(٢-١) دور الفلسفة في الفكر المعاصر
أراد رورتي من نقده للفلسفة التقليدية أن يتخلص من الحصار الديكارتي الذي طوق
تاريخ الفلسفة، والذي يتلخص في عبارة إما/أو التي عبَّرت عن الثنائية التي اتسم بها
العصر الديكارتي والعصور التالية له، ووضعت الإنسان أمام خيارَين لا بديل لهما، إما
أن يُسلم بوجود أسس ثابتة، أو أن يواجه بالفوضى العقلية. لذلك كان هدف رورتي من
نقده للتراث الفلسفي هو أن يحرره من هذه الثنائية، بحيث نحتاج — لكي نفهم الأمور
التي أراد لنا ديكارت أن نفهمها — نحتاج أن «نتحول إلى الخارج بدلًا من الداخل، وأن
نتجه إلى السياق الاجتماعي للتبرير (
justification)
العقلي أكثر مما نتجه إلى تمثلات داخلية، وتشجع على اتخاذ هذا الموقف تطورات فلسفية
ظهرت في العقود الحديثة للقرن العشرين، ومن أهمها المحاولات التي ظهرت عند
فيتجنشتين في بحوثه المنطقية، وعند كون في بنية الثورات العلمية»،
٢١ فإذا ما أخذنا في الاعتبار رأيَ هذا الأخير — أعني توماس كون — في أن
كل ثورة علمية لا بد أن يصاحبها نموذجٌ إرشادي مغاير للمعرفة العلمية السابقة على
هذه الثورة، فإنه يترتب على هذا — وطبقًا لما يعنيه رورتي — أنه ليس هناك نظام
معرفي تأسيسي واحد تتمركز حوله الثقافة في أي مجتمع ويهيمن على كل تجلياتها، لا
الفلسفة ولا التاريخ ولا العلم ولا أي نظام آخر، فليس هناك جزءٌ من الثقافة أكثر
تميزًا من الأجزاء الأخرى، بما يعني أن كل فترة زمنية لها نموذج إرشادي مخالف
للفترة السابقة عليها، وأنه ليست هناك أسسٌ أبدية وثابتة تفرضها الفلسفة على
الثقافة. وهذا النموذج الإرشادي المتغير يفرضه السياق الاجتماعي والاعتقادات
والممارسات الاجتماعية واللغوية في كل فترة تاريخية.
قد يفهم مما سبق أنه من الممكن أن تتشكل الثقافة في أي مجتمع معاصر بدون فلسفة.
وإذا كان يصعب علينا أن نتخيل المشهد الثقافي بدون فلسفة، فإنه من الصعب أيضًا أن
نتخيل ما يمكن أن تكون عليه الفلسفة بدون الإبستمولوجيا التي وجَّه رورتي لها سهامَ
النقد، كما يصعب أيضًا أن نصفَ نشاطًا ما بأنه فلسفي ما لم يتضمن طريقة أو منهجًا
للمعرفة. إذن فما هو تصور رورتي للدور الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في الثقافة
المعاصرة؟
ربما كانت نقطة البداية عنده هي التخلي عن الفكرة الأساسية في الفلسفة التقليدية،
وهي أن للإنسان جوهرًا تنعكس على مِرآته بدقة كلُّ معرفتنا عن العالم الخارجي:
«علينا أن نخلص خطابنا تمامًا من كل الاستعارات البصرية، وبخاصة الاستعارات التي
تعكس شيئًا داخليًّا أو خارجيًّا»،
٢٢ ولكن التخلي عن فكرة المرآة يؤدي إلى التخلي عن الفلسفة بوصفها نظامًا
معرفيًّا، مما يترتب عليه التخلي أيضًا عن فكرة الفلسفة المتمركزة حول
الإبستمولوجيا؛ ولذلك تكون «السلوكية المعرفية» التي يقول بها رورتي ضد فكرة
«الكيانات العقلية» أو العمليات السيكولوجية، وضد الصورة التي تؤكد أن للإنسان
ملكاتٍ أسمى، وهي الصورة التي اشترك في تكوينها كلٌّ من ديكارت ولوك، ولكن آثار هذه
الصورة تم محوها في رأي رورتي من قِبَل عددٍ من الفلاسفة مثل ديوي وأريل وأوستن
وفيتجنشتين وسيلرز وكواين. ومن ثم تكون «السلوكية المعرفية» هي ردُّ الفعل على
نظرية المعرفة التي حصرت نفسها في إطار أسس ثابتة وتمثلات عقلية (فلكي نكون
عقلانيين وأبستمولوجيين لا بد أن نبحث عن أسس مشتركة ومتفق عليها بيننا وبين
الكائنات البشرية الأخرى)، ويفترض رورتي أن سيلرز وكواين على وجه التحديد «جعلانا
نملك نوعًا جديدًا وأفضل من الإبستمولوجيا السلوكية، ولكن بعد التخلي عن
الإبستمولوجيا التأسيسية بدا هناك نوعٌ من الفراغ بحاجة إلى أن يُملأ.»
٢٣
كان من الطبيعي أن تظهر بعضُ العلوم البديلة التي تحاول ملءَ هذا الفراغ. وقد
كانت الهرمنيوطيقا أحدَ هذه العلوم. ويوضح رورتي أنها — أي الهرمنيوطيقا —: «ليست
اسمًا لنظام معرفي، ولا هي منهج يحقق نوعًا من النتائج التي فشلت الإبستمولوجيا في
تحقيقها، ولا هي برنامج للبحث، ولكنها على العكس من ذلك تعبير عن الأمل الذي خلفه
الفضاء الثقافي ولا تملؤه الإبستمولوجيا»،
٢٤ وهذا هو الذي أكده جادامر أيضًا في كتابه «الحقيقة والمنهج» حيث قال
إنها — أي الهرمنيوطيقا -: «ليست منهجية للعلوم الإنسانية، بل محاولة لفهم ما هي
العلوم الإنسانية على حقيقتها وما وراء وعيها الذاتي بشكل منهجي، وماذا يربط هذه
العلوم بتجربتنا في العالم»،
٢٥ وإذا كان تاريخ الفلسفة قد تشكَّل من خلال البحث عن القياسية أو
المعيارية، وهي التي تبلورت في الفلسفة الحديثة وميزت الإبستمولوجيا، فإن رورتي
برفضه لهذا التراث ولكل ما هو قياسي لا يفهم الهرمنيوطيقا بوصفها منهجًا جديدًا أو
نظامًا معرفيًّا أو وسيلة جديدة لتحقيق القياسية.
يعيب رورتي على الفلاسفة التقليديين هروبَهم من التاريخ، بمعنى أنه يعيب عليهم
تناولهم للمشكلات الفلسفية من منظور غير تاريخي، ويأخذ عليهم رؤيتهم للعالم «من
منظور الأبدية» على حدِّ تعبير اسبينوزا، وينظر للمشكلات الفلسفية من منظور زماني
تاريخي متغير. إنه لا يريد إيجاد بديل للنظم المعرفية الإبستمولوجية — على الرغم من
أنه لا ينكر الدور الهام الذي قامت به الإبستمولوجيا في التقدم العلمي وفي المشهد
الثقافي في الفلسفة الأوروبية — بل يريد تحويلًا أو تغييرًا في اتجاه الفلسفة ذاتها
في الفكر المعاصر. إن ما «يريد رورتي أن يقوله لنا هو أن تاريخ الفلسفة، مثله مثل
كل ثقافة، هو سلسلة من المصادفات أو العرضيات، هو تاريخ نشأة وزوال ألعاب اللغة
المختلفة وأشكال الحياة»،
٢٦ كما أن فهمه للفلسفة يُسقط الفكرة الأساسية التي تزعم أن الفلاسفة هم
الصفوة العارفة بأشياء لا يعرفها غيرهم من البشر، أي أنه يسقط زعم الفلاسفة بأنهم
ملاك الحقيقة.
والواقع أن رورتي يقسم الفلاسفة إلى قسمين: فلاسفة نسقيين، وهم الذين يزخر بهم
تاريخ الفلسفة، وفلاسفة يُطلق عليهم اسم فلاسفة الهداية. وهو يفضل استخدام هذه
الكلمة عن كلمة التربية
education التي يجدها
شديدة التسطح، وعن كلمة
Bildung (التي تعني التثقيف
أو التكوين) التي تبدو شديدة الغرابة: «سوف استخدم كلمة
edification (الهداية أو الإرشاد) لكي تعبر عن
مشروع إيجاد طرق أفضل وأكثر جدة وأكثر تشويقًا وأكثر نفعًا في الكلام
speaking. إن محاولة الإرشاد لأنفسنا وللآخرين ربما
تساعدنا بالمعنى الهرمنيوطيقي أو التأويلي على إقامة روابط بين ثقافتنا وثقافة أخرى
غريبة، أو بينها وبين مرحلة تاريخية معينة، أو في محاولة إقامة صلة بين نظامنا نحن
(في القول والتفكير) وبين نظام آخر يبدو أنه يترسم أهدافًا أو غايات بعيدة بلغة غير مألوفة»،
٢٧ أعود فأقول إن هؤلاء الفلاسفة الهداة أخذوا على عاتقهم الشك في الفلسفة
القائمة على القواعد القياسية، ومن هؤلاء الفلاسفة ديوي وفيتجنشتين وهيدجر الذين
يعتبرهم رورتي من أعظم فلاسفة القرن العشرين: «في عصرنا ثلاثة من كبار المفكرين
الهداة
edifying هم ديوي وفيتجنشتين وهيدجر، لقد
بذلوا أقصى جهدهم لكي يجعلوا من الصعب علينا أن نعتبر فكرهم تعبيرًا عن المشكلات
الفلسفية التقليدية، وأن نتصور خطأً أنهم يقيمون اقتراحات بنائية للفلسفة.»
٢٨
ومحاولة الهداية أو الإرشاد لأنفسنا يمكن أيضًا أن تقوم على فعل لغوي يبدع
أهدافًا جديدة وكلمات جديدة وأنظمة جديدة مخالفة لما هو متبع في المنهج التأويلي،
أي محاولة تفسير كل ما يحيط بنا وما هو مألوف لنا من خلال المصطلحات غير المألوفة
لابتكاراتنا أو إبداعاتنا الجديدة. وفي الحالتين (أي في حالة الموافقة أو المخالفة
مع المنهج التأويلي) تقوم هذه العملية بالهداية أو الإرشاد بغير أن تكون إنشائية،
على الأقل إذا كان المقصود بما هو إنشائي أو بنائي هو ذلك النوع من التعاون لإنجاز
برامج بحثية على نحو ما يتم في الخطاب العادي أو الكلام العادي. ذلك لأن الخطاب
الإرشادي يفترض فيه أن يكون غير مألوف، وأن يأخذنا بعيدًا عن ذواتنا القديمة بفضل
ما فيه من غرابة شديدة، وأن يساعدنا على أن نصبح كائنات جديدة. فإذا كان الفلاسفة
النسقيون العظام — شأنهم شأن العلماء العظام — يبنون نظمهم من أجل الأبدية، فإن
الفلاسفة الهداة يقومون بالهدم، أو يمارسون عمليات الهدم لصالح جيلهم الحاضر، وهم
يفزعون من تصور أن لغتهم يمكن أن تصبح مؤسسية أو أن كتاباتهم يمكن أن تقاس على
الكتابات التراثية: «إن الفلاسفة النسقيين العظام هم فلاسفة إنشائيون ويقدمون حججًا
وبراهين، أما الفلاسفة الهداة العظام فهم فلاسفة رد فعل، ويقدمون ألوانًا من
السخرية والتهكم ومن الحكم الموجزة، وهم يعلمون أن أعمالهم ليست أبدية، وأنها قد
تنتهي بانتهاء العصر الذي كانوا يقاومونه. إنهم يبدون وكأنهم يتعمدون أن يكونوا
فرعيين أو هامشيين ومختلفين عن الفلاسفة النسقيين العظام الذين يبنون للأبدية. إنهم
— أي الفلاسفة الهداة — يهدمون من أجل جيلهم الذي يعيشون فيه ولا يهدفون كما يفعل
الفلاسفة النسقيون أن يضعوا فلسفاتهم على طريق العلم المأمون. إنهم يريدون أن
يفتحوا كل السبل أمام الإحساس بالدهشة الذي يستطيع الشعراء في بعض الأحيان أن
يُحدثوه. وهي الدهشة أو العجب من أن هناك شيئًا جديدًا تحت الشمس، شيء ليس مجرد
تمثيل دقيق لما كان موجودًا من قبل، شيء لا يمكن تفسيره ولا يكاد يوصف وصفًا دقيقًا.»
٢٩
لم يقرر الفلاسفة الهداة الذين يمجدهم رورتي حقائق نهائية، ولم يسيروا في الفلسفة
على طريق العلم الموضوعي المأمون. قد يُفهم من هذا أن رورتي ضد الحقيقة الموضوعية،
وربما يكون هذا صحيحًا إلى حدٍّ كبير، ولكن لا بد من توضيح أنه — شأنه شأن بعض
الفلاسفة الوجوديين — ليس ضد الحقيقة الموضوعية كما هي في العلوم الطبيعية وفي
التاريخ، ولكنه يقرُّ بأنها طريقة واحدة من بين طرق أخرى عديدة يمكن أن توصلنا إلى
وصف أنفسنا، وإن كان من الممكن أن تخدعنا وتحول دون إتمام عملية الهداية أو
الإرشاد. وتعود أهمية الرأي الذي يُقرُّ بأننا لا نملك ماهية ثابتة إلى أنه «يسمح
لنا بأن ننظر إلى أوصافنا لأنفسنا كما نجدها في واحد من العلوم الطبيعية أو فيها
مجتمعة، كما يسمح لنا بأن نعتبر هذه الأوصاف متكافئة مع الأوصاف البديلة المتعددة
التي يقدمها الشعراء والروائيون وعلماء النفس التحليلي والنحاتون وعلماء
الأنثروبولوجيا والمتصوفة. والخلاصة أن هذه الأوصاف أو التمثلات لا يصح أن نعتبرها
تمثلات تفوق غيرها بحجة أن العلوم يتم الإجماع فيها أكثر مما يتم في الفنون
والآداب، فالواقع أنها مجرد أوصاف ضمن رصيد كبير من الأوصاف الذاتية الممكنة.»
٣٠
بهذا المعنى السابق يجب أن ننظر إلى الفلسفة الإرشادية باعتبارها حبًّا للحكمة،
ودعوة للحوار، أو «محاولة للحيلولة دون تحوُّل الحوار إلى بحث. إن الفلاسفة الهداة
لا يمكنهم أن ينهوا الفلسفة، ولكنهم يساعدون على منعها من أن تسير على طريق العلم
الموضوعي والنهائي.»
٣١ بهذا المعنى يدخل الفلاسفة الهداة في محادثة، وينظرون للفلسفة على أنها
حكمة عملية ضرورية للمشاركة في الحوار، ولا يقرون حقائق نهائية ثابتة. وهذا هو ما
يعنيه رورتي على وجه التحديد، فإذا نظرنا إلى عملية المعرفة لا باعتبارها تحصيلًا
لماهية يمكن أن يصفها العلماء أو الفلاسفة، «فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا بذلك على
طريق النظر إلى الحوار أو المحادثة باعتبارها السياق النهائي الذي يمكن أن تفهم
المعرفة من خلاله. ومن ثَم يتحول اهتمامنا من التركيز على العلاقة بين البشر
والموضوعات التي يبحثونها إلى التركيز على العلاقة القائمة بين المعايير المختلفة
للتبرير، ومن ثَم إلى التغيرات الفعلية التي تعتري هذه المعايير التي تصنع التاريخ العقلي.»
٣٢
ومع ذلك فإن التقابل بين الرغبة في الهداية (التي هي هدف فلاسفة رورتي المفضلين)،
والرغبة في الحقيقة (التي هي هدف الفلاسفة النسقيين) لا يُعدُّ في رأي رورتي — وهو
الرأي الذي يتفق فيه مع جادامر — تعبيرًا عن توتر يحتاج إلى حل أو توفيق. وإذا كان
هناك ثمة صراع بين الضدين فهو صراع بين النظرة الأفلاطونية — الأرسطية التي ترى
الطريق الوحيد للهداية «إلى الحقيقة» هو أن نعرف ما يوجد في الخارج، أي نعكس
الوقائع بدقة ونحقق ماهيتنا عن طريق معرفة الماهيات، وبين وجهة النظر التي ترى أن
البحث عن الحقيقة هو أحد الطرق الكثيرة التي يمكن أن توجهنا وترشدنا. ويرى رورتي أن
جادامر كان محقًّا عندما أشاد بنجاح هيدجر في استخلاص طريقة في البحث عن المعرفة
الموضوعية (التي بدأها الإغريق واستخدموا فيها الرياضيات كنموذج) باعتباره مشروعًا
بشريًّا من بين مشاريع أخرى كثيرة.
هكذا يفترض رورتي — كسائر البراجماتيين — أنه لا يجب السؤال عن طبيعة الحقيقة أو
الخير أو الدخول في مثل هذه الموضوعات الغامضة. إنه يريد تغيير موضوع الفلسفة،
وبمعنى أكثر دقة يريد أن تنفتح الفلسفة على ميادين ونُظُم أخرى غير فلسفية، ولكن
ليس معنى هذا أنه يطالب الفلاسفة بأن يتخلوا عن صرامة التفكير أو دقته، بل إن اتساع
دائرة الفلسفة بالتفاعل مع الأنظمة والميادين الأخرى ومع علوم أخرى مختلفة، سيجعلها
تؤسس علاقة حميمة بين الفكر والحياة وخلْق نوعٍ من التوازن بينهما يساعد على إيجاد
أفضل الطرق للتعامل مع التجربة، بحيث يكون للنشاط العقلي نتائج عملية متصلة
بالسلوك. من هنا كان هجومه (أي رورتي) على البعد الإبستمولوجي للتفكير الفلسفي الذي
تجاهل الأبعاد الأخرى لمظاهر التجربة الإنسانية. وعندما تتخلى الفلسفة عن انشغالها
التقليدي بالبحث عن الحقيقة، وتهدم مفرداتها البالية القديمة التي لم تَعُد تخدم
الحاضر، عندئذٍ سيبرز الدور الجديد للفلسفة الذي يتلخص في اختراع نظريات ومفردات
جديدة، وهو دور ليس مقصورًا على الفلاسفة وحدهم، بل من الممكن أن يشارك فيه باحثون
من ميادين ونظم أخرى. والسؤال الآن: ما هي سمات الدور الجديد للفلسفة كما يتصوره
رورتي؟ وما هي علاقة هذا الدور الجديد بالواقع؟
(٢-٢) دور اللغة في الفلسفة المعاصرة
يربط رورتي بين الدور الجديد للفلسفة في الفكر المعاصر وبين اللغة، وهو في رأيه
هذا يساير الاتجاه إلى فلسفة اللغة الذي ساد جلَّ الفلسفات المعاصرة، والذي لا يرى
أهمية ولا قيمة لأي موضوع فلسفي سوى فلسفة اللغة بما تتضمنه من البحث في مشكلات
لغوية ونحوية تهم علماء اللغة، ومشكلات فلسفية تهتم بوضع نظريات في المعنى. ويؤكد
رورتي أن التحرر من أسْر الفلسفة التراثية يساعدنا إلى حدٍّ كبير على إدراك دور
الفلسفة في التعامل اللغوي أو التخاطب مع الجنس البشري؛ فالتغير التاريخي يأتي
بواقع جديد يصاحبه معرفة جديدة بمفردات جديدة. ولا يتم هذا على مستوى الظروف
التاريخية والاجتماعية للمجتمع البشري فحسب، بل على مستوى المجتمع العلمي أيضًا؛
فالاكتشافات العلمية الجديدة لا يتم شرحها بمفردات نظريات سابقة، بل تستحدث مفردات
جديدة كتلك المفردات التي فرضتها النظريات العلمية الحديثة — مثل الذرَّة، الجزَيء
… إلخ — لأن الحقائق الجديدة ولدت أوصافًا ونظريات جديدة. من هنا تأتي أهمية اللغة
المصاحبة لنمو المعرفة، مما يترتب عليه أن التغيرات الجديدة يصحبها تغيرٌ لغوي، بل
إن هذه التغيرات هي التي توسع آفاق المعرفة. ومن هنا فإن اللغة تؤدي دورًا هامًّا
في ثقافة ما بعد الفلسفة.
والواقع إن ما يسمى بالتحول اللغوي في الفلسفة جاء على أيدي العديد من الفلاسفة.
فقد ظهرت بوادره الأولى عند بيرس في نظريته عن العلامات، ثم كان فيتجنشتين هو نقطة
التحول والمنعطف الجديد في الفلسفة المعاصرة عندما رد الفكر إلى اللغة وردَّ العالم
الخارجي إلى وقائع، وسار في اتجاه التحول اللغوي الذي تابعه بعد ذلك رايل وأوستن.
وقد كان لفيتجنشتين — في فلسفته المتأخرة — تأثيرٌ كبير على الفكرة الأساسية عند
رورتي التي تدور حول ربط الفكر بالحياة أو الواقع عن طريق اللغة، فهذه الأخيرة — أي
اللغة — تساعدنا على التلاؤم أو التوافق مع العالم عن طريق الاستخدام الناجح لها.
وهذا هو الدور الجديد الذي على الفلسفة أن تضطلع به في الفكر المعاصر. كما كان
الاتجاه السلوكي في فهم فيتجنشتين للغة ووظيفتها الذي تبيِّنه هذه العبارة: «إننا
في الواقع نفعل أشياء كثيرة بالجمل التي نقولها»،
٣٣ أقول كان لهذا الاتجاه السلوكي أثرُه على رورتي عندما أكد على المكانة
التي تحتلها اللغة في الفكر المعاصر وكيف تتحول إلى ما يمكن أن نسمِّيَه بالسلوكية
اللغوية. لقد كان فيتجنشتين هو أحد الفلاسفة الذين ساعدوا رورتي على السير في هذا
الاتجاه؛ فتقرير فيتجنشتين عن كيفية حصولنا على الكلمات الدالة على الألوان تُشير
إلى طريقة أخرى في وصف علاقتنا بالواقع. إنه يرى أن معرفتنا بالألوان تتجلى في
السلوك الذي نقوم به تجاه الألوان، وجزء من هذا السلوك لغوي، أي أنه يقوم على تحديد
الألوان وتصنيفها، والقدرة على التقاط الأشكال الملونة والإشارة إليها بشكل صحيح،
ورؤيتنا للألوان بشكل واقعي تتجلى في الأداء الناجح للأنشطة مصحوبة بالكلمات
الملائمة. وهذا هو السبب الذي جعل فيتجنشتين يقول بصورة حادة إن الإجابة الصحيحة
على السؤال كيف تعرف أن هذا اللون أحمر؟ هي أنني تعلمت اللغة الإنجليزية.
٣٤ والمغزى من هذه العبارة السابقة هو أن اللغة هي المرجع والمدخل الذي
نثق به للولوج إلى الواقع، وعندما نقول إن الواقع هو ذلك الذي نعتمد عليه أو نثق
به، فإننا بهذا القول نعترف بأننا نؤديَ الوظيفة اللغوية بشكل صحيح؛ فكينونة العالم
الواقعي أو واقعية العالم تتكشف من خلال الاستخدام الناجح للغة.
ويؤكد رورتي وجهَ نظر فيتجنشتين التي يقرر فيها أننا لا نستطيع أبدًا أن نهرب من
متاهة اللغة فيقول: «إن العالم هناك في الخارج، أما أوصافنا للعالم فليست كذلك؛ لأن
العالم لا يتكلم، ولكننا نفعل ذلك.»
٣٥ يُفهم من هذه العبارة أن أوصاف العالم ليست سوى سلوك لغوي نقوم نحن به.
وربما كان هدف رورتي من هذه العبارة هو معارضته لكل محاولة للربط بين أيِّ تعبير
لغوي أو أية فكرة وبين شيء آخر غير لغوي في إطار نظرية الصدق أو التطابق المزعومة.
فنحن لا نستطيع — في رأيه — أن نتبيَّن ما تُحيل إليه عبارة أو فكرة أو مفهوم إلا
من خلال تعبير لغوي آخر، وليس ثمة سبيلٌ آخر يجعل الفكر يتلمس الواقع: «إن القول
بأن الحقيقة أو الصدق ليست في الخارج هو القول ببساطة أنه حيث لا توجد عبارات لغوية
فلا توجد حقيقة، وأن العبارات هي عناصر مكونة للغة البشرية، وأن اللغات البشرية هي
إبداعات بشرية»،
٣٦ إن العبارات الصادقة ليست مجرد إحالات إلى شيء وراءها، وإنما هي تعرض
علينا الواقع الذي يتكون منه نسيجُ تجربتنا، فهي لا تعطينا شكل أو صورة الواقع،
وإنما تمدنا كذلك بجوهر هذا الواقع. بهذا المعنى تربط اللغة بين التجربة البشرية
والواقع. وبمعنى أكثر وضوحًا إن علاقة اللغة بالواقع تعبِّر في الحقيقة عن
معتقداتنا وآمالنا ورغباتنا وخبراتنا في هذا الواقع.
إن اللغة — كما يقرُّ بهذا فيتجنشتين وأوستن — ليست مجرد لغة فقط؛ لأن الممارسات
اللغوية هي ظواهر جوهرية في حياتنا تمدُّنا بمعتقدات صادقة نوجِّه سلوكنا وفقًا
لها. فمن المعروف أن الاعتقاد — إذا ما استبعدنا المدلول الديني لهذه الكلمة — هو
اقتناع الإنسان بفكرة أو معتقد أو قضية ما لأسباب يراها المعتقد بهذه الفكرة مبررة
ومقبولة لديه، حتى لو لم تكن كذلك بالنسبة للآخرين، ويدفعه هذا الاعتقاد إلى السلوك
وفقًا له. بمعنى آخر إن إيماننا بصدق معتقداتنا يحرك سلوكنا ويعطي لحياتنا معنًى،
وبذلك تُصبح المعرفة جزءًا من العملية السلوكية وليست مسألة ميتافيزيقية. والاعتقاد
في صدْق القضايا اللغوية يقوم إلى حدٍّ كبير على الاتفاق الجمعي على معاني الكلمات.
فالكلمة الدالة على لون من الألوان، أو عضو من أعضاء الجسد، لا تُفهم إلا في ضوء
اتفاق مجتمع لغوي ما على معنًى محددٍ لها، وترتيب حياته وسلوكه وفقًا لذلك. معنى
هذا أن اللغة أيضًا — مثلها مثل كل الإبداعات البشرية — هي نتاج الزمن والتغير، لم
تظهر اللغة لتتلاءم مع بناءات سابقة الوجود، بل يمكننا أن نقول: «إن اللغات أيضًا
عرضية
contingent بمعنى أن العلاقة التي تربط بين
الأصوات والعلامات التي يصنعها مستخدمو اللغة، وما يصاحب هذه الاستخدامات هي مخترعة
وغير طبيعية
non-natural، أي أن الصوت
المستخدم لكي يشير إلى الماء — على سبيل المثال — هو صوت اعتباطي
arbitrary، وهذا الصوت وليس صوتًا آخر قد تم
تداوله في هذا المجتمع. وربما يكون هذا الصوت مختلفًا في مجتمع لغوي آخر، وهو في
حقيقة الأمر مختلف، حتى على الرغم من أنه يشير إلى نفس الجسم وهو الماء.»
٣٧
أصبحت المعرفة عند رورتي — مثله في ذلك مثل سائر البراجماتيين الذين يعدُّ
امتدادًا لهم — خبرة حيوية نافعة تعرِّفنا بأنفسنا والواقع من حولنا. ولذلك فهو لا
يفهم العالم بوصفه مجموعة من المعاني التي لها وجود مسبق، والتي تُكتشف من خلال
الفكر؛ لأنه يريد أن يفسح المجال للاكتشافات والمعارف الجديدة والمساهمات الخلاقة
من خلال الاستعارات والنظريات الجديدة. فنحن لا نجد العالم سلسلة من الظواهر التي
نعبِّر عنها باللغة، وإنما نحن الذين نصنع العالم من خلال اللغة، وما تمسك به اللغة
ليس شيئًا وهميًّا؛ لأن الاستخدام اللغوي الناجح يقاس بإضفاء الواقعية والموضوعية
على خبراتنا. وبهذا المعنى تكون الظواهر التي نتلاءم معها، والتي تنعكس في سلوكنا
قد أحسن صنعها أو إبداعها عندما نجد طريقنا في العالم، ونفهم كلَّ ما يحيط بنا.
بذلك يفهم رورتي اللغة فهمًا براجماتيًّا وسلوكيًّا مجاريًا في ذلك ديوي
وفيتجنشتين، حيث أصبحت اللغة عندهما صورة من الحياة يطورها الإنسان وفق أغراضه
ونشاطه الحيوي. وتكشف اللغة أيضًا — كما نرى عند فيتجنشتين — عن تشكيلات لغوية
لألعاب متنوعة تستخدم فيها الكلمات والجمل استخدامات تفرض عليها معانيها، بحيث
يتغير هذا المعنى إذا ما اختلفت اللعبة التي ترد فيها: «هناك عدد لا يُحصى من
الأنواع المختلفة لاستخدام ما نسميه «بالرموز» أو «الكلمات» أو «الجمل». وهذه
الكثرة المتنوعة ليست ثابتة بحيث نعرفها مرة واحدة وإلى الأبد، بل يمكننا القول بأن
هناك أنماطًا جديدة للغة، وألعابًا — لغوية جديدة تستحدث، بينما يكون قد توقف
استخدام أنماط وألعاب — لغوية أخرى أصبحت مهملة وفي عداد النسيان.»
٣٨
إن محاولة رورتي التي تتبعناها فيما سبق للتخلص من الصور المرآوية في تاريخ
الفلسفة أو من فكرة المعرفة كمرآة جعلته يستخدم كلمة التلاؤم أو التوافق مصحوبة
بحرف الجر «مع» coping with التي لا يقصد بها
التلاؤم مع شيء محدد، بل التلاؤم المفتوح على إمكانات كثيرة كالتلاؤم أو التوافق مع
النفس ومع الآخر، ومع المشكلات، أو مع التجربة والعالم. وربما يكون الهدف من فكرة
«المعية» — التي تحمل دلالات الأنصار أو الاندماج أو الارتباط المباشر بالموضوع —
هو تجنُّب التفرقة الثنائية الشهيرة في تاريخ الفلسفة بين الذات والموضوع، والعارف
والمعروف، والظاهرة والشيء في ذاته. وعملية التلاؤم مع غير المألوف مهمة شاقة
وعسيرة تتطلب منا استحداث أدوات ومفردات جديدة، ونماذج إرشادية جديدة، واستعارات
جديدة، ونظريات واعتقادات لم يفسح لها المجال بعدُ. ويعتبر رورتي أن الكتابة هي أحد
العوامل الأساسية التي تساعدنا على التلاؤم، وإن كان يرفض تصنيف الكتابة إلى أجناس
مختلفة (أدبية أو فلسفية … إلخ)، وينظر إلى كل كتابة إبداعية على أساس أنها نوع من
الأدب بما في ذلك الأعمال الفلسفية، وربما تكون حجته في هذا هي اختفاء الحدود
الفاصلة بين النظم المعرفية في عصرنا، وتداخل هذه النظم في بعضها البعض يقلل من شأن
التصنيف الحاد لأجناس الكتابة. وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه في الرأي المثير للجدل
والخلاف، فإن الكتابة هي أحد أشكال الإبداع البشري التي تساهم بشكل فعال في عملية
تلاؤم الإنسان أو توافقه مع نفسه ومع العالم والتجربة.
(٢-٣) استبدال إبداع–الذات بالوعي–الذاتي
يتضح من كل ما سبق رفضُ رورتي للمعرفة التقليدية التي تتم بين ذات عارفة موضوع
للمعرفة، بل وذهابه إلى أبعد من هذا عندما وصف الوعي — الذاتي في التراث الديكارتي
بأنه نوعٌ من خداع — الذات. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يثور السؤال. كيف يمكن
إذن معرفة الذات؟ إنها في رأي رورتي معرفة تتم عن طريق إبداع — الذات ولكن كيف يمكن
أن يكون إبداع — الذات نوعًا من المعرفة؟ وما الهدف منها؟ وكيف تتم؟
يتفق رورتي مع فرويد في اقتناعه بأن الإبداع الذاتي هو الذي يميز الكائنات
البشرية عن غيرها من الكائنات الأخرى، كما يتفق معه أيضًا في إعطائه العوامل
العرضية أهمية خاصة في عملية إبداع — الذات. إن صنع أو إبداع — الذات هو صراع
إنساني هدفه تدبير وسيلة للوجود، وإضفاء المعنى والقيمة عليه. فالإنسان ليس جوهرًا
أو ماهية ثابتة سابقة التجهيز، بل إن «حياة الإنسان تُشبه قصيدة غير منتهية»،
٣٩ كما أن شبكة اعتقاداته ورغباته وآماله وطموحاته لا يمكن أن تكون مسيرة
مكتملة بشكل نهائي. إن اعتقادات ورغبات ومصالح وسلوك الكائنات البشرية تسمح
بالتغيرات والتقلبات التي لا يمكن التنبؤ بها، فكما «أن معرفتنا عن العالم تتغير في
ضوء الإسهامات العرضية للغتنا المتغيرة، كذلك يتغير مفهومنا عن أنفسنا.»
٤٠ وليست الذات الإنسانية مجموعة محكمة من الملكات — كما هي عند كانط —
ولكنها تتشكل أيضًا من العديد من العرضيات والمصادفات والمواقف غير المتوقعة أو
المتنبأ بها. وهذه الصدفة أو هذه العرضية ليست على مستوى الكائنات البشرية فحسب، بل
هي أيضًا على مستوى العالم كما يؤكد وليم جيمس: «إن تشبَّثت بعالم كامل الصنع، فإني
لا أزال أعتقد أن عالمًا به صدفة أفضل وأحسن من عالمٍ خالٍ منها»؛
٤١ لأن ما يستحق المعرفة هو ما ليس مكتملًا وما يزال مفتوحًا على الصدفة
غير المتوقعة. وفي هذه الحالة يصعب أن نتصور وجود نموذج لكائنات بشرية ثابتة، وقد
أسهم فرويد في هدم هذه الصورة — أعني صورة وجود شيء بشري حقيقي معدٍّ مسبقًا —
عندما بيَّن تأثير الخيال غير الواعي أو اللاشعوري والدور الذي يلعبه في تشكيل
الذات الإنسانية، هذا بالإضافة إلى الوعي والتفكير، إلى جانب ردود الأفعال غير
المتنبأ بها للاوعي والجوانب الغريزية الغائرة في الكائنات البشرية. الصدفة أو
العرضية إذن تلعب دورًا هامًّا في عملية إبداع-الذات، والأفراد المبدعون فقط هم
الذين لديهم القدرة والمهارة الكافية للتعرف على — بل وتحديد — العرضيات والإمساك
بها وتحويلها إلى وقائع هامة «إذا أمسكنا بالعرضيات الخاصة الحاسمة في ماضينا فسوف
نصبح قادرين على صنع شيءٍ ذي شأن لأنفسنا، وإبداع ذوات حاضرة نستطيع أن نحترمها.»
٤٢
إن المصادفات والعرضيات تقتحم حياتنا، وبما أننا لا نستطيع التأثير في مجرى هذه
المصادفات فعلينا مواجهتها. وإذا كانت حياتنا في بعض جوانبها محكومة بالصدفة التي
لا يحكمها قانون، وفي بعضها الآخر بظروف سياسية وتاريخية مفروضة علينا، فإن «الكثير
من الأحداث الهامة في حياتنا تنبع من ردود أفعالنا لمواجهات عرضية مع أناس آخرين
ومواقف غير متوقعة. فنحن نحدد أنفسنا في مواجهة التحديات التي وضعتْها في طريقنا
ظروفٌ بشرية وغير بشرية، أو نحن نفشل في مواجهتها. وهكذا تكون الشخصية الإنسانية
شيئًا يصنع، عملًا فنيًّا.»
٤٣ ولا مهرب لنا من أن نأخذ في حسابنا المصادفات أو العرضيات والأخطار، بل
والفروض التي تظهر في حياتنا على غير توقع، وإذا كنا لا نستطيع أن نتجنب مثل هذه
الأمور فإن مهمتنا هي الوعي بها ومواجهتها كما سبق القول.
لكن هل يملك جميع الناس هذا الوعي بعرضيات الحياة؟ حقيقة الأمر أن الأفراد
الأقوياء فقط هم القادرون على إدراك مثل هذه العرضيات والإمساك بها لتساعدهم على
إبداع ذواتهم، ومن هؤلاء — في رأي رورتي — نيتشه والشعراء النوابغ الذين استطاعوا
أن يحولوا حياتهم إلى إبداعات أدبية، وأن يُبدعوا استعاراتٍ وأوصافًا جديدة،
ويحولونها من السياق الخاص إلى السياق العام: «إن التقدم الشعري، والفني، والفلسفي،
والعلمي أو السياسي ينتج من الصدفة العرضية لهاجس خاص مع حاجة عامة.»
٤٤ وعملية إبداع الذات هي مهمة كلِّ فرد وليست مقصورة فحسب على الشعراء
الموهوبين الذين يملكون القدرة على خلق استعارات ومفردات جديدة. وإذا كنا قد أكدنا
من قبل أن اللغة متغيرة، وأنها نتاج الزمن والظروف التاريخية، فإنه يترتب على ذلك
أن كل تغيُّر تاريخي يصاحبه تحولٌ لغوي، وأن الاكتشافات غير المتوقعة تساعد على
إيجاد مفردات جديدة، حيث تُصبح المفردات الموجودة بالفعل بالية وغير كافية. كما أن
وضْع نظريات جديدة يستدعي التغلغل في جوانب غير معروفة للظاهرة موضوع البحث، بحيث
تنمو المعرفة من صراع المفردات الجديدة مع القديمة، وتنمو المعرفة وتتطور مع نمو
وتطور الجنس البشري.
بهذا المعنى السابق نكون نحن جميعًا شعراء في إبداع الذات، ولكن بعضنا فقط هم
الشعراء العظام، أي أن كلًّا منَّا يُبدع ذاته بشكلٍ مختلف. ومعنى هذا أن رأْيَ
رورتي في الذات الإنسانية ليس رأيًا نخبويًّا، أي أنه لا يتحدث عن نخبة أو صفوة من
البشر لديهم مواهب أو قدرات خاصة لإبداع-الذات، وحديثة عن إبداع مفردات واستعارات
جديدة ليس مقصورًا على فئة الشعراء فحسب — باعتبارهم الفئة التي تربطها باللغة
علاقة خاصة تساعدهم على إبداع مفردات واستعارات جديدة — بل إن كل الكائنات البشرية
قادرة على إبداع استعارات جديدة في ردود أفعالهم على عرضيات الحياة ومصادفات
التجربة. ولذلك يؤكد رورتي أن ما يفعله الشعراء بكلماتهم، يمكن للآخرين أن يفعلوه
بحياتهم، بزواجهم وأطفالهم، بتجارتهم، وحسابات أعمالهم وما يمتلكون في بيوتهم،
بالموسيقى التي يسمعونها، والرياضة التي يمارسونها أو يشاهدونها، والأشجار التي
يمرون عليها في طريقهم إلى العمل، وأيضًا في كل نظرية علمية جديدة … وهكذا.
لا شك أن كلمة إبداع تحمل مدلولًا إيجابيًّا لدى السامع، فعندما نتحدث عن
إبداع-الذات ينصرف الذهن إلى التفكير في شيء له قيمة، أو هدف ينطوي على شيء خير،
ولكن ليس هناك ضمان أن يتحرك إبداع-الذات دائمًا في هذا الاتجاه، وهذا ما بيَّنه
رورتي في تحليله للرواية اليوتوبية لجورج أورويل
٤٥⋆ (١٩٨٤م). وقد ألقى هذا التحليل
٤٦ الضوء على عملية إبداع أوبرين (أحد شخصيات الرواية) لذاته التي أثمرت
كائنًا يستمتع ويبتهج بقدرته على تدمير عقل (ونستون) بطل الرواية، وينتهي من هذا
التحليل إلى أن التاريخ البشري يكتظ بمثل هذه النماذج. هنا يأتي ما نسميه
بالاعتبارات الأخلاقية في عملية إبداع-الذات. فهل ينطوي هذا الإبداع على تلبية
احتياجات ومصالح الذات المبدعة نفسها، أم لا بد أن ينطويَ اختيار فعل الإبداع على
تلبية وتحقيق مصالح الآخرين أيضًا؟ بمعنى آخر هل ما يختاره الفرد من أفعال يبدع من
خلالها ذاته ويحقق الخير لنفسه تحقق بالضرورة الخير للآخرين؟ مرة أخرى ليس هناك
ضمان لأن تسير العملية الإبداعية في هذا الاتجاه، فما يختاره الشخص لنفسه ليس من
الضروري أن يكون خيرًا للآخرين، والعكس أيضًا صحيح؛ أي أن ما يختاره الفرد ليحقق
الخير لنفسه ليس بالضرورة ضارًّا بالآخرين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما يكون
شيءٌ ما خيرًا للفرد بدون أن يكون بالضرورة خيرًا ولا شرًّا للآخرين، فهذه مسألة
خلافية ولا يمكن حسمها بسهولة في هذا المجال، ولكنها تؤكد أن الجانب الأخلاقي هو
أحد الجوانب الهامة في عملية إبداع-الذات؛ لأنها تحدد العلاقة النهائية بين الذات
المبدعة والآخرين. كما أن هذه العلاقة أيضًا تساهم من جانب آخر في عملية الإبداع
ذاتها؛ فعلى الرغم من أن الكائنات البشرية محكومة بوحدة طبيعية مشتركة (كالوحدة
البيولوجية) إلا أنها تتسم بالتنوع الثقافي الهائل الذي يسمح بوجود سياقات اجتماعية
مختلفة، تساهم بشكل كبير في إثراء عملية إبداع-الذات.
ولا شك أيضًا أن عملية إبداع-الذات تنطوي في النهاية على محاولات الذوات البشرية
لصنع شيء ذي قيمة لأنفسهم، ولإضفاء المعنى على وجودهم، ولكن ما هي الظروف التي يجب
أن تتوافر لكي تؤتيَ هذه المحاولات ثمارها، ولكي تتم عملية صنع-الذات بصورة أفضل؟
إن عملية إبداع-الذات تستمد مادتها الأساسية من الظروف والأوضاع السياسية
والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الإنسان الذي أُلقيت على عاتقه مهمة
إبداع-ذاته. فإذا كانت هذه الظروف صارمة وتفرض قيودها الظالمة على مواطنيها، فإن
مثل هذه الظروف والنظم تجلب المعاناة على أفرادها، بينما نجد في المقابل أن
المجتمعات التي يسودها قِيَم كالحرية والتسامح والديمقراطية تفسح المجال للأفراد
لإبداع-الذات بصورة أفضل. وتلعب الحرية دورًا خاصًّا في صنع-الذات، والحرية كما
يقول رورتي هي «إدراك أو التعرف على العرضية
Freedom as recognition
of contingency»
٤٧ فلكي نستجيب لعرضيات الحياة علينا أن نحسب حساب القيود المفروضة علينا
من قِبَل الظروف الاجتماعية والسياسية؛ فالتعصب السياسي والقيود الاجتماعية الصارمة
تُشكِّل عقبة في طريق نمو وتطور الأفراد، وهي أحد العوائق التي تحول بين الفرد وبين
إبداع-ذاته، لا سيما أن هذه العملية الأخيرة (أي إبداع-الذات) ليست بالمهمة
اليسيرة، بل هي عمل شاقٌّ يتطلب أن يتمتع الفرد بقوة الشخصية لتكون لديه القدرة على
مواجهة الظروف المعاكسة والمعوقة لتحقيق ذاته. ومما لا شك فيه أن توافر مناخ خاص
مثل الحرية والتسامح والديمقراطية في مجتمع ما هو من الأمور الأساسية التي تفسح
مجالًا لعملية إبداع-الذات.
•••
والآن وبعد أن عرضنا — بالقدر الذي تسمح به حدودُ هذا البحث — نقدَ رورتي للفلسفة
التقليدية، وتصوره للمشهد الثقافي لمرحلةٍ ما بعد الفلسفة، ما هي الخلاصة التي
يمكننا أن نخرج بها من الجانبَين؛ أعني جانب هدمه للتراث الفلسفي من ناحية وتصوره
للحياة الفلسفية بعد أن أعلن نهاية الفلسفة من ناحية أخرى؟ بمعنى آخر ما هو المشروع
الفلسفي الذي يريد رورتي تقديمه من خلال هذا الهدم وذلك التصور؟
لن نبالغ إذا وصفنا مشروع رورتي الفلسفي — إذا جاز لنا أن نُطلق كلمة مشروع على
التصور الذي وضعه — بأنه يغلب عليه جانب الهدم والنقد أكثر مما يقدم بديلًا لكل ما
تناوله بالنقد، وأنه لم يؤسس مشروعًا فلسفيًّا بديلًا عن الفلسفة التراثية. لقد
أسهب طويلًا في نقد التراث الفلسفي من أفلاطون حتى كانط والفلسفة التحليلية، بحيث
لم يُفسح مجالًا كبيرًا لجانب البناء على الأقل حتى الآن (لا يغيب عنا أننا نتحدث
عن فيلسوف معاصر، تنظر إليه الأوساط الثقافية الأمريكية الآن على أنه الفيلسوف
الأول فيها)، فهو ما زال يواصل العطاء، وما زال قادرًا على استكمال جوانب النقص
والقصور في تفكيره — ولا أقول فلسفته تمشيًا مع رأيه بأنه لم يَعُد هناك ما يمكن أن
نسمِّيَه فلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. إن قولنا بإخفاق رورتي في وضع تصور متكامل
لمشروع فلسفي بديل قول ليس فيه تجنِّي عليه، فقد اعترف هو نفسه بذلك في نهاية كتابه
«الفلسفة مرآة الطبيعة» عندنا قال: «لقد حاولت أن أبيِّن أن محاولة الفلاسفة للوصول
إلى الأصل أو المبدأ الأول للخطاب تمد جذورها في اهتمامهم بأن ينظروا إلى الممارسات
الاجتماعية للتبرير على اعتبار أنها أكثر كثيرًا من أن تكون مجرد ممارسات. وقد ركزت
بشكل أساسي على التعبيرات التي تمت في كتابات الفلسفة التحليلية، والنتيجة أنني لم
أقدِّم إلا مقدمة، مجرد مقدمة أو تمهيد والمعالجة التاريخية بالمعنى الدقيق تقتضي
اطلاعًا ومهارات، وربما لا أملكها، ولكن ربما كانت هذه المقدمة كافية لكي تجعلنا
نرى أن الموضوعات المعاصرة للفلسفة هي أحداث تدخل في مرحلة معينة من الحوار، وهو
حوار لم يكن يعرف شيئًا عن هذه الموضوعات أو القضايا، وربما لا يعود في المستقبل
إلى معرفة شيءٍ عنها.»
٤٨
إن دعوة رورتي لتحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر ليست جديدة كل الجدة، فهو في
هذا يتسق مع تراثه البراجماتي الذي يحاول تغيير موضوع الفلسفة والغاية منها، بل
ويسعى لوضع أفكار مضادة للفلسفة وبلغة غير فلسفية؛ لأن اللغة الفلسفية — في زعم
البراجماتيين — تجسِّد الافتراضات الأفلاطونية التي لا تُقرُّ البراجماتية
بنتائجها. وبذلك تُصبح الفلسفة موضوعًا شائكًا ومعقدًا، بل وغامضًا أيضًا، وربما
لهذا السبب انتهى الأمر برورتي إلى الدعوة إلى اختفاء ما يسميه بطبقة الفلاسفة أو
الصفوة، وإلى التوقف عن التفكير في المشكلات الفلسفية الخالصة، ووقف التعامل
بالمصطلحات الفلسفية المألوفة. فقوله بالسلوكية المعرفية ورفضه للصور المرآوية
يستلزم بالضرورة التخلي عن فكرة احتراف الفلسفة، بل يصل به الأمر إلى اعتبار أن
غاية التفلسف هي عدم ممارسة الفلسفة على الإطلاق … أراد رورتي للفلسفة إذن أن تكون
صوتًا في محادثة أو مخاطبة الجنس البشري، وأن تنصرف عن كونها موضوعًا لبحث مهني أو
حِرَفي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتسق دعوته لتحول دور الفلسفة مع تيارات أخرى
مختلفة خاصة بعد أن ألقت الفلسفة المعاصرة الضوء على الاهتمام الشديد بالحياة
اليومية واللغة العادية مما جعل فكرة التحول اللغوي التي ينشدها لا تنطوي في
الحقيقة على طرح جديد في الفكر المعاصر. ذلك أن الاتجاه السائد في معظم فلسفات
النصف الثاني من القرن العشرين، قد أكَّد على أهمية فلسفة اللغة، فظهرت نظريات
وتفسيرات وتيارات متنوعة في هذا المجال. هذا بالإضافة إلى أن كل ما قدَّمه رورتي من
آراء وأفكار عن أهمية دور اللغة في الفلسفة المعاصرة مستمدٌّ بشكل أو بآخر من
فيتجنشتين (وبصفة خاصة من فكرته عن ألعاب اللغة)، ومن كواين وديفيدسون وسيلرز
وغيرهم من فلاسفة اللغة.
يتفق رورتي مع تراثه البراجماتي — وخاصةً مع ديوي — الذي يقر بأنه ليس هناك
مشكلات أبدية للفلسفة، وأن الفلاسفة ليست لديهم معرفة خاصة ولا هم صفوة الحكماء؛
ولذلك دعا إلى تحوُّل دور الفلسفة في الفكر المعاصر. وإذا صح أن رورتي محقٌّ في
دعوته هذه، أي في هدمه للتراث الفلسفي كفكرٍ متعالٍ على الواقع، فلا شك أن هذا حدث
في فترات معينة من تاريخ الفلسفة مما جعلها تنفصل عن الواقع، ولا تؤثر فيه تأثيرًا
كبيرًا، الأمر الذي دعا رورتي إلى المطالبة بتطوير دورها في التفاعل مع الحياة
والنظم المعرفية الأخرى. وقد حالفه الصواب في هذه الدعوة الأخيرة، فلم يَعُد من
الممكن الحديث عن المشاكل التقليدية في الفلسفة دون النظر في نتائج العلوم الأخرى
في عصر يموج بمتغيرات هائلة على جميع المستويات. أقول إذا كان هذا صحيحًا، فإنه من
الصحيح أيضًا أن رورتي قد جانبه الصواب عندما تصور أنه يستطيع أن يخلع الفلسفة عن
عرشها، كتأمل ونظرة كلية شمولية تُعدُّ أهمَّ سمات الفلسفة، كما أننا نشك في أنه
استطاع أن يجردها من مهمتها الأزلية التي هي السؤال عن الأساس والجوهر، وأن ينزع
عنها تفردها بالبحث عن الجذور وعن المعنى والحقيقة.
وإذا كان رورتي بدعوته إلى تحوُّل دور الفلسفة يعارض المذاهب والبناءات الشامخة،
فإن هذه المذاهب ذاتها إنما تعبر عن تحولات فلسفية للمشكلات الأبدية للفلسفة مع
الاحتفاظ بماهية الفلسفة. وإذا كان يطالب بتحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر، بحيث
تتعاون مع مختلف العلوم والنظم المعرفية الأخرى، مما قد يُفهم منه أن الفلسفة لا
وجود لها بغير هذه العلوم وتلك النظم، فإن العلوم الأخرى بدورها لا غنى لها عن
الفلسفة، ولا عن أسئلة الفيلسوف التي من الممكن أن تبدأ بها مرحلة جديدة من مراحل
التطور العلمي لا ليحدد بها الحاضر فقط، بل المستقبل أيضًا، وإذا كانت العلوم
الأخرى ممعنة في التخصص ويستغرقها البحث في الجزئيات، فلا غنى لهذه العلوم عن
النظرة الكلية الشاملة للفلسفة؛ فالفلسفة هي التي تحدد فائدة العلوم لمسيرة الجنس
البشري، خاصةً بعد التقدم العلمي الهائل وما أحدثه من تدمير للبيئة الطبيعية
والحياة الإنسانية على السواء، وما أحدثته التكنولوجيا من تطبيقات غير إنسانية، وما
أحدثته الحروب من دمار، وكلها مشكلات تصدَّى لها الفلاسفة (تلك الفئة التي يريد لها
رورتي أن تختفيَ) بما استحدثوه من علوم مثل الأخلاق الطبية وفلسفة البيئة وغيرها
لمواجهة الأخطار الناجمة عن استخدامات العلم وتطبيقاته، بحيث يصدق قول أفلاطون عن
الفلسفة بأنها حارسة المدينة؛ إذ تواجه كل الأخطار اللاعقلانية والأساطير المدمرة،
تمامًا كما واجه الفلاسفة النظم الفاشية والنازية؛ لأن مهمة الفلسفة ستبقى في
النهاية هي المحافظة على العقل البشري وكرامة الإنسان أيضًا.
لقد أراد رورتي من هجومه على الإبستمولوجيا استبدال الممارسة الاجتماعية بنظرية
المعرفة؛ فقوله: «أن الحق والصدق مسألتان تتعلقان بالممارسة الاجتماعية»، هو تعبير
عما يسميه السلوكية المعرفية، ولكن ألا تحتاج الممارسة الاجتماعية إلى تنظير يعرف
ماهية الخير والشر؟ وهل هناك ممارسة اجتماعية لا يهديها النظر ويحول بينها وبين
التحول إلى ما يمكن أن يكون ممارسات عشوائية. ووفق التفسير الذي يتبعه رورتي، فإن
هذه الممارسات الاجتماعية تخضع أيضًا للتغير التاريخي؛ ففي كل فترة تاريخية تظهر
مجموعة من الممارسات الاجتماعية تتنافس وتتصارع، فكيف يتم التمييز بين أفضل هذه
الممارسات وأسوأها؟ وكيف نحكم على ما يحتاج منها — أي الممارسات — إلى الإبقاء عليه
وما يتطلب التخلص منه أو التخلي عنه؟ إن الفيلسوف هو الشخص الذي تقع هذه المهمة على
عاتقه، أي أن جوهر عمله هو متابعة نمو واستمرار وزوال أو بقاء هذه الممارسات
وتناولها بالنقد، هذا النقد نفسه هو لبُّ وجوهر التفكير الفلسفي الذي أعلن رورتي
نهايته.
لقد أراد رورتي للفلسفة أن تتحول إلى ما أطلقنا عليه اسم اللغوية السلوكية، أي أن
تكون صوتًا في محادثة أو مخاطبة الجنس البشري. بهذا المعنى تصبح اللغة هي وسيلتنا
للدخول إلى الواقع، وتكون أوصاف العالم هي السلوك اللغوي الذي نقوم به نحن، مما
يترتب عليه أن الاستخدام الصحيح للغة يزيد من خبرتنا بالعالم. ولا جدال في أن ما
نفهمه من الواقع هو ذلك الكم الهائل من الوقائع المألوفة المعترف بها في عبارات لا
خلاف حولها، ولكن هل يعني هذا أن تتحول الفلسفة إلى مجرد سلوك لغوي أو مسألة لغوية
فقط؟ إن هذا بطبيعة الحال غيرُ كافٍ؛ فإذا كانت الفلسفة بصفة عامة تمثل رؤية
الإنسان الكلية الشاملة للعالم أو الكون، فإن اللغة هي أحد جوانب هذه الرؤية فقط،
وليست هي الرؤية كلها.
وأخيرًا فلعل فكرة إبداع-الذات أن تكون من أكثر أفكار رورتي أهمية وجاذبية. ومع
أن هذه الفكرة مسبوقة بصورة أو أخرى عند فلاسفة الوجود من نيتشه وكيركيجورد إلى
هيدجر وسارتر، فإن ذلك لا ينفي أن لرورتي الفضل في إلقاء المزيد من الضوء على هذه
الفكرة الهامة وتعميمها وإعطائها أبعادًا اجتماعية وإنسانة أكثر بكثير من فلاسفة
الوجود. والواقع أن تأكيد رورتي على أننا لسنا ذواتٍ سابقة التجهيز نسعى لاكتشاف
ذاتها من خلال الوعي الذاتي، ورفضه لفكرة أن العالم له وجود مسبق نكتشفه من خلال
الفكر؛ يعني أننا نحن الذين نُبدع أنفسنا، ونحن الذين نُبدع العالم أيضًا. وبقدر ما
تحثنا هذه الفكرة على العمل الخلَّاق بقدر ما تنم عن تمجيد لقدرات الكائن البشري
على الإبداع والابتكار.
وأخيرًا لا يضيف نقدُ رورتي للفلسفة التراثية أو التأسيسية إلا القليل لنزعات
نقدية أخرى سابقة؛ فمحاولته للنفاذ إلى القشرة الصلبة للفلسفة التقليدية سبقه إليها
فلاسفةٌ آخرون (مثل نيتشه وهيدجر وغيرهما)، ولا يغيب عن بالنا أن تلك النزعات
النقدية نفسها هي نوع من الممارسة الفلسفية — سواء أراد رورتي ذلك أو لم يُرد — وأن
الهجوم على التراث الفلسفي لا يهدمه بقدر ما يُثريه ويحدثه، ويصحح مساره ويجدد
قضاياه ومشكلاته، وإلا أصبح حاضرُنا معلقًا في الهواء. ومع ذلك فإن أهمية نزعته
النقدية التي تُعلن نهاية الفلسفة تأتي من أنها تضع حدودًا للدور الأبدي القديم
للفلسفة الذي لم يَعُد يواكب عصرَ الاتصالات والمعلومات الآن. هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى لعل دعوته — التي تؤكدها نزعتُه النقدية — لتحول دور الفلسفة في اتجاهٍ
مغاير تمامًا لدورها التقليدي ومشاركتها في الحوار الثقافي والاجتماعي والعلمي
العام، وانخراطها في السياق الاجتماعي والممارسات العملية واللغوية، لعلها أن تكون
أكثرَ أفكاره تميزًا، لا سيما إذا تذكَّرنا أن كثيرين غيره قد سبقوه للدعوة إلى نقد
التراث الفلسفي التقليدي، بل والمطالبة بتجاوزه.