تطور العقل النقدي
من كانط إلى هابرماس
نشأ التفكير الفلسفي من دهشة الإنسان وحيرته أمام الكون وظواهره المتغيرة من حوله.
وقام
هذا التفكير منذ بداياته على افتراض أصل ثابت وراء هذه الظواهر الكونية المتغيرة. واختلف
هذا الأصل الثابت من فيلسوف إلى آخر، ومن عصر إلى عصر. هكذا كان الحال منذ أفلاطون الذي
تبلورت فلسفته في نظرية المُثل القائمة على وجود عالم ثابت هو عالم المعقولات الذي يتصف
بالثبات والضرورة والكلية، وانعكس هذا التصور — أي تصور الأصل الثابت وراء الظواهر المحسوسة
المتغيرة — على الإنسان نفسه، مما أدى إلى القول بأن في الطبيعة البشرية أيضًا جانبًا
ثابتًا أبديًّا لا يتغير وهو العقل، فكان تصور عقل إنساني عام وكلي ليس للبيئة الاجتماعية
أو السياسية أو الاقتصادية أيُّ أثر عليه؛ فالعقل هو الطبيعة الثابتة الوحيدة وسط الظواهر
التي تموج بالمتغيرات.
هكذا نجد أنفسنا منذ بداية تاريخ الفلسفة أمام فكر يفترض جوهرًا ثابتًا للأشياء،
بحيث إن
كل «ما يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي أعراض لذلك الجوهر … أي إن الخلفية الثقافية
والفكرية كانت دائمًا وعلى امتداد التاريخ تفترض للأشياء طبائعَ ثابتة، تغمرها موجات
الظواهر المتغيرة، ثم تنحسر لتجيء سواها، فإذا استطعنا أن نعرف هذه الحقائق الثابتة بما
يحددها ويعين قوانينها كنَّا بذلك قد أمسكنا بناصية الطبيعة كلها.»
١
واستمر الحال كذلك مع أعلام الفكر الفلسفي الحديث بدءًا من ديكارت (١٥٩٥–١٦٥٠م)
الذي أطلق
عبارته الشهيرة «إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وأقام مذهبه العقلي على أساس
أن
الحقيقة قائمة في العقل ولا وجود لها خارج الفكر، وأن الوضوح والتميز هما معيار هذا الفكر،
إلى جون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م) — وهو الفيلسوف التجريبي — الذي أقر أيضًا بطبيعة ثابتة للعقل،
وجعل منه صفحاء بيضاء تنقش التجربة عليها حروفها الأولى، ثم جاء فيكو (١٦٦٨–١٧٤٤م)، وعارض
بفلسفته التاريخية النزعة العقلية الديكارتية، وتحولت الذات العاقلة إلى ذات تاريخية،
أي
إلى ذات عاقلة ومعقولة في آنٍ واحد؛ فالعقل الإنساني هو صانع التاريخ، وهو موضوعه أيضًا.
بذلك يكون فيكو هو أول مَن قدم نظرية تاريخية عن حقيقة التغيير من خلال تفسيره للتاريخ
بوصفه عملية عقلية منظمة خلاقة. فالتاريخ الذي يتألف من أحداث ووقائع ومؤسسات اجتماعية
تعبر
عن أحوال العقل، قد جعل هذا العقل نفسه موضوعًا للمعرفة. وإذا كان بعض الباحثين ينسبون
إلى
هيجل أنه أول من أدخل العقل في التاريخ، فنحن نؤكد في هذا المجال أن فيكو سبق هيجل، وكان
بحق أول من أطلق العقل في التاريخ؛ لأن التطور التاريخي الاجتماعي للعقل عند فيكو مختلفٌ
كل
الاختلاف عن تصور هيجل الذي لا شك أنه تصور ميتافيزيقي متعالٍ على التاريخ، ويكفي أن
نقول
إن الدور الذي يقوم به العقل مختلف تمام الاختلاف عند فيكو عنه عند هيجل؛ فالعقل المطلق
عند
هذا الأخير يتطور — كما هو معروف — تطورًا ذاتيًّا نحو الوعي بذاته، أما عند فيكو فهو
لا
يتطور إلا داخل ظروف تاريخية اجتماعية محددة يكون مشروطًا بها؛ لأنه لم يتصور العقل كماهية
مستقلة، ولم ينسب له أيَّ قدرة ذاتية على التطور، وبذلك يكون قد قدَّم نقدًا للعقل التاريخي
يذكرنا من بعض الوجوه بنقد العقل الخالص الذي قدمه كانط فيما بعد،
٢ وإن كان من الضروري القول بأن هذا النقد الأخير معرفي محض وغير تاريخي على
الإطلاق.
لقد قام كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) بتحليل العقل نفسه، ورسم صورة جديدة لطبيعة العقل الذي
يقوم
بنقد ذاته بذاته، ووضع «الشروط القبلية» التي تجعل التجربة ممكنة؛ فالعقل — كما يقول
كانط
نفسه في المدخل إلى نقد العقل الخالص — هو «الملكة التي تمدُّنا بمبادئ المعرفة … وهذا
العقل لن تكون وظيفته هي التوسع في معرفتنا، بل سيقتصر على تطهير عقلنا وتخليصه من الأخطاء.»
٣ ولهذا كانت فلسفة كانط عقلية نقدية شارطة (ترنسندنتالية)؛ لأنها لا تهدف إلى
التوسع في المعرفة، بقدر ما تهدف إلى تصحيحها، واختيار قيمة المعارف القبلية. إن العقل
عنده
لا يبحث في طبيعة الأشياء الخارجية، وإنما هو الذي يشرع لها، ولم يقدم كانط كما أعلن
بنفسه
«إلا نقد ملكة العقل الخالص نفسها، ومتى أصبح هذا النقد هو الأساس صار لدينا المحك أو
المعيار الأكيد الذي نقدِّر به القيمة الفلسفية للمؤلفات القديمة والحديثة.»
٤والمنهج الذي يستخدمه العقل في نقده لنفسه هو المنهج الشارطي (الترانسندنتالي)
الذي يضع الشروط التي تجعل التجربة ممكنة، ليؤديَ نقدُ العقل في نهاية الأمر إلى المعرفة
العلمية الموثوق بها.
والحقيقة أن التفكير الترانسندنتالي عند كانط في شروط وإمكان المعرفة لا يعطي للفلسفة
دورًا واحدًا، بل «دورَين متميزَين كما قال ريتشارد رورتي: الأول باعتبارها محكمة العقل؛
أي
الذات العارفة التي من خلالها نفهم العالم ونفهم أنفسنا بشكل عقلاني. وبناءً على هذا
الدور
الأول يتحدد دورها الثاني، وهو أنها لا تستطيع أن تحكم على نتائج العلوم الأخرى فقط،
بل
تقوم أيضًا بتنظيمها وتحديد المكان الصحيح لكلٍّ منها، ومجال مصداقيتها ومنهجها السليم.»
٥ وترتب على هذا الدور الذي نسبه كانط للفلسفة ثلاثة مفاهيم رئيسية، وهي: مفهوم
العقل العام، والذات المستقلة، ومفهوم المعرفة التصورية (أو المعرفة من خلال تصورات ومفاهيم
عقلية) مما دفع الفلاسفة بعد كانط — وبخاصة هيجل وأصحاب النزعة البراجماتية وفلسفة التأويل
—
إلى انتقاد فكرته عن العقل بتقويض زعمه باكتشاف بناءات عقلية عامة وضرورية للشروط التي
تجعل
التجربة ممكنة. أضف إلى هذا «أن تطور العلوم الاجتماعية والتاريخية جعل هذه المزاعم نسبية
وليست مطلقة، وأظهر الروابط التجريبية المعقدة التي تربط العقل باللغة والفعل كما تربطه
بنسيج الاتصالات اليومية داخل أشكال الحياة المتنوعة ثقافيًّا وتاريخيًّا.»
٦
ارتبط هذا النقد للعقل بنقد الذات العاقلة من حيث سيادتها على نفسها وعلى العالم،
وهو ما
افترضه التراث الديكارتي والكانطي. «فالذات هنا هي التي تشكل الطبيعة الخارجية وهي المهيمنة
على الطبيعة الداخلية — على الأقل بالنسبة لكانط — وهذه السيادة المنسوبة للذات قد انتقدها
كلٌّ من فرويد وماركس ودارون، الذين بينوا بطرق مختلفة دورَ الرغبات والانفعالات والمصالح
في تكوين وتوجيه العقل نفسه»،
٧ وأوضحوا أن الذات لا تشكل العالم، وإنما هي عنصر واحد من عناصر العالم المكتشف
لغويًّا وتاريخيًّا واجتماعيًّا.
امتدت هذه الخلفية الثقافية والفكرية التي افترضت أن العقل طبيعة ثابتة في الإنسان
— وذلك
باستثناء الآراء الجديدة التي أتى بها فيكو كما أسلفنا القول — عبر قرون طويلة من تاريخ
الفكر الفلسفي، إلى أن جاء هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) ليعبر عن تصور عصرٍ جديد انطلق مع بدايات
القرن
التاسع عشر، عصر يحمل ثقافة وفكرًا جديدَين، ويستعيد صيرورة هيراقليطس لتصبح هي طبيعة
الأشياء، ويحل «التطور» و«التغير» محل «الثبات» و«التحدد». وأصبحت طبيعة العقل عند هيجل
مختلفة عنها عند كلٍّ من ديكارت وكانط، فإذا كان ديكارت قد أقام مذهبه العقلي على أساس
الكوجيتو أو اليقين الذاتي كمعيار للوضوح والتميز، وكان كانط قد أقام فلسفته النقدية
لتمييز
المعرفة العلمية الصحيحة عن المعرفة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى وقوع العقل في التناقض،
فإن هيجل قد جعل من هذا التناقض جوهرًا لفلسفته ومنهجه الجدلي. ها هو ذا يقول في مقدمة
«ظاهريات الروح» مشيرًا إلى المذاهب العقلية السابقة عليه: «إن العقل قد جاوز الحياة
الجوهرية التي كان يحياها في عنصر الفكر: جاوز إيمانه الأول المباشر، جاوز الرضا والأمن
اللذَين كان يكفلهما للوعي الوفاق بين العقل والماهية … وما جاوز العقل تلك الحالة وحدها
إلى الطرف النقيض، إلا للرجوع بنفسه على نفسه دونما جوهر. فلم يقف الأمر عند فقدان حياته
الجوهرية، وإنما أصبح أيضًا وعيًا بهذا الفقدان.»
٨ كما يقول في موضع آخر من مقدمة الظاهريات: «إن العقل إنما يغدو موضوعًا؛ لأنه
تلك الحركة القائمة في مغايرته نفسه، أي في صيرورته موضوعًا لذاته.»
٩
وبفضل منطق هيجل الجدلي دخل العقل في الوعي وفي الطبيعة نفسها، ثم تجلى في التاريخ،
وأصبح
هو جوهر التاريخ ومحرِّكه، بل أصبحت العملية المعرفية نفسها تنمو في مراحل متعددة، والوصول
للمطلق لا يكون إلا في ختام هذه المراحل: «الكل ليس إلا الماهية في تحقيقها واكتمالها
عن
طريق نموها. فالمطلق يجب القول عنه: إنه في جوهره نتيجة، أي هو لا يصير ما هو إياه حقيقة
إلا في الختام. في هذه الصيرورة تقوم طبيعته من حيث هو دخول فعلي في الواقع.»
١٠ هكذا هاجم هيجل المعرفة العقلية الخالصة التي فصَلت الفكر عن الوجود، كما هاجم
الفلسفة التجريبية الخالصة التي أغفلت السمات العقلية للواقع، وأقام منهجه الجدلي الذي
وحَّد فيه بين الفكر والوجود، حتى ليمكن القول: «إن العقل يدرس من نواحٍ ثلاث: فهو يدرس
في
حالة كونه مجردًا، وذلك في المنطق، ويدرس من حيث تحققُه في الكون وذلك في فلسفة الطبيعة،
ويدرس من حيث إنه يتحقق عن طريق الفكر والنشاط الإنساني، وذلك في فلسفة الروح»،
١١ ولكن يظل السؤال قائمًا وهو: هل استمر تطور العقل النقدي في هذا المنهج الجدلي
الهيجلي أم توقَّف عند مرحلة بعينها وهي على وجه التحديد عصر هيجل نفسه؟ لقد بقيَ هذا
التساؤل موضع إشكال وجدل، واختلفت حوله الآراء،
١٢ ولم تزل مختلفة بين شراح هيجل وأصحاب المنهج الجدلي على اختلاف تصوراتهم له بما
لا يسمح بمناقشته في هذا المجال المحدود.
وإذا كانت الثورية هي طابع المنطق الجدلي الهيجلي، فإنها لم تنطلق بشكل واقعي على
يد هيجل
نفسه، وإنما أطلقها ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م) — الذي زعم أنه أوقف جدل هيجل على قدمَيه — من
مكمنها، ولم يقصر دور العقل على التفسير، بل تخطَّاه إلى التغيير. ولا شك أن فلسفة كلٍّ
من
كانط وهيجل كانت أسبق من المحاولة الماركسية لتغيير دور الفلسفة (وبالتالي تغيير الدور
الذي
يلعبه العقل في العملية المعرفية)، إلا أنهما قدَّمَا حلًّا للمشكلة أعطى للفلسفة دورًا
يمكن وصفُه بأنه غير تاريخي ولا واقعي-نقدي؛ فقد حوَّلتها الكانطية إلى فلسفة ذاتية،
وحاول
هيجل أن يتحاشى هذا العجر ويتجاوزه، فقدَّم حلًّا محوطًا بافتراضات ميتافيزيقية يتعذر
الدفاع عنها، لكن مهمة العقل عند ماركس تحوَّلت إلى نقد الواقع وتغيير العالم، وله يعود
الفضل في هبوب عاصفة النقد والتغيير التي اجتاحت كلَّ التيارات الفلسفية التي جاءت بعده،
فمنذ أن أعلن في بيانه الشيوعي المبكر عام ١٨٤٤م عن الحاجة إلى «نقدٍ قاسٍ لكل شيء موجود»
كان هذا إيذانًا بميلاد نظرية نقدية للمجتمع تُعدُّ نموذجًا لخطاب علمي اجتماعي في منتصف
القرن التاسع عشر، «ووجد ماركس في فلسفة هيجل المفهوم الذي احتاجه ليحول دور الفلسفة
إلى
نظرية نقدية، ألا وهو مفهوم «الرفع»،
١٣ وظل هذا المفهوم قابلًا للتطور والتحديد الذاتي في النظرية النقدية المعاصرة من
لوكاتش حتى هابرماس.»
١٤
لقد ظل مفهوم المعرفة التصويرية التي تفترض وجود الذات في مقابل عالم الموضوعات المستقل،
ظل سائدًا حتى الجيل الثاني من فلاسفة القرن التاسع عشر، على الرغم من نقد هيجل له في
الفصل
الخاص بالإدراك الحسي في كتابه «ظاهريات الروح». ولذلك كانت تفرقة هوركهيمر الحاسمة بين
النظريات النقدية والنظريات التقليدية هي إحدى الصياغات الهامة في القرن العشرين لنقد
المعرفة التصويرية وذاتها التأملية وغير التاريخية عند كانط؛ إذ أكد هوركهيمر (الذي يُعدُّ
رأيه تعبيرًا عن رأي أصحاب النظرية النقدية جميعهم) أن كلًّا من الذات والعالم قد تطورَا
معًا في صيرورة المجتمع كما سنرى بعد قليل بشيء من التفصيل.
ومع تطور الدراسات الاجتماعية التي شهدت طفرةً هائلة في غضون القرن التاسع عشر وأوائل
القرن العشرين، ذهب عالم الاجتماع ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠م) — وهو أحد منظِّري العقلانية
الحديثة — إلى أن التقدم التقني قد أفرز نوعًا من العقلانية العلمية التي لها منهجها
ووسائلها، أي إنها بمعنى آخر هي عقلانية المنهج والوسائل من أجل تحقيق غايات، ولكن التقدم
العلمي غير مسئول عن تطبيقاته، وبالتالي فإن العقلانية غير مسئولة عن الغايات التي أصبحت
فيما بعدُ لا عقلانية. ولذلك طالب ماكس فيبر بالفصل بين مجالَي العلم والسياسة، والنظرية
والتطبيق، والوسيلة والغاية، مؤكدًا أن أحكام القيمة لا يمكن أن تزعم لنفسها الصدق
الموضوعي، كما أنه «لم يثق في أحكام القيمة والسياسة التي تنبع من رومانسية الأمل الثوري.»
١٥ لذلك طالب بفصل مجالات البحث، «فالبحث العلمي التجريبي يمكن أن يوضح الوسائل
الضرورية للوصول إلى غايات معينة، كما يمكنه أن يكشف عن النتائج المترتبة على السياسات
المختلفة التي لا يمكن الكشف عنها بطريقة أخرى. كذلك يستطيع البحث الفلسفي أن يكشف عن
البناء التصوري للنظم المعيارية المختلفة، وأن يحدد مكانها بالنسبة للقيم الأخرى الممكنة
كما يحدد مجالات صلاحيتها، غير أن مثل هذه الدراسات لا يمكنها أن تبين صحة أي إجابات
تُقدَّم على المسائل المعيارية.»
١٦
هكذا استبعد فيبر أحكام القيمة كشروط مسبقة للعلم؛ لأن كل العلوم الطبيعية في رأيه
«تحاول
الإجابة على هذا السؤال: ماذا ينبغي علينا أن نفعل إذا أردنا أن نسيطر على حياتنا بشكل
تقني؟ وسواء أردنا بالفعل أن نسيطر عليها تقنيًّا، أو كان لهذا الكلام معنًى فهو لم يوضع
موضع الاختبار والفحص.»
١٧ إن العالم الذي لا يقصر جهوده على تحديد الوقائع والحقائق، وإنما يسأل نفسه عن
قيمتها، يجب أن يعرف على حد قول ماكس فيبر: «إن النبي والداعية لا يتسع لهما منبر واحد.»
١٨
وإذا كان فيبر قد رأى أن العقلانية هي قانون العلم، فإنه ظل واعيًا بحدود هذه العقلانية
وأخطارها. وإذا كانت مهمة العقل عنده هي «حساب العلاقة بين الوسائل والغايات، فلن يكون
بوسع
البشر أن يتنصلوا من مسئولية اختيارهم، وأن قدرًا ضخمًا من المسئولية قد يتجاوز الطاقة
الأخلاقية للأفراد، وقد يجرفهم إلى خضمِّ اللاعقلانية.»
١٩ وإذا كانت هناك «فئتان من الأفعال تتميزان بالعقلانية إحداهما تستخدم الوسائل
الملائمة لتحقيق الأهداف العقلية المختارة، والثانية تستعين بوسائل مشابهة لإشباع قِيَم
مطلقة وأهداف أخلاقية»،
٢٠ فإن العقل مسئول عن هذا الاختيار، أي إن مهمته تكمن في اختيار وتدبير الوسائل
للسلوك العقلاني الهادف المحسوب. فالاختيار المعياري كما بيَّن فيبر «لا يعتمد فحسب على
الاعتبارات التقنية المستخدمة منه للوصول إلى أهداف معينة، بل إن الاختلاف حول المعايير
أمرٌ ممكن وضروري، وهو كامن في طبيعة هذه المعايير المستخدمة لمناقشة مثل هذه المسائل.
والقول بأن مثل هذا الاختلاف في الآراء يمكن أن يسوَّى تسوية نهائية، هو قول متناقض»،
٢١ لذلك كانت مهمة الاختيار بالغة الصعوبة، وتفوق طاقة البشر، وقد تجرفهم إلى
اللاعقلانية كما نرى اليوم في الأزمات التي تواجهها البشرية نتيجة التطور المذهل في
التقنية.
وقد تابع ماكس فيبر المعركة الدائرة بين الفريق الذي يوجه العلم لهدف محدد، والفريق
الذي
يحيط الفعل بهالة سحرية، بين الصرامة والأصالة في الحياة العقلية والسياسية. لقد كان
عقلانيًّا تجريبيًّا، ولكنه يرفض تجريد العلم من سحره، وكثيرًا ما كان يشكو من أن العقلانية
نزعت كلَّ أستار السحر التي تحيط بالمعرفة، أي إنها عقلانية جافة وليست عقلانية إنسانية
بالقدر الكافي، ولم تضَع في اعتبارها العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة. إن العقلانية
التي كانت غايتها تحرير الإنسان قد وضعته في زنزانة خانقة واستعبدته بدلًا من أن تحرره.
ولقد أدرك فيبر — على الرغم من إيمانه بتجريبية العلم — أخطار العقلانية العلمية، ولكنه
أبرز الفارق الكبير بين تحديد الأهداف والوسائل عن طريق العلم وبين الأصالة السياسية
التي
تنطوي على هالة سحرية. ولذلك هاجم ماركيوز في مؤتمر هايدلبرج عام ١٩٦٥م، ما اعتبره الجانب
السلبي في فلسفة فيبر كعالم اجتماع تجريبي، واتهمه بأنه يدعم الوضع القائم، وفي هذا تناقض
مع كونه سياسيًّا إلى جانب كونه اجتماعيًّا، ولكن ماركيوز أغفل بلا شك أن فيبر برغم
عقلانيته وإيمانه بتجريبية العلم كان يتخوف من التغير المفزع الذي تحولت به الوسائل
الاقتصادية والتقنية إلى غايات في ذاتها بعد أن كانت في الأصل تستهدف تحرير الإنسان،
«فالتغيير الذي يتم بوسائل اقتصادية وتقنية كان غايته تحرير البشر، وقد كان يأمل — كما
يقول
— لاندمان أن يتحطم هذا السجن الاقتصادي التقني في الثورة الروسية عام ١٩٠٥م، ولكن لم
يحدث
هذا مما جعله يتساءل: أيهما يلوح في أفق المستقبل: ميلاد جديد أم تحجُّر آلي؟»
٢٢
وسادت في مطلع القرن العشرين بدايات اتجاه نقدي ارتبط إلى حد كبير بالفكر الماركسي،
وأخذ
منه فهمه النقدي التحليلي للواقع، فكانت أفكار كلٍّ من جورج لوكاتش وارنست بلوخ تمهيدًا
لميلاد تيار نقدي أكثر تنظيمًا فيما بعد، وهو ما أطلق عليه اسم «النظرية النقدية». وقد
استمر نقدُ العقلانية الغربية — كما تمثلت في العلم والتقنية والحضارة الرأسمالية والصناعية
الحديثة — من وجهة نظر ماركسية متزمتة عند جورج لوكاتش (١٨٨٥–١٩٧١م) الذي انطلق في مقولته
عن
التشييء (وهو الأساس الموضوعي للشعور الذاتي تشييء بالاغتراب) من المقولات الماركسية
عن
الاغتراب، وهي التي ترى أن العقلانية الاقتصادية للنظام الرأسمالي أدت إلى «تشييء» الإنسان،
وجعله جزءًا خاضعًا لقوانينه الآلية، أي جزءًا من عملية الإنتاج لا طرفًا فيه. «هذه
العقلانية لم تحرر الإنسان بل «شيأت» علاقاته بكل الأشياء من حوله، وكان ذلك نتيجة ضرورية
للتشذر وانفصال الأجزاء عن الكل المعاش.»
٢٣ لقد جاءت العقلانية الاقتصادية لتُفرغ الكل الموضوعي للحضارة من وحدته الداخلية
مما أفقد الواقع كليته؛ ففي ظل التقدم الهائل للعلوم الجزئية، وانحصار كل علم في مجال
تخصصه
الدقيق، فقدت هذه العلوم السياق الكلي لمجالاتها. أضف إلى هذا أن العقلانية قامت بتقسيم
صيرورة العمل الموحد إلى وظائف جزئية منعزلة بشكل مصطنع، «وتطور كلُّ علم بشكل مستقل
ومنعزل
عن بقية العلوم الأخرى في الهدف والمنهج، وتحرك كلُّ علم في نظام عقلي جزئي يعمل بدون
معوقات، ولكنه يفتقد «المقولة الحقيقية للواقع» أي الكلية»،
٢٤ التي تقتضي أن يعلوَ المجتمع ككل على هذا الواقع المتكثر أو المبعثر أو
المتشذر. إن الكلية هي المبدأ البديهي للمجتمع، ويجب أن تكون العقلانية هي القاعدة الأساسية
لنقد الواقع الموجود وهدف التاريخ، ولكن «العقلانية العلمية تجاهلت السمات النوعية الفردية،
ولم تنتبه لها إلا كلما أزعجت الحسابات المسبقة لمسار تقدُّم العمل.»
٢٥
لقد قام مشروع لوكاتش النقدي على رفض النظرة الأحادية للجدل؛ أي رفض جدل العقل عند
هيجل،
ورفض جدل المادة عند ماركس، والمزج بينهما في ثنائية تتفاعل مع حركة المجتمع. وربما يكون
الجديد في فلسفة لوكاتش النقدية هو «التعامل مع معضلة الفكر والممارسة التي ستمتد داخل
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت … وتتسم هذه المحاولة الفلسفية النقدية لجورج لوكاتش
باسترجاع الطاقة الكامنة في نقد الاقتصاد السياسي، ليس بصفته نقدًا يتوقف عند حدود الاقتصاد
السياسي فقط، بل بصفته نقدًا يمتد داخل العلاقات الاجتماعية»،
٢٦ لذلك كان له تأثيرٌ كبير على أصحاب النظرية النقدية فيما بعد من خلال نظرته
الفلسفية للثنائية الجدلية وارتباطها بالمجال الاجتماعي والسياسي، وكذلك من خلال انفتاحه
على الحياة الثقافية والأدبية ومعطيات الواقع. فقد رأى «أن التشيُّؤَ هو العملية التي
بها
تُصبح منتجات العمل البشري أشياءَ مستقلة، أو ظواهرَ معطاة تتحكم في الناس عن طريق قوانين
تبدو وكأنها لا ترد، فيتحولون من الناحيتين الذاتية والموضوعية إلى مشاهدين سلبيين بدلًا
من
أن يكونوا ذوات فاعلة مبدعة، ويُخضعون نشاطَهم الإنساني الخلَّاق لقوى لا شخصية غريبة
عنهم
ومدمرة لطبيعتهم وماهيتهم الأصلية. ويتضح تجريد الإنسان من إنسانيته في التنظيم الداخلي
للمصنع الذي يمثل صورة عالم مصغر من عالم المجتمع الرأسمالي الأكبر الذي نفذ بتخصصه في
تقسيم العمل وبعقليته الصناعية والاستهلاكية، حتى في صميم الحياة الحميمة للإنسان.»
٢٧
ويشغل أرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م) مكانة خاصة بين نقاد العقل المعاصرين، كما يعدُّ «حلقة
هامة
في تطور الفكر النقدي، حيث كشف عن جذوره الأولى في التراث الفلسفي والبشري على السواء.
لقد
قدم يوتوبيا نقدية معارضة للنزعة الوضعية التي تتعلق بالوقائع القائمة والحقائق غير
المتعالية، وقدم نقدًا للواقع السائد بعقلانية جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم العقلانية
اليوتوبية. فالواقع الراهن في تصوره يموج بالإمكانات وبقلق الصيرورة ولم يكتمل بعد، مما
يجعل اليوتوبيا عنده حقيقةً مسلَّمًا بها تسير جنبًا إلى جنب الواقع، بل وتصاحبه، وهي
— أي
اليوتوبيا — تتحدث باسم الليس-بعد أو المستقبل، وتحاول تشكيل نماذج لوجود حقيقي ممكن
لم
يتحقق بعد.»
٢٨
وقد قامت نظرية بلوخ النقدية على تفتيت بنية الواقع، واستخلاص شعاع أمل جديد كامن
في
أعماق واقع مظلم، بل وأحيانًا ميئوس منه، أي إن نقدَه مفعمٌ بخلفية متفائلة على خلاف
الخلفية المتشائمة التي اجتاحت التيار النقدي اللاحق. وقدم بلوخ يوتوبيا ترتبط بالتاريخ
العقلي الذي ما زال يحقق نفسه بأن يُظهر للنور الجوهر اليوتوبي والحقيقة أو الماهية
الجوهرية للشيء. وتساعد اليوتوبيا هذه الحقيقة على أن تبرز إلى الواقع ومن خلاله أيضًا،
فتكشف عن كيفيات جديدة في الطبيعة عن طريق العقل الخيالي أو اليوتوبي الذي يستخلص الممكن
من
الواقع اليومي العيني، ولا يتم هذا إلا بالاعتراف بالواقع، ورفضه في آنٍ واحد، كما أنه
ليس
هناك حدٌّ فاصل بين الممكن والواقع؛ لأن الواقع كان ممكنًا في الماضي، وما زال ممكنًا
في المستقبل.
٢٩
وبتأثير من النزعة النقدية عند كلٍّ من لوكاتش وبلوخ — مع مؤثرات أخرى لا يتسع هذا
المجال
المحدود لذكرها — ظهرت مجموعة من المفكرين النقديين الشبان الذي ركزوا جهودهم على الاهتمام
بالأبحاث الاجتماعية النقدية وبلورتها في نظرية مستقلة وتوجيهها من كونها مجردَ جهود
فردية
متفرقة إلى تيارٍ نقديٍّ مستقل، هو الذي أشرنا إليه من قبل، وعُرف باسم مدرسة فرانكفورت
«وهو الاسم الذي عُرِف به أعضاء المدرسة بعد الحرب العالمية الثانية. أما من ناحية المنهج
الذي اتبعوه في النظر والتطبيق فقد استندوا فيه إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد
عن
معظم مقولاتها الأساسية، ومِن ثَم عُرفوا باسم أصحاب النظرية النقدية»،
٣٠ وكان أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م) — وهو من أهم أعضاء الجيل الأول لهذه المدرسة — قد
انتقد العقل الذي أشادت به حركة التنوير وأعلت من شأنه، فعرض في كتابه «جدل التنوير»
— الذي
اشترك في تأليفه مع صديقه هوكهيمر — فكرةَ التدمير-الذاتي للتنوير، وأكَّد أن الفلسفة
الوضعية قد أصابته بالانتكاس أو النكوص. فالتنوير الذي مجَّد العقل وآمن به إيمانًا لا
حدَّ
له، وكان «هدفه هو تحرير الإنسان من التعصب والخوف ومن السلطة المطلقة وتجريد العالم
من
سحره القديم لصالح المعرفة العلمية التجريبية»،
٣١ هذا التنوير قد أصابته انتكاسة ترجع إلى مصدرَين: «الأول هو النزعة العلمية أو
الوضعية التي حددت العلم بوقائع معينة، واستبدلت الصيغ الرياضية بالمفاهيم، وحولت الكيفيات
إلى وظائف، ورفضت أيَّ شيء يمكن اعتباره وهمًا أو خيالًا أو بلا معنى. والثاني هو العقل
الأداتي غير النقدي للعلم الذي اعتمد على الشكلانية (النزعة الشكلية). فالعلم كمنهج تحليلي
لا يستطيع أن يُضفيَ معنًى أو قيمة على أي شيء غير قابل للقياس وغير خاضع للصيغة الرياضية.»
٣٢ والأداتية محددة أو مشروطة بالواقع؛ لأن العلم يتعلق بالقوة (أو بالسلطة
المهيمنة)؛ ولذلك ينتج فكرًا «مشيئًا» خاليًا من المضمون، بل هو المنهج والفاعلية والتنظيم
والتقنية، وبالتالي انحدر التنوير من الوعي بالثورة إلى مجرد وسائل لتحقيق تلك
الغاية.
إن التنوير الذي كان هدفه الأصلي هو تحرير العقل البشري من الأسطورة تحوَّل هو ذاته
إلى
أسطورة تُخفي الهيمنة والسيطرة والتسلط، وسعى إلى تأييد الواقع السائد، ولم يَعُد يخدم
قضية
الحرية، بل حرص على إخضاع كلِّ شيءٍ متفردٍ تحت لوائه، وجعل حرية السيطرة الكامنة فيه
تسود
الأشياء، ثم ترتد إلى وجود الإنسان نفسه ووعيه. وأنتجت النزعة العقلية غير الثورية تسلطية
جديدة، وأصبح الهدف النهائي للعقل «المستنير» هو السيطرة على الطبيعة عن طريق التكنولوجيا.
«فالعقل الذي حرر الإنسان من سلطة الطبيعة، يبرِّر الآن سيطرته على الإنسان نفسه باعتباره
جزءًا من الطبيعة التي يسيطر عليها، بل ويقوم بعملية «تكيف» مع حضارة لا إنسانية»
٣٣ اعتمدت على الجانب التقني فقط، وهيأت «العامة» لتحمل الاستبداد وأنواع القيود
التي يفرضها على الأشياء والإنسان. ولم يتم هذا بفعل المناوئين للعقل، بل بفعل التنوير
نفسه.
ولكن كيف صار التنوير ضد الحقيقة؟ «عن طريق التجريد الرياضي الشامل للواقع، وهو التجريد
الذي صار مرادفًا للحقيقة.»
٣٤ لقد تحوَّل الفكر إلى آلة رياضية تتحرك بذاتها، بحيث يمكن أن تحلَّ الآلة
محلَّه، وتم هذا كله على حساب الواقع المعطى وعلى حساب الفن، وبغرض السيطرة والهيمنة
عليهما، والنتيجة هي «عدم فهم الواقع الحي ونفي أو استبعاد كلِّ واقع فردي مباشر. هكذا
تحوَّل التنوير — كما سبق القول — إلى الأسطورة التي لم ينجح أبدًا في تفاديها»،
٣٥ وأصبحت الوحدة العلمية أو التوحيد (أي توحيد الطبيعة وموضعتها، بمعنى جعلها
موضوعية تخدم أهداف الإنسان العملية فقط)، والتجريد والتسوية هو هدف التنوير النهائي
بصرف
النظر عن تعقد الواقع وخصوصيته وكيفياته المختلفة.
٣٦
إن إخضاع العقل للتجربة الحسية الحية بالانفصال عنها «وتكميمها» أدى إلى إفقار كلٍّ
من
التجربة والعقل معًا. وكان هذا مظهرًا من مظاهر انتصار العقل الأداتي وسعيه للسيطرة على
كل
شيء بما في ذلك العقل والتفكير نفسه … وهكذا اغترب الناس في المجتمع الشمولي الحديث،
سواء
كان رأسماليًّا أو شيوعيًّا، وبرزت الوحشية واللاإنسانية التي أراد التنوير في الأصل
أن
يحاربهما، فتحوَّل التقدم إلى تراجع،
٣٧ وأصبحت لعنة التقدم المتواصل هو النكوص المتواصل. وتعاظم اغتراب الجماهير التي
تموضعت وتشيأت ووقعت، مثلها مثل حكامها ومديريها، في نفس الشبكة المخيفة التي تثبت الوضع
القائم.
وازداد رفض أدورنو للعقلانية العلمية في كتابه «الجدل السلبي» الذي تأثر فيه بالنزعة
الاجتماعية لدور كايم، وعارض تسلطية المؤسسات الاجتماعية التي تخنق الفرد، ورأى «أن العلاقة
بين سيطرة الإنسان على الطبيعة وسيطرة الإنسان على الإنسان ترجع بشكل أساسي إلى علاقة
المفهوم أو التصور العام بالموجودات الجزئية غير التصورية، فعندما يغلف تصور عقلي عام
الموضوع، ويهيمن عليه، يتلاشى ما يتسم به هذا الموضوع من تفرُّد عيني لكي ينضويَ تحت
ذلك
التصور العام.»
٣٨ ولا تُدرك الذات أنها تحولت إلى موضوع؛ لأن عملية الهيمنة الأصلية بدأت منها.
كما أنها غفلت عن هذا التحول تحت تأثير النشوة التي استشعرتها نتيجة انتصارها على الواقع
الخارجي أو تحررها منه.
وليس العقل هو السلطة البشرية التي يمكن الاحتكام إليها عند مواجهة تسلط لا إنساني؛
لأنه
(أي العقل) «هو المسئول عن هذه اللاإنسانية. ولأنه هو نفسه قد نبع من إرادة التسلط، فالصلة
الحميمة التي تربط العقل بالتسلط ليست هي السمة المميزة للعقل الأداتي أو التقني أو العلمي
فقط، وإنما هي سمة تميز كل عقل، حتى لو حاول المقاومة كما في العقل الحدسي أو الجدلي.
ومثلما انطبع العقل بالتسلط، فإن الوعي بل وبنية أنفسنا أيضًا، قد انطبعت بالتسلط»،
٣٩ وليس لهذا الفساد أو الإفساد الذي أصاب الذات بداية تاريخية، بل نما من داخلها
بشكل متزايد. إنه نزوع أو ميل طبيعي في العقل، وبالتالي من الصعب الاعتقاد بأن الذات
تستطيع
بما لها من قدرة تنويرية أن تلغيَ الظروف المغتربة التي خضعت لها. لقد وعد العقل أن يحرر
الإنسان (بوصفه ذاتًا) من سيطرة الطبيعة، إلا أنه استعبده بوصفه موضوعًا لسيطرته، وهذا
الانقلاب من الذات إلى الموضوع يصعب إدراكه بالعقل.
ويواصل أدورنو هجومه على المعرفة التصورية، فيؤكد أن التصور يعزل الشيء عن ذاته،
أي يلغي
فرديته، وأن ارتباط التصور بالشيء هو من قبيل ارتباط القوي بالضعيف. وواقع الأمر أن اعتراض
أدورنو على العقل التصوري ليس بالفكرة الجديدة، وإنما يرجع له الفضل في أنه أوضح أن النزعة
التعميمية هي نزعة تؤدي إلى الشمولية والهيمنة، ولكن هل يصدق زعمُه هذا في كل الأحوال؟
إننا
إذا أمعنا النظر وجدنا أن المعرفة التصورية لم تنظر دائمًا للموضوع العيني (المدرج تحت
تصورٍ ما)، وكأنه قد عرف معرفة تامة، يدل على هذا أن الفكر في نهاية القرن الثامن عشر
تمرد
على استبداد المعرفة التصورية، أي على النزعة التصورية الكلية؛ لأنه وجد «أن الشيء المدرج
تحت التصور الكلي ليس مجرد عينة مساوية لكل العينات الأخرى تحت سقف التصور، بل أن هذا
الشيء
العيني له خصوصيته الفردية التي تميزه عن غيره. ولم يكن هذا بديلًا عن الفكر التصوري»؛
٤٠ لأن الرجوع للحسي أو العيني المباشر ليس عدولًا عن المعرفة العقلية المنهجية،
كما أن المعرفة التصورية ليست كلها هيمنة وسيطرة على الأشياء، بل هي على العكس من ذلك
تُتيح
لنا أن ننفذ إلى الخصائص النوعية للشيء، وتمهد الطريق المؤدي إلى إدراك فرديته
وخصوصيته.
إن علاقة التصور بالشيء — كما يقول لاندمان — «ليست كما يراها أدورنو هي علاقة الأقوى
بالأضعف، بل هي علاقة العام بالخاص، فهو لا يفسده ولا يحتقره ولا يقلل من شأنه، ولا يخضعه
إخضاع العبيد، ولا يجرده من قيمته، وإنما يحاول أن يفهمه ويجد له مكانًا في النظام العقلي
المتسق. ولو صح أن هذا الاحتواء التصوري للشيء هو في ذاته جريمة يرتكبها عدوانيون أو
نخبة
من العدوانيين المتوحشين (ويقصد بهم العلماء) لو صحَّ هذا لكان على البشرية أن تتوقف
عن
استخدام اللغة جنبًا إلى جنب مع توقفها عن استخدام العقل … لماذا؟ لأن الكلمات نفسها
أنواع
من الاحتواء.»
٤١
مهما يكن من شيء فلا بد من الإشادة بالدور الذي قام به أدورنو في نقد العقل، فقد وضعه
داخل السياق الاجتماعي كله، وأثبت أن بعض المذاهب الفلسفية — مثل البراجماتية والوضعية
— قد
جعلته أداة في خدمة الإنتاج الصناعي، ووظَّفته لخدمة مصالح معينة، وعزلته تمامًا عن مجال
القيم كالعدالة والتسامح … إلخ، وقد ترتب على ذلك أن العقل عندما استخدم هذا الاستخدام
الأحادي نظر أيضًا إلى موضوعاته نظرةً أحادية هي نظرة السيد للمسود، فكرس بذلك اغتراب
الموضوع عن الذات واغتراب الذات عن الموضوع، وترجمت العقلانية المتسلطة إلى نظم شمولية
متسلطة بدورها. والسؤال الحقيقي الآن هو: كيف نعيد للعقل شموليته أو كليته الاجتماعية،
أي
كيف نعيد وضعه في السياق الاجتماعي الشامل ليكون عقلًا اجتماعيًّا تاريخيًّا، وليس معرفيًّا
فحسب؟ الإجابة هي من خلال فلسفة أكثر إنسانية، فلم يَعُد العقل ملكة ذاتية مستقلة، بل
إنه
يتطور تاريخيًّا واجتماعيًّا، ويتغير هو نفسه وفق الأنظمة السياسية والاجتماعية
والاقتصادية.
ويمكن الرد على ملاحظة أدورنو عن توظيف العقل لمصالح معينة بأن ما حدث هو استغلال
ثمار
العقل من المعرفة لأجل أسباب وأهداف غير عقلانية وغير إنسانية، ولو أدركنا العقل في مختلف
وظائفه، ونظرنا له نظرة كلية حية، لوجدنا أنه لا يمكن توجيه الاتهام للعقل التصوري الذي
يقوم بعملية معرفية بحتة، بل يوجه الاتهام إلى توظيف العقل من جهات مختلفة لتحقيق مصالح
ربما تكون سياسية أو اقتصادية لا تتصل بالمعرفة الخالصة. والواقع أن أدورنو خلط بين المعرفة
واستخداماتها، وخلط أيضًا بين السياسي والمعرفي، مما أدى إلى سوء فهم العملية المعرفية
نفسها. ولا يمكن إنكار فوائد العلم العقلانية في الفهم الأفضل للواقع المادي وتشكيله؛
ولذلك
انتصرت النزعة الآلية. أضف إلى هذا أن القدرة على التصنيف والقياس الكمي لا غبار عليها؛
لأنها إنجازات عقلية أصيلة، وإن كانت تكشف عن جانب واحد فقط من الموجود الفردي، ولا يصح
أن
تحجب عنَّا الجانب العيني الحي منه ما دام كلاهما يساعدنا على إدراك الواقع. والحقيقة
أنَّ
ما يريده أدورنو هو أن الفكر التطبيقي لا ينبغي أن يكون شموليًّا، ولا أن يطبق بغير
استثناء، وذلك إذا أردنا إنقاذ الموجود الفردي، واحترام تفرُّده. ولا تقتصر هذه الفكرة
على
أدورنو فحسب، بل اتجهت الفلسفة المعاصرة في مجموعها ضد الهوية لكي تحرِّرَ التعدد أو
الكثرة، وتردَّ إليها فرديتَها الحميمة، ولكن الدفاع عن خصوصية الكائن واحترام فردانيته
التاريخية، وحمايته من هيمنة وشمولية العقل لا يعني إبطال الفكر العقلاني التصوري؛ إذ
لا
يمكن توقُّف الإبداع لمجرد أن يماره توظف توظيفًا لا إنسانيًّا.
والمشكلة في حقيقة أمرها ليست في العقل نفسه الذي يقدم أساسًا محايدًا لتطبيقاته،
وإنما
تكمن في استخدامه استخدامًا سيئًا، وخاصةً من قِبَل أولئك الذين يبتغون المصلحة والهيمنة
فقط. وأدورنوليس ضد العقلانية التصورية أو التصنيفية في ذاتها، بل ضد استخدامها لتحقيق
مصالح تُفضي بها إلى اللاعقلانية. ويجب التأكيد من ناحية أخرى على أنه إذا كان العقل
يمارس
السيطرة فهو لا يمارسها على البشر والأشياء، وإنما يمارسها على القوى غير العاقلة داخل
الوعي المعرفي. لقد أوجد العقل الغربي حضارة قوامها التقدم العلمي، ولكن توظيف هذا العقل
توظيفًا خاطئًا وانفصاله عن الحياة نفسها، وتصوره أنه النموذج الأوحد جعله يُثمر حضارة
عقلانية غير إنسانية، أوقعتْه في أزمات اللاعقلانية بصورٍ وأشكال مختلفة (منها ما يُطلق
عليه اليوم اسم ما بعد الحداثة).
ولكن هل يريد أدورنو العودة إلى النزعة الحدسية المباشرة دون وسيط عقلي أو تصوري؟
الواقع
أن كل كتاباته تنفي هذا؛ لأنه يؤسس عقلانية جديدة يصفها بأنها عقلانية نقدية، أي تنقد
هيمنة
عقلانية الفكر الغربي الذي يزعم بعضُ أعضاء النظرية النقدية — مثل ماركيوز — أنها بدأت
من
منطق أرسطو الذي اتجه لتثبيت هوية الأشياء، وتعريفها، وتحديدها تمهيدًا للسيطرة عليها
بمختلف أنواع السيطرة. وإذا رجعنا إلى السؤال السابق عن العودة للنزعة الحدسية، سنجد
أن
برجسون ذاته — وهو فيلسوف الحدس بغير منازع — لم يلغِ التفكير العقلاني، بل وجد أن العقل
ينصبُّ على مجال العمل فهو يصنف، ويقيس قياسًا كميًّا … إلخ، ويوظف الموجودات في المصالح
العملية، وإن كان الوصول لروح الأشياء وكُنهها لا يتم إلا عن طريق الحدس. وإذن فالعقل
في
حدِّ ذاته محايد لا يخضع الأشياء، ولكنه ينحرف فقط عندما يوظف لتحقيق مصالح معينة.
ويؤكد ماكس هوركهيمر (١٨٩٥–١٩٧٣م) في كتابه «نقد العقل الأداتي» — ما سبق أن أكده
بالاشتراك مع صديقه أدورنو في جدل التنوير — أي هجومه على المعرفة التصورية، وهجومه على
العقل الذي يرى «أنه لا يمكن أن يعود إلى صوابه إلا عندما يعترف بأنه ليس عقلًا مطلقًا،
وإنما هو نسبي متغير. فمنذ العصور القديمة وحتى ليبنتز لم يكن العقل ملكة ذاتية فقط،
بل كان
أيضًا ملكة تتجه لمعرفة العالم الموضوعي، أي أن العقل الذاتي هو المسئول عن معرفة طبيعة
الأشياء في العالم الموضوعي»،
٤٢ لذلك كانت الأهداف إنسانية؛ لأنها تنشد انسجام العقل مع العالم الخارجي. وقد
عرضنا في الصفحات السابقة كيف هاجم هوركهيمر الفلسفة الترانسندنتالية الكانطية في إطار
نقده
للمعرفة التصورية في محاولة منه لتنقية دور العقل؛ ولذلك رأى أن التنوير المضاد للدين
والميتافيزيقا دمر انسجام العقل (أو الإنسان) مع العالم الخارجي مما ترتب عليه ظهور نمطين
للعقل؛ أحدهما: عقل تنويري غايته التحرر والعدالة وإلغاء التشيُّؤ، والآخر: عقل أداتي
غايته
التسلط والسيطرة، ويؤدي إلى المادية والعدمية، وكلا النمطين متعارضان وغاية هوركهيمر
هي
توحيد التجريبية والعقلية في منهج ترنسندنتالي (أو شارطي لإمكان كل معرفة ضرورية وعامة
الصدق).
وعلى الرغم من أن العقل الأداتي أو التقني له مزاياه، إلا أن النزعة الوضعية والبراجماتية
ألحقتَا به الضرر، فقد أصبح التقدم الفكري يعني تقدمًا صناعيًّا، وانفصلت المفاهيم
والتصورات عن مصدرها العقلي، ولم يَعُد العقل هو قانونها ولا عادت قادرة على تحقيق أهداف
الحياة. فالعدالة والحرية لا يمكن لهما أن يتحققَا بالوضعية العلمية التي سلبت العقل
كل
علاقة بهما ولم تهتمَّ إلا بالوقائع، وأصبحت خادمة لأدوات الإنتاج الموجودة، وانفصلت
عن
السياق الاجتماعي فلم تُثمر غير الاغتراب.
ويرى هوركهيمر أن مهمة العقل الآن هي نقد ما يسمى بالعقل، أي أن تواجه النظرية النقدية
العقل بالعقل نفسه؛ وذلك بأن يضع نفسه في خدمة الكل أو المجموع الاجتماعي القائم. إنها
— أي
النظرية النقدية — «تعارض العقل الذي تهيمن عليه أية سلطة خارجية، كما تعارض العقل الذي
يصرُّ في صراعه من أجل البقاء على أن يخضع الآخر، ويُنكر عليه حريته، وذلك حتى تستعيد
النظرية النقدية المفهوم أو التصور المثالي للعقل الذي يهتم بإلغاء الظلم الاجتماعي.»
٤٣
ويأتي هربرت ماركوز (١٨٩٨–١٩٧٩م) ليقدم نظرية نقدية موجهة بشكل أساسي ضد المجتمع
الصناعي —
ذي البعد الواحد — في النظام الرأسمالي. وهو يحدد دور العقل فيها بتفتيت بنية هذا المجتمع
ومؤسساته السياسية، ثم يوكل إليه أيضًا مهمة تغيير واقع المجتمع بالثورة عليه، والبحث
عن
قوى جديدة لم تنخرط بعدُ في تروس الآلة الصناعية. وعلى الرغم من وجود قدرات عقلية في
المجتمع الرأسمالي، إلا أن النظام السياسي يتسم بأنه لا عقلاني؛ ولذلك يتم توظيف العقل
في
الحضارة الصناعية لإخفاء هذه اللاعقلانية. كما تؤدي لا عقلانية العقل إلى إنتاجية متزايدة،
فتقوم أجهزة الإعلام عن طريق الإيحاء بخلق احتياجات جديدة للبشر من أجل زيادة الإنتاج،
أو
على الأقل من أجل المحافظة على معدله. لم تَعُد الاحتياجات البشرية تنشأ من داخل الفرد،
بل
صارت تنشأ لأسباب تقنية واقتصادية، فالنظام الرأسمالي يقوم بتلبية الاحتياجات اللاعقلية
للبشر من أجل زيادة العمل والإنتاج، وليس من أجل تحقيق سعادتهم. ولكن كيف تحولت العقلانية
التقنية إلى لا عقلانية؟ لقد أمنت التقنية مستوى معيشة الفرد وراحته، ولكنها فرضت عليه
من
القيود ما سلبه حريته، مما جعل العقل لا يحقق غرضه الأصيل في توفير حياة إنسانية متطورة
بشكل حر، بل فرضت الحضارة اللاعقلانية حصارًا حول الوعي والوجود المغترب. «إن عقلانيةَ
المجتمع المعاصر وتقدُّمَه وتطورَه هي في مبدئها لا عقلانية»،
٤٤ وأصبحت الحضارة نظامًا ليس هدفه التغيير العقلي — الذي يعني تغيير النظام نفسه
— بل هدفه تعقيل اللاحرية التي تجعل من استعباد الإنسان شيئًا لا مفر منه. هكذا سيطر
العقل
الأداتي على الحياة الإنسانية؛ فالمنهج العلمي الذي مدَّ سيطرته على الطبيعة، نجح الآن
في
السيطرة على الإنسان نفسه. وإذا كان عقل التنوير قد انتقد السيطرة وسعى لإلغائها، فقد
سمح
بالعقل التقني الذي أفرز «المجتمع الشمولي العقلاني»، وقد نجح هذا العقل في ترسيخ الخضوع
للتسلط بشكل لا يمكن ملاحظته، بحيث تحولت التقنية إلى أيديولوجيا؛ لأن القيود التي تفرضها
تظهر على أنها خاضعة للعقل الذي رتَّب ونظَّم كل شيء على نحو أفضل عن طريق تلبية وإشباع
الحاجات والرغبات المادية بشكل أفضل مما كان في السابق. وبذلك يتم تسكين الرغبة في التحرر،
ويتقبل البشر هذا الكبت بدون احتجاج، ويتأسس هذا الرضا في وعيهم وتصورهم؛ إذ وجدوا سعادتهم
في السلع التي يستهلكونها، بينما هي تستهلكهم. «إن التكنولوجيا المعاصرة تُضفي صيغة عقلانية
على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل تقنيًّا أن يكون
الإنسان سيد نفسه، وأن يختار أسلوب حياته … إن الإنسان بات خاضعًا لجهاز تقني يزيد من
رغد
الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل.»
٤٥
وإذا كانت السيطرة في الماضي «يفرضها أفراد وضعوا أنفسهم فوق قمة تراتبية، فإنها
تفرض
اليوم من النظام الكلي نفسه؛ ففي ظل هذا النظام توجد مجموعات لها سلطة إدارية تجد مصلحتها
في حفظ النظام، ولكن هؤلاء ليس لديهم الشجاعة أن يُعلنوا أن الاحتياجات التي يحققها زائفة،
وأن النظام المسيطر يعمل على خلق احتياجات جديدة، وخلق وسائل جديدة لتلبية هذه الاحتياجات.»
٤٦ إن العقل الكمي الخاضع للقياس الذي يفصل ما هو كائن عما ينبغي أن يكون، ويقدم
نفسه باعتباره متحررًا من القيمة، هو نفسه العقل الذي لا يفهم الواقع المعاصر؛ فنزعة
الفعالية في العلوم الطبيعية، والنزعة السلوكية في العلوم الاجتماعية، لم يرتفعَا فوق
الوضع
القائم، ونجد على سبيل المثال أن «علم الاجتماع التجريبي يبحث الظواهر الاجتماعية بمعزل
تام
عن سياقها الاجتماعي التاريخي الذي نشأت فيه؛ ولذلك تأتي قياساتُه غامضة وغير دقيقة؛
لأن
السياق الاجتماعي هو الذي يحدد الواقع وبدونه لن يكون الواقع مفهومًا، وقد أدى هذا —
في رأي
لاندمان — إلى أن المجتمع الحديث يمارس التسلط، ويبرع في جعله غير مرئي وغير محسوس، فنشأ
بطبيعة الحال علمُ اجتماع غير قادر على التعرف على التسلط، بل أصبح عاملًا مساعدًا على
حفظ
النظام، وباعثًا على الطمأنينة.»
٤٧
ويشارك ماركوز كلًّا من هوركهيمر وأدورنو الرأي في أن العقل لا هو مطلق ولا ثابت،
بل هو
نسبي متغير ينتمي إلى اللحظة التاريخية، وأن التطور التاريخي والواقع المتغير قدَّمَا
عقلانية
تحولت إلى لا عقلانية. والعقلانية المعاصرة تريد أن تؤيد الوضع القائم، وتزعم أنها تقدم
نظريات تعارض اللاعقلانية الموجودة. وإذا كانت وظيفة الفلسفة دائمًا هي التعرف على لا
عقلانية الواقع، ورفضه رفضًا عينيًّا، فإنها قصرت وظيفتها اليوم في رأي ماركوز على ما
يسمى
بعقلانية ما بعد التقنية، على حين أنه يمكن للفلسفة أن تقدم وظيفة بديلة عندما لا تجد
حرجًا
من العودة إلى أحكام القيمة، وتتجاوز النظام الموجود، وتعلو عليه بشكل نقدي، ولكن تزداد
صعوبة هذه المهمة عندما تزداد فعالية هذا النظام بأن يرفع من مستوى معيشة أفراده، ويمارس
مهارته في التعتيم على الاعتراضات الداخلية، بحيث يبدو البحث عن بديل لهذا النظام شيئًا
غير
عقلاني، «إن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد ساهمتَا في إخضاع السكان
لتقسيم العمل … والرقابات التقنية غدت اليوم تعبيرًا عن ذات العقل الذي أصبح خادمًا لكل
الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيًّا وكل معارضة مستحيلة.»
٤٨ إن تدعيم هذه العقلانية الزائفة لا يولِّد سوى الكبت والتدمير، بحيث لا يُجدي
معها إصلاحات أو تحسينات، بل لا بد من تغيير جذري وثوري للنظام بأكمله. وهذا يعني تحطيم
العقلانية التقنية السائدة.
هل يُفهم مما سبق أن ماركوز يعارض التقدم التقني؟ حقيقة الأمر أنه يطالب بتقنية تحت
سيطرة
البشر، تقنية غير موجهة وغير مستبدة ولا متحكمة في الإنسان، وأن تتم سيطرة الغايات على
الوسائل، وأن تعاود التقنية الظهور من أجل خدمة الإنسان وتحقيق سعادته. كما يجب أن يرفض
الوعي الأخلاقيات التي قام عليها العمل من أجل تحقيق أهداف اقتصادية عملية، وأن تتحول
المعرفة البرجوازية التي تخدم المصلحة إلى معرفة خالية من المنفعة.
ونلاحظ عند ماركوز نمطين من النقد؛ أحدهما: «محافظ»، والآخر: «ماركس». لقد أراد لنظريته
النقدية أن تكون ثورية بالمعنى الماركسي، ولكن الثورة الحقيقية عنده غير ممكنة؛ لأن ثورته
هي ثورة الهامشيين والمنبوذين. لذلك فهو لا يحسب في جانب الفوضوية الشاذة، ولا في جانب
التغيير الاجتماعي الجذري، ولذلك أيضًا ظل محافظًا رغم ادعائه للثورية. وعلى أية حال
فمهما
كان الرأي في أصالة فكر ماركوز، فهو قد أثر تأثيرًا عميقًا على الفكر السياسي في أواخر
الستينيات من هذا القرن خاصة في ثورة الطلاب التي اندلعت في أواخر الستينيات.
هنا يحسن بنا أن نقف وقفة نقدية من أصحاب النظرية النقدية، فمع أن الفكر الفلسفي
المعاصر
قد تجاوز التفكير الميتافيزيقي الكانطي والهيجلي، إلا أنه ما زال هو التأمل العقلي الذي
يؤصل الجوانب المعرفية والسلوكية والأخلاقية. وعلى الرغم من زعم أصحاب النظرية النقدية
بأنهم قد تخلصوا من التأثير الكانطي والهيجلي معًا، إلا أن بدايات النظرية نفسها تؤكد
عكس
ذلك، فهي لم تستطع أن تتخلص تمامًا من تناقضاتهما، ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يلعبه
هابرماس (١٩٢٩م) أبرز أعضاء الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت لكي تتجنب النظرية النقدية
أخطاء
الفلسفة الترانسندنتالية الكانطية والجدل الشمولي الهيجلي، على الرغم من اعترافه بأهميتهما،
وبأن هيجل «وضع أساس النزعة المطلقة الفلسفية التي تطمح أو تستهدف دورًا أكبر للفلسفة
من
ذلك الذي طمح إليه كانط»، فقد التقط نظرية الحداثة الكامنة عند كانط، وأبرزها وطورها
من نوع
من النقد المعرفي إلى نوع من النقد للأشكال المتناقضة للحداثة، وهذه الانعطافة الهامة
هي
التي أعطت للفلسفة قيمة تاريخية عالمية في علاقتها بالثقافة ككل.
٤٩
وإذا كان هابرماس يعترف بأن الفلسفة تساهم بدور هام في تحليل الأسس العقلية للمعرفة
والفعل والقول، فهو يقر أيضًا بأنها تكتسب علاقة قوية بالكل ويتساءل: «لكن هل هذا يكفي؟
وماذا عن النافذة التي فتحها كانط وهيجل على كلية الثقافة بتصوراتهما ومفاهيمهما التأسيسية
والافتراضية للعقل؟»
٥٠ لم تَعُد الفلسفة في رأي هابرماس هي القاضي الذي تمثل أمامه مختلف العلوم
والثقافات لكي يُعين لكلٍّ منها مكانه، ولهذا نجده يتساءل: «ماذا يحدث لو تنازلت الفلسفة
عن
دور القاضي في شئون العلم تمامًا كما في شئون الثقافة؟ هل يعني هذا أن علاقة الفلسفة
بالكلية قد انقطعت؟ وهل يعني أنها لم تَعُد حارسة للعقلانية؟»
٥١
يحاول هابرماس الإجابة على هذه الأسئلة ببيان أن موقف الثقافة ككل لا يختلف عن موقف
العلم
ككل، فهما ليسا بحاجة إلى تأسيس أو تبرير من جانب الفلسفة: «فمنذ فجر الحداثة في القرن
الثامن عشر أوجدت الثقافة تلك البناءات العقلانية التي حددها كلٌّ من ماكس فيبر وامبل
لاسك
بوصفها مجالات القيم الثقافية، ووجود هذه المجالات يستدعي الوصف والتحليل وليس التأسيس
الفلسفي»،
٥٢ فانقسام العقل عند ماكس فيبر إلى مجالات ثلاثة — على سبيل المثال — وهي العلم
الوضعي، والمشروعية الأخلاقية والمعايير الجمالية، لم يكن للفلسفة فيه إلا دور قليل.
ويرى هابرماس أن الإنقاذ الوحيد للمضمون العقلي للتراث الفلسفي يكمن في فهم العلوم
الأخرى، بحيث تصبح مهمة النظرية النقدية هي تحويل دور العقل من وظيفته المتعالية التي
تحدد
لكل علم مكانه، إلى وظيفة التفاعل والحوار مع العلوم الأخرى. لقد أراد أن يعيد تشكيل
النظرية عن طريق إعادة بناء العقلانية الاجتماعية فقدم ما أطلق عليه «العقلانية التواصلية»
في مقابل «العقلانية الأداتية» التي هاجمها الجيل الأول من أصحاب النظرية النقدية، وبذلك
انطلق هابرماس إلى خطوات أوسع، ووضع معايير نقدية جديدة من أجل تأسيس نظرية للمجتمع تستهدف
عقلنة الحياة الاجتماعية، أو بمعنى آخر إقامة حياة اجتماعية حرة على أسس عقلانية. هكذا
نجد
أن النقد عند هابرماس قد أخذ أبعادًا أخرى، فهو «يعتقد أن العقل الحديث لم يستنفد كل
إمكاناته للقيام بمراجعة ذاته، ومحاكمة نتاجاته اللاعقلانية، ومن ثَم يتعين إيجاد تصور
مختلف للعقلانية إذا أردنا عدم السقوط في الأسطورة كما حدث لمعظم الفلاسفة الذين اعترضوا
على عالم التقنية مثل هيدجر.»
٥٣
وقد تأثرت النزعة النقدية عند هابرماس إلى حد كبير بعقلانية ماكس فيبر، فهي عند هذا
الأخير — كما سبق القول — في مجالات ثلاثة: مجال الوقائع الموضوعية العلمية، ومجال المعايير
والمشروعية، وأخيرًا مجال القيم والدلالات الرمزية. وقد حاول هابرماس إعادة صياغة هذا
البناء العقلاني الاجتماعي، فأصبحت شروط السلوك العقلاني في رأيه «لا تقتصر على المستوى
المعرفي الأداتي، بل تمتد أيضًا إلى مجال الأخلاق العملية.»
٥٤ ومعنى هذا أنه لا يغفل أهمية العقلانية الأداتية الموجهة لهدف ولا دورها في
تلبية المتطلبات المادية في المجتمع، ولكنه أيضًا يؤكد على جانب آخر على قدر كبير من
الأهمية، وهو فهم التفاعل الداخلي بين الذوات، والتفاعل اللغوي في الحوار لتصبح العقلانية
عنده في نهاية الأمر بمثابة استعداد خاص لذواتٍ لديها القدرة على القول والفعل، ولكي
يصل
إلى «فهمِ العالم المعيش، فإن الأمر لا يقتصر على ثمار العلم والتقنية، وإنما يتعلق
بالفلسفة التي عليها أن تقوم بدور المؤوِّل (أو المفسِّر)، وأن تجدد صلتها بالكلية، وأن
تكون قادرة على المساهمة في حركة التفاعل بين الأبعاد المعرفية الأداتية، والممارسة
الأخلاقية والتعبير الجمالي … وبذلك تتخلى الفلسفة عن دور القاضي الثقافي، وتلعب دورًا
آخر
هو دور المؤوِّل الوسيط.»
٥٥
ولم ينكر هابرماس الدور الكانطي والهيجلي في مشروعه الفلسفي، بل رأى «أن أساليب التفكير
الترانسندنتالي والجدلي ما زالت صالحة؛ لأنها تستطيع أن تقدم الأسس والفروض النظرية التي
تقوم عليها ميادين الفعل والتجربة والتواصل اللغوي. وتقديم أمثلة عن التعاون والتكامل
الناجحَين بين الفلسفة والعلم يمكن أن يتم من خلال معرفة تطور النظرية العقلانية بدون
أيِّ
مطامح ذات نزعات تأسيسية أو أخلاقية على طريقة كانط أو هيجل … ومن خلال تجاربي واهتماماتي
البحثية بدا أن هناك تعاونًا بين فلسفة العلم وتاريخ العلم، بين نظرية أفعال الكلام
والدراسات التجريبية للتداول اللغوي»،
٥٦ وبذلك دخلت الفلسفة في شكل من أشكال التعاون مع العلوم الإنسانية.
بهذه النظرة إلى رفع الفلسفة إلى علم إنساني فلسفي يتحول التفكير العقلي الفلسفي إلى
نظرية نقدية لا يمكن لها أن تعمل مستقلة عن العلوم التجريبية، أو ما يسميه هابرماس علوم
إعادة البناء الاجتماعي، على ألَّا تكون وظيفتها بحث نتائج العلوم خاصة بعد تزايد مجالات
التخصص الدقيق في فروع العلوم المختلفة، بل تكون وظيفتها هي عمل نوع من الحوار، ووضع
بعض
الفروض التجريبية التي تنصبُّ على المشاكل العملية مثل ممارسات الحياة اليومية والكلام
والسلوك والتعاون مع العلوم المختلفة، وذلك كله دون أن تفقد ما يميز الفلسفة دائمًا،
وهو
الطابع الكلي، بل تمارس هذه الوظيفة الواقعية الجديدة في إطار العقلانية والحرية.
هكذا قام هابرماس بإعادة بناء النظرية النقدية، وجعل لها دورًا أكثر تواضعًا، وأدمجها
داخل الحياة العملية والعلوم الاجتماعية والتجريبية. وتحتفظ الفلسفة عنده بدورها التقليدي
كحارسة للعقل واستقلاله، ولكنها تستطيع الآن — كما يرى بومان — أن توظف المعارف التي
تتوصل
إليها العلوم الاجتماعية والتجريبية في نقد الحياة بالطريقة التي قام بها الإغريق ولأداء
الدور السقراطي العريق في نقد الحياة.
٥٧ إن للفلسفة دورًا تؤديه من خلال التأمل في المعرفة والكلام والفعل، ومن خلال
هذا التأمل تستطيع الفلسفة أن تساعد في تحديد أو إبراز بعض الشروط اللازمة لإقامة شكل
من
أشكال الحياة العقلانية، سواء استطاعت المجتمعات بعد ذلك أن تحققه أم خرجت عليه، بمعنى
أن
تساعدنا على فهم وتفسير ونقد التقاليد والمؤسسات التي نتوارثها باعتبارنا أعضاء في مجتمعات
معينة، ونعيش في ظروف تاريخية محددة. وبهذا يختلف هابرماس اختلافًا صريحًا عن النظرة
السلبية للتاريخ التي ذهبت إليها مدرسة فرانكفورت في مرحلتها المتأخرة. فنظريته النقدية
تحاول أن تفتح نافذة الأمل — مهما يكن هذا الأمل متواضعًا — في تحقيق بعض الشروط اللازمة
لإقامة حياة اجتماعية على أسس عقلانية. ولعل ماركس — في رأي بومان — قد شارك في هذا الأمل
في أحلك أيام نشأة الرأسمالية. وتصبح النظرية النقدية نظرية عملية كلما استطاعت أن تزود
المتطلعين للتغير الاجتماعي بنظرات تدلُّهم على إمكان العثور على حلول للمشاكل التي تواجههم
بطريقة عقلانية ومستقلة كلما تهيأت الظروف والشروط التي تسمح بذلك. وقد سبق أن قامت النظرية
النقدية دائمًا بهذه الأدوار المعيارية والتفسيرية والعملية منذ أن حاول ماركس أن يحول
الفلسفة إلى أداة للتغير والتحرر.
٥٨
وأخيرًا نسأل: ماذا قدَّم لنا نقد العقل الذي امتد من كانط وهيجل وماركس إلى أصحاب
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت عبر أجيالها المختلفة؟ ماذا قدم لنا بعد أن نزل العقل،
أو
بمعنى آخر أُجبر على النزول عن عرشه المتوج إلى قلب المجتمع والتاريخ؟ وإلامَ أدى تطور
مفهوم العقل منذ الإغريق وعصر التنوير وتطور آلياته ومناهجه المعبرة عنه حتى الآن؟ هل
استطاع أن يحقق وضعًا وحياة أفضل للإنسان الذي هو هدف التاريخ وغايته؟ وهل أمكنه أن يحرره
من القوى التي استعبدتْه عبر عصور طويلة سواء أكانت قوًى طبيعية أو سياسية، ومن الظروف
والقيود التي كبلته على مدى تاريخه الطويل؟
لقد رأينا أن العقل تطور إلى لا عقل كما أثبت ذلك أعضاء مدرسة فرانكفورت في نظرياتهم
النقدية التي تُعدُّ آخر حلقة من حلقات تطور العقل النقدي، وقد بينوا بطرق مختلفة أن
العقلانية المعاصرة ربطت بين العقلانية والتكنولوجيا الأداتية، أي عقلانية السيطرة عن
طريق
التقنية كما ركزوا نقدهم على العقل الأداتي الذي اتخذ العقل أداة منهجية للسيطرة على
الطبيعة والتاريخ معًا، ومما لا شك فيه أن نقد العقل في مدرسة فرانكفورت يختلف اختلافًا
أساسيًّا عن النقد السابق له منذ نقد كانط للعقل، وحتى نيتشه، ومن جاء بعده؛ إذ يتميز
بأنه
نقد ذو بُعدٍ اجتماعي، وأنه يدور في المقام الأول حول نقد نظرية الحقيقة أو الهوية عند
هيجل
لإقامة بناء نقدي على أساس اجتماعي، فكان لا بد من دحض نظرية الهوية لإظهار واقع البشر
كما
رأينا عند أدورنو في دعوته إلى «اللاهوية».
إن اتخاذ أصحاب النظرية النقدية من النقد أداة لتغيير المجتمع من جذوره، وللكشف عن
اللاعقلانية التي تمخضت عن العقل نفسه، لم يكن رفضًا للعقلانية — كما قد يبدو ذلك من
القراءة السطحية لأفكارهم — بل كان في الحقيقة دعوة إلى مزيد من العقلانية التي تدرك
التغاير والاختلاف بدلًا من الوحدة والتوحد. وإذا كان مفهوم العقل أو العقلانية في نقد
مدرسة فرانكفورت قد عجز عن إقامة نسقٍ عقليٍّ متكامل، ولم يركز على شكل واحد من أشكال
العقل
الذي أثبتوا أن له أشكالًا متعددة، فهو لا يصدر أيضًا عن مفهومٍ متعالٍ على الواقع وخارج
عن
التاريخ، بل يسعى إلى تحليل نقدي للواقع، ومواجهة لا عقلانيته للكشف عن كل ما يعوق
العقلانية الإنسانية، أي أنهم يسعون باختصار إلى تغيير الواقع ليصبح أكثر إنسانية.
وإذا كانت النظرية النقدية تنتمي إلى التراث الماركسي كأحد الروافد الأساسية في تكوينها
كمنهجية علمية ونقدية مع تأويل جديد للمادية التاريخية بطبيعة الحال قام به أعضاء المدرسة
بأشكال مختلفة، إلا أنها — أي النظرية النقدية — قد ارتفعت — في تقديرنا — من منهجية
نقدية
إلى فلسفة تاريخ جديدة، أي أن البُعد الحقيقي للنظرية النقدية هو فلسفة التاريخ. فهي
تُعيد
تقييم الذات التاريخية نفسها، وتحلل علاقة العقل بالتاريخ، الأمر الذي يُفضي إلى إعادة
تقييم التاريخ وغاية الحضارة، بحيث يمكن القول بأن النظرية النقدية في حقيقتها الأخيرة
هي
تعبير عن فلسفة مدرسة فرانكفورت في التاريخ؛ فالعقل الذي قضى على الأسطورة، قد تحول هو
ذاته
إلى أسطورة، ودخل في أزمة مع نفسه في قلب التاريخ حين جعل العقل الأداتي من الإنسان سيدًا
على الطبيعة، ثم أصبح الإنسان نفسه مجرد أداة إلى آخر ما عرضنا له سابقًا، بالإضافة إلى
عدم
فصل العقل والتنوير عن الجذور الاجتماعية والسياسية ولا عن تطور العقل التاريخي من أجل
تغيير الواقع، وهذا كله ليس سوى فلسفة تاريخ جديدة لإنسانية جديدة.
ونعيد طرح السؤال السابق: ماذا قدمت مدرسة فرانكفورت؟ لا بد قبل محاولة الإجابة أن
ننوه
هنا بأن هذا البحث ليس بحثًا عن هذه المدرسة بوجهٍ خاصٍّ ولا هو تعريف بأعضائها الذين
يحتاجون بغير شكٍّ إلى دراسات مستفيضة، ولكننا نتعرض لها فقط من حيث إنها تمثل آخر حلقة
من
حلقات تطور العقل النقدي الذي هو موضوع هذا البحث. وفي هذه الحدود نعيد طرح السؤال بصورة
أخرى: ماذا قدمت النظرية النقدية للخروج من اللاعقلانية؟ هل بالتخلي عن العقلانية وإزالة
العقل؟ لا، بل بمزيدٍ من العقلانية بإعادة إدخال العقل في التاريخ، وبتعقيل العقل لذاته،
فلا يكفي نقد العقل للواقع فحسب، بل آن الأوان لينقد العقل ذاته لإنقاذه من نفسه، ويعيد
التفكير في علاقة الإنسان بالطبيعة، وفي علاقة الناس فيما بينهم كما بين هابرماس في نظرية
«الفعل التواصلي»، أي الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي الذي يفترض أن يسترد
دوره الخلَّاق في الحياة الإنسانية الحرة الواعية.
وأخيرًا يلح السؤال: هل استطاعت النظرية النقدية بالفعل إنقاذَ العقل من نفسه؟ وهل
استطاعت أن تقترب من هدفها الأساسي وهو تحرير إنسانية الإنسان وتأكيد فرديته المقهورة،
وإبعاد أشباح اللاعقلانية الزاحفة عليه في عصرنا الحاضر بأشكال مختلفة؟ الواقع أن بعض
أعضاء
المدرسة — مثل أدورنو وماركيوز — لم يجدوا هذا الإنقاذ إلا في الفن.
٥٩ وفيما عدا ذلك فقد غلب التشاؤم على معظم أعضاء المدرسة، ومع ذلك تظل أهمية
النظرية النقدية كامنةً في سلاحها النقدي، وفي تعبيرها عن صرخة العقل في مواجهة تناقضاته.
وإذا كانت هذه الصرخة قد بقيت حتى الآن على مستوى الفكر الفلسفي والتأملي، ولم تستطع
أن
تشكِّل نظرية متكاملة وقادرة على توجيه الفعل الإنساني على أرض الواقع، فإنها تظل تعبيرًا
حيًّا وصادقًا عن أزمة العقل التاريخي والنقدي في الحياة الفلسفية المعاصرة في
الغرب.