(١) المؤثرات الفكرية في مشروع هابرماس
يعد هابرماس — كما سبق القول — ممثلًا للجيل الثاني من النظرية النقدية التي أخذت
على
عاتقها نقد عقل التنوير، وتجلَّى هذا النقد بصورة واضحة في «جدل التنوير» لهوركيمر
وأدورنو، الذي عبَّرَا فيه عن الانتكاسة التي أصابت التنوير والنكوص الذي أصاب العقل
عندما تم توظيفه كأداة لخدمة الإنتاج الصناعي في المجتمعات الرأسمالية، وما ترتب على
ذلك من اغتراب الذات عن الموضوع، وتحول عقل التنوير إلى ما أطلق عليه اسم «العقل الأداتي».
وقد شارك هابرماس أعضاء الجيل الأول في نقدهم للعقل الأداتي، وكان بإمكانه أن
يسير في «الجدل السلبي» الذي سار فيه أدورنو، ولكنه لم يجد فيه عاملًا مساعدًا على بناء
نظرية نقدية متناسقة منهجيًّا، وذلك على الرغم من أن الفرصة لذلك كانت مواتية عندما بحث
كلٌّ من هوركهيمر وماركوزة أوائل الثلاثينيات في بدايات الفلسفة البراجوازية العقلية،
ووجدَا فيها إمكانات عقلية كان من الممكن تنميتها على يد الطبقة العاملة والطبقات
الهامشية، ولكن «جدل التنوير» كشف عن انهيار العقل، وبدأت الشكوك تحوم حول هذا الأمر،
وخاصة أن أدورنو كشف عن تناقضات النظرية النقدية، وأظهر التنوير في شكلٍ معادٍ للحقيقة
والصدق، فرأى هابرماس أنه لا بد أن يخرج من دائرة الجدل السلبي الذي لم يتبنَّ سوى جانب
الهدم.
وسرعان ما تحوَّل هابرماس إلى ناقد للنظرية النقدية نفسها وجيلها الأول — في المرحلة
الثانية من تطوره الفكري — وتصدَّى لما اعتبره نقاط ضعف في بنية النظرية، بل إن الأمر
على حدِّ قوله: «لم يكن ثمة نظرية نقدية (هكذا أجاب في إحدى مقابلاته على سؤال عما يراه
من أوجه القصور في النظرية النقدية) لم يوجد مذهب متماسك … لأن نظرية المجتمع ينبغي أن
تكون نسقية، وبدَا لي أن أوجه الضعف في النظرية النقدية يمكن أن تُجمع تحت عنوان «الأسس
المعيارية» وفي «مفهوم الحقيقة وعلاقتها بالأنظمة العلمية» و«التقليل من قيمة التراث
الديمقراطي والدولة الدستورية».»
٦ هكذا كان افتقار النظرية النقدية إلى الأسس المعيارية للنقد، واقتصارها على
نقد مفهوم العقل الأداتي بغير أن تتجاوزه إلى نظرية نسقية، وتبنيها — في رأي هابرماس
—
لمفهوم الحقيقة عند هيجل مع أنه لا يتفق مع قابلية البحث العلمي للخطأ. وعدم أخذها —
على مستوى النظرية السياسية — الديمقراطية مأخذًا جادًّا، كلُّ هذا دفعه — أي هابرماس
—
إلى البحث عن دماء جديدة تغذي النظرية النقدية، وتتلافى أوجه القصور فيها بوضع نظرية
في
الفعل التواصلي تكون «بديلًا عن فلسفة التاريخ التي عولت عليها النظرية النقدية
المبكرة، والتي يُعدُّ الدفاع عنها ممكنًا.»
٧ ومن أجل هذا جمع بين الهرمينوطيقا (فلسفة التأويل) وفلسفة اللغة، بحيث يمكن
القول إنه مدين بنظريته عن الفعل التواصلي لحدوث استقاها من اللغويين
والتحليليين.
انطلق هابرماس من سد الثغرات التي وجدها في النظرية النقدية، ونصب نفسه مدافعًا عن
العقل والعقلانية التي وجد فيها أساسًا لنظرية اجتماعية نقدية جديدة، ومن أجل هذا الهدف
وجد نفسه في مواجهة مع مشكلات الحداثة، وما آل إليه العقل الحديث، كما وجد نفسه أيضًا
في حالة مواجهة مع كل التيارات الفلسفية المضادة للحداثة، وتيارات ما يسمى ﺑ «ما
بعد-الحداثة» ونزعاتها التفكيكية للعقل. وكان عليه أن يتصدى للمطالبين بتحجيم دور العقل
والمحتجين على هيمنته، داعيًا لتفعيله لا لتحجيمه، ورافعًا شعاره الشهير «إن الحداثة
مشروع لم يكتمل بعد.» ولكن نقد العقل من قِبَل التيارات الفلسفية المعاصرة هو الذي دفع
هابرماس لإعادة صياغة نظرية عقلانية جديدة. كما دفعته فلسفة هيدجر بتحليلاتها
الأنطولوجية — التي ركزت على وجود الإنسان في العالم ووجوده مع الآخرين … إلخ، ولم
تنطلق من الوعي — إلى «الاهتمام بالوعي الفردي والوعي الجماعي، ومحاولة الكشف عن درة
هذا الوعي على تحديد نمط الوجود … فتأسست لديه البدايات الأولى التي قادته إلى التطلع
نحو التحرر الاجتماعي من منظور سوسيولوجي وهو المنظور الغائب في فلسفة هيدجر»،
٨ ولذلك كان هدف هابرماس هو تحرير الوعي الاجتماعي وتأسيس نظرية تقوم على
التواصل الإنساني.
كان علم الاجتماع أيضًا أحد المكونات الأساسية في مشروع هابرماس الفلسفي؛ لارتباطه
بمشكلة العقلانية والمشكلات التي نجمت عن تحديث المجتمع، وأهمية دور النظرية الاجتماعية
في تحولات القِيَم الموجهة لمؤسسات المجتمع من اقتصادية وسياسية واجتماعية. كما أن
تأسيس نظرية للمجتمع تطلب منه إعادة بناء تاريخي للنظريات الاجتماعية الكلاسيكية. ومن
هنا كان اهتمامه بعلماء الاجتماع أمثال ماكس فيبر ودور كايم وتالكوت بارسونز، والتفاته
بوجهٍ خاصٍّ لنظرية الفعل عند هذا الأخير الذي اتخذ منه نموذجًا وشرع في العمل على
صياغة نظريته في الفعل التواصلي. فقد حاول هابرماس تقديم نظرية بها نوع من التداخل بين
منطلقات مختلفة، فقام بالتأليف بين النزعة الوظيفية عند تالكوت بارسونز وبين النظرية
العقلانية عند ماكس فيبر مستندًا إلى التحليل الماركسي من أجل تأسيس نظرية للمجتمع
الحديث محاولًا كذلك حلَّ أزمة العلوم الاجتماعية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف قام هابرماس
بتطوير أفكاره بتناول: «(أ) نظرية دور كايم عن تطور القانون، ووضع التطور القانوني في
سياق الأشكال المتغيرة للتكامل الاجتماعي التي انتبه إليها. (ب) منطق هذا التغير في
الشكل يمكن أن يتضح من خلال تجربة فكرية تقوم على أساس فكر دور كايم، كما يعتمد تفسيرها
أو شرحها — أي التجربة الفكرية — على أفكار ميد حول أخلاق الخطاب، وتشخيص ميد عن التطور
الحتمي للفردية سيتيح لنا أن نتوسع في بحث الهوية والتفرد.»
٩
وكانت النظرية العقلانية عند ماكس فيبر مرجعًا أساسيًّا في مشروع هابرماس الفلسفي
والخلفية التي قام عليها والتي تحددت في إعادة بناء العقلانية الاجتماعية عند ماكس فيبر
بعد أن قام بتحليل المفهوم العقلي عنده: «ينظر ماكس فيبر إلى مفهوم العقلانية العملية
من ثلاث منظورات: استخدام الوسائل، ووضع الغايات، والتوجه نحو القيم. وتقاس العقلانية
الأداتية لفعل ما بالتخطيط الفعال لتطبيق الوسائل في سبيل الوصول إلى أهداف معينة،
وتقاس عقلانية اختيار الفعل بالتقدير الصحيح للغايات والأهداف في ضوء قيم محددة ووسائل
ممكنة وظروف معينة. وتقاس العقلانية المعيارية للفعل بالقدرة على التوحيد والتنظيم
المنهجي والنفاذ إلى مستويات القيمة. والمبادئ التي يخضع لها اختيار الأفعال، ويطلق
فيبر على هذه الأفعال التي تحقق شروط عقلانية الوسائل والاختيار اسم «العقلانية
الغائية» كما أطلق على تلك الأفعال التي تحقق الشروط المعيارية العقلية اسم «عقلية
القيم»، وهذان الجانبان يمكن أن يختلفَا بعضهما عن بعض.»
١٠
هكذا قسم فيبر النشاط العقلي إلى ثلاثة مجالات: مجال الواقعية الموضوعية العلمية
أو
العلم الوضعي، ومجال المعايير والمشروعية أو المشروعية الأخلاقية، ومجال القيم
والدلالات الرمزية أو المعايير الجمالية. وقد فصل فيبر بين المجالات الثلاثة: «فالتقدم
الذي نُحرزه على مستوى العقلانية الغائية يمكن أن يكون في صالح نموذج عقلاني غائي، وإن
كان يحيط به الشك من الناحية الأخلاقية، وبذلك يكون على حساب الفعل المرتبط بعقلانية
القيم، والواقع أن الثقافة الغربية العقلانية قد تطورت في هذا الاتجاه، ولكن هناك ما
يدل أيضًا على الاتجاه المعاكس، فتعقيل الاتجاهات القيمية يمكن أن يقوم على تعطيل الفعل
العقلاني الهادف أو الغائي في نفس الوقت، ويضرب فيبر مثلًا على ذلك بالبوذية المبكرة
التي يعتبر أنها قامت على أسس أخلاقية عقلانية بمعنى أنها مكَّنت معتنقيها من التحكم
في
كل الدوافع الغريزية، وإن كانت في الوقت نفسه قد أدت بهم إلى الفشل في السيطرة على
العالم بشكلٍ منهجيٍّ منظم.»
١١
أعاد هابرماس النظر في هذه المجالات الثلاثة من أجل وضع نظرية عقلانية للمجتمع أو
من
أجل عقلنة العالم المعيش، وذلك بدمج هذه المجالات (العلم–الأخلاق-الفن) التي فصلها ماكس
فيبر عن بعضها: إن السلوك العقلاني المنهجي في الحياة يتميز بأنه يقوم ببناء ذلك
النموذج من الفعل المركب الذي يهدف إلى العقلانية والاستزادة منها أو تفعيلها في كل
الجوانب الثلاثة السابقة الذكر، بحيث يجمع بين هذه البناءات العقلانية ويدمجها بعضها
في
بعض؛ لكي تتعاون لإحداث نوع من الاستقرار مما يجعل النجاح في أحد هذه المستويات يفترض
—
وإلى حدٍّ ما يشجع على — النجاح في المستويَين الآخرَين؛ فالسلوك العقلاني المنهجي في
الحياة يشجع على نجاح الفعل على النحو التالي:
- (١)
من زاوية العقلانية الأداتية، وذلك بإيجاد حلٍّ لقضايا التقنية وإيجاد
الوسائل الفعالة.
- (٢)
من زاوية عقلانية الاختيار، وذلك بالاختيار الصائب بين البدائل المختلفة
للفعل (فنحن نتحدث عن العقلانية الاستراتيجية عندما نضع في اعتبارنا
القرارات العقلية التي يتخذها الخصوم).
- (٣)
وأخيرًا من زاوية العقلانية المعيارية، وذلك بإيجاد حلول للمهام
الأخلاقية العلمية داخل إطار أخلاق تقوم على المبادئ.
١٢
حاول هابرماس تحليل البنية الاجتماعية للعقل، ووضع الشروط اللازمة لإقامة حياة
اجتماعية على أسس عقلية؛ فإذا كان كل نشاط عقلي عند ماكس فيبر هو نشاط موجَّه لغاية
بعينها. ومِن ثَم فهناك ارتباط ضروري بين العقلانية والتقدم العلمي والتقني، فإن
هابرماس في سياق إعادة صياغته للعقلانية، يحلل النشاط العقلي في كل أبعاده، ليس فقط من
المنظور المعرفي-الأداتي، بل أيضًا بإدخال الأبعاد الأخلاقية — العملية والجمالية —
التعبيرية. وبعد أن أكدت عقلانيةُ ماكس فيبر على النشاط العملي في الفعل العقلي، جاء
هابرماس ليؤكد — إلى جانب هذا المفهوم العملي للعقلانية — على النشاط التواصلي.
كانت فلسفة اللغة أيضًا أحد — بل أهم — الروافد الأساسية في تكوين نظرية الفعل
التواصلي؛ فقد اهتم هابرماس اهتمامًا خاصًّا بأعمال اللغويين وفلاسفة اللغة خاصة عند
كلٍّ من جون أوستن John Austin وجون سورل John Searle في نظرية «أفعال الكلام»، وهي النظرية
التي تنطلق مما يسمى بفلسفة اللغة الطبيعية، والتي طرحها فيتجنشتين في كتابه «بحوث
فلسفية»، وفي فكرته الأساسية عن «ألعاب اللغة» واستحالة الفصل بين الدلالة والتركيب
والتداول (أي الاستخدام الفعلي الحي للغة)، والتي تختلف جميعًا من لعبة إلى أخرى، ولكن
جون أوستن هو المؤسس لهذه النظرية التي انطلقت عنده من نقده لزعم فلسفي يدَّعي أن قول
شيءٍ ما هو دومًا إثبات شيء ما، أي أن دور اللغة يقتصر على الإخبار عن العالم. وبالتالي
فالقضايا النافعة هي التي تقبل الصدق أو الكذب، وما عداها ليس سوى أحكام خالية من
المعنى. ولدحض هذا الرأي يقدم أوستن نماذج من عبارات لها صيغة الجمل الإخبارية، ولكنها
لا تصف ولا تُثبت حدثًا أو واقعًا، بل يتم بها إنجاز فعل ما (مثال ذلك جملة «بعتك
سيارتي» عند التلفظ بهذه العبارة يقوم القائل بفعل البيع ولا يصف حال البيع) بهذا
المعنى، فإن المتكلم يقوم بإنجاز فعلٍ ما عند التلفظ بأي تعبير. وقد تابع الفيلسوف
الأمريكي جون سورل تطور «نظرية أفعال الكلام»، واقترح معايير جديدة لتصنيف أفعال
الكلام، وقد لاقت النظرية — أي نظرية أفعال الكلام — اهتمامًا كبيرًا من جانب الفلاسفة
واللغويين على السواء.
(٢) العقلانية التواصلية
انطلق هابرماس من مفهوم جديد للعقلانية، فإذا كانت الحداثة الأوروبية قد انتهت إلى
ما
يُعرف بالعقل الأداتي، فقد أدانته كلُّ التيارات الفلسفية المضادة للحداثة، وتعالت
صيحات التخلي عن العقل، وعن الفلسفة التي يعتبر العقل موضوعها الأساسي. ومن هنا جاءت
دعوة هابرماس لتفعيل دور الفلسفة والتأكيد على أهمية العقل باعتباره المنطلق الأساسي
لأي نظرية في المجتمع. ولذلك أراد هابرماس تفجير الطاقة الإبداعية لعقل التنوير باعتبار
أن الحداثة — في رأيه — مشروع لم يكتمل بعد. وإذ كان التطور الحديث — كما سبق القول —
كشف عن سلبيات العقلانية الأداتية، فإن هذا ليس مبررًا كافيًا للتخلي عن مشروع الحداثة،
بل لا بد أن تواصل المجتمعات الحديثة تطورها باستكمال هذا المفهوم الأداتي بإدخال البعد
التواصلي في مفهوم العقلانية.
يحدد هابرماس مفهوم العقلانية بقوله: «إن ما نسميه «عقلانية» هو أولًا الاستعداد
الذي
تُبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل وعلى اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ.»
١٣ وإذا كانت الحداثة قد انتهت بما يسميه هابرماس بالتمايز بين العلم والأخلاق
والفن، فإن قصر مفهوم العقل على فلسفات الوعي مؤكدًا أنه — أي الوعي — يمثل جانبًا
واحدًا فقط من النشاط العقلي، وأراد وضع العقل في إطار أشمل؛ لهذا قام بإدخال البعد
التواصلي في مفهومه الجديد عن العقلانية. وهذا البعد هو الذي يحقق التفاعل بين الناس
من
خلال التواصل اللغوي الهادف إلى التفاهم المتبادل وفق قواعد أخلاقية تحكم العملية
التواصلية حسب معايير متفق عليها، ومن خلال هذا نصل — في رأيه — إلى العقلانية
التواصلية.
ولكن ما هل العقلانية التواصلية التي حاول هابرماس أن يقدم من خلالها تفسيرًا لبنية
المجتمع المعاصر؟ يجيب الفيلسوف على هذا السؤال بتحديد أبعاد ثلاثة ينطوي عليها مفهوم
العقلانية التواصلية: «أولها: علاقة الذات العارفة بعالم الأحداث والوقائع، ثانيها:
علاقتها بعالم اجتماعي يتميز بالفاعلية وبالانخراط الشخصي في التفاعل مع الآخرين،
وأخيرًا علاقة شخص يعاني أو شخص عاطفي — بتعبير فويرباخ — علاقته بطبيعته الباطنة أو
بذاتيته وذاتية الآخرين.»
١٤ تلك هي الأبعاد الثلاثة التي تتضح للمرء عندما يحلل عمليات التواصل.
ويهدف هابرماس من العقلانية التواصلية إلى وضع نظرية نقدية لمجتمع يقوم على أسس
عقلانية: «أريد أن أبيِّن أنه من الممكن تطوير نظرية الحداثة باستخدام مفاهيم نظرية
تواصلية تملك دقة تحليلية تحتاجها الظاهرة الاجتماعية المرضية التي يسميها التراث
الماركسي بالتشيُّؤ.»
١٥ ولن يكون هذا إلا بإعادة توظيف أو تحديد دور الفلسفة في المجتمع، عندما
تقوم — أي الفلسفة — بدور التفسير أو التأويل، وأيضًا عندما تتحول وظيفتها من وظيفة
المرشد أو القاضي للعلوم الأخرى إلى الانخراط في المجتمع بإقامة نوع من التعاون والحوار
بينها وبين مختلف العلوم. «إن مفهوم العقل التواصلي المتأصل في الممارسة اللغوية
والموجه للتفاهم يتطلب من الفلسفة أن تأخذ على عاتقها من جديد إنجاز مهام نسقية، وفي
هذه الحالة يمكن للعلوم الاجتماعية الدخول في علاقة تعاونية مع الفلسفة التي تضطلع
بمهمة العمل على تأسيس نظرية عقلانية.»
١٦ على أن تمارس هذه الوظيفة الجديدة في إطار العقلانية والحرية. هذا من جانب،
ومن جانب آخر يساهم علم الاجتماع أيضًا في تحقيق هذا المفهوم الجديد للعقلانية
التواصلية باعتباره — أي علم الاجتماع — العلم الذي يبحث في التحولات التي تطرأ على
الحياة الاجتماعية، والأمراض الاجتماعية التي نجمت عن عمليات التحديث
والعقلانية.
وقد نظر هابرماس إلى الحياة اليومية على أنها وسيط واعد بإعادة الوحدة المفقودة
للعقل، وأن «التفسيرات المعرفية والتوقعات الأخلاقية وأشكال التعبير والتقييم لا تستغني
خلال التواصل اليومي عن أن تتداخل وتتفاعل، والوصول إلى فهم العالم المعيش يتطلب تراثًا
حضاريًّا يتخلل المنظور كله، ولا يقتصر على ثمار العلم والتكنولوجيا.»
١٧ المشكلة إذن هي كيف يتحقق التوازن من جديد بين عناصر العقل المنفصلة؟ رأى
هابرماس أن الحل لن يكون إلا من خلال التواصل في الحياة اليومية، وأن للفلسفة دورًا في
«تحريك التفاعل بين الأبعاد المعرفية الأداتية، والأخلاقية-العملية،
والجمالية-التعبيرية التي كادت أن تتوقف اليوم … والقضية هي كيف يتم التغلب على عزلة
الثقافة العلمية والأخلاقية والفنية. وكيف يمكن ربطها بالعالم المعيش، وكيف يتم ذلك كله
بغير انتقاص من عقلانيتها الخاصة، أي العلوم والأخلاق والفن.»
١٨ ويؤكد هابرماس أن هذا لن يتحقق إلا من خلال الفلسفة باعتبارها «حارسة
للعقلانية»، وأنها لا تأخذ بالممارسات العادية كما هي في الحياة اليومية، بل تحفز
للوصول إلى مبرراتها العقلية وأسبابها الحقيقية، فهناك أسباب وراء أفعال التواصل سواء
بين الناس أو بين العلوم المختلفة.
ويتضمن مفهوم العقلانية التواصلية كل ما يتعلق بالنشاط العقلي، ولما كان هذا النشاط
العقلي يدور حول المعرفة وتطبيقاتها، فقد قسمه هابرماس إلى نوعين: (١) نشاط عقلي
معرفي-أداتي، وهو النشاط الموجه إلى غاية، ويحقق النفع، وتُسخَّر فيه المعرفة من أجل
النجاح، ويستخدم الإنسان هذا النوع من النشاط لمعرفة البيئة المحيطة به. ويحدد هابرماس
العلاقة بين العقلانية والمعرفة بأنها — أي العقلانية — «لا تهتم كثيرًا بامتلاك
المعرفة بقدر ما تهتم بالطريقة التي تستخدم بها الذوات القادرة على الكلام والفعل هذه
المعرفة وكيف تعمل على تطبيقها.»
١٩ (٢) نشاط عقلي وتواصلي وتمارسه ذوات قادرة على الكلام والفعل. فإذا كانت
غاية النشاط الأداتي هو تحقيق المنفعة والنجاح عن طريق التقنية للسيطرة على البيئة
الطبيعية والإنسانية على السواء، فإن غاية النشاط التواصلي — باعتباره معنيًّا بما يجري
في الحياة الاجتماعية — هو التوجه نحو التفاهم بين الذوات. بمعنى آخر ينظر هابرماس إلى
النشاط العقلي من منظورين؛ أحدهما هو المنظور الأداتي أو الاستخدام الأداتي للمعرفة،
والآخر هو المنظور التواصلي، وهو نوع من المعرفة التعبيرية اللغوية.
من هذين النوعين من النشاط العقلي يصوغ هابرماس مفهومًا تركيبيًّا لعقلانية تواصلية
جديدة تجمع بين المجالات الثلاثة للعقل عند كانط، أي العقل النظري والعملي وملكة الحكم،
كما يقول هابرماس نفسه في إحدى مقابلاته: «ينبغي أن يكشف العقل عن وحدة لحظات العقل
المتفرقة في نقد كانط الثلاثي: وحدة العقل النظري مع البصيرة الأخلاقية والحكم الجمالي.»
٢٠
وقد انطلق هابرماس من هذا المفهوم الجديد للعقلانية إلى تحليل البنية الاجتماعية
للعقل، وهو التحليل الذي أفضى به إلى وضع نظريته في الفعل التواصلي. وقد بدأت بوادر هذه
النظرية في كتابه «المعرفة والمصلحة» قبل أن يتوجهَا في كتاب ضخم من جزأين. ففي هذا
المؤلَّف (أي المعرفة والمصلحة) صنَّف هابرماس المعرفة العلمية في ثلاثة أنواع مرتبطة
ارتباطًا وثيقًا بالمصالح البشرية، أي أنها ليست معرفة محايدة ولا منزهة عن الغرض، كما
أنها تربط الإنسان ببيئته الطبيعية من ناحية، وبالطبيعة الاجتماعية من ناحية أخرى، وأول
هذه الأنواع هي المعرفة التجريبية-التحليلية المتمثلة في العلوم الوضعية، والمصلحة
المرتبطة بهذا النوع هي المصلحة التقنية. وتنمو هذه المعرفة من خلال العمل، وهي التي
سادت في المجتمعات الحديثة، وأطلق عليها اسم العقل الأداتي.
وعلى الرغم من عدم رفض هابرماس لهذا النوع الأول من المعرفة، بل واعترافه بأهميته
الشديدة، إلا أنه يؤكد أن العمل وحده ليس كافيًا لتمكين الإنسان من تحويل بيئته، بل إن
القدرة على استخدام اللغة والرموز والعلامات من أجل تحقيق التواصل بين البشر لا تقل
أهمية عن العمل. فإذا كانت القدرة على هذا الأخير قد أفضت إلى ظهور «المصلحة التقنية»،
فإن القدرة على التواصل تفضي إلى ظهور «المصلحة العملية» المتمثلة في العلوم
التاريخية-التأويلية، وهي معرفة تتجه إلى تحليل النصوص وتأويلها وتحددها مصلحة عملية
تهدف إلى حفظ وتوسيع مجال الفهم الممكن بين الكائنات البشرية وتحسين عملية
الاتصال.
وينصبُّ اهتمام المصلحة العملية على «التفاعل البشري؛ أي على طريقة تأويل أفعالنا
تجاه بعضنا البعض، وطريقة فهمنا لبعض، والسبل التي نتفاعل بها في إطار التنظيمات
الاجتماعية … وتهدف إحدى أفكار هابرماس الأساسية إلى الكشف عن الوسيلة التي بموجبها
تقوم البِنَى الاجتماعية بتشويه عملية التفاعل، وتُثير فيها الاضطراب والبلبلة؛ إذ إن
سوء الفهم وارد بين البشر، ويمكن خداعهم وتضليلهم بشكل منظم.»
٢١ ثم يظهر النوع الثالث والأخير من المعرفة والمتمثل في العلوم والفلسفات
التي يغلب عليها الطابع النقدي، والمصلحة المرتبطة بهذا النوع هي التحرر من كل أشكال
الاغتراب، و«من العلوم التي تسعى إلى هذا الهدف نقد الأيديولوجيات والتحليل النفسي
والنظرية النقدية ذاتها، وكلها علوم تعمل على كشف القوى والمصالح الخاصة التي تشوه فعل
التواصل، وتبحث الشروط اللازمة للتوصل إلى إجماع حقيق لا يعوقه قهر أو قمع داخلي أو
خارجي، والتحرر من كل أشكال السيطرة وأبنيتها.»
٢٢ أي أن هذا النوع الأخير من المعرفة مرتبط أيضًا باللغة، ويسعى إلى تخليص
التفاعل والتواصل من العناصر التي تشوهه.
(٤) نظرية الفعل التواصلي
يدين هابرماس في نظريته عن الفعل التواصلي إلى فلسفة اللغة كما صرح هو نفسه بذلك
في
إحدى مقابلاته: «أنا مدين لكل من النزعات التداولية والتحليلية للنظرية اللغوية … إن
غاية الفهم المتبادل مغروسة في الاتصال اللغوي.»
٢٦ كما استمد أيضًا بعض عناصرها — أي نظرية الفعل التواصلي — من نظرية أفعال
الكلام بوجه خاص، ومن علم اللغة الاجتماعي «إن مفهوم الفعل التواصلي يفترض اللغة بوصفها
الوسط الذي يمكن أن يتحقق فيه نوع من التفاهم، ومن خلاله يستطيع المشاركون في التفاعل
أن يُثيروا مزاعم الصدق التي يمكن الاتفاق عليها أو الاختلاف حولها.»
٢٧ كما طور هابرماس نظريته من بعض الأفكار المتعلقة بالمضامين التي ينطوي
عليها الحوار أو المحادثة كما طورها مفكرون من أمثال بول جرايس.
٢٨ وقد كان أحد الأسباب التي دفعت هابرماس إلى هذا التحول نحو اللغة هو بغير
شك ذلك «الرفض المنتشر على نطاق واسع لما يسمى بالحجج التأسيسية في كل أشكالها ومظاهرها.»
٢٩ وقد كان من أسباب هذا التحول أيضًا اقتناع هابرماس المتزايد بأن التفكير
التنويري (أو مشروع الحداثة) قد قام بالتحديد بمثل هذا النقد، وذلك بتركيزه الشديد على
النموذج المعرفي المتمركز حول الذات. لهذا كان هدفه هو إعادة صياغة هذا المشروع
التنويري أو الحداثي من خلال ما سماه بالبراجماطيقا (أو التداول اللغوي).
لقد صاغ هابرماس من مفهومه الجديد عن العقلانية نظرية في الفعل التواصلي تنشئ «علاقة
داخلية بين البراكسيس (الممارسة) وبين العقلانية وتدرس المتضمنات العقلية التي تفترضها
ممارسة تواصلية يومية، وتتيح للمضمون المعياري المرتبط بالفاعلية الموجهة نحو الفهم
المتبادل التوصل إلى مفهوم عقلانية تواصلية.»
٣٠ وتدخل نظرية الفعل التواصلي ضمن إطار مشروع هابرماس الأكبر، وهو تأسيس
نظرية نقدية للمجتمع الحديث، ويمكن إجمال مشروعه في مراحل ثلاث: يرى في المرحلة الأولى
ضرورة التحرر من «فلسفة الوعي»، وهي الفلسفة التي ترى أن العلاقة بين اللغة والفعل
كالعلاقة بين الذات والموضوع، بينما يؤكد هابرماس أن العلاقة في الفعل التواصلي تكون
بين ذات وذات. ويرى في المرحلة الثانية ضرورة أن يتخذ الفعل صورتين: الفعل الاستراتيجي،
ويتضمن الفعل العقلاني الغائي، وفعل التواصل الذي يرمي للوصول إلى الفهم. ويرى في
المرحلة الثالثة ضرورة إعطاء فعل التواصل الأولوية مما يترتب عليه أمور ثلاثة؛ أولًا:
أن العقلانية — بهذا المعنى — تستلزم نسقًا اجتماعيًّا ديمقراطيًّا يشمل الجميع، ولا
يستبعد أحدًا، وهدفه ليس الهيمنة، بل الوصول إلى تفاهم. ثانيًا: ثمة نظام أخلاقي —
يحاول هابرماس الكشف عنه — يتوجه إلى التوصل لمعايير عبر نقاش عقلاني حر، تبحث فيه
نتائج كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية، أي نظام يلقَى القبول والرضا عن طريق
الإقناع العقلي، وليس عن طريق القوة أو القسر. ثالثًا: فكرة وجود مجتمع ديمقراطي بحق،
يكون فيه للجميع فرص متكافئة لاستخدام أدوات العقل، كالمساهمة في الحوار، ويكون لكل فرد
فيه صوت مسموع يحسب حسابه عند اتخاذ القرار النهائي.
٣١
ويمثل مفهوم الفعل التواصلي — كما حدده هابرماس نفسه في تصديره للكتاب الذي يحمل
نفس
العنوان — مدخلًا لثلاثة موضوعات متشابكة؛ أولًا: مفهوم العقلانية التواصلية الذي هو
ذو
طابع شكي، وإن كان في نفس الوقت يقاوم الاقتصار على معالجة العقل من الناحية المعرفية
معالجة أداتية. ثانيًا: مفهوم ثنائي المستوى عن المجتمع يربط بن العالم المعيش ونماذج
المنظومات (أو المؤسسات) في شكل ليس إنشائيًّا فحسب. ثالثًا وأخيرًا: نظرية عن الحداثة
تفسر نمط الأمراض الاجتماعية المتزايدة في عصرنا الحديث.
٣٢ والمقصود — إذن — بنظرية الفعل التواصلي هو وضع سياق الحياة الاجتماعية
التي نجمت عن مفارقات الحداثة في إطار تصوري عقلي أو مفهومي، ومعنى هذا بعبارة أخرى أن
هابرماس أراد إحكام البناء التصوري العقلي للبناءات الاجتماعية التي يتم فيها
التواصل.
يعرض هابرماس أربعة نماذج للفعل استقاها من نظريات العلوم الاجتماعية:
- (١)
النموذج الغائي للفعل، ويُطلق عليه اسم النموذج الاستراتيجي، وغالبًا ما
يفسر تفسيرًا نفعيًّا؛ فالفاعل يفترض أنه يختار ويحسب الوسائل والغايات من
وجهة نظر تحقيق أكبر قدر من المنفعة. وهذا النموذج هو الذي يكمن وراء كل
مناهج البحث النظرية التي تحتاج إلى اتخاذ قرار في الاقتصاد والاجتماع وعلم
النفس الاجتماعي.
- (٢)
مفهوم نموذج الفعل الذي توجهه وتنظمه المعايير، وهذا النموذج لا يشير إلى
سلوك أفراد منعزلين يلتقون مصادفة بأفراد آخرين في محيطهم، وإنما يشير إلى
سلوك أعضاء في جماعة اجتماعية يوجهون أفعالهم نحو قِيَم مشتركة. فالفاعل
الفرد يعمل وفق معيار معين (أو يخرق هذا المعيار) عندما تتوافر في موقف
معين شروط معينة يمكن أن ينطبق فيها ذلك المعيار. والمعايير تعبر عن اتفاق
يتم التوصل إليه في داخل جماعة اجتماعية معينة. وجميع أعضاء الجماعة الذين
يعتقدون بصدق معيار معين ينتظر منهم أن يتوقعوا من كل واحد منهم أن يقوم
بتنفيذ الأفعال المطلوبة أو الامتناع عنها عندما تحكم بذلك مواقف معينة.
والمفهوم الأساسي للموافقة على المعيار معناه الوفاء بتوقع سلوك معين. وهذا
السلوك الأخير لا يحمل المعنى المعرفي بتوقع حدث متنبأ به، وإنما يحمل
المعنى المعياري الكامن في توقع الأعضاء لسلوك معين. إن هذا النموذج
المعياري للفعل يكمن وراء نظرية الدور المعروفة في علم الاجتماع.
- (٣)
مفهوم الفعل الدرامي لا يحيل في المقام الأول إلى فاعل منفرد أو عضو في
جماعة اجتماعية، وإنما يحيل إلى المساهمين في فعل مشترك، بحيث يكونون
جمهورًا يعرضون أنفسهم أمامه. والفاعل هنا يُثير في جمهوره صورة معينة أو
إحساسًا معينًا عنه هو نفسه. وذلك بالكشف عن ذاتيته كشفًا متعمدًا أو غير
متعمد (بشكل مباشر أو غير مباشر). ففي الفعل الدرامي يستغل المساهمون هذا،
ويحركون أفعالهم المشتركة بإتاحة الفرصة للتعرف على عوالمهم الذاتية. وهكذا
فإن مفهوم تقديم الذات لا يعني السلوك التعبيري التلقائي، بل التعبير
المنظم عن التجارب الشخصية بالنظر إلى جمهور يراقب هذا التعبير. إن النموذج
الدرامي للفعل يستخدم قبل كل شيء في الوصف الفينومينولوجي للأفعال المشتركة
«بين الذوات»، ولكنه لم يتطور حتى الآن، بحيث يصبح منهجًا نظريًّا
عامًّا.
- (٤)
أخيرًا نصل إلى مفهوم الفعل التواصلي الذي يُحيل إلى الفعل المشترك
لذاتَين على الأقل قادرين على الكلام والفعل وإقامة علاقات شخصية مشتركة
(سواء كانت علاقات لغوية أو غير لغوية)، إن الفاعلين هنا يسعون إلى تفهم
موقف الفعل، وفهم خططهما للفعل؛ وذلك لكي ينسقَا أفعالهما بالتراضي أو
الاتفاق بينهما. والمفهوم الأساسي عن التفسير يشير في المقام الأول إلى
السعي إلى تعريفات أو تحديدات للموقف، بحيث يمكن التوصل فيه إلى إجماع،
وكما سنرى فإن اللغة لها مكان متميز في هذا النموذج.
٣٣
تلعب اللغة إذن دورًا أساسيًّا في نظرية الفعل التواصلي باعتبارها — أي اللغة —
الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات. وحجة هابرماس في هذا هو أن قدرتنا على التواصل ذات
بنية وقواعد أساسية لا توجد إلا في اللغة التي تتعلمها وتتحدث بها كل الذوات. فالتجربة
التواصلية ليست هي القدرة على إنتاج جمل لها قواعد، وليست اللغة مجرد «نسق من الرموز
له
تركيبه النحوي ومعجمه وصوتياته … أو له خصائصه الدلالية فقط، بل يهتم هابرماس باللغة
من
منظور خصائصها التداولية، فاللغة تشكِّل عنده نسقًا من القواعد تساعد على توليد تعبيرات
لدرجة أن كلَّ تعبيرٍ مصاغٍ بشكل صحيح يعتبر عنصرًا من عناصر هذه اللغة. ومن ثَم فإن
الذوات القادرة على استعمال هذه التعبيرات تشارك في عمليات التواصل؛ لأنها تستطيع
التعبير وفهم الجمل والجواب عليها»،
٣٤ تتشكل اللغة إذن من خلال التفاعل بين الذوات، والحديث بين المشاركين في
التفاعل يربطهم بالعالم المعيش حولهم، وبالذوات الأخرى، ويربطهم أيضًا بمشاعرهم
ورغباتهم ومقاصدهم. ولذلك ترتبط نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بنظرية أفعال
الكلام.
وتقدم أفعال الكلام «بنية تلتقي فيها ثلاثة مكونات: (١) مكون جملي مهمته تصور (أو
ذكر) أحوال الشيء. (٢) مكون فعل منطوق مهمته عقد علاقات بين الأشخاص. (٣) وأخيرًا مكون
لساني يعبر عن قصد المتكلم.
٣٥ واستنادًا إلى هذه الوظائف الثلاث للغة يمكن استخلاص ثلاثة جوانب مختلفة
للمصداقية يتسنَّى وفقًا لها رفض المستمع لعبارة المتكلم إذا رفض إما «حقيقة» ما أكد
في
العبارة (أو أيضًا حقيقة الافتراضات الوجودية التي تُشرف على مضمون العبارة)، «صحة» فعل
اللسان نظرًا للسياق المعياري، للصياغة (أو أيضًا شرعية السياق المفترض ذاته)، وإما
أخيرًا «صدق» القصد الذي عبر عنه المتحدث (أي التطابق المفترض بين ما أراد قوله وبين
ما قاله).»
٣٦ هكذا تقضي نظرية الفعل التواصلي إلى مبدأ يقرُّ بأننا نفهم قضية أو عبارة
ما عندما نعرف شروط صحتها.
إن الأفعال التي تخضع للمعايير، مثلها مثل التأكيدات أو الأفعال الكلامية التقريرية،
لها طابع التعبيرات الدالة على معنى وتكون قابلة للفهم في سياقها الخاص، كما أنها
مرتبطة بمزاعم الصدق القابلة للنقد، فهي تحيل إلى معايير وتجارب ذاتية أكثر مما تحيل
إلى وقائع خالصة. والفاعل في هذه الحالة يؤكد أن سلوكه صحيح بالنسبة إلى سياق معياري
مشروع، أو أن أقواله بضمير المتكلم عن تجربة شخصية مارسها هي أقوال صادقة وأمينة. بيدَ
أن هذه التعبيرات يمكن أن يسريَ عليها الخطأ كما يسري على الأفعال الكلامية التقريرية،
ذلك «أن إمكانية اعتراف الذوات فيما بينها بمزاعم الصدق القابلة للنقد هو عنصر أساسي
من
عناصر عقلانيتها، والمعرفة الكامنة في الأفعال الخاضعة للمعايير أو في التعبيرات
الذاتية، هذه المعرفة لا تُحيل إلى حالات واقعية للأشياء، بل تُحيل إلى صدق المعايير
أو
إلى التعبير عن التجارب الذاتية. إن المتكلم الذي يُفصح عن هذه التعبيرات لا يحيلنا إلى
شيء من أشياء العالم الموضوعي، وإنما يُحيلنا إلى شيء موجود في العالم الاجتماعي
المشترك أو في عالمه الذاتي الخاص به.»
٣٧
أراد هابرماس وضع نظرية تحافظ على الالتزام بقيم الحقيقة والنقد والإجماع العقلي،
ولكنها مع ذلك تؤكد ثقتها بإمكان التوصل إلى موقف لغوي مثالي، أي إلى مجال عام للمناقشة
أو الحوار الحر الخالي من كل قمع. والتحرر الحقيقي يكون في «العودة إلى البراكسيس
(الممارسة) كمقولة متضمنة في المشاركة الفعالة لكل فرد في التحكم في الظاهرة
الاجتماعية، بمعنى آخر أن يكون الناس ذوات وليسوا موضوعات، ولهذا الغرض يجب، في رأي
هابرماس، تحسين الاتصال الإنساني والمناقشة الحرة»،
٣٨ فعندما تقوم الذات (أو الأنا) بفعل من أفعال الكلام، وعندما تتخذ ذات أخرى
(أو الآخر) موقفًا من هذا الفعل، فإنهما — أي الأنا والآخر — يعترف كلٌّ منهما بالآخر
وينسجان أو يقيمان علاقة تواصلية بين الذوات الذين دمجوا اجتماعيًّا عبر التواصل، وهي
علاقة مختلفة عن تلك الموجودة بينهم وبين العالم المادي.
لقد حاول هابرماس استخلاص المحتوى المعياري لفكرة الفهم الموجودة في اللغة والتواصل،
وأدى هذا إلى مفهوم مركب لا يتضمن فحسب أن نفهم معنى الأفعال الكلامية، بل يتضمن كذلك
التفاهم المتبادل بين المشاركين في التواصل، ليس فقط التفاهم حول معرفة تخص أمرًا ما
في
العالم الموضوعي، بل تخص الوقائع والمعايير أيضًا، وكذلك التجارب الشخصية: «إن المتحدث
في كل فعل من أفعال كلامه يرجع في آنٍ واحد إلى شيء ما يخص العالم الموضوعي وعالم
الطائفة الاجتماعية، وإلى عالمه الذاتي»،
٣٩ فهذا النموذج من الفعل التواصلي «يفترض أن المشاركين في التفاعل يمكن أن
يعبئوا إمكاناتهم العقلية — التي تتركز وفقًا للتحليل السابق في العلاقات الثلاث للقائم
بفعل التواصل بالعالم — بحيث يكون ذلك معبرًا عن الرغبة الصريحة في التوصل إلى التفاهم.»
٤٠
لكن ماذا يعني هابرماس على وجه التحديد بالتفاهم؟ أنه ذلك الاتفاق الحادث بين
المشاركين في عملية التواصل، بمعنى أن يُحيل التفاهم إلى اتفاق مبرر عقليًّا بين الذوات
القادرة على الكلام والفعل للوصول إلى إجماع، ولتحقيق هذا الغرض يكون للفهم «مستويات
ثلاثة يكون على كل مشارك في التفاعل أن يحترمها لتحقيق غرض الفهم؛ ولهذا فإن المستمع
يفهم التعبير أولًا، أي يُدرك دلالة ما يقال، ثم يتخذ هذا المستمع موقفًا بالإيجاب أو
بالسلب، بالقياس إلى ادعاء معلن من فعل الكلام ثانيًا، أي أنه يقبل أو يرفض العرض الذي
يقترحه فعل الكلام. ونتيجة اتفاق ما يوجه المستمع فعله حسب المتطلبات القائمة بشكل
توافقي ثالثًا.»
٤١ وبهذا المعنى لن يتحقق الفهم إلا بتوافر مستويات ثلاثة أو اتباع خطوات ثلاث
وهي أولًا أن يفهم المستمع التعبير فهمًا جيدًا ويدرك دلالته، ثانيًا أن يتخذ موقفًا
إيجابيًّا أو سلبيًّا من هذا التعبير، أي يقبل أو يرفض ما تقترحه أفعال الكلام —
بالمعنى السابق شرحه — وهو القول الذي لا يصف أو يُثبت واقعًا، بل يتطلب إنجاز فعل ما
عند سماعه. ثم ثالثًا وأخيرًا يقوم المستمع بإنجاز الفعل بشكل يتوافق مع فعل
الكلام.
إن مفتاح فكرة هابرماس عن التوصل إلى التفاهم تنطوي على اتفاق يقاس بما سماه بمزاعم
الصدق
Validity Claims، ففي الفعل التواصلي «تتوقف
حصيلة التفاعل نفسه على إمكانية توصل المشاركين فيه إلى اتفاق فيما بينهم على تقييم
مشترك لعلاقاتهم، وحسب هذا النموذج من الفعل، فإن النجاح الوحيد الممكن لتفاعل ما يتمثل
في توصل المشاركين إلى إجماع عام بنعم أو لا لمزاعم الصدق المرتكزة على أسس عقلية.»
٤٢ يتوقف إذن نجاح الفاعلية التواصلية على أن يتوصل المشاركون إلى اتفاق
متبادل حول تحديد علاقتهم بالعالم. ونموذج نجاح التفاعل هو الوصول إلى إجماع بين مختلف
المشاركين على مزاعم الصدق المدعمة بالحجج والبراهين العقلية.
لكن ما هي المقاييس التي يجب على أطراف التواصل مراعاتها لتحقيق هذا الهدف؟ أنها
—
كما حددها هابرماس — الحقيقة والدقة والصدق، أي على المشاركين في التفاعل توخِّي حقيقة
العبارة ودقتها وصدقها واستنادها إلى الحجج والبراهين العقلية. وإذن فبإمكانية الوصول
إلى التفاهم تكمن في «إمكان استخدام الأسباب أو الحجج التي تساعد على الحصول على اعتراف
الذوات فيما بينها
Intersubjective بمزاعم أو مطالب
الصدق القابلة للنقد»،
٤٣ هذا الإمكان موجود في الأبعاد الثلاثة السابقة، وليست مزاعم الصدق أو
مطالبة مقصورة فحسب على صدق القضايا أو على فاعلية الوسائل التي تمكن من التوصل إلى
نتائج يمكن نقدُها، والدفاع عنها بأسباب عقلية، بل يضاف إلى هذا أيضًا المطلب القائل
بأنه فعل صحيح أو ملائم، وذلك في علاقته بسياق معياري معين، أو أن مثل هذا السياق يستحق
أن يعترف به كسياق مشروع. كلُّ هذا يمكن أن يناقش بالحجج العقلية، بل يمكن أيضًا أن
يناقش المطلب الذي يلحُّ على أن أية عبارة من العبارات هي تعبير صادق وأصيل عن تجارب
الفرد الذاتية من عكس ذلك. والشاهد أنه في كل هذه الأبعاد يمكنه الوصول إلى اتفاق حول
المطالب المختلف عليها عن طريق الحجة والاستبصار أو البصيرة، وبغير الرجوع إلى القوة
والبطش، أي بالرجوع إلى الأسباب والحجج العقلية وحدها. وفي كل بُعد من هذه الأبعاد
الثلاثة يوجد ثمة وسط تأملي يُتيح معالجة أساليب الحجاج العقلي أو النقد التي تساعدنا
على إثبات صحة المزاعم المختلف عليها، ومحاولة الدفاع عنها، أو حتى نقدها، ولأن مزاعم
الصدق يمكن أن تنتقد، فهناك إمكانية لتصحيح الأخطاء والتعلم منها. ومن الطبيعي أن تخضع
هذه المزاعم للاختبار والنقد والمراجعة. وهناك طرق عديدة لمناقشة وتنفيذ هذه المزاعم:
«إن المعقولية التي تميز الممارسة التواصلية في الحياة اليومية إنما تشير أو تحيل إلى
ممارسة الحجاج العقلي، وكأنه هو محكمة الاستئناف التي تمكن من استمرار الفعل التواصلي
بوسائل أخرى عندما يصل الاختلاف في الآراء إلى حدٍّ لا يمكن تجاوزه عن طريق الأساليب
الروتينية، بل لا يمكن أيضًا فضُّه (أي الاختلاف) عن طريق الاستخدام المباشر أو
الاستراتيجي للقوة.»
٤٤
هكذا تُعدُّ الحياة اليومية أحد الأبعاد المهمة في فلسفة هابرماس التواصلية، وترتبط
نظرية الفعل التواصل بالعالم المعيش ارتباطًا أساسيًّا باعتباره — أي العالم المعيش —
الخلفية الكامنة وراء كل مشارك في التواصل، وباعتباره أيضًا السياق الذي يمكن أن يساعد
على حلِّ مشكلات الفهم، فأعضاء أيِّ تجمُّع اجتماعي يشاركون في العالم المعيش الخاص
بهم. فما هي إذن مكونات هذا العالم؟
(٥) عقلنة العالم المعيش
يحاول هابرماس أن يشرح مفهوم العالم المعيش في الجزء الثاني من مؤلفه عن نظرية الفعل
التواصل مستعينًا في ذلك بما سبق أن شرحه في الجزء الأول من المؤلف نفسه عن النظرية
التواصلية وعن أفعال الكلام؛ وذلك لأن مفهوم العالم المعيش بمكوناته المختلفة يمثل
السياق الذي يشكل عملية التفاهم بين الذوات، كما أن أية نظرية عن المجتمع — وهو الهدف
النهائي عند هابرماس — لا يمكن لها أن تقتصر على نظرية الفعل التواصلي دون أن تستمد
شرعيتها من العالم المعيش. ويبين هابرماس كيف «أن هذا العالم المعيش — بوصفه الأفق الذي
تتحرك فيه الأفعال التواصلية بصفة مستمرة — عرضة للتغير من خلال تحوُّل بنية المجتمع
ككل.»
٤٥
إن فكرة العالم المعيش ليست فكرة جديدة ابتدعها هابرماس، لقد سبقه هوسرل في تحليل
العالم المعيش تحليلًا ظاهراتيًّا، كما أن فيتجنشتين قد تناوله من خلال تحليله لأشكال
الحياة، إلا أنهما في رأي هابرماس لم يكن لهما هدفٌ منهجي: «إذا طرحنا جانبًا المشاكل
الفلسفية للوعي التي تعامل بها هوسرل مع مشكلة العالم المعيش، فبإمكاننا أن نفكر في
العالم المعيش كما يتمثل في مجموعة من النماذج التفسيرية نقلت عن طريق الثقافة
الموروثة، ونظمت من خلال اللغة. عندئذٍ لا نحتاج إلى فكرة السياق المرجعي الذي يربط بين
عناصر الموقف الواحد بعضها ببعض، كما يربط الموقف نفسه بالعالم المعيش، ولا نحتاج أيضًا
أن نفسر هذا كله في إطار فلسفة الظاهريات ولا في إطار سيكولوجية الإدراك.»
٤٦ وترتب على ما سبق أن اتجه هابرماس إلى البحث في بناءات العالم المعيش بحثًا
تداوليًّا شكليًّا، بحيث يبرز البناءات التي تظل ثابتة على الرغم من تغيُّر صور العالم
المعيش وأشكال الحياة.
وإذا كان هابرماس قد ركز جهده في المجلد الأول من كتابه «نظرية الفعل التواصلي» على
إعادة صياغة عقلانية ماكس فيبر من أجل تأسيس عقلانية جديدة، فإنه قد ركز جهده في المجلد
الثاني من مؤلفه على إعادة عقلنة العالم المعيش. بمعنى آخر أنه — أي هابرماس — قدَّم
فكرة العالم المعيش باعتبارها مكملة لمفهوم العقل التواصلي؛ لأنها مرتبطة أيضًا بمفهوم
المجتمع، بل وتشكل سياق الفعل الاجتماعي. وقد تناول هابرماس في المجلد الثاني أربع نقاط
أساسية يقوم عليها هذا الجزء، وحاول شرحها في البداية:
- (١)
أن يوضح أن العالم المعيش مرتبط بالعوالم الثلاثة «الثقافة والمجتمع
والشخص»، وهي التي تقيم عليها الذوات — التي تهدف إلى التفاهم المتبادل —
تحديداتها المشتركة للمواقف المختلفة.
- (٢)
أن يطور مفهوم العالم المعيش بوصفه السياق الذي يتم فيه العفل التواصلي،
ويربطه بمفهوم دور كايم عن الوعي الجمعي.
- (٣)
أن يربط مفاهيم العالم المعيش التي تستخدم عادة في علم الاجتماع التفسيري
بمفاهيم الحياة اليومية التي لا تصلح إلا للعرض السردي للأحداث التاريخية
والظروف الاجتماعية.
- (٤)
أن يبحث في الوظائف التي يقوم بها الفعل التواصلي لإقامة عالم متنوع
الأبنية. ويتم هذا البحث في أفق العالم المعيش، بحيث يمكن بالاستناد إلى
هذه الوظائف توضيح الشروط الضرورية لعقلنة العالم المعيش. ويؤدي هذا إلى
آخر حدود البحوث النظرية التي توحد بين المجتمع والعالم المعيش.
٤٧ وفي هذه الحالة يقترح هابرماس أن نفهم المجتمع بوصفه نسقًا
وعالمًا معيشًا في وقت واحد.
لقد أكد لنا التراث المنحدر من مدرسة دور كايم أن النظرية الاجتماعية تقوم على مفهوم
العالم المعيش الذي يدور حول مسألة التكامل الاجتماعي. وقد اختار بارسونز تعبير
Societal Community (أي الجماعة المنتمية إلى مجتمع
أو الجماعة الاجتماعية) لكي يبيِّن أن العالم المعيش بوصفه جماعة اجتماعية يشكِّل قلب
المجتمع. مع العلم بأن مفهومه عن المجتمع هو أنه الجهة التي تحدد الحقوق والواجبات
لأعضاء الجماعة عن طريق العلاقات الشخصية المشروعة المتبادلة بينهم. ومن ثَم تكون
الثقافة والشخصية مجردَ إضافات وظيفية للجماعة الاجتماعية. فالثقافة تزود المجتمع
بالقِيَم التي يمكن أن تُصبح قيمًا مؤسساتية، كما أن الأفراد الذين أصبحوا منتمين إلى
المجتمع يشاركون في الحياة بشكل يلائم التوقعات المعيارية.
وفي مقابل ما سبق نجد أن مدرسة ميد تُقيم النظرية الاجتماعية على مفهوم عالم معيش
مختزل ومقتصر على إضفاء الطابع الاجتماعي على الأفراد. وعلماء هذه المدرسة يفهمون
العالم المعيش بوصفه الوسط الاجتماعي والثقافي للفعل التواصلي الذي يتصورونه في شكل دور
محدد يقوم به الأفراد المنتمون إلى المجتمع. وهكذا نرى أن هذه المدرسة لا تلتفت إلى
الثقافة التراثية والمجتمع إلا باعتبارهما وسائط يتم من خلالها العمليات التي ينخرط
فيها لاعبو الأدوار طوال حياتهم. ومن الواضح أن هذه النظرة لا تُعدُّ نظرة متسقة إلا
إذا تقلصت النظرية الاجتماعية، بحيث تتحول إلى علم نفس اجتماعي. ولو أخذنا في مقابل ما
سبق مفهوم التفاعل الرمزي الذي جعله ميد نفسه مفهومًا مركزيًّا، وتناولناه بالطريقة
التي طرحناها من قبل (أي كمفهوم للتفاعل الذي يتم من خلال اللغة كما توجهه المعايير)
لاستطعنا عندئذٍ أن ندخل من باب التحليلات الفينومينولوجية للعالم المعيش، بحيث نكون
في
هذه الحالة في وضعٍ يسمح لنا بالإحاطة بالترابط المركب لكل هذه العمليات الإنتاجية.
٤٨
لقد أشار بارسونز إلى النموذج النظري للنسق الاجتماعي إلا أنه فشل في الجمع بينه
وبين
العالم المعيش كمجال للفعل الاجتماعي، وتعذر عليه تحقيق التكامل بينهما في مفهومه عن
مجتمع ذي مستويَين يربط النسق بالعالم المعيش. بل إن تاريخ النظرية الاجتماعية منذ
ماركس لم ينجح في رأي هابرماس في الجمع بين النسق والعالم المعيش؛ ولهذا كله حاول — أي
هابرماس — أن يؤلف بينهما بالتأكيد على ضرورة الجمع بين الجانب النظري — الذي يحدد
التصورات النسقية للمجتمع المتكامل — وبين نظرية الفعل لمجتمع مترابط من خلال أفعاله
التواصلية: «إن نقطة انطلاقي إذن هي أن المشكلة النظرية المتعلقة بكيفية الجمع بين
المفاهيم الأساسية للاتساق ونظرية الفعل الاجتماعي هي مشكلة حقيقية وأصلية. والصيغة
المؤقتة التي اقترحها، والتي يمكن على أساسها تصور المجتمعات بوصفها كائنات نسقية مركبة
لفعل مجموعات متكاملة اجتماعيًّا، هذه الصيغة تحتوي على هذين الجانبين معًا.»
٤٩
لقد توصلنا — كما سبق القول — إلى أن أية نظرية للمجتمع لا ينبغي أن تكتفيَ
بالعقلانية الغائية فحسب، ولن تستقيم بالعقلانية التواصلية وحدها، بل بالجمع بينهما
باعتبارهما يمثلان قطبَي العقلانية الجديدة. فعلى الرغم من أن العقلانية الأداتية
تستجيب للمتطلبات المادية بشكل يصعب معه التخلي عن دور التقنية في التنظيم المادي
للمجتمع، إلا أنها غير قادرة على حل مشكلات متعلقة بالأخلاق أو الثقافة؛ لذلك تأتي
العقلانية التواصلية لتهتم بالمشكلات والقضايا الرمزية والمقومات الثقافية المتعلقة
بالمعايير الأخلاقية. والنتيجة المترتبة على هذا كله هو أن كلًّا من النشاط الغائي
والأداتي والنشاط التواصلي يشارك في إعادة عقلنة العالم المعيش، عن طريق إعادة الإنتاج
المادي للعالم المعيش بواسطة النشاط الغائي، وأيضًا عن طريق إعادة الإنتاج الرمزي له
—
أي العالم المعيش — بواسطة النشاط التواصلي، باعتبار أن الأساس المادي للعالم هو الشرط
الضروري للبنية الرمزية له، وباعتبار أيضًا أن الفعل الأداتي هو أحد مكونات الفعل
التواصلي. هكذا تمتزج خيوط مختلفة — يكشف عنها التواصل اليومي — من عناصر المعرفة
الأداتية والعناصر الأخلاقية العملية بالإضافة إلى العنصر اللغوي، تمتزج جميعًا في
إعادة بناء العالم المعيش.
لم يتوقف هابرماس عند الإنتاج المادي للعالم الذي يتحقق عن طريق النشاط الغائي أو
الأداتي، لا لعدم أهميته، بل لأنه الجانب الوحيد الذي أثمرته الحداثة الغربية. ولذلك
أسهب في تفاصيل ما اعتبره الجانب المهمل في المشروع الحداثي، وهو النشاط التواصلي وما
يفترضه من معايير وقيم أخلاقية. ويؤكد على ممارسة الفعل التواصلي في الحياة اليومية
التي هي الوسط الذي يتم فيه إعادة الإنتاج الرمزي. إن المشاركين في التواصل يوجدون في
تراث ثقافي يستخدمونه وفي نفس الوقت يجددونه، ولكي ينسقوا أفعالهم عن طريق اعتراف
الذوات فيما بينهم بصحة مزاعم الصدق، فإنهم يحرصون على أن يصبحوا أعضاء في جماعات
اجتماعية، كما يعملون في نفس الوقت على تدعيم هذه الجماعات وتحقيق تكاملها «إن الأفعال
التواصلية ليست مجرد عمليات تفسيرية يتم فيها اختيار المعرفة الثقافية التراثية … وإنما
هي في الوقت نفسه عمليات تكامل اجتماعي وإضفاء للطابع الاجتماعي على الأشخاص المنتمين
لمجتمع معين»،
٥٠ ومن خلال التفاعل مع الأشخاص الأكفاء يستوعب الناشئون في وعيهم توجهات
القيم للجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ويكتسبون القدرات العامة على
الفعل.
كيف يمكن — إذن — عقلنة العالم المعيش؟ إن هذه المهمة كما تصورها هابرماس تقتضي
القيام بثلاث عمليات لا ينفصل بعضها عن بعض من أجل تأسيس مجتمع عقلاني حديث: تتطلب
العملية الأولى إعادة التحليل النقدي للمعرفة، وتقتضي الثانية تأسيس قيم ومعايير
مجتمعية جديدة، أما الثالثة والأخيرة فهي تهتم بتنشئة ذات إنسانية قادرة على تحمل
مسئوليتها، وعلى تأسيس هويتها الذاتية: «إذا نظرنا إلى التفاهم المتبادل نظرة وظيفية
وجدنا أن الفعل التواصلي يعمل على نقل وتجديد المعرفة الثقافية التراثية، وإذا نظرنا
إليه كفعل تنظيمي أو تنسيقي وجدنا أنه يساعد أو يعمل على التكامل الاجتماعي، وإقامة
وترسيخ التضامن. وأخيرًا فإننا لو نظرنا إليه من وجهة نظر إضفاء الطابع المجتمعي، فإن
الفعل التواصلي يساعد في تكوين الهويات الشخصية. وهكذا نجد أن إنتاج البناءات الرمزية
للعالم المعيش يتم عن طريق مواصلة المعرفة الصحيحة، وترسيخ التضامن الجمعي، وإضفاء
الطابع الاجتماعي على الذوات المسئولة والفاعلة.»
٥١
وتمثل هذه العمليات السابقة العناصر البنائية للعالم المعيش — وهي الثقافة والمجتمع
والشخص — بحيث يُعاد بناؤه — أي العالم المعيش — بالاستخدام الأمثل للمعرفة وباستقرار
المجتمع وتحقيق الاندماج بين أفراده، وبتكوين أفراد أو فاعلين يملكون القدرة على الكلام
والفعل وقادرين أيضًا على تحمُّل مسئولياتهم وتحقيق ذواتهم وتأكيد هوياتهم، هكذا نرى
أن
عقلنة العالم المعيش هو أحد المظاهر الإيجابية للحداثة أو المجتمع الحديث التي يجب
المحافظة عليها، والتي تتم فيها مراجعة دائمة للتراث الثقافي، وكذلك إنتاج قِيَم ومبادئ
أخلاقية وقانونية جديدة في المجتمع مغايرة للقديمة. ويتكفل النشاط التواصلي المدعم
بالحجج والبراهين العقلية بوضع معايير لها أو تبريرها. وفي ظل هذا الإطار الثقافي
والمعياري الجديد ينشأ الفرد الذي يسعى للدفاع عن ذاته، وتحمل مسئولية كلامه وأفعاله،
أي الشخص القادر على المناقشة والحوار والقادر على الإجابة بنعم أو لا التي يتمرس عليها
خلال التنشئة الاجتماعية، بحيث يصبح شخصًا مستقلًّا، ولكنه مندمج اجتماعيًّا في جماعة
تربطه بها علاقات اجتماعية ومصالح.
هكذا نجد أن العناصر البنائية المكونة للعالم المعيش (وهي الثقافة والمجتمع والشخصية)
تتطابق معها عمليات إعادة الإنتاج (إعادة إنتاج ثقافي — تكامل اجتماعي — انتماء
للجماعة)، وكلها ترتكز على الوجوه المختلفة للفعل التواصلي (التفاهم — التنسيق — الفعل
الاجتماعي)، وكلها ممتدة الجذور في العناصر البنائية المكونة لأفعال الكلام (القضايا
التقريرية — أفعال القول — الأقوال التعبيرية).
٥٢ هذه التطابقات البنائية تُتيح للفعل التواصلي أن يؤديَ وظائفه المختلفة،
وأن يصبح وسيطًا دائمًا لإعادة الإنتاج الرمزي للعالم المعيش، فإذا حِيل بين هذه
الوظائف وبين التحقق ظهرت الاضطرابات في عملية إعادة الإنتاج كما نشأت كذلك مظاهر
الأزمة مثل فقدان المعنى، واضطراب التوجهات، وغياب المشروعية، وسقوط القيم، والاغتراب،
والأمراض النفسية وانهيار التراث.
خاتمة
كان هذا عرضًا سريعًا للمفاهيم الأساسية لنظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بالقدر
الذي سمحت به حدود هذا البحث. وإذا كان يصعب الإحاطة — في هذا المقام — بالجوانب
التفصيلية الدقيقة لهذا المشروع الذي يحتاج إلى دراسة طويلة مستفيضة، فإن الأمر الأكثر
صعوبة هو محاولة تقييمه، خاصة وأن صاحبه ما زال يواصل العطاء، مما يعني أن هذا المشروع
يمكن الإضافة إليه، كما أنه يقبل التعديل أو التغيير، أي أنه بمعنى آخر مشروع ما زال
في
طور التطور والاكتمال، كما أقر هابرماس نفسه في بداية المجلد الأول من مؤلفه أنه لم
يقدم نظرية نهائية أو تامة بشكل كامل، مما يعني أنه قدَّم فقط إطارًا نظريًّا، وتوجهات
أساسية للانتقال من فلسفة الوعي إلى فلسفة التواصل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن
أن نقول إن نظرية الفعل التواصلي ليست نظرية بعدية، بل هي نظرية اجتماعية تحاول أن تصحح
مقاييسها النقدية. يضاف إلى هذا أن هابرماس من أكثر الفلاسفة المعاصرين الذين تُثار
حولهم الخلافات، لكل هذه الأسباب يصعب تقييم هذا المشروع تقييمًا نهائيًّا، كما يصعب
أيضًا الحكم عليه بآراء قاطعة، ولكن يمكن إجمال بعض وجهات النظر حول هذا المشروع
الضخم.
يرى بعض الباحثين أن هابرماس اهتم بالتعليق النقدي على معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع
أكثر من اهتمامه بتقديم الأدوات المنهجية والنظرية الخاصة بنظريته عن الفعل التواصلي،
٥٣ وإذا كان هذا النقد صحيحًا في مجمله، إلا أنه أثبت في نفس الوقت قدرة
هابرماس الهائلة على عرض وتقديم وتحليل نظريات وأفكار الآخرين. كما أن اهتمامه — أي
هابرماس — بالتواصل والنظرية الاجتماعية للحقيقة جعل بعض الباحثين يذهب إلى أن نظريته
تحتوي على بُعد يوتوبي واضح؛ إذ إنه — أي هابرماس — يُحيل في الغالب إلى مشروع أكثر مما
يشير إلى واقع بعينه، ويتحدث عن أخلاق يتطلع أن تصاغ في معايير وعلاقات.
٥٤ وربما كان هذا أيضًا صحيحًا إلى حدٍّ كبير؛ فالشروط التي وضعها هابرماس
للحوار، والأخلاقيات التي رأى ضرورة الالتزام بها في النشاط التواصلي، والمعايير التي
يجب أن تخضع لها أفعال التواصل، كل هذا أضفى على مشروعه بُعدًا يوتوبيًّا من ناحية،
وبُعدًا مثاليًّا من ناحية أخرى، وإن كان هذا البعد اليوتوبي لم يحصر المشروع في دائرة
المستحيل، أو عدم قابليته للتحقق، بل إن ملامسته للواقع المعيش تجعله في دائرة
الممكن.
وعلى الرغم من اختلاف المفسرين اختلافًا كبيرًا في آرائهم حول مشروع هابرماس ومدى
قدرته على الصمود في وجه الشكوك الكثيرة التي تُثار حوله، إلا أن هناك شيئًا واحدًا على
الأقل يتفق عليه المعلقون والشراح، وهو أن هابرماس قد حاول على الدوام أن يجمع بين هذه
الاهتمامات الفلسفية المتخصصة وبين التزام حقيقي فعال بتنمية أو تدعيم المناقشة
المستنيرة للقضايا الملحَّة بالنسبة للرأي العام، ولعله أن يكون أحد الفلاسفة القليلين
الذين يلتزمون بالتمسك بالتراث النقدي في البحث المبدئي عن الحقيقة، وهو في هذا كلِّه
يقدم مثلًا رائدًا للفكر المستنير.
وربما ترجع أهمية الدور الذي يقوم به هابرماس في الفكر الفلسفي المعاصر إلى أنه ما
زال متمسكًا بدور الفلسفة، وإعادة توظيفها، وضرورة انخراطها في أي نظرية للمجتمع
الحديث. هذا إلى جانب إيمانه بأن مشروع الحداثة لم يكتمل بعد، وتمسكه بإعادة الطاقة
النقدية لعقل التنوير في عصر ارتفعت فيه الأصوات مطالبةً بتخلي الفلسفة عن عرشها والعقل
عن صولجانه، إلى جانب تيارات أخرى مضادة للتنوير والحداثة، ومن ثَم وقف هابرماس مدافعًا
عن التنوير، وتصدَّى للظواهر المرضية التي ولدتها الحداثة وما بعد الحداثة، وربما لهذا
السبب أيضًا يحتاج الفكر العربي إلى دراسة هذا المشروع الفلسفي الكبير بشيء من التفصيل،
وإلقاء المزيد من الضوء على جوانبه المختلفة من أجل تأسيس مجتمع يقوم على أسس عقلانية،
ويسود بين أعضائه حوارٌ حرٌّ خالٍ من كل أشكال القمع والسيطرة، وإذا كان هابرماس يرى
أن
شروط الحوار الديمقراطي الحر لم تتوافر بعد في المجتمعات الغربية بكل ما تكفله هذه
المجتمعات لأفرادها من حريات، وبقدر ما تسمح من مراجعات نقدية للتراث العقلي والديني،
ولكل جوانب المجتمع والحياة على أوسع نطاق، فما أحوجنا نحن العرب إلى التفكير في هذه
الشروط، وإلى صياغة مشروع للحداثة يقوم على أسس عقلانية ونقدية وليست غيبية أو خرافية
متسلطة.