقتراب النهاية التي أصبحت
قاب قوسين أو أدنى تعالت صيحات بعض المفكرين، فمنهم من يتنبأ بنهاية العالم، ومنهم من
يقول بنهاية التاريخ، وآخرون يُعلنون نهاية الفلسفة، ولكن أين الحقيقة من الأوهام في
هذه المزاعم؟
إذا تناولنا الزعم القائل بنهاية الفلسفة، وحاولنا فحْصه للوقوف على حقيقة الأمر فيه،
فلا بد ونحن على مشارف الألف الثالثة للميلاد أن نتخذ موقف المراجعة النقدية لكل
الاتجاهات الفلسفية التي سادت القرن العشرين، وأن نرصد حركة التفكير الفلسفي — وهو
موضوع هذا البحث — حتى نتبين هل أفضتْ هذه الحركة إلى وضْع نهاية لهذا التفكير بالفعل
أم لا؟ وكيف تجلت الروح النقدية بأشكال وصور مختلفة في جميع التيارات الفلسفية التي
سنتعرض لها بالرصد والمتابعة والتقييم؟ وأخيرًا هل استطاعت الفلسفة طوال مائة عام — وهي
الحقبة الزمنية التي يتناولها البحث بالتقييم — أن تواكب احتياجات المجتمع المتغيرة في
تلك الفترة التاريخية التي تميزت بالاحتجاج والتمرد على كل ما هو مألوف ومعتاد؟
وإذا كان الرد على هذا السؤال بالإيجاب، فما هي السمات العامة للتفكير الفلسفي التي
ميزت القرن العشرين عن القرون الماضية؟ وهل استطاعت الفلسفة أن تلحق بركب التطورات
السريعة للتقدم العلمي والاجتماعي، بحيث أصبح وجودها لازمة ضرورية مصاحبة لهذا التطور؟
أم أن الطفرات التي حققها التقدم المذهل في العلوم الطبيعية قد أزاح دورها الريادي؟
وإذا كان الأمر كذلك فهل تراجعت الفلسفة بالفعل عن مكانتها بما يسمح للبعض بإعلان
نهايتها؟ وهل النهاية المقصودة في هذا المقام تعني المعنى الحرفي للكلمة، أم هي إعلان
بنهاية المشكلات التقليدية للفلسفة ومنع طغيانها على الفلسفة المعاصرة؟ أم هي إيذانٌ
بتحولات جديدة في التفكير الفلسفي وفي طرح مشكلاته كما تمثلت في الثلث الأخير من القرن
العشرين؟ وإذا كانت الفلسفة تقف الآن في مفترق الطرق بين التقدم الهائل للعلوم من
ناحية، وعصر يموج بالمتغيرات والمتناقضات والتحولات في ظل ثورة المعلومات والاتصالات
من
ناحية أخرى، فما هي الوظيفة الموكلة إليها في خضمِّ الهجوم الشديد عليها من قِبل بعض
الاتجاهات — كالماركسية والبراجماتية والوضعية المنطقية والوجودية — بهدف التقليص من
مهمتها؟ وإذا كانت الفلسفة جزءًا من الحياة وعليها مسئولية تاريخية لا ينبغي التهوين
من
شأنها، فماذا تبقى لها؟ وما مصيرها؟ وماذا ينبغي على كل فيلسوف حيِّ الضمير أن يفعل؟
وما هي مهمته؟
يحاول هذا البحث الرد على هذه التساؤلات التي تستلزم الإجابة عليها الرجوع إلى الوراء
قليلًا لرصد حصاد التفكير الفلسفي منذ بدايات القرن العشرين، وحتى نهايته بقدر
الاستطاعة، فكثرة الفلسفات المتنوعة والمختلفة بشكلٍ مذهل ومحير في آنٍ واحد، تجعل مهمة
محاولة إيجاد وحدة تربط هذا التنوع مهمةً مشكوكًا فيها، طالما كنا نحن أنفسنا ننتمي إلى
هذا العصر، وغارقون فيه حتى آذاننا. وربما ترجع صعوبة تقديم صورة كلية ونظرة بانورامية
شاملة على التيارات الفلسفية في القرن العشرين إلى عدة عوامل نحاول إجمال أهمِّها في
النقاط التالية:
- أولًا: أن التنوع الهائل للتيارات الفلسفية في القرن العشرين يجعل مهمة
رصدها من الأمور الشاقة العسيرة. فلم يشهد أيُّ قرن من القرون الماضية
مثل هذا الكم الضخم من الاتجاهات الفلسفية المتشابهة أحيانًا
والمتباينة أحيانًا أخرى كثيرة كما شهد القرن العشرون. وإذا كنا نستطيع
أن نصفَ القرون الماضية بأن نقول إن القرن السابع عشر هو عصر المذاهب
العقلية والتجريبية، وإن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، والقرن
التاسع عشر هو عصر الفلسفات المادية بأنواعها المختلفة، فإننا لا
نستطيع أن نفعل هذا مع القرن العشرين الذي تميز بتيارات فلسفية متنوعة
تنوعًا مبالغًا فيه مما يجعل من غير الممكن تحديد خصائص عامة لكل هذه
التيارات.
- ثانيًا: أن التفكير الفلسفي في القرن العشرين ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرن
التاسع عشر ولا بالقرون السابقة عليه. فهناك بعض التيارات — خاصةً في
النصف الأول من القرن — التي تُعدُّ امتدادًا وتطويرًا للأفكار
الأساسية التي سادت في القرن الماضي أو حتى القرن الذي سبقه. وإذا كان
هذا التأثير لا ينفي عن هذه التيارات جدتها وأصالتها، فهذه هي طبيعة
التفكير الفلسفي الذي يتميز بأنه فكر متصل ومستمر وفي حالة جدل وحركة
دائمين. كما تتميز بعض اتجاهاته بأنها تكاد أن تكون مقطوعة الصلة بكل
ما سبقها، فهناك تيارات ومذاهب — في النصف الثاني من القرن — جديدة
ووليدة القرن العشرين، وتكاد أن تكون في زعم أصحابها بداية جديدة كل
الجدة، ومختلفة عن التيارات السابقة عليها، وبين هذا الاتصال والانقطاع
يقع الراصد لحركة الفكر في نوعٍ من الحيرة والذهول معًا تجعل من الصعب
عليه أن يُلمَّ بهذه الحركة في نظرة واحدة موحدة.
- ثالثًا: يتميز القرن العشرون بأنه عصر يموج بالمتناقضات والمتقابلات ويحفل
بالتغيرات والتحولات السريعة. وتنتاب الباحث في سمات التفكير الفلسفي
في القرن العشرين وحصاده النهائي مشاعرُ متناقضة ومتباينة بسبب تشابك
الفلسفة في هذا القرن مع علوم أخرى كثيرة، وعلى الرغم من انفصال العلوم
عن الفلسفة قبل قرنين من الزمان، وعلى الرغم أيضًا من أن الفلسفة لم
تَعُد هي أم العلوم ولا المشرع لها ولا الحاكم المطلق في أمرها، إلا
أنها عادت وتشابكت مع العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية مرة أخرى
بصورٍ مختلفة، كما تداخلت مع كل آداب العصر وفنونه. وبالإضافة إلى هذا
الشعور المتناقض والمتباين يحس الباحث أيضًا بالاغتراب كلما توغل بحثُه
واقترب من نهاية القرن، فهناك نوع من الانشطار بين بداية القرن
ونهايته، فالتطور والتحول السريع الذي حدث في التفكير الفلسفي في النصف
الثاني — أو إذا توخينا الدقة في بداية السبعينيات من هذا القرن — هو
المسئول عن الإحساس بهذا التغريب، حتى ليخيل للمرء أن انتقاله من النصف
الأول من القرن إلى نصفه الثاني أشبه بالخروج من عباءة العصر الوسيط
إلى عصر جديد كل الجدة. إن النظرة العامة إلى المشكلات التقليدية
للفلسفة من ميتافيزيقيا ومعرفة ومنطق وأخلاق قد اهتزت من أساسها؛ إذ
«أصبحت الميتافيزيقا والمعرفة مجرد أيديولوجيا، والأيديولوجيا نفسها قد
ساءت سُمعتُها بشكلٍ متزايد. لم يَعُد أحد يجرؤ على التساؤل عن العناصر
الأساسية للوجود، كما فعل الميتافيزيقيون القدامى، ولم يَعُد باستطاعة
أحد أن يُعلمنا المبادئ الأساسية للمعرفة الإنسانية، كما فعل
الإبستمولوجيون القدامى، ولم يَعُد المنطق موضوعًا فلسفيًّا، بل أصبح
معظم المناطقة أعضاء في أقسام الرياضيات. كذلك الأمر في فلسفة الأخلاق
التي تحولت إلى الدراسات الفلسفية التحليلية، وانتهت إلى ما بعد
الأخلاق meta-ethics وهي الدراسة التي
يفترض أنها ستجد مكانها الصحيح في علم اللغويات الجديد.»١
(٢) تصنيف التيارات الفلسفية في القرن العشرين
تعددت المدارس الفلسفية، وتنوعت في القرن العشرين — كما سبق القبول — إلى حد اختلاف
الباحثين والفلاسفة أنفسهم حول تقسيمها، فيقول رسل: «بثلاث فِرَق أساسية، الأولى اتباع
الفلسفة الكلاسيكية (فلسفة كانط وهيجل)، والثانية تتكون من البراجماتيين وبرجسون،
والثالثة ممن يتصلون بالعلم.»
٩ وقدم «وولف» ستة اتجاهات: «المذهب المادي، المذهب المثالي المطلق، مذهب
الكثرة الروحية، مذهب التجربة الجديد (الظاهريات)، فلسفة الحياة ومذهب الواقع.»
١٠ أما بوشنسكي فقد ميَّز أهم النظم الفلسفية في النصف الأول من القرن العشرين
من حيث المحتوى إلى ست مجموعات «المذهب التجريبي أو فلسفة المادة، وهو خليفة المذهب
الوضعي (وهما يمتدان من مذاهب القرن التاسع عشر)، والمثالية في صورتَيها الهيجلية
والكانطية. ثم يأتي مذهبان قطعَا كل حبال الاتصال مع القرن التاسع عشر؛ وهما فلسفة
الحياة وفلسفة الماهيات أو الفينومينولوجيا. وأخيرًا تأتي مجموعتان تعبران عن المحاولات
الأصيلة والمعبرة عن القرن العشرين، وهما مجموعة الفلسفة الوجودية ومجموعة ميتافيزيقا
الوجود الجديدة.»
١١ أما تصنيف هذه المذاهب حسب المنهج فيرده بوشنسكي إلى «التحليل الرياضي
المنطقي من جهة، وإلى العمليات الفينومينولوجية من جهةٍ أخرى.»
١٢
ومما لا شك فيه أن تصنيف المذاهب — كما يعترف بوشنسكي نفسه — لا يخلو من تعسف؛ لأن
هناك فروقًا كبيرة تفصل بين فلسفات تم وضعها تحت عنوان واحد، ومع ذلك فالتصنيف ضرورة
من
أجل تقديم صورة كلية ونظرة شاملة. وسنعرض الآن لأهم التيارات الفلسفية في القرن
العشرين، ولكن هذا العرض أيضًا لا يخلو من تعسف، فالمساحة المتاحة لهذا البحث لا تسمح
بعرض كل الاتجاهات؛ لذلك سنقتصر على أكثر التيارات تأثيرًا في فلسفة القرن العشرين،
وسيتم اختيار الفلاسفة الذين نظن أن لهم وجهات نظر ثاقبة، أو لهم إسهام مميز وتأثير
واضح في مناهج أو نظريات أو تأملات فلسفية أخرى، والذين أصبح لهم تأثير على عقول فلاسفة
واعدين الآن.
سنبدأ أولًا بعرض التيارات الفلسفية التي سادت الفكر الغربي في النصف الأول من القرن
العشرين، والتي كانت ردَّ فعلٍ أو امتدادًا لتيارات القرن التاسع عشر، ولكننا سنستثني
من هذا العرض الفلسفة الماركسية، وعلى الرغم من أنها تنتمي إلى مذاهب القرن التاسع عشر،
فقد كان لها تأثيرٌ على بعض الفلاسفة في القرن العشرين، لا سيما بعض الفلاسفة
الماركسيين الذين اجتهدوا في تجديد الفكر الماركسي من الداخل — مثل بلوخ وأصحاب التيار
النقدي الاجتماعي من مدرسة فرانكفورت — وحاولوا تحذير العالم مما سيئول إليه الفكر
العقائدي المتزمت بعد أن شهد النصف الأول من القرن العشرين أهوالًا عديدة، فقد سيطرت
حكومات شمولية استبدادية على النظم السياسية في العديد من بلدان أوروبا كالفاشية
الإيطالية والشيوعية السوفيتية والنازية الألمانية، وشهد أيضًا ملايين الضحايا في
حربَين عالميتَين انتهتَا بأن تركتَا العالم في حالة فوضى، بعد أن وصلت ذروته بإلقاء
القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي. لذلك ظهرت الدعوة إلى تجديد الفكر الماركسي
والوقوف في وجه النظم الشمولية، ولكن لم تكن هناك آذان صاغية لهذا التجديد، ولسنا في
حاجة إلى الإشارة إلى المصير المأساوي الذي انتهت إليه الماركسية، فالانهيار العظيم
يشهد عليه. ومع ذلك سنكتفي بالإشارة إلى تيار واحد حاول تجديد الفكر الماركسي من حيث
المنهج، وإن كان قد تخلَّى عن معظم مقولاته الفلسفية الأساسية، وهو التيار النقدي
لمدرسة فرانكفورت، والذي سنعرض له في حينه. ونبدأ العرض بالتيارات التي سادت في النصف
الأول من القرن العشرين مثل البرجسونية والبراجماتية والفلسفة التحليلية. وقد كانت
فلسفة برجسون الحيوية مناهضة للمذهب المثالي والفلسفة الوضعية المنتمَين للقرن الماضي،
كما عرضت لأول مرة مفهوم الديمومة. وقدَّم برجسون نظريته في التطور، وكانت دفعة كبيرة
للأبحاث الفلسفية اللاحقة لها.
وكانت البراجماتية امتدادًا للتيار التجريبي باعتبارها شكلًا من أشكال الفلسفة
التجريبية، ثم أصبح لها تأثيرٌ عميق على المسار اللاحق لها، «ليس فقط على الفلسفة
التكنولوجية، بل أيضًا على ازدهار نُظُم معرفية لم تكن مستقلة بنفسها تمام الاستقلال
half-independent disciplines مثل علم الدلالة،
وعلم النفس، والسوسيولوجيا والتشريع والتعليم.»
١٣ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تعتبر البراجماتية بمثابة حركة انتقالية أو
الحلقة المفقودة بين عصر الأيديولوجيا وعصر التحليل.
ثم نعرض للفلسفة التحليلية وللوضعية المنطقية التي صدمت الحياة الفلسفية، وكانت الطفل
المرعب لفلسفة القرن العشرين، فلم تكن تسعى كغيرها من التيارات إلى تجديد الفلسفة، بل
دعت إلى تدميرها، بزعم أنها تبحث في موضوعات لا معنى لها. وبذل الوضعيون المناطقة كلَّ
جهودهم لوضع حدٍّ حاسم بين الميتافيزيقا والعلم الطبيعي، وجعلوا مهمتهم الأولى هي حذف
الميتافيزيقا، ثم توضيح لغة العلم وتحديدها. وعلى الرغم من الصخب الذي أحدثه أصحاب هذا
الاتجاه في بدايته المبكرة، إلا أن نجمهم قد أفل وانخفض صوتهم، وتحول اتجاههم الفلسفي
إلى تيارات علمية وتجريبية أخرى متطورة.
ثم يعرض البحث لأكثر التيارات تأثيرًا في القرن العشرين — والتي لم تُكتشف في رأينا
كلُّ كنوزها حتى الآن — وهي فلسفة الظاهريات أو الفينومينولوجيا ومؤسسها هوسرل، أو هو
بالأحرى مؤسس فلسفة الوعي، الذي كانت مهمته إعادة بناء نقدي للمعرفة، وربما لا نبالغ
إذا قلنا إن الظاهريات هي بحق العباءة التي خرجت منها معظم التيارات الفلسفية اللاحقة
لها في هذا القرن، وإن لم يكن لها تلك الشعبية التي حظيت بها هذه التيارات (مثل
الوجودية على سبيل المثال). والظاهريات هي الفلسفة التي تنتمي عن أصالة لفكر القرن
العشرين، وهي التي يصفها مؤلفها بأنها «عالم البحث المحايد الذي تنبت منه جذور شتى العلوم.»
١٤
ثم ننتقل إلى الوجودية وهي من أكثر الفلسفات انتشارًا في منتصف القرن العشرين. وهي
أيضًا من أكثر الفلسفات التي تأثرت — بكل تياراتها المختلفة — بظاهريات هوسرل. عادت
الوجودية بتاريخ الفلسفة إلى جذور السؤال عن الوجود والماهية، كما عبرت عن أزمة الإنسان
الأوروبي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. وإذا كانت الوجودية قد انحسرت منذ ما
يقرب من ربع قرن، إلا أنها امتدت في تيارات أخرى انتشرت في الثلث الأخير من القرن
العشرين، وهي التي تسمى بفلسفات «ما بعد الحداثة»، والتي انبثقت من فلسفة هيدجر على
التحديد.
ثم نعرض لتيارٍ آخر اجتاح الفكر الفلسفي الأوروبي منذ أواخر الربع الأول من القرن
العشرين، لكنه لم يتبلور في شكل نظرية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التيار
النقدي الاجتماعي الذي أرسى دعائمَه أعضاءُ مدرسة فرانكفورت، وصاغوا له النظرية التي
عُرفت باسم «النظرية النقدية». وشكلت هذه المدرسة تيارًا فلسفيًّا داخل الفكر المعاصر،
مستعينة بالأدوات التحليلية والطاقة النقدية للماركسية، لتحليل المجتمع الصناعي
والرأسمالي. وإن كان يؤخذ على أصحاب النظرية النقدية أنهم لم يقيموا نسقًا منهجيًّا
محكمًا، إلا أنهم يمثلون تيارًا فلسفيًّا لا يمكن تجاهله، فقد حاول أن يعيد للفلسفة
دورها في المجتمع، وخاصة على يد أحد أهم أعلام جيلها الثاني وهو يورجين هابرماس.
ثم نعرض للبنيوية، ذلك التيار الذي سيطر على الفكر الفرنسي في الستينيات، بعد أن هدأ
الصراع الفكري بين الوجودية السارترية وأنصار الماركسية، ذلك الصراع الذي سيطر على
الساحة الثقافية الفرنسية في تلك الفترة الزمنية. والبنيوية ليست مذهبًا فلسفيًّا
جديدًا بقدر ما هي منهج في المعرفة العلمية، احتذى بالنجاح الذي حققته علوم اللغة بهدف
الوصول إلى مرتبة العلم المنضبط على نمط العلوم الطبيعية. وقد أثارت البنيوية، فكرًا
ومنهجًا، الكثير من الجدل بين الحماس لها من ناحية وبين الغضب عليها من ناحية
أخرى.
ويعرض البحث للفلسفات الجديدة التي ظهرت في مطلع السبعينيات، وتركز معظمها في الفكر
الفرنسي على وجه التحديد. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر فلسفات «المابعدية» — إذا صح هذا
التعبير — أعني تلك التيارات التي اتخذت شعار: «ما بعد التجريبية»، «ما بعد العصر
الصناعي»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الأخلاق»، «ما بعد الحداثة»، «ما بعد
الفلسفة»، «ما بعد النقد»، «ما بعد البنيوية»، «ما بعد الحكاية». ولا غرابة في أن تظهر
هذه الاتجاهات في الثقافة الفرنسية التي اشتهرت «بالبدع» أو «الموضات» الثقافية
والفكرية بنفس القدر الذي اكتسبت به شهرتها في «تقليعة» أو «موضة» الأزياء. تعبر كل هذه
«المابعدات» عن التغيرات الأساسية التي طرأت على الثقافة والمجتمع الغربي في أخريات
القرن العشرين، وظهرت بوضوح في مجالات الآداب والفنون، ثم انتقلت إلى مجالات الفلسفة
والنظريات الاجتماعية. ومن أهم هذه التيارات التي سنعرض لها في هذا البحث فلسفة التأويل
(الهرمنيوطيقا) والتفكيكية.
(٣) أهم التيارات الفلسفية في القرن العشرين
قبل أن نعرض لأهم تيارات هذا القرن لا بد أن نؤكد أن الغالبية العظمى من فلاسفة القرن
العشرين انتابتهم رغبة جامحة للإتيان بأفكار وتيارات جديدة، واقتلاع القديم من جذوره،
ولهذا السبب كانت الروح النقدية هي الدافع الأول في هذه التيارات. وإذا كانت هذه الرغبة
مشروعة في الحياة بصفة عامة، فهي بغير شك أكثر مشروعية في الفكر الفلسفي الذي يعد النقد
جوهره وأهم سمة من سماته، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد من التأكيد أيضًا أنه ليس
هناك بداية مطلقة من الصفر، كما يستحيل على أي جديد أن يتبرأ تمامًا من دينه نحو
الأسلاف، ولا يمكن على الإطلاق أن تكون هناك جدة مطلقة لا تتصل على نحو من الأنحاء —
ولو على سبيل الرفض والقطعية — بما سبقها من أشكال الفكر ومضامينه.
(٣-١) فلسفة الحياة
نبدأ هذه البانوراما الفلسفية للقرن العشرين بالتيار المسمى بفلسفة الحياة،
وسنكتفي منه بالفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (١٨٥٩–١٩٤١م)، ولن نقف عنده كثيرًا، لا
لعدم أهميته ولكن لأنه — من بين فلاسفة قلائل — حظيَ باهتمام كبير في الفكر العربي،
حيث تُرجمت معظم مؤلفاته إلى اللغة العربية، وصدرت في عدة طبعات مختلفة، وتجاوبت
معه الرومانسية العربية. لقد كان لبرجسون تأثيرٌ قويٌّ ليس على الحياة الفكرية
الفلسفية فحسب، بل على الحياة الفكرية والأدبية أيضًا في النصف الأول من القرن
العشرين، لما كان يتمتع به من أسلوب أدبي مرهف ودقة في التعبيرات الفلسفية، فذاعت
شهرتُه وراجت كتبُه. وعلى الرغم من أن آراء برجسون ليست جديدة تمامًا على الفكر
الفلسفي الغربي — حيث نجد فيها أصداء هرقليطس وأفلوطين وهيجل وشيلنج ومين دي بيران
— إلا أنه «يُعدُّ أكبر فيلسوف في فرنسا منذ عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع
بين هذه الآراء والتجديد في عرضها، وقد أذاع لونًا من التفكير وأسلوبًا في التعبير
طغيَا على سائر فروع المعرفة العلمية وتجاوزاها إلى الأدب.»
١٥
واجهت فلسفة برجسون الحيوية كلًّا من النزعة الآلية الميكانيكية والنزعة المادية
مواجهة نقدية حاسمة. وقدم برجسون فلسفةً للحياة من خلال نظرية التطور في إطار
حدَّده هو لنفسه واتخذه أساسًا لاتجاهه الفلسفي، وليس في الإطار الذي حدَّده كلٌّ
من اسبنسر ودارون، فقد عرض لتطور الحياة في لغة شعرية وأدبية بعيدة عن اللغة
العلمية التي استخدمها علماء البيولوجيا. وقد اتخذ من «الوثبة الحيوية» أصلًا
للتطور، كما عرضها في كتابه «التطور الخالق» عام ١٩٠٧م، ولم يكشف العقل عن هذه
الدفعة أو الوثبة الحيوية، بل هناك ملكة أسمى منه — في رأي برجسون — وهي الحدس التي
نتعرف من خلالها على ما بداخلنا من صيرورة مستمرة وديمومة حقيقية، وهي الملكة
الوحيدة القادرة على فهم الحياة، وإدراك كلِّ ما هو حيٌّ ومتغير ومتحرك وجديد في
الزمان.
وفي كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» يؤكد برجسون أن الحياة النفسية «تيار غير
منقطع من الظواهر المتنوعة، أي تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر
المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة.»
١٦ وإذا كان برجسون يرفض المنهج العقلي كمنهج للفلسفة، فهو لا ينكره في
ميدان العلم؛ لأنه هو القادر على القياس والتحليل والتركيب، ولكنه لا يستطيع النفاذ
إلى داخل الأشياء، بل يعرفها من الخارج فحسب. أما الزمان الشعوري أو الباطني فلا
يمكن إدراكه إلا بالحدس، وهو ضربٌ من الإدراك المباشر لحياتنا الباطنية ولمجرى
شعورنا الداخلي. وقد حاول برجسون بذلك «تجاوز التفرقة بين الذات والموضوع بوصفهما
قطبَين متضادين، ولكنه نظر إلى هذا التجاوز نظرة مثالية، مقدمًا العالم الداخلي
للإنسان، حدسه وحريته، بوصفهما بديهيات أساسية في الفلسفة.»
١٧
لقد كان الإسهام الأكبر الذي قدمه برجسون للفلسفة في بداية القرن العشرين هو
إنقاذ فلسفة الروح من النزعة الوضعية، وقصد إلى «إنقاذ القِيَم التي أطاحها المذهب
المادي، فهو واحد من أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليُعلنوا إيمانهم بالروح.»
١٨ ولقد كانت فلسفة برجسون بأكملها دفاعًا عن الروح والحرية، والتأكيد على
أن لكل إنسان شخصيته الحية المتميزة، وأن «كل خط للتطور ينتهي إلى تحرير الوعي عند
الإنسان، ويظهر الإنسان وكأنه الغاية النهائية من تنظيم الحياة على كوكب الأرض»،
١٩ ولكن فلسفة برجسون انحسرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية — على الرغم
من انتشارها السريع والشهرة التي حظيت بها في معظم بلدان أوروبا، وامتدت إلى الشعوب
الشرقية — ويعزو البعض هذا الانحسار إلى اهتمامها المبالغ فيه بالزمان الشعوري،
باعتبار أنه وحده هو الزمان الحقيقي، وتجاهلها للزمان المكاني. وربما يعود السبب
الحقيقي لهذا الانحسار هو اكتساح الوجودية للساحة الفلسفية والفكرية في فرنسا في
تلك الفترة وخاصة الوجودية السارترية.
(٣-٢) البراجماتية
تعد البراجماتية من بين فلسفات القرن العشرين التي أدَّت دورًا هامًّا في الفكر
المعاصر، واشتهرت بأنها شديدة الإحساس بالمصالح الإنسانية. وهي الفلسفة التي ترجمت
الأفكار إلى فعل وعمل؛ فالحقيقي في الفلسفة البراجماتية هو ما يمكن التحقق من صدقه
في الواقع الموضوعي، وأن المنفعة والقيمة والنجاح هي المعيار الوحيد للحقيقة. ولا
نستطيع القول إن البراجماتية مذهب فلسفي بقدر ما هي منهج يتتبع النتائج العملية
للأفكار. وعلى الرغم من ردود الأفعال المتباينة التي تشكك في قيمة وأصالة
البراجماتية، إلا أنها تعبر عن فلسفة حضارة جديدة، فبدون تشارلز بيرس ووليم جيمس،
وجون ديوي (وهم أعلام هذا التيار) يصعب تخيُّل الحياة العقلية في القرن العشرين
وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية معقل هذا التيار. وعادة «ما ينظر إلى بيرس على
أنه سقراط النزعة البراجماتية، وجيمس على أنه أفلاطونها أما ديوي فهو أرسطو.»
٢٠ في حضارة القارة الجديدة.
تشارلز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤م) «أول فيلسوف أمريكي يخرج على العالم بفكر جديد يبلور فيه
الحياة العقلية كما تمثلت في القارة الجديدة، فهو الذي خلق الفلسفة البراجماتية
خلقًا، ثم هو الذي بلغ بها غاية كمالها، حتى إذا ما جاء بعده التابعان الكبيران
اللذان سارَا على نهجه، وهما وليم جيمس وجون ديوي لم يسعهما إلا أن يتحركَا في
الإطار نفسه.»
٢١ وأهم ما يميز فلسفة بيرس هي أنها فلسفة علمية وليست تأملية، وأنها
بعيدة عن الرطانة الفلسفية الأكاديمية. ويعتبره البعض «أكبر مفكر أنجبتْه أمريكا،
له إسهاماته المتميزة في المنطق، وفلسفة العلم، والميتافيزيقا، والإبستمولوجيا،
وفروع أخرى من الفلسفة بجانب اشتغاله بالعلم.»
٢٢ والفكرة الأساسية عند بيرس هي أن الوظيفة الوحيدة للفكر تنحصر في
النتيجة العملية المثمرة التي يتمخض عنها الفكر. ويشترك وليم جيمس (١٨٤٢–١٩١٠م) مع
بيرس في هذه الفكرة الأساسية، وهي أن الفكر لا يكون مفيدًا وله معنى يمكن فهمه، ولا
يكون له مصداقية إلا من خلال علاقته بغاياته، فالمعرفة بالنسبة لهما ليست تأملًا
ولا حدسًا، بل هي فعل وعمل.
وربما كان بيرس ووليم جيمس هما أول من «عرض بوضوح الاتجاه المميز للقرن العشرين
في النظر بعين الاعتبار للمعنى، ووضعه في قلب الفلسفة، ففي اعتقادهما أن الفكرة
الموجودة في العقل لها وظيفة تكيفية تتجلى في الفلسفة وفي نظرية المعنى»،
٢٣ وهذه هي إحدى آثار نظرية دارون التطورية. ولوليم جيمس إسهاماته في ظهور
البراجماتية على الساحة الفلسفية، على الرغم من أنه ليس مؤسس هذه النزعة (مثل
بيرس)، ولا هو الذي قدمها بشكل محدد (مثل جون ديوي)، ولكن قوة شخصيته ونشاطه لعبَا
دورًا حاسمًا في الأثر الذي طبعته البراجماتية على معاصريه. ومحاضراته عن
البراجماتية يؤرخ بها لبداية هذا التيار الفلسفي كحركة واضحة المعالم، خاصة في بحثه
عن مفهوم الصدق، فبعد أن اختلف الفلاسفة طويلًا حول طبيعة الصدق، جاء جيمس ليؤكد أن
الفكرة الصادقة هي التي تتلاءم مع غيرها من الأفكار التي تثبت صحتها عمليًّا. وتصبح
الفكرة حقيقية عندما تثبت التجربة أنها صالحة ومفيدة.
ثم يأتي جون ديوي (١٨٥٩–١٩٥٢م) أحد الفلاسفة الثلاثة الذين طوروا البراجماتية بما
له من وعي عميق بالبعد الاجتماعي للفكر الفلسفي. فقد أدرك أكثر من أسلافه ليس فحسب
قيمة التفاعل بين الفلسفة والأنشطة الثقافية الكبرى، بل أيضًا قيمة الفلسفة ذاتها
ومواجهتها المستمرة مع السياسة والتعليم. مما جعل لفلسفته تأثيرًا عظيمًا على
الحياة الأمريكية، فقد «ذاعت شهرة جون ديوي على الأخص باعتباره مفكرًا تربويًّا
يروم إصلاح مناهج التربية على أساس آراء اجتماعية متشددة في شأن الطابع الاجتماعي
للتربية. وقد كانت فلسفته لمدة طويلة أقوى قوة عقلية في تلك البلاد التي تعبد
التكنولوجيا، ولم تعرف خبرة التقدم العلمي على النحو الذي عرفته أوروبا.»
٢٤ لقد شارك جون ديوي زميلَيه بيرس وجيمس في المبدأ العام للبراجماتية،
وهو أن الفكرة خطة عمل، وأنها — أي الفكرة — لن تكتسب أية قيمة إلا حين تُثبت أنها
قابلة للعمل، وقادرة على تحقيق نجاح تلك الخطة، ولكنْ لفلسفة ديوي مفتاحٌ آخرُ
مختلف وهو مفهومه عن الخبرة وتأثُّره بالنزعة السلوكية، والخبرة عنده هي خبرة
بالطبيعة؛ لأنه لا توجد — في رأيه — معرفة حقيقية غير التي يأتي بها منهج العلوم
الطبيعية؛ ولذلك فهو يرفض كل الأفكار التي تتعالى على الطبيعة، ويتجه مباشرة إلى
الخبرة.
ولعل أهم إسهام قدَّمه ديوي في تطور البراجماتية هو نظريته في التربية ورفعه شعار
التعليم بالممارسة؛ فالتربية الواعية هي إعادة بناء مستمر للخبرة، وأن الأفكار لا
تكون أفكارًا حقيقية إلا إذا كانت أدواتٍ أو ذرائعَ نستعين بها في حل المشكلات التي
تواجه الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. ولا غرابة في أن تنشأ الفلسفة البراجماتية
وتجد صدًى لها — بل وتحقق نجاحًا باهرًا أيضًا — في مجتمع يحكمه منطق القوة والنجاح
كالمجتمع الأمريكي، ولكنه ليس بالضرورة هو أفضل المجتمعات. وربما لهذا السبب أيضًا
لم تجد البراجماتية رد فعل إيجابي في المجتمعات ذات القِيَم المثالية العريقة؛ لأن
ربط الأفكار الحقيقية والصادقة بآثارها العملية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة
استدعى استبعاد كل القضايا الأخلاقية وأحكام القيمة، بل وبعض قضايا العلم أيضًا من
دائرة الحق والصدق. كما يحصر الفكر الفلسفي في الجانب العملي الذي يحقق منفعة
مباشرة، ويزعم بغير حق أن الحقيقة مساوية للنجاح والتأثير العملي. والأبعد من هذا
أن البراجماتية بهذا المفهوم تهدم الهدف الأسمى للفلسفة، وهو البحث عن الحقيقة
ذاتها، أي البحث المنزه والمجرد من كل غاية أو هدف أو منفعة عملية، وربما كان هذا
هو الجانب السلبي من المنهج البراجماتي، لكنَّ هناك بغير شكٍّ جانبًا إيجابيًّا
يتمثل في نزعتها النقدية للمطلقات المثالية والميتافيزيقية، كما تتمثل أيضًا في
ترجمتها للأفكار إلى فعل وسلوك عملي، وتوجهها بوجه خاص نحو آفاق المستقبل.
(٣-٣) الفلسفة التحليلية
أحدثت الفلسفة التحليلية ثورة في تاريخ الفكر الفلسفي — كما يقول آير — بانتقاله
على أيدي التحليليين من البحث في مجال الموضوعات والأشياء إلى مجالٍ آخر يبحث في
الألفاظ والعبارات التي يستخدمها العلماء والفلاسفة. ولم تكن الفلسفة التحليلية
مذهبًا، بل هي منهج في البحث اهتمَّ اهتمامًا شديدًا بالتحليل اللغوي بهدف إضفاء
الوضوح والدقة على لغة الفلسفة، والكشف عن حقيقة الكثير من مشكلاتها، وجورج مور
(١٨٧٣–١٩٥٨م) هو رائد النزعة التحليلية في الفلسفة المعاصرة، وهو يمثل مع رسل
وفيتجنشتين المدرسة التحليلية التي يُطلق عليها اسم الواقعية الجديدة. والتحليل عند
مور ينصبُّ على التصورات أو الأفكار والمفاهيم، وليس على الألفاظ أو العبارات
اللغوية. كما اصطنع رسل منهجًا للتحليل للوصول إلى المكونات الأساسية التي يتألف
منها الفكر عن طريق التحليل اللغوي، وأيضًا عن طريق تحليل المفاهيم والتصورات
الرياضية وتحويلها إلى مفاهيم منطقية. وقد حصر رسل مهمته في أن «يمنطق الفلسفة
كلها، من أجل أن تقلع الفلسفة عن دراسة الوجود الكلي، وأن تقنع بدراسة الوجود
العام، وهو الوجود المنطقي الذي أراد أن يحصر فيه الفلسفة كلها»،
٢٥ فالمعروف أن السمة الأساسية التي تجمع بين فلاسفة التحليل هو عداؤهم
الشديد للفلسفة المثالية والميتافيزيقا بوجهٍ خاص.
تتحول الفلسفة كلها على يد فيتجنشتين — الذي يحتل مكانة عظيمة الشأن، في النزعة
التحليلية — إلى تحليل للغة. وقد تجاوز تأثيره الفلسفة التحليلية ليتبوأ موقعًا
هامًّا في الفلسفة المعاصرة، ففلسفته المتأخرة وخاصة في كتابة «بحوث فلسفية» فتحت
«آفاقًا جديدة أفاد منها علم اللغة والعلوم المتصلة به، ولم يقتصر الأمر على اكتشاف
الفروق الأساسية بين لغة العلم ولغة الفلسفة ولغة كل يوم، وإنما تعداه إلى
الاختلافات المتنوعة بين اللغات، واختلاف العناصر المكونة داخل كل لغة على حدة،
وتعدد الألعاب اللغوية حسب القواعد المستخدمة في كل لعبة بمفردها.»
٢٦ ولا ترجع أهمية فيتجنشتين إلى تأسيسه لمنهج جديد للتحليل المنطقي للغة،
بل تمتد أيضًا إلى إثارته للقضايا «بطريقة نقدية أصيلة أخرجتها من دائرة «التسليم»،
ووضعتها في دائرة «الإشكال»، وبذلك استحقت أن تكون رافدًا هامًّا من روافد النزعة
النقدية الغالبة على التفكير الفلسفي المعاصر.»
٢٧
(٣-٤) الوضعية المنطقية
ظهرت الوضعية المنطقية حوالي عام ١٩٢٢م بالتقاء مجموعة عُرِفت باسم حلقة فيننا،
وكان لكتاب فيتجنشتين «رسالة منطقية فلسفية» أثرٌ كبير على أعضاء هذه الحلقة، كما
كان أيضًا لمنطق رسل وطريقته الفنية في التحليل أثرها العميق عليهم، ولقد «اختار
الوضعيون المناطقة لفظة «منطقي» ليشير إلى اهتمامهم بالتحليل المنطقي للمعرفة، ولكل
نتائج العلم والحياة اليومية لإضفاء الوضوح عليها، وشرح العلاقة التي تربط هذه النتائج.»
٢٨ وللوضعية المنطقية بعض السمات الخاصة التي أثارت حولها الكثير من الجدل
والخلاف في النصف الأول من القرن العشرين منها: رفض الفلسفة التقليدية بما في ذلك
رفض الفلسفات المثالية والميتافيزيقا لحساب العلم والتفكير العلمي. ويرجع رفض
الوضعيين المناطقة للمثالية إلى أنهم ورثة بيرس من ناحية، ورسل من ناحية أخرى، وقد
حصروا الفلسفة في وضع أسس التفكير العلمي أو خدمة العلم الوضعي، وربطوا التراث
التجريبي بالتطور الجديد في المنطق.
من أهم المشكلات التي أثارتها الوضعية المنطقية مشكلة «مبدأ
التحقق»
Principle of
Verification، ويقوم هذا المبدأ على أن الأحكام أو العبارات التي «لا
نستطيع إثباتها بالإدراك التجريبي هي بالمعنى الحرفي للكلمة مجرد لغو؛ إذ لا يوجد
أي معنى أو دلالة يمكن أن تنسب إليهما … فما يمكن إثباته عن طريق الوقائع
facts هو وحده ما يمكن أن يكون له معنى … ولقد
طبق الوضعيون المناطقة هذا المبدأ على رفضهم للميتافيزيقا»،
٢٩ باعتبار أن قضاياها هي من قبيل ما لا معنى له. وينسب أعضاء حلقة فيينا
هذا المبدأ إلى فيتجنشتين، والذي كان له أكبر تأثير عليهم خاصةً في كتابه «رسالة
منطقية فلسفية» — وهو الكتاب الذي كان نقطة تحوُّل في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر
— والذي انتهى فيه إلى أن «مشكلات الميتافيزيقا والفلسفة التقليدية قد نشأت عن
إساءة فهم منطق اللغة، وأن تحليل لغة العبارات والقضايا قد بيَّن أن معظمها ليس
كاذبًا، وإنما هو خالٍ من المعنى.»
٣٠
يعد كارناب (١٨٩١–١٩٧٠م) أبرز ممثلي الفلسفة الوضعية، وصار المتحدث باسم حلقة
فيينا إلى أن فقدت الحركة زخمها من الناحية الفلسفية عام ١٩٣٦م، وتشتت أعضاؤها بموت
بعض روادها ومقتل شليك، وهجرة بعض أعضائها إلى بريطانيا، والبعض الآخر إلى الولايات
المتحدة الأمريكية، ويمكن القول إن المرحلة الأولى من الوضعية المنطقية قد خبت
وانطفأت شعلتُها للأسباب السابقة، وبسبب انصراف الحركة الفلسفية عنها — بعد أن كانت
تشغل مكانًا متميزًا في فلسفة القرن العشرين — كنوع من الاحتجاج على دوجماطيقية
أعضائها، ولكن هذا لا يعني أن الوضعية المنطقية قد انقرضت أو انتهت تمامًا، وإنما
تطورت عند كارناب أفضل ممثليها وأنشطهم، وخاصةً في دراساته في السيمانطيقا أو علم
المعاني، التي يتجاوز فيها التحليلي المنطقي للغة.
وربما يكون الدرس الوحيد المستفاد من غلو هذه المدرسة في مرحلتها الأولى أنه ليس
هناك رأيٌ قاطع وحاسم في الفلسفة، وكما أن هناك مبدأ التحقق من الصدق؛ فهناك أيضًا
مبدأ التكذيب — الذي قال به بوبر — والذي يعني أن القضية أو النظرية تظل صادقة، حتى
تظهر قضية أو نظرية أخرى تكذبها. وإذا كان للوضعية المنطقية تأثيرٌ إيجابي في
الحياة الفلسفية المعاصرة، فهو بلا شك أنها دفعت الدراسات المنطقية دفعة هائلة نحو
التجديد، كما أنها برفضها للميتافيزيقا نبهت الفلاسفة إلى ضرورة إعادة النظر في
استخدامهم للعبارات الفلسفية الفضفاضة، وأن عليهم أن يقدموا نماذجَ للأفكار تتسم
بالدقة والوضوح، وأن يصوغوا عباراتهم الفلسفية صياغة لغوية دقيقة.
(٣-٥) فلسفة الظاهريات (الفينومينولوجيا)
كان للفلسفة التحليلية عند مور ورسل وفيتجنشتين أثرٌ كبير على فلاسفة البلدان
الناطقة بالإنجليزية، بينما ساد في أوروبا نظامٌ من التفلسف برز في الوجودية
الألمانية، والوجودية الفرنسية وكلاهما تأثَّر إلى حد كبير بفينومينولوجيا هوسرل —
وهي مفتاح تطور الوجودية المعاصرة — فكان الاختلاف شاسعًا بين الفلاسفة التحليليين
من ناحية، والفلاسفة المهتمين بالتراث الأوروبي المعاصر من ناحية أخرى، بحيث يصعب
على كلا الفريقين الاتصال بالآخر. ورفضت الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة أن تنظر
للفلسفة باعتبارها علمًا تجريبيًّا، وكان هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨م) أحد حاملي لواء هذا
الاعتراض، الذي بدأ فلسفته بالهجوم الشرس على علم النفس، بل جعل هدفه تدمير النزعة
السيكولوجية في المنطق، والهجوم على المثالية والوضعية التجريبية، وقدم منهجه في
الظاهريات.
الظاهريات هي أحد التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي سادها الاعتقاد
بأن الفلسفة ليست كالعلوم الطبيعية أو الواقعية، وأنها لا يمكن أن تستخدم مناهج تلك
العلوم. ولذلك فإن أهم سمتين أساسيتين من سمات الفينومينولوجيا هي أنها منهج في
المقام الأول «ينحصر في وصف الظاهرة أي ما هو معطًى مباشرة … ومن جهة أخرى فإن
موضوعها — أي الفينومينولوجيا — هو الماهية
essence أي المضمون العقلي المثالي للظواهر، الذي يدرك في إدراك
مباشر، هو رؤية الماهيات.»
٣١ وقد عارض هوسرل بهذا الفلسفة الكانطية التي تنكر معرفة الماهيات.
واستطاع أن يؤسس فلسفة جديدة في الفكر الغربي في القرن العشرين، يمكن القول بأنها
فلسفة البدايات الأولى التي لا تفترض مسبقًا معرفة قبلية بالأشياء، بل تقوم بتجربة
الأشياء في الشعور كظواهر محضة. الفينومينولوجيا — إذن — هي علم دراسة الظواهر أو
المعطيات التي تتكشف في الوعي، وجعل هوسرل مهمته إيجاد المنهج الفلسفي الذي يستطيع
رؤية الماهيات أو حقيقة الموضوعات العينية.
والماهيات ليست ماثلة أمام الذهن أو الوعي، ولكن بلوغها لن يكون إلا من خلال
مراحل متدرجة هي مراحل المنهج الفينومينولوجي الذي ليس استنباطيًّا ولا تجريبيًّا،
بل هو منهج استبطاني ليس بالطريقة السيكولوجية، وإنما يتم من خلال عمليات ثلاث تبدأ
بالاستغناء عن كل المعلومات السابقة عن الشيء، وبالتوقف عن الحكم، ووضع بعض عناصر
المعطى — وهي العناصر التي لا تهتم بها الذات، بحيث لا يبقى لها إلا ما هو معطى من
الموضوع — بين قوسين واستبعادها من التأمل، أي تقويس العالم، والانصراف بالوعي إلى
الماهية الخالصة، وهذا ما يسميه هوسرل بالرد الترنسندنتالي، ولكن الوعي لا يكون إلا
وعيًا بشيء ما، أي أن للوعي طابعًا قصديًّا، ونشاطاته نشاطات قصدية. والقصدية هي
الفكرة الأساسية في فلسفة الظاهريات. ويتجاوز الوعي الصفات العارضة وينفذ إلى
الماهية، وهو ما يسميه هوسرل بالرد الماهوي، بمعنى الوصول إلى ماهية الشيء، ثم
البحث عن معنى أو دلالة الظاهرة. بمعنى آخر يمكن أن نقول إنه تتم عملية حفر للوعي
أو — إذا استعنَّا بتعبير فوكو — أركيولوجيا الوعي.
مهمة الفيلسوف الفينومينولوجي إذن هي بحث الظاهرة الماثلة أمام الوعي أو الشعور
الذي يتوجه إليها، ويقصدها «بأفعاله القصدية، وغدتْ رؤية الماهيات وتحليلات المعنى
هي أدواته في البحث.»
٣٢ ولعل ما أسفر عنه هذا المنهج هو نوع جديد من المثالية، أطلق عليه
المثالية الذاتية المتعالية. إن الحقيقة الوحيدة والمطلقة في هذا المنهج هي الذاتية
المتعالية التي يعتمد عليها كل وجود آخر في العالم، بحيث يمكن أن نقول إنها ذروة
الذاتية بعد ديكارت، بل هي تعميق للذاتية والارتفاع بها. فإذا ما اندثر كل شيء في
العالم سيبقى الوعي صانع الماهيات والحقائق. وربما لهذا السبب أيضًا تعرضت فلسفة
الظاهريات للنقد كشكل من أشكال المثالية الذاتية، فهي كفلسفة للباطن قد أكدت «عجز
كل الفلسفات المثالية الذاتية عن التأثير في حركة الواقع التاريخي والاجتماعي»،
٣٣ ولكنها من ناحية أخرى كانت شهادة بإفلاس العقل الغربي، وعودة إلى
الشعور الفردي الحي؛ فقد أيقظت الوعي بالأشياء والعالم والتجربة الحية. وبرؤية
الماهيات من خلال الوعي أو الشعور تصبح الحقائق حية.
إن أثر الفينومينولوجيا على الفلسفات الأخرى يؤكد الجانب الإيجابي منها، فهي
كمنهج — أكثر منها فلسفة — تُعدُّ منهجًا خصبًا أثَّر على العديد من فلسفات العصر،
وطبق تطبيقات مثمرة في مجالات مختلفة؛ لقد أعطى هوسرل إشارة البدء من جديد لعلوم
كثيرة منها «علم النفس، دراسة العقل، والمنطق، وفلسفة الرياضيات، والقانون، والعلوم
الاجتماعية، وفلسفة الفن والأخلاق وفلسفة الدين.»
٣٤ هذا بالإضافة أيضًا إلى تأثيرها العميق — كما سبقت الإشارة — على
الفلسفات الوجودية، وفلسفة اللغة، وفلسفة التأويل أو الهرمنيوطيقا، وتأثيرها غير
المباشر على أعضاء مدرسة فرانكفورت. وعلى الرغم من تأثير فلسفة الظاهريات في تيارات
متعددة وبعثها للحياة في حقول بحثية جديدة، إلا أنها تُعدُّ أقل الفلسفات حظًّا من
الانتشار والفهم أيضًا. وربما يعود هذا إلى غموضها من ناحية، وصعوبة التعامل مع
مفاهيمها المخالفة للنظم الفلسفية السائدة حينذاك من ناحية أخرى. فهي ما تزال غير
معروفة معرفة كافية بالمقارنة مع التيارات الفلسفية المعاصرة لها، والتي حظيت
بانتشار واسع ودراسات وافية، وإن لم تكن تفوقها عمقًا وقدرة على التأثير. وعلى
الرغم مما تحتويه كتابات هوسرل من تحليلات دقيقة وعميقة إلا أن «المؤرخين لم يضعوا
أيديهم بعدُ على كل ما يشكل قيمة هذه الكتابات التي تُعدُّ نبعًا عظيمًا للمعرفة،
ولم يحددوا بعدُ مدى قوة فائدتها، ويظهر أن كتابات هوسرل (التي ما زالت تُنشر
تباعًا حتى اليوم) في طريقها إلى أن تصبح مصدرًا أساسيًّا معتمدًا من مصادر الفلسفة
الغربية ترجع إليها الأجيال القادمة في الحضارة الغربية.»
٣٥
هكذا فتح البحث الفينومينولوجي آفاقًا جديدة جعلتْه أحد المنابع الرئيسية للتفكير
الفلسفي للحضارة الغربية في القرن العشرين. وكما جاءت الظاهريات ببعض وجهات النظر
النقدية — الجذرية — للفلسفات السابقة عليها، وزعمت أنها فلسفة البدايات، وكانت
صيحتها على لسان هوسرل بالرجوع إلى الشيء نفسه، وكما وجَّه نقده اللاذع للوعي
الأوروبي وأزماته، محاولًا البدء من الوعي — تعميقًا لفلسفة ديكارت — وكما وجهت
الفينومينولوجيا نقدَها للمثالية والتجريبية والنزعة النفسية في المنطق، فإن هناك
بعض الانتقادات التي وُجهت إلى الظاهريات نفسها وعرَّضتها للنقد لاستغراقها في
استبطان الوعي وإغفالها إلى حد كبير للبُعد الاجتماعي، وتحويلها للفلسفة إلى نوع من
الاستبطان المنطقي المعرفي الذي انتهى إلى مثالية ذاتية متعالية بعكس الهدف الأصلي
لهذه الفلسفة.
(٣-٦) الفلسفة الوجودية
كان للمنهج الفينومينولوجي أكبر الأثر على الفلسفة الوجودية التي كان لها حظٌّ
كبيرٌ من الشهرة والانتشار — خاصة فيما بعد الحرب العالمية الثانية — يفوق بكثير
الأصول التي نهلت منها. لقد كانت ردَّ فعلٍ قويٍّ على المذاهب العلمية والفلسفات
التي حاولت أن ترسخ في الأذهان فكرة المطلق. وإذا كان نيوتن «قد وضع أساس المطلق في
العلم. وجاء هيجل ليؤكد فكرة المطلق في الفلسفة، فقد جاء عددٌ من المفكرين وركزوا
على التجربة الإنسانية الفردية الحية التي تتمتع باستقلال ذاتي.»
٣٦ ونقطة البدء في الفلسفة الوجودية هي الإنسان الفرد بمفارقاته الفردية،
والمواقف التي يخوضها مع الحياة، وتحليل الوجود الإنساني إنما يبرهن على أن الموجود
(الإنساني) هو الذي يتساءل عن الوجود.
تتعدد تيارات الفلسفة الوجودية وتتباين فيما بينها، على الرغم من أنها نبعت
جميعًا من مصادر واحدة، وإلى جانب تأثير المنهج الظاهرياتي على جميع فلاسفة الوجود
— بصفة عامة — فقد كانت لفلسفة الحياة بصماتها أيضًا، بالإضافة إلى انتساب جميع
فلاسفة الوجود إلى كيركيجورد الأب الروحي للفلسفة الوجودية. وأهم أعلام التيار
الوجودي هم جابريل مارسيل، وكارل ياسبرز، ومارتن هيدجر وجان بول سارتر، ويمثل
ياسبرز وهيدجر تيار الوجودية الألمانية وهما اللذان تأثَّرَا بكيركيجورد، وأضافَا
إليه وأخرجَا فلسفته الوجودية من الوجود الذاتي بمعناه الضيق إلى الوجود العام.
وهناك أيضًا الوجودية الفرنسية بشقَّيها المؤمن والملحد، يمثل جابريل مارسيل التيار
الأول، ويمثل كلٌّ من سارتر وميرلونتي التيار الثاني. وهناك اختلافات أساسية فيما
بين أعلام هذه الاتجاهات تجعل من الصعب الحديث عنهم جميعًا تحت مسمى واحد. ومع ذلك
نستطيع أن نجمل بعض الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين:
- (١)
تنبع الفلسفة الوجودية من تجربة حية معاشة تسمى تجربة وجودية، تحمل
طابعًا شخصيًّا.
- (٢)
الوجود هو الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي عند الوجوديين.
- (٣)
يتصور الوجوديون الوجود على نحوٍ فاعلي نشط فلا «يكون» الوجود، بل
«يصير».
- (٤)
أن الوجوديين يفهمون «الذاتية» بمعناها الخلَّاق؛ فالإنسان يخلق نفسه
بنفسه.
- (٥)
يقول كل المفكرين الوجوديين بالتبعية المزدوجة، تبعية الإنسان للعالم
وتبعيته للبشر.
- (٦)
يرفض كل الوجوديين التمييز بين الذات والموضوع، بل ينبغي التعامل مع
الواقع الذي يتم في تجربة القلق، وفيه يدرك الإنسان أنه محدود قاصر.
وبالرغم من هذه السمات المشتركة بين الفلسفات الوجودية، فإنه توجد
اختلافات عميقة بين ممثلي الوجودية، إذا أُخذ كلٌّ منهم بمفرده.
٣٧
حظيت الوجودية الفرنسية — وخاصة السارترية — بشهرة واسعة ليس في أوساط المثقفين
فقط، بل أيضًا على المستوى الجماهيري والشعبي، ويليها حظًّا من هذه الشهرة وجودية
هيدجر، وإن كان انتشار هذه الأخيرة على المستوى الأكاديمي أكثر منها على المستوى
الجماهيري. وعلى الرغم من هذا يُعدُّ كارل ياسبرز (١٨٨٣–١٩٦٩م) — الأقل شهرةً
وانتشارًا — من بين «الفلاسفة الوجوديين المعاصرين أغزرهم إنتاجًا، وأوضحهم
تفكيرًا، وأوسعهم اهتمامًا، وأقربهم إلى التفكير العام. ليس فيه غموض هيدجر ولا
جفاف لغته، وليس فيه عبث سارتر.»
٣٨ ويؤكد ياسبرز — كسائر الوجوديين — أن الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي
يمكن إدراكها في العالم، وأنه موجود في مواقف عينية واقعية في الحياة. وأن الوجود
«انفتاح على العالم، ولن يتحقق — أي الوجود — إلا في الفعل والسلوك، ونقابل هذا
الانفتاح في المواقف الحدية (مثل الموت والألم والصراع والخطيئة)، وفي الوعي
التاريخي، وفي الحرية، وفي التواصل مع الآخرين.»
٣٩ يتحقق وجود الإنسان إذن في لحظة خروجه من حال الإمكان إلى حال التحقق،
وهو بهذا يحقق معنى الحرية التي هي جوهر الوجود الماهوي عند ياسبرز.
ثم يأتي مارتن هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) الممثل الآخر للوجودية الألمانية، والأكثر شهرة
من سلفه، ويعلن أن نقطة البدء في فلسفته هي الموجود — هناك
Dasein ليبدأ مرحلة جديدة في فهم الإنسان.
ويبدأ أيضًا بحثه عن «الوجود الأصيل» مسقطًا بذلك مشكلة وجود العالم الخارجي؛ لأن
الموجود هناك بطبيعته موجود في العالم، وبحثه عن وجوده الخاص يرتبط ببحثه عن الوجود
العام. وينطلق هيدجر في «تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية
أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعًا. وهذه التحليلات للوجود-في-العالم،
والوجود بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية … إلخ تُعدُّ من أثمن ما قدَّم هيدجر
للحياة الفلسفية.»
٤٠ مما جعله يمثل تحولًا بارزًا في الفكر المعاصر خاصة في كتابه «الوجود
والزمان» الذي يعتبره بعض الباحثين بداية عصر جديد من التفلسف كان له أكبر الأثر
على بعض التيارات الفلسفية في القرن العشرين.
يؤكد هيدجر أن المنهج الوحيد الملائم للتحليل الوجودي هو المنهج الفينومينولوجي،
ولكنه لم يأخذ بمفهوم هوسرل للظاهريات «كفلسفة ترانسندنتالية تصل في مراحلها
التكوينية الأخيرة إلى ردِّ كل شيءٍ إلى الأنا (الذات أو الوعي) الخالص الذي يبقى
ولو فني العالم كله … ولكنه يُعلن تنصُّلَه من الظاهريات فلسفة واتجاهًا، واستفادته
منها منهجًا وطريقًا للكشف عن أشكال الوجود.»
٤١ وكأن فلسفة الظاهريات تقوم عند هيدجر بدور عمل التأويل، وهي تدرس
الكينونة من أجل تفسير تركيبها وتكوينها، وتصبح الفلسفة نظرية أنطولوجية
فينومينولوجية عامة، تنتج عن تأويل «الموجود-هناك».
٤٢ مهمة التحليل الأنطولوجي إذن عند هيدجر هي الكشف عن الوجود الإنساني
بصفة عامة، أي وجوده-في-العالم، بمعنى أنه يمضي من تحليل الموجود إلى تحليل
الوجود.
والوجود — في — العالم عند هيدجر يعني أن الوجود البشري قُذف به على غير إرادته
في عالم ليس من صنعه، وفي محاولته — أي الموجود البشري — المستمرة للخروج من ذاته
يصطدم بعالم الأشياء والأدوات ليحقق إمكانياته، ويكون ما لم يكنه، والموجود البشري
لا يوجد في العالم فقط، بل أيضًا مع الآخرين. والقلق الوجودي — وليس السيكولوجي —
هو ما يميز حياة «الموجود-هناك»، وهو الحالة الانفعالية التي تتكشف فيها حقيقة
الوجود، وأنه وجود للموت، وأن الموت هو أعلى إمكانيات «الموجود-هناك» وهي إمكانية
انتهائه وموته. ومفهوم هيدجر عن الموت يفترض كذب المفهوم الأفلاطوني، المسيحي،
بمعنى انفصال الجسد الفاني عن الروح الخالدة، فالموت عدم مطلق، سقوط في اللاشيء.
وكما أُلقي الإنسان في العالم بدون هدف أو معنى، فهو يُلقَى به أيضًا للموت وبدون
أن يكون لمجيئه أو رحيله معنى.
٤٣ فالإنسان محكوم عليه بالموت، والموت هو عبور «الموجود-هناك» إلى حيث لم
يَعُد هناك وجود.
كانت الوجودية الفرنسية هي التيار الآخر للفلسفة الوجودية، وقد انقسم هذا التيار
نفسه — كما سبق القول — إلى تيارَين متعارضَين، أحدهما ديني كاثوليكي ويمثله جابريل
مارسيل (١٨٨٩–١٩٧٣م)، والآخر ملحد ويتزعمه سارتر. لن نقف عند الأول، أعني جابريل
مارسيل؛ لأنه لم يؤسس نظامًا فلسفيًّا، ولم يترك سوى تأملات على شكل يوميات، وهو
أقرب إلى كيركيجورد من كل ممثلي الفلسفة الوجودية، ولم يكن له شهرة ولا تأثير
سارتر، القطب الآخر للوجودية الفرنسية، الذي تجاوز تأثيرُه ساحة الفكر الفرنسي إلى
بلدان أخرى كثيرة، ومنها بعض البلدان العربية التي حظي فيها باهتمام كبير وحركة
ترجمة واسعة لأعماله.
تطورت فلسفة سارتر (١٩٠٥–١٩٨٠م) على مراحل ثلاث تأثر فيها بثلاثة فلاسفة هم هوسرل
وهيدجر وماركس. كانت المرحلة الأولى من هذا التطور سيكولوجية ظاهرية، والمرحلة
الثانية أنطولوجية، ثم المرحلة الثالثة وجودية ذات ميول ماركسية. وأثمر هذا التطور
الأخير ما يُعدُّ أهم كتب سارتر وهو «نقد العقل الجدلي» الذي أدرك فيه البعد
التاريخي للوجود الإنساني مما أتاح الفرصة لإقامة فلسفة أساسها عقل جدلي يُدرك أن
حقيقة الإنسان متغيرة، ولن تتوقف عن الصيرورة.
وإذا كان الإنسان عند هيدجر هو الكائن المحكوم عليه بالموت، فهو عند سارتر محكوم
عليه بالحرية؛ لأنه هو الذي يختار أن يصبح أو يصير. وكما يقول سارتر في الوجودية
والنزعة الإنسانية، أن الإنسان مسئول عن وجوده ونوعه، وكذلك مسئول عن كل البشر في
كل اختيار أو قرار له. ومبدأ الوجود عنده، الإنسان هو ما يصنعه بنفسه! الإنسان مشروع
Man is Project.
٤٤ والإنسان يوجد بقدر ما يحقق ذاته وإمكاناته في أفعال ملموسة، بمعنى آخر
أن الإنسان هو مجموع أفعاله.
يعود الانتشار الواسع للفلسفة الوجودية في منتصف القرن العشرين — إلى الحد الذي
أصبحت معه «موضة العصر» — إلى أنها تعبر عن أزمة مبادئ وقِيَم مرحلة ما بين الحربين
العالميتين، لقد وضعت المبادئ الأساسية للفلسفة التقليدية بكل قيمها وحقائقها موضع
التساؤل، معتبرة مشكلة الإنسان المشكلة الأساسية. فقد عاد الفلاسفة الوجوديون
بتاريخ الفلسفة إلى السؤال عن مصير وماهية الإنسان، والسؤال عن معنى الوجود أو
حقيقته بعد أن طغى الطابع العلمي على فلسفات القرن التاسع عشر، واختزلت الوجود
الإنساني وقصرته على الوجود المادي، فجاءت الفلسفة الوجودية لتبحث عن ماهية الوجود
الإنساني من حيث وجوده — في — العالم، ووجوده مع الآخرين ومن أجلهم. وربما كان هذا
سببًا قويًّا في انحسار الفلسفة الوجودية — فيما بعد — واتهامها بإهمال الجانب
العقلي في الإنسان باعتباره عصب الثقافة الأوروبية القائمة على العلم.
حدث نوع من الانحسار للفكر الوجودي بعد موت كلٍّ من هيدجر وسارتر، وبقيت قيمة
فلسفة هذا الأخير في كونها أعمالًا أدبية. أما عن فلسفة هيدجر فنستطيع أن نقول إنها
من النوع الذي يتم اكتشاف كنوزها، وتزداد أهميتها بعد موت أصحابها، فعلى الرغم من
انحسار التفكير في الوجودية كفلسفة، بقيت قيمة فلسفة هيدجر في أنها تولدت عنها
فلسفات أخرى أثارت الكثير من الجدل، وأحدثت تغييرًا جذريًّا في مسار التفكير
الفلسفي في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأقصد بوجه خاص تأثير فلسفة هيدجر — لا
سيما في تحليلاته لبعض نصوص الفلاسفة قبل سقراط والنصوص الشعرية لهيلدرلن وغيره —
على كلٍّ من فلسفة التأويل أو الهرمنيوطيقا والنزعة التفكيكية. وفيما بين التأثير
الفعال والتراجع والانحسار تعرضت الفلسفة الوجودية للكثير من النقد، على الرغم من
أنها قامت في الأساس لتوجيه النقد للفلسفات السابقة عليها، وعلى الرغم أيضًا من زعم
أحد روادها (أعني هيدجر) أنه تجاوز الميتافيزيقا الغربية، وأنه يؤسس فكرًا جديدًا
للوجود. على الرغم من كل هذا فإن الوجودية نفسها لم تسلم من سهام النقد الموجه
إليها باعتبارها نزعةً معادية للعلم. وكانت فلسفة هيدجر في بعض جوانبها مرتعًا
خصبًا لهذا النقد، خاصةً في إغفالها البعد الاجتماعي والسياسي في حياة الموجود
الفرد، وانغلاق فلاسفة الوجود بصفة عامة في الفردية الذاتية — باستثناء سارتر — إلى
حد تجاهل الواقع الجدلي المتحرك حولهم. وقد كان هذا الجانب هو الأساس الذي ارتكز
عليه نقدُ أعضاء مدرسة فرانكفورت لفلسفات الوجود.
(٣-٧) النظرية النقدية
امتد تأثير بعض أفكار فلسفة الظاهريات وفلسفة الحياة وفلسفات الوجود إلى تيار آخر
ساد في أواخر الثلاثينيات من هذا القرن أطلق عليه اسم التيار النقدي، وانطلق من
«معهد البحوث الاجتماعية» بمدينة فرانكفورت، ومن هنا أُطلق على هذا التيار اسم
«مدرسة فرانكفورت»، واحتفظ بهذا الاسم حتى بعد أن هاجر أعضاؤه — في فترة الحكم
النازي — إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد عودتهم مرة أخرى إلى بلادهم عام
١٩٥١م. اتخذ أعضاء هذه المدرسة من التحليل النقدي منهجًا لهم فعُرفت باسم «النظرية
النقدية»، وقد تطورت هذه النظرية على مرحلتين أساسيتين، تمت المرحلة الأولى على يد
الجيل الأول من المؤسسين وهم هوركهيمر وأدورنو وماركوز وإريك فروم وغيرهم، وتطورت
المرحلة الثانية على يد الجيل الثاني الذي يعد هابرماس أحدَ أشهر أعلامها.
إن السمة الأساسية التي جمعت أعضاء «مدرسة فرانكفورت» بجيلها الأول والثاني هو
«نقد» العقلانية التقنية التي سادت الفكر الغربي في ظل الحضارة الصناعية والنظام
الرأسمالي. إنها تعبير عن رفض العقلانية العلمية، وعقل التنوير بكل ما نتج عنه، وقد
تبنى أعضاء المدرسة المنهج التحليلي النقدي للماركسية دون مقولاتها التقليدية.
«وبلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية وعلى تفكير الرأي
العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات عندما
تبنت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية وأدمجتها في أيديولوجيتها
اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط.»
٤٥ اكتفى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت بنقد سلبيات المجتمع الأوروبي في
ذلك الحين التي ذكرنا بعضها، ولكنها لم ترقَ إلى وضع نظرية نقد نسقية، ولم تقدم
بديلًا عما قامت بتوجيه النقد إليه. ولعل الدور الهام الذي لعبته هذه النظرية في
مرحلتها الأولى هو تأكيدها على الدور النقدي للفلسفة. وأخيرًا «تشتت أبناء الجيل
الأول للمدرسة مع بداية الثمانينيات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس،
وانفضت عنهم حركة الطلاب المتمردين، وأحكمت الدولة قبضتها، وراحت تطارد اليسار
الجديد وعلى رأسه رواد المدرسة وتلاميذهم، لكن المدرسة ظلت حية في الجيل التالي
الذي ما يزال ممثلوه ممسكين بالخيوط التي نسجها الرواد، عاكفين على مواصلة تراثها
النقدي الثوري وبلوة نظريتها النقدية.»
٤٦
ويعد يورجين هابرماس (١٩٢٩م–…) أهم ممثلي الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت. أفاد
كثيرًا من تطور العلوم الاجتماعية، وتعمق في مشكلات نظرية المعرفة وفلسفة اللغة،
وبعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة كالهرمنيوطيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية، وانعكست كل
هذه التيارات على تطويره للنظرية النقدية، أو بمعنى آخر إعادة بنائها وتزويدها
بدماء جديدة، وساهمت كل اتجاهات الفلسفة المعاصرة — بالإضافة إلى التراث النقدي
الذي ينحدر منه هابرماس نفسه: بدءًا من كانط، وانتهاءً بالجيل الأول من مؤسس
النظرية — في تكوين القاعدة النقدية لفلسفة هابرماس، بحيث مكنته من «تأسيس منطلقات
جديدة لنظرية نقدية خاصة به تتميز بمتانتها المعرفية والمنهجية، وتتسم بالامتداد
والتواصل مع متغيرات المستقبل.»
٤٧ وإذا كان الجيل الأول من مؤسسي النظرية النقدية قد هاجم عقل التنوير
وكل ما تمخضت عنه أفكار الحداثة، فإن هابرماس دافع عن العقل، ونظر إلى الحداثة على
أنها مشروع لم يكتمل بعد. وعندما نادى بعض المحدثين بأن تتخلى الفلسفة عن دور
المرشد أو القاضي الذي يعين للعلوم مكانها ومناهجها ووظيفتها، وحاولوا تبرير قولهم
بخلع الفلسفة عن عرشها بزعم أن الأفكار الأساسية (مثل الحقيقة والمطلق) ليست شروطًا
ضرورية للحياة البشرية، بل من الممكن أن تُسقطها البشرية من حسابها؛ أقول عندما
نادوا بذلك، تصدَّى هابرماس للدفاع عن دور الفلسفة وضرورة ارتباطها بالعقل، ولكنها
عنده ليست دليلًا للعلوم أو المعرفة، وإنما تشغل مكانها داخل العلوم، بمعنى أن
الفلسفة لا تضع حدودًا للعلوم ومناهجها، بل تكون هي نفسها منخرطة في هذه العلوم
ومفسرة لها.
أكد هابرماس — إذن — على دور الفلسفة «باعتبارها منخرطة
Stand-in في المجتمع، وأكد على علاقتها
بالأبحاث التجريبية العينية، فلم تَعُد وظيفة الفلسفة أنها الحاكم المطلق في العلم
والثقافة، بل دخلت في علاقة مع العلوم الإنسانية وتاريخ العلم، ومع فلسفة اللغة
واللغويات التجريبية.»
٤٨ ويمكن القول إن محاولة هابرماس الأساسية — منذ كتابه «المعرفة
والمصلحة»، وحتى «نظرية الفعل التواصلي» — هي وضع إطار عمل شامل للعقلانية والتعقل.
إن التفكير الفلسفي يبدأ بتأمل العقل المتمثل في المعرفة، والكلام والفعل، ويحتفظ
بدوره الرئيسي «كحارس للعقل»، وبذلك يقدم هابرماس نوعًا من «الخطاب المهجن» الذي
يدمج الأفكار الفلسفية في سياق البحث التجريبي معارضًا بذلك التصورات والمفاهيم
التقليدية للفلسفة.
وإذا كان الجيل الأول من مؤسسي «النظرية النقدية» قد اقتصر على نقد أفكار
وعقلانية الحداثة، واكتفوا بتوجيه سهام النقد إلى كل أوجه الحياة الفلسفية المحيطة
بهم، فإنهم لم ينجحوا في بلورة نظرية نقدية نسقية، ولم يقدموا في النهاية غير نظرة
تشاؤمية إلى الوجود والتاريخ عندما عجزوا عن إمكانية التغيير، فإن هابرماس يؤكد أن
الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، ولكنه يؤكد من ناحية أخرى أن «فلسفة الوعي وفلسفة
الذات قد استنفدت كل طاقاتها، ويتعين إدخال مسألة التفاهم والتواصل لتنشيط التفكير
الفلسفي في اللغة والزمن والذات والحداثة والعقل.»
٤٩ ولذلك أسس هابرماس نظرية فلسفية أطلق عليها اسم «نظرية الفعل التواصلي»
تتخذ من النقد مرتكزًا لها، وتستند إلى صياغة جديدة للعقلانية قائمة على التواصل
بين الذوات الفاعلة في المجتمع. ويقدم هابرماس مفهومًا للتفاعل يقوم على الممارسة
الاجتماعية التي تصاغ باللغة العادية. وتقوم على أخلاقيات الحوار بين أفراد
المجتمع، ويتم توظيف اللغة من أجل التفاهم للتوصل إلى نوع من الاتفاق بين
الذوات.
(٣-٨) البنيوية
بعد أن انحسرت الوجودية كفلسفة من الساحة الثقافية في الغرب الأوروبي، ظهرت
«موضة» البنيوية في الساحة الثقافية الفرنسية على وجه الخصوص، واكتسحت ميادين شديدة
التنوع، منها ما يختص بمجال اللغويات وأهم أعلامه جاكوبسون وشومسكي، ومنها ما ينتمي
إلى علم النفس ويمثله لا كان، ومنها ما يختص بالنقد الأدبي الذي يهتم بالبنية
الفنية للنص، مثلما فعل رولان بارت الذي انتقد سيطرة أيديولوجية المؤلف سواء في
الأدب أو الفلسفة باعتبار أن سلطة المؤلف تعبر عن تاريخ ومجتمع وتحيل إليهما، وبارت
يريد إلغاء هذه السلطة لفهم النص الأدبي بعيدًا عنها. أما في ميدان الفلسفة، فيعد
فوكو أحد أشهر أعلام البنيوية، على الرغم من تنكُّره أحيانًا من الانتماء إليها.
وكان ألتوسير بنيويًّا في تأويله للماركسية، ثم يأتي ليفي شتراوس مؤسس
الأنثروبولوجيا البنيوية. وكان للتطور المعاصر للعلوم والممارسة الاجتماعية فضلٌ
كبير في ظهور البنيوية، كما كان علم اللغة أحد مصادرها.
تعتبر البنيوية منهجًا علميًّا أكثر منها مذهبًا فلسفيًّا، وعداؤها للنزعة
التجريبية والنزعة التاريخية هي أهم ما يميزها. أثارت البنيوية ردود أفعال متباينة
— كما أشرنا في المقدمة — بين الحماس العاطفي لها والرفض الغاضب عليها. أنكرت الذات
واهتمت بالنسق «اللغوي»، كنسق منطقي لا يتوافق مع الواقع؛ فأصبح البحث البنيوي لا
يتجه نحو الموضوع، بل نحو نسق الدلالات؛ بمعنى آخر أصبحت الدلالة اللغوية من
المفاهيم الأساسية في النزعة البنيوية بمختلف أشكالها، وأصبحت اللغة هي الحقيقة
الموضوعية التي لا تظهر إلا باختفاء الذات.
كانت الأنثروبولوجيا البنيوية هي ميدان بحث ليفي شتراوس (١٩٠٨م–…)، وقد كان
«للبحوث اللغوية دورٌ عظيم الأهمية في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه بنيوية ليفي
شتراوس، وفي صبغ أبحاثه الأنثروبولوجية بطابعها المميز.»
٥٠ لم يكتفِ شتراوس — في أبحاثه — بالوقوف على ثقافة بعينها، بل سعى إلى
الوصول للمبادئ الأساسية التي يشترك فيها العقل البشري في كل زمان ومكان، وتكون
البنية العامة للفكر البشري. وقد كان دي سوسير (١٨٥٧–١٩١٣م) هو الذي أوحى لشتراوس
بذلك؛ ففي الوقت الذي كان فيه علماء اللغة يربطون بين تطور اللغة وتطور المجتمع،
فإن دي سوسير «لم يَعُد يهتم بالبحث التكويني التاريخي، وقلب العلاقة بين النسق
والتاريخ، وقد ميز عالم اللغة بين اللغة باعتبارها مجموعة من المواضعات المتفق
عليها، والتي تتيح استخدام اللغة وممارستها عند الأفراد وبين الكلام الذي يمثل تلك
الممارسة نفسها.»
٥١ أي أن هناك اتساقًا يحد العلاقة بين عناصر اللغة بدون أن يكون لها
علاقة بالعالم الخارجي الذي تعبر عنه أو تدل عليه.
يعد ميشيل فوكو (١٩١٥–١٩٨٠م) من أكثر البنيويون شهرة. وكان كتابه «الكلمات
والأشياء» من أكثر كتبه التي أثارت ضجة كبرى، ولكن بعض الباحثين رأى أن هذه الضجة
مؤقتة. «إذ إن الكتاب بعد مضي عشر سنوات على نشره، لم يُثبت قدرته على الصمود
للزمن»، وقد طبق فوكو منهجه الحفري (الأركيولوجي) على دراسته للعلوم الإنسانية؛ ففي
هذا الكتاب يعرض «صور العقل الأوروبي في القرن العشرين منذ عصر النهضة، وفيه يحاول
أن يهتديَ في كل عصر إلى عناصر الثبات وراء التحول الظاهري، وأن العناصر الثابتة هي
الأساسية والجوهرية، وأن العناصر المتحولة والمتغيرة سطحية عرضية.»
٥٢ واهتم فوكو — في المراحل الأخيرة من تطور تفكيره — اهتمامًا كبيرًا
بتحليل الأشكال المختلفة من الممارسات الخطابية لإبراز التمايزات والاختلافات التي
تنشأ في الأشكال الخطابية. وعلى الرغم من استمراره في تحليلاته الأركيولوجية، إلا
أنه ابتعد إلى حدٍّ كبير عن البنيوية، واقترب من أفكار فلاسفة التأويل، فبدأ البحث
عن الدلالة في الأشكال الخطابية المتنوعة.
وعلى الرغم من أن فوكو يصف نمط تفكيره بأنه فلسفة نقدية، إلا أن البنيوية نفسها
تعرضت للكثير من النقد بحجة أنها أنكرت الفاعلية الإنسانية، وتصورت إمكانية بناء
أنساق تجريدية ثابتة وساكنة بعيدًا عن حرية الإنسان وفاعليته، وعلى الرغم من محاولة
بعض البنيويين الدفاع عن أنفسهم من تهمة معاداة النزعة الإنسانية، وإن أنساقهم التي
توصف بأنها مجردة وتستبعد الذات والتاريخ هي ثمرة دراسات عميقة لفترات تاريخية هامة
في حياة الجنس البشري، وهي التي تمثلت في المجتمعات البدائية الأولى، كما أن
دراساتهم أيضًا هي التي أضفت على الأساطير نوعًا من المعقولية بعد أن ظلت حقبة
طويلة من الزمان خارج نطاق العقل والمعقول. على الرغم من كل هذا الدفاع، فإن التطور
التاريخي نفسه قد أثبت أن البنيوية لم تستطع الصمود طويلًا أمام عالم يموج
بالمتغيرات، وأن فاعلية الإنسان بإمكانها التدخل في مجريات الأمور لزعزعة كل
الأنساق الثابتة والمستقرة، ولذلك سرعان ما انحسرت البنيوية بأسرع مما توقع روادها
وعارضتها تيارات أخرى أطلقت على نفسها اسم «ما بعد البنيوية» أو «ما بعد الحداثة»
تركت أثرًا كبيرًا على الفكر الفرنسي المعاصر.
(٣-٩) ما بعد الحداثة
هكذا حدث نوع من الانتقال من البنيوية الحداثية إلى تيارات «ما بعد البنيوية» أو
«ما بعد الحداثة» التي استندت إلى نقدها للبنيوية، وأكدت على «التفاعل المتبادل بين
القارئ والنص، ولا ترى ما بعد البنيوية أن ثمة شيئًا قائمًا خلف اللغة مثلما كانت
تذهب البنيوية، وبذلك فهي إعلان بنهاية التفكير البنيوي في العلوم الإنسانية.»
٥٣ وربما لا نبعد عن الحقيقة إذ قلنا إن فلسفات «المابعدية» على اختلافها
وتنوعها — وهي التي أشرنا إليها في المقدمة — كانت تعبيرًا عن السخط والتمرد على
التقدم التكنولوجي في المجتمعات الصناعية والرأسمالية، وعلى العقلانية الأداتية
التي أتت بها الحداثة الأوروبية منذ عصر النهضة، وازدادت بشكلٍ مذهل في الفترة من
١٨٥٠م حتى ١٩٥٠م. إن ما بعد الحداثة تقدم نفسها تاريخيًّا ونقديًّا في علاقتها
بالحداثة، وكانت نتيجة انهيار ألوان مختلفة من اليقين التقليدي أو التاريخي بحيث
انتهت الحداثة، أو أصبحت في حكم المنتهية (على الرغم من إيمان البعض — كهابرماس —
بأن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد)، بمعنى آخر نستطيع أن نقول إن «ما بعد الحداثة» هي
الوعي بنهاية الحداثة. وكانت هذه هي النظرة الأساسية لمن يسمَّون فلاسفة ما بعد
الحداثة، والتي أدت بهم إلى الموقف النقدي من الحداثة، وتمثلت في تجربة جديدة تظهر
في شكل التحدي للتقاليد والسلطة، ومراجعة وفحص المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا
وتفكيكها لبيان نزعتها المنطقية المركزية، وفي تبنِّي كل ما هو جديد أو غير مألوف.
كما تتجلى أيضًا في الكشف عن المسلمات والقوى التي كانت فاعلة في الرؤيا الحداثية،
وإخضاع هذه القوى الأيديولوجية والتقنية للتحليل النقدي الدقيق،
٥٤ أو بالأحرى للتحطيم أو التفكيك.
تميزت تيارات «ما بعد الحداثة» بسمات خاصة أولها ارتباطها بعلوم اللغة وعلم
الدلالة والمعنى. كما حدث نوع من الامتزاج — في هذه النوعية من الدراسات — بين
الفلسفة والنقد الأدبي؛ فكان هذا الأخير هو الميدان الرئيسي الذي شهد التطبيقات
العملية لهذه التيارات. وأخيرًا تقوم هذه الدراسات على المناهج النقدية أو التفكيك
بمعناه الإيجابي والسلبي معًا. لقد قامت فلسفة التأويل (الهرمنيوطيقا) على نقد
وتفكيك النصوص الأدبية من أجل الفهم والوقوف على المعنى والدلالة والقيمة التي
ينطوي عليها النص، أي أنه تفكيك من أجل البناء. بينما تقوم التفكيكية على المعنى
السلبي للكلمة والهادف إلى نقد وتفكيك النص للوقوف على التناقض والاختلاف بداخله،
أي أنه نقد لا يتجاوز مرحلة الهدم. تمثلت أفكار ما بعد الحداثة — إذن — في عقلانية
التأويل والتفكيك وفلسفة الاختلاف.
(٣-١٠) فلسفة التأويل (الهرمنيوطيقا)
تمتد جذور التأويل كمنهج نقدي إلى العصور الوسطى عندما تمثلت في تفسير وتأويل
النصوص الدينية واستنكاه المعنى الكامن في النص من الداخل، ولكنها تميزت في الربع
الأخير من القرن العشرين بأن أصبحت اتجاهًا فلسفيًّا يهدف إلى نظرة جديدة إلى
العالم وإلى الوجود عن طريق تفسير النصوص وتأويلها، وانفتاح الذات على الآخر من
خلال عملية الفهم التي ترتكز في المقام الأول على اللغة والكلمة كرمز لهذه اللغة.
كما أعادت الهرمنيوطيقا للذات التاريخية مكانتها بعد أن أنكرتها البنيوية. وفلسفة
التأويل هي نتاج امتزاجات فلسفات عديدة كالفلسفة الوجودية والمنهج الظاهرياتي
والمنهج البنيوي. لقد أخذت من هيدجر فكرة أن وجود الإنسان أسبق من بحثه عن المعرفة،
أي أن الإنسان ككائن موجود أسبق منه ككائن عارف. وبذلك تحولت الفلسفة في
الهرمنيوطيقا إلى دراسة انخراط الإنسان في العالم، كيف يفهم العالم ويفهم نفسه من
خلال العالم، أي كيف يتحول من كائن معرفي إلى كائن يصنع وجودًا جديدًا، وبذلك تحولت
الفلسفة إلى فهم الإنسان لنفسه بشكل جديد بتأسيس عقلانية جديدة.
يتفق فلاسفة التأويل على أن التشكلات المختلفة للغة وممارستها وتحولات آفاق
المعنى فيها ليست خالية من الأغراض والمصالح والرغبات والبحث عن القوة والسلطة،
فليس هناك معنى للقول ببراءة اللغة؛ لأن تشكلات اللغة والمعنى دائمًا تنطوي على
مصالح وأهداف وصراعات ورغبات … إلخ، وبذلك يؤكد فلاسفة التأويل مسألة الفهم
التأويلي الأصيل في سبيل بحث مشترك عن موضوعية الموضوع، والكشف عن التحيزات
والأحكام المسبقة والكامنة في بناءات الهيمنة والسيطرة،
٥٥ أي رفع الأقنعة عن مفاهيم القوة والسيطرة الكامنة في اللغة
واستخداماتها، وكأن أزمة اللغة المعاصرة ليست شيئًا آخر سوى «التأرجح بين إزالة
الحجب التي يختفي المعنى وراءها، واستعادة المعنى الحقيقي.»
٥٦ ولما كانت الهرمنيوطيقا منفتحة على كل ألوان المذاهب الفلسفية
والاجتماعية والعلوم الإنسانية بصفة عامة، وكانت أيضًا ذات روابط وعلاقات وثيقة
بمختلف مناهج النقد الأدبي، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نتتبع تطبيقاتها على جلِّ
هذه المجالات المعرفية، لذلك سنعرض باختصار للمنهج الهرمنيوطيقي عند اثنين من أشهر
أعلامه وهما بول ريكور وجادامر.
يُعرف بول ريكور (١٩١٣م–…) بأنه فيلسوف المعنى الذي يهتم بالدرجة الأولى بتنظير
المنهج الهرمنيوطيقي من أجل الوقوف على المضامين الدلالية للنصوص. ويختلف بول ريكور
عن رواد الهرمنيوطيقا «بالقدر الذي يتجاوز فيه المجال المعرفي الضيق للنصوص
التراثية في علاقتها بتطور فقه اللغة الكلاسيكية والعلوم التاريخية، وبالقدر الذي
يطرح فيه قضية التفسير وفهم التاريخ كجزء من مجال أوسع هو مجال الفهم مرتكزًا في
ذلك على الجوانب النفسية والحياتية والتاريخية واللغوية التي تتجاذب النص في علاقته
الحية المتجددة بضمير المفسر.»
٥٧ وحديث ريكور عن العلاقة الحية بين النص والمفسر يجعله قريبًا من المنهج
الفينومينولوجي إلى حدٍّ كبير، كما يقربه أيضًا من هيدجر أكبر فلاسفة الوجود
المعاصرين عندما رأى أن اللغة هي تجلي الوجود في العالم، «ومن ثَم فإن تفسير النصوص
هو تفسير للوجود، ومهمة تفسير النصوص هي مهمة الوعي بالوجود، وهكذا ارتبط المبحث
اللغوي في النصوص بالمبحث الأنطولوجي في الفلسفة؛ فتفسير النصوص هو قراءة للغة
الوجود وسماع صوته كما تتجليان فيها.»
٥٨ ويحاول ريكور «تأسيس الفهم على اكتشاف المستويات الدلالية والرمزية
للغة التي تتيح للذات المدركة أو العارفة فهمَ نص من النصوص أو تفسير التاريخ
انطلاقًا من رؤية معينة للحياة»،
٥٩ لكن محاولة ريكور — تأسيس معرفة بالوجود — تختلف عن محاولة فهم حقيقة
الوجود العام المباشر الذي يقصده هيدجر؛ لأن الوجود الذي يعنيه فيلسوف التأويل هو
الوجود الدال والمرموز.
إذا كان للبنيوية تأثيرٌ على المنهج الهرمنيوطيقي، فهي — أي البنيوية — تُعدُّ
عند ريكور البداية التي ينطلق منها، وهي كمنهج علمي تتطلب الانفصال التام بين ذاتية
الباحث وموضوع بحثه، وبالتالي تختلف عن التفسير الرمزي الذي ينتهجه، ولأنه مدرك
للفرق الجوهري بين المنحى البنيوي الظاهري وبين المنحى الهرمنيوطيقي التأملي، أخذ
يبحث عن «العلاقة التي يمكن أن تربط بينهما كقطبَين متوازيَين من أقطاب المعرفة
والوجود: القطب الموضوعي للمدخل البنيوي من جهة، والقطب الوجودي أو الأنطولوجي
للمدخل الهرمنيوطيقي من جهة أخرى.»
٦٠ وعكف بول ريكور على تطبيق منهجه التأويلي على النصوص الأدبية بكل
أشكالها في محاولة لإثبات كيف أن الرمز والاستعارة والمجاز ليست فحسب أشكالًا أدبية
أو محسنات بديعية لإضفاء الجانب الجمالي على العمل الأدبي، بل إنها تتحول من خلال
التأويل إلى نوع من الوعي بالوجود، أو نوع من تحقيق الذات لذاتها وكينونتها الحرة
ووعيها بنفسها وإمكاناتها.
وننتقل إلى القطب الآخر من أعلام فلاسفة التأويل وهو هانز جورج جادامر (١٩٠٠م–…)
الذي أعطى للهرمنيوطيقا بُعدًا أشمل وأكثر عمقًا عندما اعتبرها استمرارًا للفلسفة
العملية بأساليب مختلفة. ويصرُّ جادامر على أن «الوعي هو دائمًا وجود أكثر من أن
يكون وعيًا، وأن وجودنا التاريخي سابقٌ على أي فصل تجريدي بين الذات والموضوع في
المعرفة، كما أنه هو أساس هذا الفصل. ومهمة الهرمنيوطيقا الفلسفية أن ترفع إلى
مستوى الوعي التأملي تلك القدرة الإنسانية الأساسية على التواصل المعقول مع
الموجودات التي تعيش معنا. وذلك لتحقيق الفهم المتبادل من خلال اللغة، وهي بهذه
المثابة — أي الهرمنيوطيقا — تظل سابقة على نوع معين من الفعل العملي، كما تظل كذلك
مرتبطة به.»
٦١
والموضوع الأساسي للتأويل الفلسفي عند جادامر هو الدور الرئيسي الذي تقوم به
الأخطاء والأحكام المسبقة في الفهم: «إن التحيزات
Prejudices غير العادلة ليست بالضرورة خاطئة
وغير مبررة، بحيث تشوه الحقيقة بشكل لا يمكن تجنبه. فالواقع أن تاريخية وجودنا
تستلزم أن يشكل التحيز، بالمعنى الحرفي للكلمة (أي الأحكام المسبقة) التوجه الأصلي
لقدرتنا الكلية على التجربة. التحيز إذا هو أساس انفتاحنا على العالم.»
٦٢ وهو أيضًا أساس فهمنا له، فالفهم «ليس أسلوبًا ذاتيًّا على الإطلاق
تجاه الأشياء المعطاة، وإنما يختص بالتاريخ المؤثر لما يُفهم، أي أنه بمعنى آخر
فهمٌ متعلق بوجود ذلك الذي يفهم.»
٦٣ وهكذا يكون الفهم عند جادامر أسلوبًا في الوجود التاريخي.
ويؤكد جادامر، مصداقًا لهيدجر أو استمرارًا له، أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة
موضوعية في التاريخ؛ لأنها — أي الحقيقة — أسلوب في الوجود التاريخي قبل أن تكون
معرفة يمكن أن تصبح موضوعية. ويمكن أن ننظر إلى «الدلالة الأنطولوجية للهرمنيوطيقا
من خلال التحدي الذي تقدمه للمنظور الفلسفي الذي يفرض الانقسام الواضح بين الذات والموضوع.»
٦٤ ويؤكد جادامر الطابع الأنطولوجي لوجودنا ولأسلوب فهمنا للعالم في واحد
من أهم إنجازاته وهو كتابه «الحقيقة والمنهج» محاولًا إثبات أن الهرمنيوطيقا — التي
هي فن الفهم — لها «دلالة وجودية عامة، فلم تَعُد تشير ببساطة إلى آلية تفسيرية
تستخدم داخل أنظمة خاصة مثل اللاهوت والتشريع، وإنما المسألة الأساسية هي كيف يكون
الفهم بصفة عامة ممكنًا.»
٦٥ ولذلك ينسب جادامر الأخطاء إلى إمكانية الفهم، وأن الوصول إلى المثل
الأعلى للتنوير، وهو المعرفة الكاملة — أي المعرفة المتحررة من كل وجهات النظر
الخاصة أو من كل التحيزات — هو أمر مستحيل، بل محض وهمٍ باعتبارها تصورًا حديًّا أو
نهائيًّا؛ لأننا في الأصل كائنات موجودة وفاعلة في التاريخ، والوعي نفسه هو أحد
أساليب وجودنا التاريخي؛ أي أن الوعي نفسه محدودٌ ومحدد بالتاريخ.
لقد أعطى جادامر للهرمنيوطيقا بُعدًا أعمق عندما جعل للفهم دورًا أساسيًّا في
فلسفته التأويلية، وعلى الرغم من أن مقولة الفهم قديمة في تاريخ الفلسفة، إلا أن
جادامر توسع في إمكانيات الفهم توسعًا لا حد له؛ فالهرمينوطيقا لديه هي مفتاح لفهم
البشرية وفهم الآخرين: «الفهم حدثٌ يتم بشكل متبادل بين كل من المفسر والنص، الذات
والموضوع. ولهذا فإن البحث عن معنى موضوعي، في ذاته، غير ملائم لاستيعاب الفهم
بوصفه ذاتًا شفافة تحتوي المضمون في ذاتها أو تتحكم تحكمًا نهائيًّا كاملًا في موضوعها.»
٦٦ وربما تتضح أهمية مفهوم أو نظرية الفهم عند جادامر في الأزمة التي
واجهها العالم في العصر الحديث والمتعلقة بالقدرة على فهم الماضي وفهم الثقافات
الأخرى، ويريد جادامر أن يقيم نوعًا من التواصل اللغوي بين البشر لفهم أنفسهم وفهم
الآخرين بحرية وتعاطف. وقد دافع جادامر عن الذاتية، وكيفية انصهار الذات في النص
والتحامها بأفقه، فوعيه التاريخي الفعال يتضمن من الوجود أكثر مما يتضمن من
الوعي.
هكذا حدث عن جادامر نوع من التحول من التأمل في الذات على الطريقة الديكارتية إلى
نظرة جديدة تمامًا: إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بتعامله مع العالم وبقصديته
المتجهة نحو الآخرين من خلال اللغة، ومن خلال سلوكه مع الأشياء والأحداث. وهذه نظرة
مختلفة تمامًا إلى الإنسان الذي لا يعرف نفسه — كما يرى جادامر — ولا يقوم بعملية
المعرفة عن طريق الفصل بين الذات والموضوع؛ لأن وجود الإنسان التاريخي أسبق من بحثه
عن المعرفة أو من معرفته لنفسه. لقد تحولت الفلسفة الآن إلى التأمل في الشروط التي
لا غنى عنها للقصدية (باعتبارها ماهية الوعي عند هوسرل)، ويكشف هذا التأمل أننا قبل
كل شيء كائنات فاعلة ومجسدة في العالم، وأن معرفتنا للعالم تقوم على تعاملنا معه،
وأنه ليس هناك مجال «لموضعة» سيطرتنا على العالم باعتبارنا كائنات فاعلة فيه.
٦٧ وقد أصبحت مهمة الفلسفة هي توضيح هذه الخلفية أو هذا الموقف، وبيان ما
ينطوي عليه ومراجعته باستمرار بحيث نصلُ إلى فهمٍ أفضل للإنسان ككائن فاعل وعارف
ومنفتح على العالم وعلى الآخرين انفتاحًا حرًّا.
هكذا تحول المثل القديم من معرفة الذات إلى صنع الذات بحدوث تحول في التراث
العقلي الذي كان يرتكز على النقد الذاتي، فلم تَعُد المعرفة من خلال معرفة الذات
فقط. بل من خلال التعامل مع الآخرين والأشياء من حولنا عبر اللغة. بذلك تحولت
الفلسفة إلى بحث في اللغة، ولهذا السبب نفسه ينتظر الكثير من فلاسفة التأويل لتأسيس
فلسفة حرية وانفتاح عن طريق لغة مشتركة يُكشف فيها عن جذور الهيمنة والكذب والخطأ
والسيطرة؛ لكي تستهدف الوصول إلى لغة إنسانية وعقلانية تجمع بين البشر على أساس
الثقة المتبادلة والحوار المفتوح، ومن ثَم يبحث فلاسفة التأويل في الأيديولوجيات في
محاولة لرفع الأقنعة عن بعض المفاهيم المستخدمة مثل السلطة، والمعنى والأيديولوجيا
… إلخ.
(٣-١١) التفكيكية
ننتقل الآن من القراءة الهرمنيوطيقية — التي تُفضي إلى «المعنى الحقيقي» أو إلى
دلالة النص الفلسفي أو حقيقة الموضوع الذي يطرحه النص — إلى نوع آخر من فلسفة قراءة
وتفسير النصوص وهي التفكيكية التي يحلو للبعض أن يصفها بأنها تعبر عن أفكار
لنهايات: نهاية التاريخ ونهاية الفلسفة. والتفكيكية هي آخر الفلسفات أو التيارات
التي ظهرت في الربع الأخير من القرن العشرين في محاولة لتفكيك ثوابت الفكر الفلسفي
الغربي من أنساق ومذاهب ومفاهيم منطقية وعقلية، أنها بمعنى آخر خطاب نقدي — في
نهايات القرن العشرين — لكل إبداعات الحضارة الغربية وثوابتها العقلية المستقرة.
وجاك دريدا (١٩٣١م–…) هو أحد أقطاب هذا الخطاب التفكيكي، وقد احتل مركز الدائرة في
المسرح الفلسفي الفرنسي عام ١٩٦٧م بنشر ثلاثة كتب كانت بداية مشروعه لتفكيك
الميتافيزيقا الغربية أو ما سماه مركزية
اللوجوس Logo centrism.
اكتفى هذا الخطاب التفكيكي بالنقد والهدم بغير أن يتجاوزه إلى مرحلة البناء، أو
إيجاد خطاب بديل، أي أنه لم يتجاوز الجانب السلبي من النقد، واستخدم كل الأدوات
النقدية بدون أن يحاول بناء صرح خاص به، أو نظرية جديدة بديلة. تبحث القراءة
التفكيكية عن التوتر بين الإيماءة والتعبير في النص، وقد قدم دريدا — لأول مرة —
لفظة جديدة للقاموس الفلسفي وهي الاختلاف
différance، أي أنه لا يبحث في النصوص عن التساوق والتكامل، بل
يُلقي الضوء على التعارضات والمفارقات التي تميز سلسلة الأضداد المشهورة التي تختص
بها «متقابلات الحضارة الغربية: كالعقل والأسطورة، والمنطق والبلاغة، والعقلاني
والحسي، والكلام والكتابة، والحرفي والتصوري أو المجازي، والطبيعة والثقافة، والحد
والدلالة. ويزعم دريدا أن هذه التصورات المتضادة ليست من طبيعة الأشياء، وإنما تعكس
استراتيجيات الاستبعاد والقمع التي لم تستطع المذاهب الفلسفية الغربية الإبقاء
عليها إلا على حساب ما يشوبها من تناقضات داخلية ومفارقات كامنة فيها.»
٦٨ ومهمة التفكيك هي إظهار هذه المتناقضات إلى النور.
ليست التفكيكية نوعًا من القراءة الجدلية، وليست قراءة تأويلية تقصد الدلالة
والمعنى، ولكنها قراءة تهدف إلى تفتيت النص من الداخل، وإظهار أوجه الاختلاف
والتناقض داخله، بحيث تتكاثر القراءات، ويحيلنا النص إلى نصوص أخرى كامنة فيه
Interteatuality (أو التناص كما يطلق عليه
المشتغلون عندنا بالنقد الأدبي). التفكيكية إذن قراءة تُلقي الضوء على التصورات
المتضادة، ومن ثَم تضع مفاهيم الوجود التي كانت مسئولة عنها موضع السؤال. لقد فسر
دريدا القراءات الإنسانية لكل من هيجل وهوسرل وهيدجر التي احتلت مكانة أساسية في
الحياة العقلية في فرنسا بعد الحرب، سواء كانت فكرة اﻟ «نحن في ظاهريات هيجل أو
التوجه إلى بداهة المعنى عند هوسرل، أو حتى محاولة هيدجر للوصول إلى حقيقة الوجود
العام عن طريق تحليلاته الوجودية للموجود الإنساني الملقى به هناك أو اﻟ
Dasein. كل هذا يدل على أن النزعة المنطقية
العقلية ما زالت مسيطرة على الفكر الغربي، ومعنى هذا أننا جميعًا لم نتخلَّ عن
البحث عن غاية أو هدف نهائي.»
٦٩ وهذا ما جعل هدف دريدا محاولة اكتشاف إمكانية وجود فلسفة خالية من
المركز، وخالية من أي ذات متعالية وبغير هدف أو غاية.
يتميز دريدا بنزعة شكية ترتاب في كل الأوليات التي سادت التراث الفلسفي الغربي
مثل: «تقديم الحضور على الغياب، والكلام على الكتابة، والتشابه على الاختلاف،
والأبدية على الزمن المتناهي»، وهو ببرنامجه في التفكيك يحاول أن «يتحدى هذه
الأوليات، وأن يحدد الإطار النقدي لكل النصوص الأساسية في هذا التراث الغربي،
فيتساءل عما أظهرته وعما سكتت عنه.»
٧٠ لم يهدف دريدا إذن بمنهجه التفكيكي لوضع نظرية بديلة، ولكنه اكتفى فقط
بفحص أدوات ومواد واستراتيجيات الآخرين دون أن يحاول أن يبني بناءً خاصًّا به، ولقد
كان هو نفسه على وعي بذلك، و«يعلم تمامًا أن التفكيك لا يمكن أن يصبح هو النموذج
السائد الذي يجب أن يحل محل جميع النماذج الأخرى، وإلا فإنه يكون قد استبدل بنموذج
عقلي مركزي نموذجًا عقليًّا مركزيًّا آخر.»
٧١ ولكنه أراد فقط وقف التصورات الميتافيزيقية المتوارثة في خطابنا
الفلسفي، وكأنما أراد أن يذكرنا بأننا «لم نفهم شوق نيتشه في زرادشت إلى ذلك
الإنسان الذي يرقص فرحًا خارج بيت الوجود»، فأراد أن يتحدى بمنهجه التفكيكي كل
الأفكار المسبقة أو القبلية التي سادت الخطاب الفلسفي الغربي، ولكنه منهج لم يتجاوز
— كما قلنا — مرحلة النقد والهدم إلى مرحلة التأسيس والبناء.
بعد هذا العرض لأهم تيارات الفلسفة الغربية في القرن العشرين، وبعد أن وضع
الفلاسفة أسس نقدهم للميتافيزيقا وتحليلاتهم للمعنى والأشكال اللغوية، وبعد أن كادت
الفلسفة أن تتحول إلى منطق وفلسفة للغة، فهل صدق الشعار الذي أعلنه البعض عن نهاية
الفلسفة؟ وإذا لم يكن هذا الزعم صحيحًا، فما هي إذن الوظيفة الباقية للفلسفة؟ إذا
كان من الصحيح أن الفلسفة لم تَعُد تدعي أنها تضع مذاهب شاملة، وعلى الرغم من أنها
سُلبت الكثير من وظائفها التقليدية، إلا أنه من الصحيح أيضًا القول إنه حدث نوع من
التحول للتفكير الفلسفي يشهد عليه تاريخ الفلسفة طوال القرن العشرين، بحيث يظل
السؤال عما يبقى لها مشروعًا، ولعله قد اتضح من العرض السابق أن الدور المهم الذي
يكفل فرصتها في البقاء هو وظيفتها النقدية، بمعنى أنها وسيلة أو أداة نقدية سواء
للعلم الوضعي أو للمجتمع البشري وتنظيم حياة الإنسان فيه. ولا عجب في هذا، فقد
رأينا أن هذا هو الدور الذي حدده لها الفكر الغربي الذي طُبع على النقد الذاتي
المستمر. ولا حاجة بنا لأن نُذكِّر القارئ بأن ما عرضناه من اتجاهات فلسفية ليس
كافيًا ولا شاملًا، بسبب ما فرضته ظروف هذا البحث.
(٤) الإسهام الفلسفي العربي بين الترديد والتجديد
والآن علينا أن ننتقل إلى الجانب العربي لنتعرف على إسهام الفلسفة العربية في
التيارات الفكرية التي اجتاحت الساحة الغربية في القرن العشرين، وحقيقة الأمر أن طرح
هذه القضية بهذه الصيغة يغلب عليه طابع المبالغة والتفاؤل معًا، فلا نستطيع بطبيعة
الحال أن نقول إن هناك فلسفة عربية خالصة بالمعنى الدقيق لكلمة فلسفة، أو إن هناك مذاهب
ومدارس فلسفية عربية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر الغربي، ولكن هناك بالتأكيد
محاولات للتفلسف متأثرة بالتيارات المتنوعة للفلسفة الغربية. وإذا توخينا الدقة قلنا
إنه نوع من التلقي أو الاستقبال بأشكال مختلفة لتلك التيارات تمثلت في حركة نشطة لترجمة
وتقديم وتعريف وعرض المذاهب الفلسفية الغربية على تنوعها، كما أن هناك أيضًا محاولات
لمفكرين عرب لتأصيل بعض الاتجاهات الفلسفية داخل الواقع الثقافي العربي. وسوف نعرض الآن
نماذج منها بقدر ما تسمح به المساحة المتاحة لهذا البحث.
بالعودة إلى فلسفات بداية القرن نجد صدى أفكار كلٍّ من برجسون وفلسفة الحياة على
الساحة الأدبية العربية على وجه الخصوص. وعلى الرغم من ترجمة أغلب أعمال برجسون إلى
العربية، إلا أننا لم نجد لها انعكاسًا من الناحية الفلسفية الدقيقة خارج أسوار
المؤسسات الأكاديمية (وذلك باستثناء جوانية عثمان أمين التي بقيت شذرات متفرقة لم تكتمل
في بناء متكامل)، بل انحصر تأثيرها على الأدب والأدباء، وخاصة في نظرتها الحيوية إلى
الإنسان، واستعادة الاهتمام بالشعور الحي المتدفق والحرية والطاقة الروحية، وربما يكون
هذا هو السبب في انجذاب المفكرين العرب إلى فلسفة برجسون بسبب ما وجدوا فيها من نزعة
رومانسية تناسب العقلية العربية إلى حدٍّ كبير، وإن كانت هذه النزعة قد انحسرت عنها
الأضواء كما انحسرت عنها في موطنها الأصلي تمامًا.
•••
غلب على الفكر العربي التيار الوجودي، وخاصةً فلسفة سارتر التي حظيت خلال الخمسينيات
والستينيات بالقسط الأكبر من الاهتمام لا سيما بعد ترجمة جل أعمال سارتر إلى العربية،
وليس هذا بالأمر الغريب، فقد رأينا كيف انتشر هذا التيار في البلدان الغربية انتشار
النار في الهشيم. وعلى الرغم من أن تأثير الوجودية كان أعظم على الشعراء والقصاصين
العرب، فقد حاول بعض المشتغلين بالفلسفة تأصيل التيار الوجودي في الفكر العربي بالعودة
إلى التراث، ومحاولة تطبيق الوجودية، وبخاصة مفهوم القلق، على الفكر العربي كما فعل عبد
الرحمن بدوي في كتابَيه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، و«شخصيات قلقة في
الإسلام»، وحتى لقد رأى البعض أنه «مفكر وجودي أضاف إلى الفكر الوجودي إضافاتٍ إبداعيةً
ترتفع به فوق حدود النقل والتقليد والاتباع.»
٧٢ وعبد الرحمن بدوي هو المفكر الوحيد في الفكر العربي المعاصر الذي وصف نفسه
بأنه فيلسوف وعرَّف اتجاهه الفكري بأنه «الفلسفة الوجودية في الاتجاه الذي بدأه هيدجر.»
وقد أسهم في تكوين الوجودية بكتابه «الزمان الوجودي»، وتمتاز وجوديته — على حد قوله —
من وجودية هيدجر وغيره من الوجوديين بالنزعة الديناميكية التي تجعل للفعل الأولوية على
الفكر، وتستند في استخلاصها لمعاني الوجود إلى العقل والعاطفة والإرادة معًا، وإلى
التجربة الحية، وهذه بدورها تعتمد على ملكة الوجدان بوصفها أقدر ملكات الإدراك على فهم
الوجود الحي.
٧٣ وعلى الرغم من أن عبد الرحمن بدوي زعم أنه وضع الخطوط العامة لمذهب جديد في
الوجود، ووعد بأنه سيجعل مهمته في الحياة تفصيل أجزائه،
٧٤ إلا أنه لم يكمل محاولته فقط، بل وانصرف عنها أيضًا انصرافًا تامًّا. ويعزو
بعض المفكرين توقف المشروع الوجودي عند بدوي إلى تغير الأوضاع السياسية والاجتماعية
والموضوعية من حوله، بالإضافة إلى تراجع المشروع الوجودي في الفكر الفلسفي المعاصر في
العالم بصفة عامة، وإن لم يمنع ذلك بدوي من التمسك بالوجودية كفلسفة له.
٧٥
•••
إذا انتقلنا إلى الوضعية المنطقية وجدنا أنها أكثر التيارات التي حاول المهتمون بها
ترسيخ أسسها العلمية في المجتمع العربي الذي كان — وما يزال — يعاني من التردي في
الخرافات والغيبيات من ناحية، والابتعاد عن الروح العلمية في طرح قضاياه من ناحية أخرى.
وكان زكي نجيب محمود هو الذي أخذ على عاتقه هذه المهمة، ويمكن اعتباره «أحد المفكرين
العرب القلائل الذين صاغوا موقفًا فلسفيًّا واضحًا، داعيًا إلى الأخذ بالتفكير العلمي،
مطالبًا بسيادة منطق العقل. أما طريق ذلك فكان الوضعية المنطقية التي نذر نفسه لشرحها
وتفصيلها وتبسيطها.»
٧٦ وكما كانت الوضعية المنطقية هي الطفل المرعب في تاريخ الفلسفة المعاصرة في
أوروبا، كانت كذلك عند محاولة ترسيخها في الفكر العربي. وتعرَّض زكي نجيب محمود للنقد
والهجوم من كل حدبٍ وصوب، في مرحلة من أهم مراحل الفكر العربي للتخلص من اللاعقلانية
التي سادته، ومواصلة طرح مشروع التنوير طرحًا علميًّا جديدًا، لقد حاول زكي نجيب محمود
الخروج بمشروعه التنويري من داخل أسوار الجامعة إلى عامة الناس بدعوته التي «تكاد ترقى
عنده إلى مرتبة الرسالة المقدسة، إلى قيمتَي الدقة والنقد. فكتابته كلها كفاح في معركة
واحدة طويلة متصلة، هي معركة الدعوة إلى الانضباط في الأفكار، والتدقيق في الأقوال،
وإخضاع الأحكام الشائعة للفحص والاختبار.»
٧٧
كانت مهمة زكي نجيب محمود في حقيقتها مهمة تحررية، أي تحرير الحياة الثقافية العربية
من بعض جوانبها اللاعقلانية، وتحرير العقل من مسلمات موروثة وبديهيات غير قابلة للنقاش،
ومحاولة وضعه — أي العقل — على أولى درجات المنهج العلمي. ولتحقيق هذا الهدف لم يكن
أمامه من سبيل — في معركته للتنوير — غير التحليل اللغوي المنطقي، واستخدام السلاح
النقدي للوضعية المنطقية لمراجعة كل المسلَّمات والبديهيات الموروثة وغير المدروسة في
آنٍ واحد. ويمكن القول أيضًا بأن زكي نجيب محمود بقدر ما كان وضعيًّا منطقيًّا، كان
أيضًا براجماتيًّا من حيث إيمانه بأن الفكرة هي خطة عمل، ودعوته إلى إصلاح الفكر بأن
يكون «عالم الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، أنه لم يكن مصادفة أن أصبح
«التخطيط» علامة من أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأن التخطيط تحليله هو أن «الفكر»
خطة لعمل نؤديه أو هو لا يكون فكرًا.
٧٨ وربما انتهى البعض لذلك السبب إلى أن خلاصة تعريفات العقل والعقلانية عند
زكي نجيب محمود «أنها عملية إجرائية خالصة بصرف النظر عن مبادئها وغاياتها … فالعقل إذن
مجرد سلوك عملي يبدأ من مقدمات مبدئية مفروضة أو قيم أخلاقية مطلقة، وينتهي إلى أهداف
مبتغاة … ولهذا فهو إلى جانب طابعه الإجرائي الخالص له طابعٌ نفعي كذلك، وهو وسيلة أو
أداة عملية لتحقيق غاية. وسلامته وصحته في مدى دقته في الوصول إلى هذه الغاية، إنها إذن
دقة براجماتية نفعية.»
٧٩
•••
وننتقل إلى تأثير تيار آخر على الفكر العربي ألا وهو البنيوية، وكان ميشيل فوكو هو
أكثر أقطابها حظًّا من الانتشار في الفكر العربي الحديث. وربما يكون هذا الانتشار هو
سبب أو نتيجة «الترجمات المختلفة لنصوصه وعدد الدراسات المختلفة التي تناولت الفيلسوف،
والتي تعادل اهتمام العرب بفلاسفة غربيين أمثال ديكارت وسارتر وماركس، أي أولئك
الفلاسفة الذين يشكلون توجهًا فكريًّا أو تيارًا فكريًّا وحدثًا ثقافيًّا.»
٨٠ وقد قام بعض المفكرين العرب بتوظيف الفكر البنيوي وتطبيقه على بعض نصوص
الأدب العربي القديم والحديث. وربما تكون أوضح محاولات هذا التوظيف هي انعكاسات تطبيق
المنهج البنيوي على النقد الأدبي بين المتحمسين والمعارضين له، فقد تحمس له بعض
المشتغلين بالنقد الأدبي (مثل جابر عصفور، وحكمت الخطيب، وكمال أبو ديب)، وعارضه بنفس
القدر من الحماس البعض الآخر من النقَّاد (مثل شكري عياد وعبد العزيز حمودة)، وذلك
لرفضهم لفكرة نقل مدارس نقدية تنتمي إلى مناخ ثقافي وفكر فلسفي محددَين إلى مناخ ثقافي
وفكر فلسفي مغايرَين تمامًا. ويرى هذا الأخير أن الحداثيين العرب عندما ينقلون المصطلح
النقدي الجديد، ويعزلونه عن خلفيته الفكرية والفلسفية، فإنه «يفرغ من دلالته، ويفقد
القدرة على أن يحدد معنى. فإذا نقلناه بعوالقه الفلسفية أدى إلى الفوضى والاضطراب؛ إذ
إن القيم المعرفية القادمة مع المصطلح تختلف، بل تتعارض أحيانًا مع القيم المعرفية التي
طورها الفكر العربي المختلف.»
٨١ وإذا صح قول هذا الناقد، فإن النتيجة المترتبة عليه هي أن ما ينطبق على
النقد الأدبي يمكن أن ينسحب بطبيعة الحال على سائر المجالات المعرفية الأخرى، أي محاولة
نقل فلسفات ومناهج بحث غربية وإدماجها في بنية الثقافة العربية التي تتسم بطبيعتها
بسياق اجتماعي وتاريخي ومعرفي مغاير؛ مما يثير الكثير من الجدل والتساؤلات حول مدى صدق
ومشروعية هذه المحاولات. وهذه حجج مردود عليها، ولكننا سنرجئ الرد قليلًا.
وكما حاول نقاد الأدب العربي تطبيق المنهج البنيوي على النصوص الأدبية العربية، حاول
أيضًا بعض المفكرين العرب توظيف هذا المنهج في بحث التراث الفلسفي العربي، كتلك
المحاولات التي قام بها العديد من مفكري المغرب العربي (أمثال محمد عابد الجابري، ومحمد
أركون، والتريكي، وصفدي، وغيرهم)، ولا نستطيع بطبيعة الحال تتبُّع المشروعات الفكرية
التي طرحها أصحابها، ولكن سنكتفي بالحديث المقتضب عن مثال واحد فقط، وليكن هو المشروع
الذي طرحه محمد عابد الجابري لنقد العقل العربي، وقد قدم الجابري مشروعًا في نقد العقل
العربي، وتحليل المكونات الثقافية العربية التي ساهمت بدورها في تكوين العقل العربي
ذاته، واستهل هذه الدراسة بكتابه «تكوين العقل العربي»، الذي بدأ به مشروعه النقدي على
أساس من التحليل الإبستمولوجي: «إن وجهتنا هي تحليل الأساس الإبستمولوجي للثقافة
العربية التي أنتجت العقل.»
٨٢ واستأنف هذا النقد في كتابه «بنية العقل العربي» الذي قدم فيه دراسة
تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية على أساس من التحليل البنيوي. وينقسم
المشروع إلى «جزأين منفصلين، ولكن متماثلين: جزء يتناول تكوين العقل العربي، وجزء
يتناول تحليل بنية العقل العربي؛ الأول يهيمن فيه التحليل التكويني، والثاني يسود فيه
التحليل البنيوي.»
٨٣ وقد حدد الجابري الهدف من مشروعه النقدي للعقل العربي في «تبيان مكونات
الثقافة العربية الإسلامية وفحصها ونقدها وصولًا إلى إعادة بناء الذات العربية على أسس
جديدة قوامها التخلص من رواسب النماذج السلبية الماضية.»
٨٤
ومما لا شك فيه أن هذا المشروع هو جزء متميز من مشروع أكبر بدأه روَّاد النهضة
العربية في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن العشرين، لخوض معركة التنوير التي شغلت
أذهان كبار مفكري ومثقفي العالم العربي، ولكن مشروع النهضة أصيب بنكسة نتيجة زحف التيار
السلفي الإسلامي، ولأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية عديدة. وربما لهذا السبب أخذ
الجابري على عاتقه مهمة تحرير العقل العربي من سلطة التفكير السلفي الرجعي المتزمت، ومن
كل السلطات الموروثة التي قيدت انطلاقه إلى الحرية والتقدم. وقد تراوح تقييم مشروع
الجابري ما بين الإعجاب به من ناحية، والمعارضة له من ناحية أخرى، فاعتبره البعض «من
أبرز وأعمق المفكرين العرب الذين يتبنون النقد الإبستمولوجي للفكر العربي.»
٨٥ وبينما استقبلت بعض الأوساط العربية مشروع الجابري على أنه «فتح جديد»،
وأنه استطاع أن يرسم خريطة تضبط منطق التراث العربي الإسلامي ورؤيته، «رأت أوساط ثقافية
عربية أخرى في ذلك الفتح والإنجازات التي ترتبت عليه تراجعًا إلى وراء، ووجهًا مكرورًا
من أوجه إشكالية قديمة مأزومة، أو دعوة إلى صياغة أنساق مغلقة قد تُفصح عن لا تاريخية
فاضحة، في حين أعلن البعض أن الجابري لم يقدم أكثر من «تصنيف أكاديمي» لما قاله سابقوه،
مع إفادته من المناهج الغربية»،
٨٦ التي حاول زرعها في الواقع العربي وتكييفها مع بعض مفاهيم تراثه.
•••
أما عن تلقي الفكر العربي لفلسفات ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة كما بدت في
توظيف المنهج التأويلي (أو الهرمنيوطيقي) والمنهج التفكيكي، فقد كشفت عن عجز العقل
العربي — في ظروفه الراهنة — عن استيعاب هذه التيارات كما تمثلت في المنهج التأويلي،
ومحاولة تطبيقه على بعض النصوص التراثية. وربما يعود السبب في هذا إلى أن الروح النقدية
لم تتأصل بعدُ في الفكر العربي، هذا بالإضافة إلى أن السمة الأساسية التي تميز العقلية
العربية — وهي أنها عقلية نصية — مرتبطة أشد الارتباط بالنص الديني، ولا تستطيع الفكاك
منه، ويكفي الإشارة هنا إلى محاولات نصر حامد أبو زيد، وكيف تلقت السلفية العربية
المتزمتة هذه المحاولات، وكيف تعاملت معها، عندما سعى إلى «إعادة قراءة الفكر الديني
برؤية جديدة مختلفة عن أغلب القراءات السابقة بما يعيد بناءه بناءً جديدًا … قراءة تقوم
على التحليل العلمي النقدي التاريخي للنصوص.»
٨٧ كان هذا الجهد الجاد — من بين جهود أخرى كثيرة — محاولة للخروج من أزمة
العقل العربي التي تواجه معركة التنوير العربي، لا سيما عندما تستند هذه المحاولة في
تحليلها للنصوص لاستخراج دلالتها إلى «عدة أسس منهجية ومفهومية لعل من أبرزها تسلُّحه
بالمناهج العلمية الحديثة في إنتاج دلالة هذه النصوص مثل الألسنية والهرمنيوطيقا وعلم
الاجتماع. والحرص على إنتاج الدلالة من داخل النصوص نفسها، دون أن يفرض عليها أي رؤية
أيديولوجية من خارجها»،
٨٨ ولكن تم إجهاض هذه المحاولة في مهدها من قِبل التيارات السلفية الرجعية
الرافضة للنقد والحوار والتغيير، والتي غلبت — للأسف الشديد — على الساحة الثقافية
العربية.
وربما أيضًا بسبب ارتباط العقلية العربية بالنصوص التراثية، تجد محاولات تطبيق المنهج
التفكيكي من قِبل بعض المفكرين والمثقفين العرب إعراضًا، بل واعتراضًا شديدًا خاصةً إذا
ما تعرضت لتفكيك النصوص الوثيقة الصلة بالتراث الديني الإسلامي، كما في محاولة محمد
أركون قراءة الفكر الإسلامي قراءة علمية، وتقديم مشروع لنقد العقل الإسلامي، «وتبنِّي
نمط التحليل البنيوي كمرحلة لازمة اعتمد مقاييس التاريخ الحفري في رسم حركية المفاهيم
ونظام المعارف، وكانت منهجيته القائمة على الأنثربولوجيا والتحليل اللساني، السيميائي
تتلخص في إخضاع القرآن الكريم لمحك النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي،
وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وانهدامه.»
٨٩
•••
يمكننا أن نسأل الآن: ما مدى إسهام تلقِّي واستقبال هذه التيارات في إثراء الفكر
الفلسفي العربي؟ إن ما يُثبته الواقع الفعلي حتى الآن أن كل هذه الجهود المشكورة لم
تؤتِ ثمارها المرجوة، ولم تساهم في ازدياد وعينا بالحاضر كما يتجلى هذا بوضوح في
محاولات قراءة بعض نصوص التراث قراءةً جديدة من منظور عصري ومغايرة للقراءات السائدة
والمألوفة، ومسلحة بمناهج تحليلية ونقدية لاستلهام الجوانب المضيئة من التراث وتجديدها
أو تطويرها وفق متطلبات العصر. وبقدر ما كانت هذه الجهود محاولة للخروج بالعقل العربي
من أزمته، بقدر ما كانت صدمة له في نفس الوقت. وبدلًا من أن تستخدم العقلية العربية هذه
القراءات الجديدة كأحد الأسلحة الهامة في معركة التنوير العربي، استخدمتها العقلية
السلفية المتزمتة في إحداث نوع من النكوص الفكري والارتداد إلى قرون طويلة مضت. وبدلًا
من البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الإخفاق، نجد الأصوات تتعالى بعدم
مشروعية نقل مناهج وفلسفات غربية ومحاولة زرعها في واقع ثقافي مغاير بحجج كثيرة. فهناك
مَن وجد أن هذه الاجتهادات مجرد محاولات ﻟ «زرع بذور أفكار جديدة في تربة جديدة دون
البحث في الشروط الملائمة لنمو هذا الزرع الجديد، فقد تجاهلوا ظروف المجتمع العربي
التاريخية والثقافية، حيث يهيمن التفكير الديني والغيبي، فكانوا بذلك أوفياء لأفكارهم
ومذاهبهم الجديدة أكثر مما هم أوفياء لمجتمعهم وثقافته وحاجاته ومتطلباته.»
٩٠
والغريب أن يظهر على الساحة الثقافية العربية أيضًا ليس فقط مَن يطعن في مشروعية
التلقي من تيارات غربية، بل أيضًا مَن يشكك في فهم العقلية العربية لهذه التيارات، وذلك
مثلًا عندما يُطرح هذا السؤال: هل استطاع الواقع الثقافي العربي أن يعيَ التجربة
الغربية بكل غناها وأحداثها المنظورة وغير المنظورة، وهل يملك الأدوات المعرفية التي
تؤهله لاكتشاف هذه التجربة،
٩١ ثم تطرح إجابة على هذه التساؤلات تنطوي على صيغ إنكارية. إن هذه الانتقادات
والاعتراضات قد تكون مصيبة في بعض جوانبها، ولكنها أيضًا مخطئة في جوانبها الأخرى.
فالتراث الفكري الإنساني ليس له وطنٌ محدد أو هو بالأحرى وطنٌ لكل إنسان يفكر، كما أن
الإبداع البشري بكل تجلياته الفكرية والعلمية والمنهجية الفكرية هو ملكٌ للجميع، وماذا
يمنع المشتغلين بالثقافة العربية من التسلح بأدوات ومناهج العصر ما داموا يطوعونها
لمتطلبات مجتمعاتهم؟ وما هو المبرر أن تنفصل الثقافة العربية عن ثقافة العصر بحجة أنها
ثقافة وافدة أو مناهج عربية؟ إن هذه الأدوات والمناهج تُلقي المزيد من الضوء على تراثنا
لاكتشاف الجوانب الحية منه، والتي تستحق أن تتطور لتواكب الحاضر المتغير، ولكي تتخلص
أيضًا من الجوانب الميتة التي تعوق تطورنا، فالبديل هو الاعتكاف على ذواتنا وتراثنا دون
الالتفات إلى أهمية الوعي بمعرفة عصرنا وثقافته المتطورة. ثم لماذا ننقل آخر مناهج
ومدارس ومنجزات العلم والتكنولوجيا ولا ننقل الأفكار والمناهج الفكرية؟
حقيقة الأمر أن السؤال عن صحة ومشروعية التلقي أو عن نجاحها أو إخفاقها يجب أن يسبقه
البحث عن الأسباب الحقيقية التي عوقت التفكير الفلسفي العربي، وعرقلت أيضًا كل
المشروعات الطموحة لتجديد الفكر العربي المعاصر. كما يجب أن يسبقه أيضًا السؤال الأكثر
أهمية وهو: لماذا اقتصرت الساحة الفلسفية العربية على تلقي تيارات ومناهج غربية ولم
تُبدع بذاتها فلسفاتها الخاصة النابعة من عمق مشكلاتها، فاقتصرت على التأثر دون
التأثير، وارتضت أن تكون مفعولًا وليست فاعلًا؟ وإلى متى سنظل منفعلين ولسنا فاعلين؟
الإجابة على هذه التساؤلات تحتاج إلى دراسة عميقة لملابسات الظروف العربية التي تحول
دون قيام فلسفة عربية خاصة بها، وليس هذا البحث مجالها على أية حال، ولكن لعل أهم
الأسباب جميعًا هو أن الفلسفة لا تزدهر إلا في مجتمع بلغ درجة معينة من التقدم الثقافي،
وتوفرت له بيئة ملائمة ترعى الفكر الفلسفي، وتوفر مناخ الحرية الذي يسمح بالتفلسف. فأين
نحن من كل هذا، وما زلنا نحيا في ظل تيار سلفي متزمت يضع ثوابت فكرية يحذر الاقتراب
منها، ونعيش في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لا تعوق التفكير الفلسفي وحده، بل
والبحث العلمي أيضًا، ويكفي أن نقول صراحةً إن السلطة السياسية في معظم بلدان العالم
العربي لا تسمح بممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية، ولا تعرف منها غير قشورها وإطارها
الخارجي دون مضمونها الحي.
إن المشكلة الحقيقية التي تواجه المثقف أو المفكر العربي — ولا أقول الفيلسوف فما
زلنا بعيدين عن أن يكون لدينا فلاسفة بالمعنى الحقيقي — هي كيف يصبح المجتمع المدني
مجتمعًا ديمقراطيًّا قائمًا على الحرية. ويبقى التحدي الحقيقي للفكر العربي في لحظتنا
الراهنة هو أن يمارس النقد بمناهجه ومدارسه المختلفة، وأن يفكك أغلال التقاليد التي
تكبله، وأن يتحرر من الأفكار الموروثة التي لا تؤمن بحق الاختلاف والمغايرة، بل تخشى
المخاطرة بتغيير القيم الثقافية البالية والجامدة، وتتهم المشتغلين بالفلسفة بالتجريد
والمروق والتجديف. لكل هذه الأسباب لم تُسهم المحاولات التي تحدَّثنا عنها إسهامًا
حقيقيًّا وملموسًا في إثراء فكر فلسفي عربي، ولم تُؤسس الروح الفلسفية الأصلية أو جوهر
الروح الفلسفي وهو النقد الذاتي على مستوى الفرد والمجتمع، هذا النقد الذي قام عليه
الفكر الغربي وشكَّل أساس وعيه وتطوره. ولذلك فإنه بصرف النظر عن التأييد أو الاعتراض
على مشروعية التلقي من حضارة غربية، فالشيء الجدير بالتقدير والذي يجب وضعه موضع
الاعتبار هو الجهد المشكور الذي بذله مَن أخذوا على عاتقهم تأصيل وتوظيف تلك التيارات
الغربية في واقع الثقافة العربية من أجل تنمية الوعي العربي وتحرير العقل والفكر من
ركام اللامعقول الذي يثقل كاهل الثقافة العربية.
يكفي المحاولات التي تحدثنا عنها أنها تُعدُّ بمثابة المراحل التمهيدية للنهضة
الحقيقية (أعني بذلك الترجمات الواسعة والشرح والتعليق والتحقيق … إلخ)، وهي مراحل
ضرورية وسابقة لمرحلة الإبداع الفكري الحقيقي. فالتاريخ يشهد بأن كل الأمم والشعوب التي
سبقتنا على طريق النهضة مرت بهذه المراحل الأساسية. وإذا كنا نأمل في ظهور تيارات
فلسفية عربية تنبع من واقع مجتمعاتنا ومشكلاتنا التي لا يتعرض لها الغرب، أو التي
تجاوزها خلال مسيرته منذ عصر النهضة حتى الآن، فإن هذا لا يمنعنا من الاهتداء بمناهج
وأدوات البحث المعروفة لدى الآخرين دون خشية على ثقافتنا أو هويتنا من تلقِّي تيارات
غربية أو غيرها. فنحن أيضًا لسنا قادمين من فراغ، ولكننا منحدرون من تراث ثقافي طويل،
كما أن الهوية العربية بتاريخها الحضاري ليست بهذه الهشاشة، حتى نخشى عليها من رياح
التغيير، فمن حقنا أن ننهل من الإبداع البشري أيًّا كان موطنه، ومن حقنا أن نتعرف على
كل التيارات الفكرية، ثم من حقنا أيضًا بعد ذلك أن نقبلها أو نرفضها وفقًا لمعيارين؛
الأول: براجماتي بمعنى أن نأخذ منها ما يثبت مع الزمن نفعه لنا ونجاحه في زيادة وعينا
بأنفسنا وحاضرنا وتراثنا، والآخر معرفة أصوات العصر لنكون معاصرين، حتى لا ينظر إلينا
على أننا بقايا متخلفة من عصور ماضية، نجترُّ الماضي ونعيش فيه مكتفين بهذا الاجترار.
وإذا كنا نتطلع إلى أن تنبع الفلسفة أو الفلسفات التي نأمل في تبلورها في مجتمعنا
الثقافي من أزماتنا العربية، فإننا نأمل أيضًا في استعادة الروح النقدية الحرة في الفكر
العربي دون أن يمنعنا هذا بطبيعة الحال من تلقِّي فلسفات غربية وتوظيف مناهجها النقدية
على مشاكل مجتمعاتنا، على أن نكون مشاركين في ثقافة العصر لا تابعين لها. فبدون النقد
المرتبط بواقعنا، وبدون الحرية والديمقراطية التي لا غنى عنها لازدهار الروح النقدية،
سنظل تابعين متأثرين مجترين لما ينتجه الغرب، وسنقتصر على التفاخر بما نعلم فحسب، ولن
نكون أنفسنا أبدًا، لا مبتكرين ولا مبدعين.