(١) تحديد المفهوم
بدايةً لا يمكننا أن نتحدث عن الوعي التاريخي بدون أن نكوِّن رؤية واضحة عن مفهوم
الزمان، وما دامت أحداث التاريخ لا تدور إلا في الزمان، فإننا لا نتعرف على الزمان إلا
من خلال أحداث التاريخ. والإنسان من بين الكائنات الحية جميعًا هو الذي يصنع تاريخه،
وهو الكائن الوحيد الذي لديه الوعي بالزمان. وإذا كان من الصحيح أن الكائنات الأخرى لها
تاريخ، فإنه من الصحيح أيضًا أنها لا تعي زمانها ولا تاريخها الطبيعي، والإنسان وحده
هو
صاحب التاريخ البشري وصانعه عن جدارة؛ ولذلك فهو القادر على فهم جدل الزمان والتاريخ.
وبالرغم من أهمية الزمان في موضوعنا إلا أننا لن نتوقف أمام الزمان كإشكالية
ميتافيزيقية وهي اللغز المحيِّر الذي استعصى على كبار الفلاسفة قبل صغارها، فلن نطرح
السؤال عن ماهية الزمان — التي تخرج بالبحث عن النطاق المرسوم له — ولن نحاول التعرف
على بداياته أو نهاياته، ولن نسعى للبحث عما إذا كان أبديًّا سرمديًّا أم أنه حادث
مخلوق مع العالم، فهذه قضايا يطول الاسترسال فيها ولا يحسمها التاريخُ الطويل للفلسفة
ولا نظنه سيحسمها في يوم من الأيام، ولن نتساءل أيضًا إن كان وجود الزمان لا ينفصل عن
الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية أم أن له وجودًا موضوعيًّا؟ فهذه المشكلة لها
جذورها الفلسفية والعلمية التي يشهد عليها تاريخُ التفكير الفلسفي من ناحية، وتطورُ
علمِ الطبيعة أو الفيزياء من ناحية أخرى، وهي المشكلة التي أُثيرت على مستويَين:
ولن نعرض أيضًا للزمان النفسي — على الرغم من أهميته — الذي دارت حوله تأملات وبحوث
العديد من فلاسفة القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه زمان الذاتية الفردية، أو زمن
التجربة الحية. ولهذا سوف نقتصر على الزمان التاريخي — الذي يتداخل مع الزمان الطبيعي
الكمي وزمان الوجدان الكيفي — وهو الزمان الذي تتفاوت سرعته وكثافته وفق ما يمتلئ به
من
مضمون يشكل التاريخ البشري.
لا بد أيضًا من التنويه بأن ما نعنيه بالزمان التاريخي هنا يختلف عن الزمان التاريخي،
الذي يهتم بأحداث الماضي المنظمة أو المنظومة في تتابع تاريخي للوقائع؛ أي تقسيم الزمان
إلى أحقاب تاريخية من عصور قديمة ووسيطة وحديثة؛ فهذا التحقيب لا يجعل من الزمان زمانًا
تاريخيًّا، بل يظل زمانًا تأريخيًّا. وعلى الرغم من أن تعاقب حالات الوعي هو الذي يؤكد
تدفق الزمان؛ لأن الوعي «مصنوع على نحو لا يستطيع معه إلا أن يُدرك تتابعًا للحظات
حاضرة، أو بالأحرى نقاطًا في المكان والزمان»،
١ إلا أن الزمان ليس هو فحسب الزمان المتتابع في خط واحد، بل هناك أيضًا
الزمان التاريخي الذي تتفاوت سرعته وكثافته من ناحية الامتلاء بالمضمون، فنجد في الزمان
التاريخي عصورًا تاريخية متميزة من حيث بنيتُها الممتلئة بمضامين التطور والتجدد، كما
نجد عصورًا شديدة التسطح، تمامًا كما مرَّ الزمان الكوني بمراحل تطور تأرجحت بين
التجانس والتفجر؛ فالزمان كالهيكل العظمي، والبنية الزمنية لا قيمة لها في حدِّ ذاتها،
بل تستمد قيمتها مما تحتويه من مضمون؛ ولذلك فبنية الزمان التاريخي لا تسير على وتيرة
واحدة؛ لأنه يتغير حسب مضمونه التاريخي، كما أن تقييم الأبنية الزمنية نفسها يتم وفق
ما
تحمله من مضمون.
والزمان في سياقه الواقعي لا يمكن أن نفصله عن بنية الحياة الاجتماعية؛ ولذلك فهو
يتميز بالانفصال وعدم التجانس حتى بين لحظاته المتزامنة أو المتعاصرة، بحيث نجد مستويات
وصورًا مختلفة للتزامن من النواحي التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية تنطوي في
ذاتها على صور أخرى من عدم التزامن، ولتوضيح هذا يمكن أن نتصور أزمنة مختلفة متعاصرة
في
أماكن مختلفة، فالحياة في قرية بسيطة في دولة من دول العالم الثالث تختلف في إيقاعها
الزمني عن الحياة في مدينة صناعية أوروبية من دول العالم المتقدم. ونستطيع أن نقول إن
الفترات الزمانية المتعاصرة من الناحية التاريخية تنطوي في نفس الوقت على اختلافات
كيفية في داخل العصر الواحد، فاليوم الذي سقطت فيه القنبلة الذرية على هيروشيما ينتمي
لنظام تاريخي مختلف عن نفس اليوم الذي عاشت فيه الولايات المتحدة بعيدة عن تلك الكارثة
المدمرة؛ أي أن هناك عدم تعاصر في داخل التعاصر.
٢ وإذا كان الحاضر التاريخي يتميز بمستويات وطبقات مختلفة، كما يتميز الزمان
التاريخي بمستويات وطبقات مختلفة داخل المجتمع الواحد، فإننا نلاحظ تعدد أصوات الزمن
بتعدد المستويات الاجتماعية، وأيضًا بتعدد وتطور النشاط البشري، بحيث يختلف الزمان
المصاحب لكل مستوى اختلافًا أساسيًّا عن سائر المستويات الأخرى. فالإيقاع الزمني للفلاح
— على سبيل المثال — يختلف عن الإيقاع الزمني للعامل قدر اختلاف هذا الأخير عن الحاكم،
بحيث يمكن أن نقول إن «دراسة الأزمنة المختلفة داخل المجتمع الواحد هي من الأهمية
بمكان. وأن أي مفهوم للزمن لا يضع في حسبانه تعددَ هذه الأزمنة وتعقدها إنما يدخل في
صعوبات لا يمكن التغلب عليها.»
٣ وهكذا يصاحب مستوى التطور الاجتماعي وسماته واتجاهاته وما يترتب عليه من
تنوع النشاط البشري؛ يصاحبه تعدد أصوات الزمن وإيقاعاته.
ويسمح التصور الجدلي للزمان بتصور العمليات المتطورة والمتغيرة فيه؛ لأنه يدور في
مستويات زمنية متداخلة ومتقاطعة، بحيث يمكن تصوره ذا اتجاه وقابلًا للانحناء والانكماش
أو الامتداد وفق ما يمتلئ به من مضمون. ولا تختلف بنية الزمان باختلاف المستويات
الاجتماعية فحسب، بل تختلف أيضًا داخل الفئة الاجتماعية الواحدة: «إنه زمن قابل للقياس،
خاضع للميكنة، ذلك هو زمن التاجر، ولكنه أيضًا زمن متقطع، تتخلله فترات توقُّف ولحظات
ميتة، زمن يرتبط بالإيقاعات السريعة أو البطيئة.»
٤ بهذا يمكن أن نجد في التاريخ البشري نفسه، وفي داخل المستويات الاجتماعية
نفسها أزمانًا تميزت بالتجانس الشديد وأزمانًا أخرى تميزت بطفرات حاسمة، وكما أن هناك
عصورًا مفرغة من المضمون والمعنى، فهناك عصور تاريخية أخرى متميزة من حيث بنيتُها
الممتلئة بالتطور والتجدد بمعانيهما المختلفة، ومن هنا يختلف بناء الزمان التاريخي، أي
زمان الأحقاب والعصور الممتلئ عن زمان الساعة المتجانس المحايد الرتيب المفرغ من أي
مضمون.
(٢) حدود الماضي والحاضر والمستقبل
بعد أن حددنا مفهوم الزمان التاريخي الذي سيدور حوله طرحُ قضايا هذا البحث، نعود
إلى
حجة أصحاب التيار الفكري الأول الداعي إلى العودة إلى الجذور، أي إلى الماضي. وقبل
الخوض في تفاصيل هذه الحجة، نواجه تساؤلًا ربما يبدو مألوفًا، بل قد يكون ساذجًا للوهلة
الأولى: ما هي الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ وكما يبدو السؤال مألوفًا،
تبدو الإجابة أيضًا مألوفة ومطروحة في تاريخ الفلسفة. فالماضي هو ما حدث ولم يَعُد
موجودًا. والحاضر هو ما يحدث في الآن الهاربة دومًا، والمستقبل هو ما لم يحدث أو لم
يوجد بعدُ، ولكن يبدو أن هذه الحدود ليست واضحة بشكلٍ كافٍ، و«الفشل في المعرفة المحددة
لكلمات مثل الماضي والحاضر والمستقبل يمكن أن يؤديَ إلى التفكير الخاطئ.»
٥ فوفقًا للتعريف السابق تكون الأحداث غير المعاصرة لنا في الحاضر، والتي تمت
في فترة زمنية ماضية هي ما نُطلق عليه الماضي. وحقيقة الأمر أن هذه — في رأينا — نظرة
تغلب عليها السطحية، ولا تدل إلا على أننا نستخدم تصورات غير محددة عن الحاضر الذي
يفهمه كلُّ إنسان بدون أن يتساءل عنه أو يضعه موضع السؤال؛ لأن «التمييز بين حدود القمة
والقاعدة للحاضر له مشاكله، والأحداث التي لم يَعُد لها دلالة للأحياء — وذلك بصرف
النظر عن دلالتها المعرفية الخالصة — من الممكن أن تُنسب إلى الماضي، فهي من جميع
النواحي الأخرى خالية من أية قيمة، وبتبنِّي هذا المنهج أو الاتجاه، فإن الحد الفاصل
بين الحاضر والماضي يمكن أن يكون متعددَ المسالك؛ إذ يمكن أن يُحدَّد بنقاطٍ مختلفة على
مستويات زمنيةٍ مختلفة.»
٦
بهذا المعنى يمكن أن نفسر لماذا ننظر إلى التراجيديا اليونانية أو الموسيقى
الكلاسيكية على أنها تخص الزمن الحاضر، بينما ننظر إلى بصريات ابن الهيثم أو نيوتن —
على سبيل المثال — على أنها تخص الزمن الماضي؟ لا بد أن تكون الإجابة أن هناك أحداثًا
تعلو على ارتباطاتها الاجتماعية والمعرفية وأخرى ليست كذلك. هناك أحداث أثارت اهتمامًا
معرفيًّا في الماضي، وارتبطت بعصرها، ولكنها لا تستطيع أن تتجاوزَه إلى عصرٍ تالٍ،
اللهم إلا أن تتحول إلى تراكم تاريخي تنحصر قيمتُه في أنه يُصبح المادة التي يعمل عليها
الباحثون للعصور التاريخية القديمة. وهناك أيضًا أحداثٌ أثارت اهتمامًا معرفيًّا
بمستقبل عصرها، أعني بهذا أن هناك أعمالًا لا تمثل لعصرها قيمة حقيقية، بل تنتمي
دلالتها المعرفية إلى زمن المستقبل، وبمعنى أكثر وضوحًا لم تكتشف القيمة الحقيقية لها
في عصرها؛ لأن دلالتها المعرفية تعلو على هذا العصر، ويتم اكتشاف جوهرها الحقيقي في
عصور تالية، فإلى أي عصر تنتمي هذه الأعمال؟ هل هي تنتمي إلى الزمن الماضي — بحكم
نشأتها في عصر تاريخي بعينه — أم تنتمي إلى زمن اكتشافها، أي إلى الزمن الحاضر؟ من هذه
الناحية تكون هذه الأعمال منتمية إلى زمن المستقبل بالنسبة إلى عصرها (مستقبل عصرها).
ومن هذا المنطلق أقول إن الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل شديدة التعقيد،
وذلك إذا وضعنا في اعتبارنا مفهوم الزمن التاريخي الذي أوضحناه سلفًا.
نواجه نفس الإشكالية بالنسبة للحدود الفاصلة بين الحاضر والمستقبل، فهذا الأخير يتم
توقعه من استقراء الحاضر، واكتشاف الإمكانات الكامنة بداخله، والتي من الممكن أن تتحقق
في زمن المستقبل؛ أي أن توقع المستقبل عادةً ما يقوم على أساس معرفة معاصرة بالظروف
الحاضرة، ولكن قد يأتي المستقبل برؤية تختلف جذريًّا عن التوقعات السابقة عليها، بل
وأحيانًا تعارضها، وبذلك يصبح المستقبل معارضًا لزمن الحاضر الذي يكون قد أصبح بالفعل
ماضيًا. فإلى أي زمن ينسب هذا الجديد سواء كان منسجمًا مع توقعاتنا أو كان مخالفًا لها؟
وما هي اللحظة الزمنية الفاصلة بين الحاضر (الهارب دومًا) والمستقبل الذي بمجرد تبلوره
يصبح حاضرًا، ثم سرعان ما يذوب في الماضي؟ لا شك أن المشكلة أعقد من هذا بكثير، وربما
لا تحسمها النظرة الواقعية ولا النظرة الميتافيزيقية لأبعادها، ولكننا نخلص من هذا
كلِّه إلى أننا لا نملك غير الحاضر الفعلي، فإلى أي حدٍّ يكون وعينا بهذا البُعد الزمني
الذي لا نملك سواه كما اتضح مما سبق؟
(٣) جدل الماضي والحاضر
لا شك أن هناك علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، فإذا كان الوعي التاريخي بالحاضر هو
الذي يحدد — كما سبق القول — موقفنا من الماضي والمستقبل، فإن النظرة إلى الماضي تحدد
هي أيضًا الموقف من الحاضر، وترسم ملامح المستقبل، وإذا كان الماضي هو أنطولوجيا
«الوجود الذي لم يَعُد موجودًا»، والمستقبل هو «الوجود الذي لم يأتِ بعدُ»، وكلاهما
«غير موجود هنا والآن»، أو هما «اللاوجود في الحاضر»، فالفرض المعرفي لوجودهما يكمن فقط
في أن العقل يتذكر الماضي، ويتوقع المستقبل. أما الحاضر فهو أنطولوجيا الوجود الحقيقي.
أو وجود الموجود الفعلي، والقادر على استدعاء الماضي وتوقع المستقبل. والحاضر باعتباره
استمرارًا للوجود والوعي معًا هو المنعطف التاريخي الذي يحدد نقطة البداية لاتجاه حركة
التاريخ إما تقهقرًا إلى الخلف أو تقدمًا إلى الأمام.
إذا كان الأمر كذلك، فما مدى وعي أصحاب التيار الفكري الأول بالحاضر؟ وكيف انعكس
على
رؤيتهم للماضي؟ وما هي طبيعة نظرتهم إلى الماضي التي حددوا من خلالها موقفهم من الحاضر
وتوجههم نحو المستقبل؟ إن نظرة أصحاب هذا التيار تفتقر إلى الوعي التاريخي بالحاضر
والماضي على السواء؛ فقد رسموا صورًا غير واقعية عن العصر الذهبي لزمن الماضي، وتصوروا
إمكانية استحضاره في الحاضر ليصبح قوة فعالة فيه، متجاوزين بذلك المسافة الزمنية
الشاسعة التي تفصلنا عن الماضي، ومتغافلين أيضًا عن متطلبات الحاضر التي هي بطبيعة
الحال متغيرة ومختلفة عما كانت تتطلبه الظروف التاريخية لزمن الماضي، بينما «النظرة
التاريخية إلى الماضي هي التي تضعه في سياقه الفعلي، وتتأمله من منظور نسبي، بوصفه
مرحلة انتهى عهدُها، وتلاشت في مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدريج حتى أوصلتنا إلى الحاضر.»
٧ ربما يوحي هذا النص بأن الماضي يتم تجاوزه تمامًا، وأن الحاضر يتخطاه إلى
مرحلة جديدة كل الجدة، ولكن المقصود بتجاوز الماضي في الكلام السابق هو تواجد الماضي
في
الحاضر بشكل أو بآخر من خلال التواصل مع العناصر الحية والخلَّاقة والفاعلة فيه، وليس
بالانقطاع عنه انقطاعًا تامًّا. فهذا التواصل هو الذي يسمح بتجاوز الماضي إلى مرحلة
أعلى وصولًا إلى الحاضر الذي يحمل الجديد المغاير والذي تتطلبه ظروفُ الحاضر
المتغيرة.
لا شك أن الواقع الحاضر هو لحظة زمنية تتصف بالإلغاز والغموض، ولكونها تتوسط الماضي
والمستقبل، فإن ما يُلقي عليها الضوء هو عمق الإحساس بالواقع التاريخي الذي يجعلنا
نستقرئ الماضي بأكمله من منظور مستقبلي؛ لأن الوعي التاريخي هو الذي يمدُّنا بالقدرة
على نفاذ الرؤية في الماضي. وإذا كان من الصحيح أن الزمن الماضي لا رجعة له من الناحية
التاريخية، فمن الصحيح أيضًا أن الماضي ليس مجردَ تراكمٍ نوعي وكمي لأحداث تمت في
زمانها، وارتبطت بظروفها التاريخية، بل هو ماضي ينطوي على لحظات وعي؛ ولذلك أصبح تراثًا
ثقافيًّا يحمل قيمًا يمكن أن تدفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى فإن الماضي — إذا نظرنا إليه وفق مفهوم الزمن التاريخي السابق شرحه — ينطوي أيضًا
على فترات زمنية خالية من المعنى، ومفرغة من القيمة، بحيث يمكن أن تدفع حركة التاريخ
لا
إلى الأمام، بل إلى الخلف (لا بالمعنى المكاني للكلمة فحسب، بل تُفضي أيضًا إلى التخلف
بالبعد الزماني للكلمة). وبهذا تصدق عبارة: «من التراث ما يعرقل ومنه ما يحرك ويدفع.»
٨
وكما أسلفنا القول، فإن الوعي التاريخي بالحاضر هو الذي يحدد توجهنا إما إلى الماضي
أو إلى المستقبل. فإذا كان الحاضر مثمرًا ومبدعًا وملهمًا دخل في علاقة جدلية مع
المستقبل وفتح الطريق إليه. ودخل كذلك مع الماضي في علاقة جدلية، وأخذ منه ما يدفعه
لإغناء الحاضر والتوجه للمستقبل، ولكن إذا كان الحاضر عقيمًا وبائسًا وخاليًا من
الأفعال المبدعة، فإنه يتخذ من الماضي بديلًا عن الحياة في الحاضر. بعبارة أخرى لن يكون
هناك أيُّ معنًى يمكن إضفاؤه على الحاضر إلا بالرجوع — أو إذا شئنا القول بالهروب — إلى
الماضي، أي أن «الماضي يعزز الحاضر بدلًا من أن يكون موضوعًا للبحث النزيه المجرد عن
الهوى.»
٩ وبفراغ الحاضر من القيمة يفقد ديناميكيته ويستمد مقوماته من الماضي، وتفقد
تجربة الزمن الحاضر معناها. فإذا توقف «أحد وجوه الزمان عن الوجود سيتوقف جريان الزمان.
ولن تكون هناك إذن حياة طبيعية، أي يفسد الزمان وتفسد معه الحياة.»
١٠ وهنا تظهر محاولات استدعاء الماضي، وغرسه في بنية الزمن الحاضر؛ فالشعوب
والحضارات «التي لا تعيش حياة أرضية فعالة، ولا تملأ حاضرها بأعمال لها تأثيرها تعيش
في
مقبرة
Cemetry أو تعيش في الماضي.»
١١ ولكننا سلمنا من قبلُ أن الزمان في حدِّ ذاته حيادي القيمة، فكيف تم إضفاء
المثالية والقيمة على الزمن الماضي لبعثه من جديد ليحيا في الحاضر؟
تحتفظ كلُّ المجتمعات قديمها وحديثها بتصورات محددة عن ماضيها البعيد، ويغلب على هذه
التصورات نوعٌ من التقييم الإيجابي، وربما يتضح هذا في أسطورة العصر الذهبي المفقود
الذي أضفت عليه المجتمعات الأولى نوعًا من المثالية. فما هي العوامل التي ساهمت — سواء
بشكل مباشر أو غير مباشر — في وضع الأسس الراسخة لهذه النظرة التي أحاطت العصور الماضية
بهالةٍ من القداسة؟ وكيف تم خلعُ القيمة وإضفاء المثالية على الماضي التاريخي؟
أسهمت بعضُ العوامل في تمجيد الماضي منها أن الثقافة الميثولوجية للشعوب رسمت صورًا
خيالية مثالية للأزمان الماضية، كما أن «الذكريات والأساطير في معظم الحضارات تفسد
وتشوه التسلسل الزمني الدقيق. فهي تسلِّم بما لديها من شواهد دون نقدٍ أو تمحيص. كما
أنها تخلط الأسطورة بالتاريخ، والبشر بالآلهة والأبطال، والواقع بالخيال، والحقيقة
بالمأثور الأدبي.»
١٢ فقد قامت الأسطورة بدورٍ أساسي في إضفاء الحياة والديناميكية على الأسلاف
الذين ظلوا حاضرين دائمًا في ذاكرة الشعوب على الرغم من غيابهم، وبُعدهم الزمني
والتاريخي. وترسخ التفكير الميثولوجي في الوعي الاجتماعي للشعوب — وإن كان بدرجاتٍ
متفاوتة — وتوارثتْه الأجيال بحيث أصبح الماضي مشاركًا في الحاضر، وأصبح الأسلاف الموتى
— حتى مَن لم يدفعوا منهم حركة التاريخ في الماضي — هم الذين يتحكمون ويسيطرون ويديرون
دفَّة الزمن الحاضر كنماذج يتوجب احتذاؤها.
١٣
بوسعنا أيضًا إدراك العلاقة بين إضفاء المثالية على الماضي التاريخي وبين التجربة
الاجتماعية، فعلى الرغم من أنها علاقة معقدة، ولكن لا يصعب التدليل عليها من الشواهد
التاريخية. فقد ارتبطت عملية تقييم الماضي بظروف اجتماعية وتاريخية معينة، وارتبط
تذكُّر العصور المثالية في الماضي البعيد «بالطبقات الاجتماعية الدنيا في المجتمع. وهي
الطبقات غير القادرة على التعرف على رموز التقدم في التاريخ أو اكتشاف أية قيمة إيجابية
في مساره تفتح الطريق أمامهم إلى مستقبل أفضل. وفي هذه الحالة تكون عملية التقدم في
التاريخ هي في طريق العودة إلى عصر سابق. حيث كان يعيش كلُّ الناس متساوين وسعداء.
ويكون المستقبل في هذه الحالة هو التطلع إلى عودة الجنة المفقودة للحياة الطبيعية الأولى.»
١٤ وإذا كانت الطبقات الدنيا من المجتمع، وكذلك الشعوب في مراحل تدهور حضارتها
تضع قيمة عُليَا لماضيها أكثر من حاضرها، وترسم صورة مبالغًا فيها إلى حدٍّ لا تُخطئه
عينُ الدارسين للعصور التاريخية القديمة، فمن المفارقة أن تجد فئات اجتماعية أخرى تنظر
إلى نفس الحقبة التاريخية نظرةً يغلب عليها الازدواج، وأصحاب هذه الفئة هم الطبقات
الاجتماعية الثورية الصاعدة في المجتمع التي تتصور أنها تأتي بفكر جديد مخالف للفكر
السائد في مجتمعاتها بغرض التغيير ومثل هذه الطبقات إما أن تنظر إلى الماضي نظرة ازدراء
واحتقار من منطلق أنه مخالف لأفكارهم الجديدة، فتنتقص من قدره وتبخسه حقَّه، وتتهمه
بالتخلف أو الرجعية، وتحاول بقدر طاقتها نزعَ أية قيمة مثالية عنه، أو أن تسعى هذه
الطبقات إلى البحث عن أسلاف لها في الماضي لتعطيَ حركاتها الاجتماعية الجديدة نوعًا من
الشرعية، ولتضفيَ عليها نوعًا من الإجلال والعظمة المستمدة من الصور الخيالية للقداسة
التي رسمتها عقولُ الشعوب لأحقابها الماضية. وفي كل الأحوال السابقة التي حصرت الزمن
الماضي بين التقييم والتحطيم (أو التحقير) حدث نوعٌ من التزييف للماضي، وعندئذٍ تصدق
العبارة التي تنص على أن: «من الصعب النظر إلى الماضي بغير تزييفه؛ لأن الحاضر يغمر
الماضي ويشوهه. إنه ليس هو الحاضر ولا الماضي، ولكنه نوعٌ من الزمن المزيف.»
١٥
وتُضفي الشعوب نوعًا من المثالية والقداسة كذلك على بعض اللحظات التاريخية في الماضي
متمثلة في زمن البدايات الأولى، سواء كانت بدايات دينية أم سياسية أم اجتماعية. ففي
الحركات الدينية الكبرى يتم إضفاءُ قيمة خاصة على زمن ميلاد المبشرين بهذه الديانات،
فيصبح زمنًا مقدسًا باعتباره لحظة تاريخية تختلف تمامًا عن كل الفترات الأخرى للتاريخ،
وهي اللحظة التي شهدت ميلاد الحقيقة الأسمى، والتي ترتب عليها تطورُ المجتمع أو ميلاده
من جديد. ثم يظهر من حينٍ لآخر حركة إصلاحية دينية تزعم محاولة استعادة القيم المفقودة
والحقائق السامية التي كانت سائدة في العصور الأولى للبدايات الدينية المقدسة، والتي
أفسدتها فترات تاريخية لاحقة، وما يحدث مع مؤسسي الديانات، يحدث أيضًا مع مؤسسي الحركات
الثورية الاجتماعية والسياسية، حيث يُضفي عليهم أتباعُ هذه الحركات هالةً من القداسة
ربما لإجبار أتباعهم على الانصياع لأفكارهم، كما يجعلون قيمة خاصة على اللحظات الزمنية
التي انطلقت فيها هذه الحركات، باعتبارها اللحظات التي وُضعت فيها المبادئ الأساسية،
ويحاول أنصار هذه الحركات استدعاءَها في الحاضر متذرعين بحجة المحافظة على الأفكار
الأصلية والإخلاص والوفاء لها.
١٦ وربما يُفضي أيضًا أتباع هذه الحركات تلك المثالية على مولد حركاتهم في
محاولة منهم للدفاع عن أفكارهم وتوجهاتهم ضد مساعي التعبير من ناحية، وأيضًا لمحاربة
أية أفكار جديدة أو مغايرة تُعارض مصالحهم وأهدافهم، وللوقوف في وجه التهديدات التي
تتعرض لها معتقداتهم من ناحية أخرى، فيتخذون من قداسة اللحظات التاريخية الأولى حجةً
قوية لتدعيم مواقفهم السكونية وتثبيتها عند محطات بعينها في مسار التاريخ، وفي سبيل
هذه
الغاية يلجئون في أحيان كثيرة إما إلى إخفاء الظواهر السلبية المرتبطة بزمن البدايات
في
محاولة لمحوها من ذاكرة التاريخ، أو يلجئون إلى تحويلها بحنكة شديدة إلى ظواهر إيجابية
يحيطونها بهالة المجد والعظمة، وتاريخ الثورات في العالم يشهد على هذا.
يوجد أيضًا في المجتمعات البدائيات الأولى والحضارات القديمة نوعٌ من التقييم
الإيجابي لزمن الماضي، والقيمة الخاصة التي نُسبت إلى هذا الزمان تعود إلى أن بدايات
البشرية هي اللحظات التي تم فيها وضعُ أسس كلِّ المعتقدات وأشكال التنظيم الاجتماعي،
١٧ وهي أيضًا الفترة التاريخية التي عاشتها الإنسانية بشكل تلقائي عفوي طبيعي،
وفي حرية تامة قبل وضع القوانين المدنية التي تنظم المجتمع تنظيمًا فرض على الإنسان
أنواعًا عديدة من القيود، وأفقده حريتَه الطبيعية وحياته الفطرية التلقائية التي عاشها
في ظل حياته البدائية. كلُّ هذا على الرغم من أن الإنسان خلال هذه الحقبة الزمنية لم
يكن على وعي بالتاريخ ولا بالماضي التاريخي، لكن هذا التقييم الإيجابي للمراحل البدائية
الطبيعية الأولى في حياة الجنس البشري نجده أيضًا في كتابات بعض المفكرين المتأخرين
الذين عاصروا فترة ازدهار العلم والفن والفكر، ولكن راودهم الحنينُ الدائم للعصور
البدائية الأولى، نجد هذا في كتابات روسو المبكرة، ونجده أيضًا في الموقف التقييمي
للعصور القديمة في عصر النهضة. وإذا كنا قد وسمنا العصور البدائية الأولى بأنها خالية
من الوعي التاريخي أو من الماضي التاريخي، فإن العصر الأخير — أي عصر النهضة — هو نموذج
لهذا الوعي التاريخي عندما بدأ الباحثون الأوربيون «يدركون لأول مرة كيف كانت أزمانهم
متميزة عن الأيام السابقة، وأكبر رجال عصر النهضة مجتمعات الإغريق والرومان القديمة،
وراودهم الأمل في محاكاتها، غير أنهم كلما توغلوا في دراسة تلك الحضارات، وجدوا أنها
غير قابلة للمحاكاة أساسًا. ذلك أن أوروبا الحديثة كانت تمتلك مزايا تكنولوجية لم تكن
معروفة حينذاك … واكتشاف هذه الفوارق الجوهرية القائمة بين الأزمنة الماضية وبين الحاضر
هو لبُّ البحث التاريخي الحديث. إذ تمخض لأول مرة عن الوعي بالمفارقة الزمنية.»
١٨ وسنُرجئ الحديث عن هذه المفارقة الزمنية وعن الوعي التاريخي في عصر النهضة
إلى الجزء الأخير من البحث.
لقد كشفت النظرة التاريخية للماضي — كما عرضنا لها على الصفحات السابقة — عن عدم
اكتشاف مواطن القوة والضعف فيه. والفكر الذي يدعو إلى تمجيد الماضي على إجماله بدون
مراجعته مراجعة جذرية هو فكرٌ يتجاوز «المفارقة الزمنية» — المشار إليها في النص السابق
— بين الماضي والحاضر، ويقتصر على الاستعانة بمقومات الماضي لمواجهة المتغيرات المستجدة
في زمن الحاضر. هذا الفكر غالبًا ما يغيب عنه الرؤية النقدية للتراث الثقافي فلا يستطيع
اكتشافُ الإمكانات الكامنة في رحم الماضي، والتي من الممكن إلقاء الضوء عليها وتطويرها
في الحاضر وفق متطلبات العصر لدفعه إلى الأمام، فيختلط الغثُّ بالثمين، ويصبح «التطلع
إلى الوراء» هو أمل الحاضر، وبذلك يضيع الماضي ويضيع معه الحاضر. فمتى يموت التراث ومتى
يحيا؟ نستعين بالنص التالي للإجابة عن هذا السؤال: «لو شئنا أن نلخِّص في كلمة واحدة
التضاد بين النظرة إلى التراث التي تؤدي إلى تقدُّم فكري، وتلك التي لا يترتب عليها سوى
التخلف، لقلنا إن التراث في الأولى، يحيا من خلال موته، أما في الثانية فإنه يموت من
خلال حياته. في الأولى يكون التراث متصلًا، لا يطرأ عليه انقطاع، فتكون النتيجة أن كل
مرحلة قديمة تمهد الطريق لمرحلة جديدة تعلو عليها، وتستوعبها في ذاتها، ولكن مع تجاوزها
وتفنيدها … أما في الثانية، حين يحدث انقطاع في التراث، وحين تتم محاولة الإحياء دون
إدراك لمقتضيات العصر الجديد الذي طرأ بعد الانقطاع الطويل، فإن هذا الإحياء ذاته موتٌ
للتراث؛ لأنه يبعثه من جديد في غير وقته، ويزرعه — كالقلب الغريب — في جسم عصر لا بد
أن يرفضه.»
١٩
من كل ما سبق يتضح أن النظرة التاريخية إلى الماضي تستوجب رؤيته في سياقه الخاص، وأن
تعامل كل فترة زمنية بوصفها كيانًا مستقلًّا، وذات دلالة في ذاتها. وبهذا المعنى يكون
للحاضر أيضًا كيانه الخاص، ودلالته التي تتجاوز الماضي، وقد يُفهم من هذا الدعوة أو
محاولة الفصل بين الأزمان التاريخية، أي فصل زمن الماضي عن الحاضر، وحقيقة الأمر أن هذا
غير ممكن لأسباب تند عن محاولاتنا؛ لأن الماضي متضمن في الحاضر بشكل أو بآخر، وفي ضوء
ما سبق شرحه، فإنه ليس هناك حدودٌ فاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن العلاقة
بينهما علاقة جدلية وبقدر ما يوجد فيها انقطاع، كذلك يوجد اتصال بنفس القدر.
(٤) جدل الحاضر والمستقبل
إذا كنا قد رأينا في جدل الماضي والحاضر أن افتقار الحاضر للقيمة والمعنى يُفضي بحركة
التاريخ إلى العودة إلى الماضي والتشبث به، فلا بد أن يكون العكس صحيحًا، أي عندما يكون
الحاضر خلَّاقًا ومبدعًا ومثمرًا، فإنه يفتح لنا الطريق إلى البعد الثالث والأخير من
أبعاد الزمان ألا وهو المستقبل. فالمستقبل بهذا المعنى يستخلص من الحاضر، ويتم التنبؤ
به على أساس المعرفة الموضوعية المحيطة بكل ظروف الحاضر. ومع ذلك فإن المستقبل عندما
يأتي إلى النور قد يتبين أنه مختلف اختلافًا جذريًّا عن التنبؤات والتوقعات التي تمت
عنه، وقد يكون في بعض الأحيان متناقضًا معها. فإلى أي حدٍّ يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟
الإجابة عن هذا السؤال تعود بنا إلى إشكالية الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، والذي
لا يمكن تحديدُه أو تعيينه بشكل ثابت، كأن تكون سنة معينة حدًّا فاصلًا بين حقبتَين
زمنيتَين. وربما تزداد الإشكالية صعوبة إذا ما أخذنا في الاعتبار فكرة عبور الزمن؛ لأن
«فكرة الزمن الذي يعبر مرتبطة بفكرة الأحداث التي تتحول باستمرار من مستقبل إلى ماضي،
فنحن نفكر في الأحداث باعتبار أنها تقربنا من المستقبل، بينما الواقع أننا نمسك بها في
الحاضر اللحظي، ثم تذوب أو تتراجع إلى الماضي»،
٢٠ ولكن لو تجاوزنا هذه الإشكالية التي يصعب الفصل فيها، ونظرنا إلى القضية من
زاوية العلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل، لوجدنا أن توقعات المستقبل وتحققاتها
تتوقف على شدة الوعي بالزمن الحاضر، ودراسة الواقع التاريخي دراسة متأنية لاستنباط ما
بداخله من بذور يمكن أن تتطور في زمن المستقبل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن
تنتهيَ إلى أن الحاضر يضم كل الأحداث المستقبلية التي ستكون بدورها مجرد تكرار له — أي
للحاضر — ومجرد نتائج مستخلصة منه، أو ربما تأتي أحداث المستقبل على صورة غير متوقعة
نتيجة تطورات أو اكتشافات مفاجئة تجعل امتداد الحاضر في المستقبل أمرًا مستحيلًا، ومن
هنا يصبح المستقبل شيئًا جديدًا كل الجدة بالنسبة لما سبقه.
والحقيقة أن للعلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل أبعادًا أخرى يشهد عليها التاريخ
الإنساني، ويحددها موقفُ البشر من الحاضر نفسه. فعندما يستحوذ الحاضر على رضا الناس،
فإنه يقلل من اهتمامهم لا بالمستقبل فحسب، بل بالماضي أيضًا. ولعل عبارة نيتشه التالية
أصدق تعبير عن حالة الوفاق مع اللحظة الحاضرة: «إنني طوال عمري لم أعرف الصراع، لم أرغب
في شيء، ولم أتطلع لأي شيء. أنظر للمستقبل كبحر لامع السطح، لا أتمنى لأي شيء أن يكون
غير ما هو عليه، ولا أتمنى لنفسي شيئًا، لا أصارع في سبيل شيء.»
٢١ أما إذا كان الحاضر لا يرضى عنه الناس بأي شكل من الأشكال، بل يزودهم
بالوسائل والإمكانات القادرة على التغلب على مشاكل هذا الحاضر، فإنه يفتح آفاق المستقبل
بدون أن يجعل الحاضر منفرًا لهم؛ لأن هذا الحاضر هو الأساس الذي يقوم عليه المستقبل.
من
ناحية أخرى، إذا نظر الناس إلى الحاضر بغير رضا واعتبروه غير محتمل، ولا يمكن التغلب
على مصاعبه، فهذا الحاضر يجعلهم ينظرون إلى المستقبل نظرتهم إلى شيء غريب عنهم كما هم
غرباء عنه. وهذه النظرة المغتربة إلى المستقبل تعتبر نفيًا لهذا الحاضر نفسه. إنهم
يحلمون في هذه الحالة بمستقبل أفضل مقترن بالرفض الكامل لأي محاولة لبنائه على أسس
الحاضر، والدليل على ذلك أن الروابط القائمة بين المستقبل الأخروي وبين الحاضر تكون
روابط سلبية ورمزية فحسب.
٢٢ ومع أن الإيمان بالأخرويات جزءٌ لا يتجزأ من التدين الصحيح، فإن الحلم
الأخروي الذي يتشبث به الناس خصوصًا في أوقات المحن وعندما ييأسون يأسًا مطلقًا من
الحاضر، هو نوع من الهروب من العيش في الحاضر، أو هو بمعنى آخر تعبير عن حالة عدم
الوفاق مع الواقع الحاضر، فيلتمسون العزاء في واقع آخر لا زماني، وفي عالم آخر ما ورائي
وغير موجود في هذا العالم، وفي هذه الحالة تنفصم عُرَى العلاقة الجدلية بين الحاضر
والمستقبل، ليس هذا فحسب، بل يغترب الحاضر ويغيب المستقبل تمامًا.
يتضح مما سبق أن الحاضر هو نقطة الانطلاق إما إلى الماضي أو إلى المستقبل، بحيث
يمكننا أن نردد مع القديس أوغسطين في اعترافاته: «أن الإنسان لا يستطيع أن يقول إن هناك
أزمانًا ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن ربما يكون من الجائز أن يصيب عندما يقول
بأن هناك ثلاثة أزمان، هي حاضر المجريات الماضية وحاضر الوقائع الحاضرة وحاضر الأحداث
المقبلة. والواقع أن هذه الأشياء الثلاثة حاضرة في الذهن، وأنني لا أراها في أي مكان
آخر، حاضر الماضي أو الذاكرة وحاضر الحاضر أو الحدس وحاضر المستقبل أو الترقب.»
٢٣ قد يفهم من هذه العبارة التي اختزلت كل أبعاد الزمان في بُعدٍ واحد، أنه
يتعين علينا أن نعيش في الحاضر، الذي لا نملك سواه، ولكن تواجهنا مشكلةُ الحاضر المتغير
دومًا، والذي سرعان ما يذوب في الماضي، فاللحظة الحاضر هاربة، فأين المخرج من فناء
اللحظة؟ لن يتعرض هذا البحث لهذه الإشكالية الميتافيزيقية التي لم يحسمها التاريخ
الطويل للفكر الفلسفي، ولا نظنه سيحسمها على الإطلاق، ولكن لما كانت «العلاقة المتبادلة
بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر»،
٢٤ فإننا سنعرض لزمن الحاضر بشكل أكثر واقعية طالما قُدِّر علينا العيش
فيه.
تفرض علينا كلُّ التحليلات السابقة أن نُمسك باللحظة الحاضرة، وأن نملأها بما يُضفي
عليها القيمة والمعنى على الرغم من تعرضها الدائم للهروب والزوال، ولعل الفناء السريع
لها هو الذي يمنحها هذه الأهمية. وعلى الرغم من ذلك فإننا نجد تفاوتًا في الوعي بالزمن
الحاضر بين الأفراد والشعوب أيضًا، بحيث تختلف تجربة الزمن اختلافات متباينة. ووفقًا
لما تناوله هذا البحث في بدايته من عدم تجانس الزمان التاريخي حتى بين لحظاته
المتزامنة، وعن تعدُّد أصوات الزمن ليس في داخل العصر الواحد فحسب، بل أيضًا بتعدُّد
المستويات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد، فهل يصح لنا بعد كل هذا أن نساويَ بين
الأبنية الزمنية، بحيث نُصدر حكمًا مطلقًا بأن على البشر جميعًا أن يحيَوا في زمن
الحاضر الذي رأينا — وفق التحليلات السابقة — أنه لم تُحسم الحدود الفاصلة بينه وبين
بُعدَي الزمان الآخرَين «الماضي والمستقبل»؟ بطبيعة الحال لا نستطيع القول بهذا، وإلا
وضعنا كل الفروض الأساسية لهذا البحث في مهب الريح. لكن يمكن التأكيد على أن هناك مواقف
متعددة للتعامل مع تجربة الزمن لا على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى الشعوب أيضًا،
بحيث يعيش الفرد (أو الأمة) زمنَ الحاضر بأسلوب أو بطريقة مغايرة لسائر أفراد مجتمعه،
كأن يتخذ الإنسان موقف العيش في اللحظة. ويكون شعاره أن الإبداع في اللحظة أكثر أهمية
من الماضي والمستقبل. فالماضي قد حدث ولا حيلة له في تغييره، والمستقبل يتطلب منه
التضحية بالعيش في اللحظة من أجل إنجازات لم توجد بعدُ. بالإضافة إلى عدم تيقنه من أنه
سيأتي وفق التصورات المرسومة له. ونجد نموذج هذا الموقف في عبارة نيتشه السابقة الذكر،
وكذلك في بعض الأعمال الأدبية، فنجد عند جوته «فن التركيز على اللحظة الحاضرة والإحاطة
الواعية بقيمة اللحظة»؛ إذ يقول على لسان فاوست:
عندئذٍ لا تتطلع الروح إلى الأمام وإلى الوراء؛
إذ الحاضر وحده عندنا هو السعادة والهناء.
٢٥
ونجدها أيضًا في نداء فاوست للحظة بالتريث والوقوف في محاولة لإيقاف عجلة الزمان عند
لحظة السعادة القصوى، فيخاطبها قائلًا:
توقَّفي إذن، فأنت رائعة الجمال.
إن أثر أيامي على الأرض،
لا يمكن أن يغيب في الدهور،
وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة،
فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات.
٢٦
ولا يكون هذا الموقف على مستوى الأفراد (لا سيما المبدعين) فحسب، بل نجده أيضًا في
الحضارات التي يغلب عليها العيش في أزمنة محددة، وربما كان عصر النهضة مثالًا على العيش
في اللحظة، وإن كان الوعي التاريخي بهذا العصر على وجه التحديد جعله نموذجًا لكل أبعاد
الزمان كما سنرى في ختام هذا البحث.
وهناك أيضًا نماذج من البشر تجعل من حاضرها نقطةَ انطلاق للعيش في المستقبل، وذلك
بتنظيم الحياة الحاضرة تنظيمًا صارمًا قد يتضمن بعض التضحيات بلحظات الحاضر من أجل
التخطيط لمشروعات المستقبل. ويبدو في هذا النموذج أنه من الأشياء العادية والطبيعية
للإنسان أن يعيش من أجل المستقبل. فالإنسان بطبيعته كائنٌ مستقبلي، ودائمًا ما يضع
أمامه هدفًا محددًا يسعى ويخطط للوصول إليه، فالصبي — على سبيل المثال — يعيش حاضره في
حالة استعداد نفسي وعلمي ليستقبل مرحلة الشباب، والشباب أيضًا يخطط مستقبله ليكون رجلًا
ناضجًا، وهكذا في مراحل العمر المختلفة يرسم الفرد دائمًا صورة للمستقبل، وينظم حياته
الحاضرة وفقًا لها. ومن ثَم تُصبح الحياة وفقًا للنموذج السابق — أي العيش في اللحظة
فحسب — علامةً على التراخي والتقاعس وقِصَر النظر. كما أنها تُعدُّ دليلًا على أن
صاحبها يعيش على المستوى الحيواني الذي لا يتجاوز الاستمتاع باللحظة الحاضرة دون أن
يفكر فيما يسبقها أو يلحقها، ومعنى هذا أنه يعيش لحظةً حيوانية بدون العلو فوق الوجود
في الزمن الحاضر. إننا نميل بحكم ماهيتنا البشرية إلى عدم الاستغراق في الزمن الحاضر،
بل نحاول أن نتجاوزَه إلى ما هو باقٍ ودائم. بل إن الأمر لا يقف عند الفرد وحده، فهناك
عصور تاريخية بأكملها وجهت حركة التاريخ ناحية المستقبل، ويمثل عصر التنوير هذا التوجه
خصوصًا مع انتشار فكرة التقدم، والإيمان غير المحدود بقدرة الجنس البشري على تحقيق
التقدم في المستقبل.
والنموذج الثالث لتجربة الزمن الحاضر يتجلى في محاولة العلو على الزمن للوصول إلى
الأبدية، ويمكن أن يتحقق هذا بطريقتين: فإما أن يتخذ شكل البقاء بالمعنى الديني
والميتافيزيقي، وإما أن يتخذ شكلًا إنسانيًّا وتاريخيًّا في التسليم ببقاء الجنس
البشري. وهذه الأشكال الإنسانية من الدوام هي التي تتجاوز تيار الأحداث المتغيرة. ومن
هذه الوجهة لا يكون التاريخ مجرد تاريخ للأحداث الماضية، وإنما يكون تاريخًا للحقائق
الإنسانية والقيم الإنسانية الباقية، أو التي لها صفة الدوام. والنظام الذي نفرضه على
أنفسنا في هذا النموذج الثالث هو قبول ما تُمليه علينا القِيَم الأخلاقية والدينية
الثابتة التي لا تتغير. والحياة في هذه الحالة تنظمها قِيَم أبدية أو لا زمانية، وقد
قدمها أخلاقيون وفلاسفة مع تسليمهم بطابع الإحكام الشديد الذي تحمله القِيَم الأخلاقية.
وفي هذا الموقف الذي تتسع فيه المسافة بين الإنسان والقِيَم الأبدية المتعالية عليه،
يسود الاعتقاد بأننا لا ننتمي واقعيًّا إلى هذا العالم الأبدي للقِيَم، وإنما يشارك فيه
بالتطلع إليه والكفاح لأجل تحقيق قِيَمه الأخلاقية أو الدينية أو السياسية أو
الاجتماعية. ومع ذلك تظل هناك فجوة لا يُستهان بها بيننا وبينه، قد يكون فوقنا أو
وراءنا، ولكننا نحاول الوصول إليه وهذا يتطلب منا نوعًا من الزهد.
٢٧
هناك أيضًا نموذج رابع لتجربة الإنسان مع الزمن الحاضر يتعارض مع النموذج السابق،
وتختفي فيه المسافة أو الفجوة المميزة له، وهو موقف يُصبح فيه الإنسان مشاركًا في عالم
القِيَم كما يصبح أساس مشاركته في هذا العالم هو مقولة الحب التي تتغلب على الزمن،
وتشارك في العالم الأبدي، وتحل محل الأخلاق الصارمة المنظمة بإحكام كما في النموذج
السابق. ويمثل جويو (١٨٥٤–١٨٨٨م) هذا المفهوم الأخلاقي في كتابه «الأخلاق بلا إلزام ولا
جزاء» الذي يقرر فيه أن الأخلاق هي فعلٌ مباشر للإنسان، ولا يصح أن يرتبط بما ينبغي ولا
بأي نوعٍ من الرهبة والخوف والتهديد (كما في أخلاق الواجب الصورية عند كانط)، بل تصبح
—
أي الأخلاق — مفهومًا أسمى للتعاون والحب. وهذا الموقف يمكن تشبيهُه بالموقف الديونيسي
٢٨ من الحياة الذي يتعارض مع موقف النموذج السابق الذي هو أقرب إلى الموقف
الأبوللي القائم على العقل والاتزان والحكمة. وتظهر نفس الفكرة أيضًا في ثقافات أخرى،
وهي فكرة أن الحب يرتفع بنا فوق الزمن، ويخلق واقعًا لا تقيده المعايير والجزاءات
والقوانين المحكمة، ولا حتى الزهد في الحياة. وفكرة الحب هذه عبَّر عنها الحكيم الصيني
لاوتزو: «عندما يذهب الحب يأتي العدل، وعندما لا يكون هناك عدل يظهر القانون. القانون
هو إعلان بالافتقار إلى الإرادة الخيرة وبداية الفوضى
Chaos. بالتخلي عن القانون، والتخلي عن العدل،
ستعود الجماعة إلى الأخوة والحب المتبادل.»
٢٩ نجد فكرة الحب أيضًا من الأفكار الأساسية عند عددٍ كبير من فلاسفة العصر
الحاضر، ومن أهمهم فيلسوف القِيَم ماكس شيلر (١٨٧٤–١٩٢٨م) الذي أكَّد بأخلاقه المادية
—
في مقابل الأخلاق الصورية عند كانط — الجانب الانفعالي والوجداني في الإنسان، وقد كان
للمنهج الفينومينولوجي تأثيرٌ بالغ في تحليلاته للانفعالات النفسية مفضلًا منطقَ القلب
الذي دعا إليه باسكال.
تبدو الحياة في الزمن الحاضر في كل النماذج السابقة غير محققة لرغباتنا ولا معبرة
عن
وعينا الصحيح بالزمن. فإذا كنا لا نستطيع إيقاف اللحظة، فما فائدة العيش فيها؟ وما
فائدة العيش في المستقبل إذا كان يأتي أحيانًا مخالفًا التصورات المحددة له سلفًا؟ وما
فائدة العيش من أجل قِيَم أخلاقية جامدة وصارمة إذا كانت تطيح بكل المتَع بعيدًا عنا،
وتجعلنا معلقين بقِيَم نكتفي بالتطلع إليها دون العيش الحقيقي فيها؟ ثم ما فائدة
الاعتقاد بوهم أننا مشاركون في عالم القِيَم الأبدية من خلال الحب؟ ألا يمكن أن يكون
هذا الحب مجردَ وهمٍ من اختراعنا؟ كيف إذن نحيا زمن الحاضر إذا كنا لا ننتمي إلى أي
عالم آخر، بل نحن قوة دافعة في هذا العالم الذي وجدنا فيه؟ هل يكون الحل هو الموقف الذي
قدَّمه برجسون وعبَّر عنه بمفهومه عن الديمومة بمعنى التدفق الدائم للزمان في مجرى
الحياة الباطنة، أي زمن التجربة الحية وهو الزمان النفسي والكيفي المدرك بالحدس؟ وهل
الديمومة — التي هي في مفهوم برجسون تقدُّمٌ مستمر للماضي، ونفاذٌ له في المستقبل. أي
أنها امتداد الماضي في الحاضر، واختراق هذا الأخير في المستقبل — هي اتصال وتواصل بين
أبعاد الزمن، ويتحقق فيها الجديد دومًا، كما يؤكد برجسون «كلما تعمقنا في فحص طبيعة
الزمن فهمنا أن الديمومة تدل على الاختراع وخلق الصور، والإعداد المستمر للجديد على وجه
الإطلاق»،
٣٠ أتكون الديمومة بهذا هي الحل السحري لمشكلة الزمن الحاضر، وتكون موقفًا من
الزمان يختلف تمام الاختلاف عن المواقف السابقة؟
يبدو أننا ما زلنا بعيدين عن الحل الأمثل لتجربة الزمن في الحاضر، فلا هو العيش في
اللحظة وحدها، ولا هو العيش في المستقبل فحسب، ولا في الأخلاق المنظمة، ولا في الأمل
المشارك في مملكة سماوية، ولا في الديمومة الخالصة التي تنحصر في النهاية في الزمان
النفسي. مع اليقين بأننا كأنماط بشرية متفردة يمكن أن نعيش في حاضرنا بكل هذه اللحظات
السابقة بدرجات متفاوتة، تمامًا كما تعيش الشعوب أيضًا حاضرها — كأنماط ثقافية متنوعة
—
أزمانًا مختلفة، ولكننا ونحن نسعى للوصول إلى التجربة الصحيحة للعيش في الزمن الحاضر
ينبغي علينا ألا نغفلَ الجوانب النفسية للتوجه الزمني. فمن الناحية النفسية يمكن النظر
إلى الزمان بمستويات مختلفة؛ لأن مشكلة الزمان التاريخي ليست هي الوعي بالزمان فحسب،
فالتوجه أو التكوين النفسي للشخصية يحدد التوجه ناحية أحد أبعاد الزمن وهي الماضي أو
الحاضر أو المستقبل التي غالبًا ما يحكمها التغيرات التي تطرأ على الشخصية. «فالشخص
العصابي — على سبيل المثال — يتوجه غالبًا ناحية الماضي في كل أفعاله ويعيش فيه.
وبطبيعة الحال لا نشير هنا إلى التوجه للماضي الناتج عن اهتمام الشخص بالتاريخ، فهذا
شيء مختلف تمامًا، بل وضروري لتحديد وضْع الفرد بين الماضي والمستقبل. كما أن الانصراف
إلى الاهتمام بالحاضر فحسب غالبًا ما يعوق تطور الشخصية، ويؤدي إلى تغيرات سلبية نتيجة
عدم استخدامها — أي الشخصية — لكل إمكانياتها مما يعرضها للتدمير وفقًا للمبدأ القائل
بأن العضو غير المستخدم يذبل ويذوي. ومع ذلك فإن التوجه للحاضر ليس دائمًا ميلًا أو
مزاجًا شخصيًّا، ولكنه في أحيان أخرى يكون توجُّهَ مجتمعٍ بأكمله، كما نجد في المجتمعات
الصناعية الكبيرة التي تمارس ضغوطًا قوية على شعوبها — من خلال نظام التعليم أو وسائل
الإعلام — لتنفيذ سياستها الرأسمالية، وإثارة شهوة النزعة الاستهلاكية في حاضر
مجتمعاتها أو في الهنا والآن. وهكذا تظهر التغيرات الإيجابية للشخصية فقط عند الاتجاه
نحو المستقبل.»
٣١ هنا قد يلوح الحل الأمثل للتوجه الصحيح نحو الزمن الحاضر، وبمعنى أكثر دقة
عندما يعيش الشخص بشكل مؤقت في الماضي أو الحاضر في الوقت الذي يهيمن عليه الاتجاه
ناحية المستقبل.
إذا ما عُدنا أدراجنا إلى بداية هذا البحث لمناقشة أصحاب التيار الأول (في ضوء ما
توصلنا إليه من حلٍّ لإشكالية التعامل مع الزمن الحاضر)، وتفنيد دعوتهم للعودة إلى
الجذور، فهل تصدق دعواهم التي تجتر الماضي وتتوهم سعادة العيش فيه والاكتفاء به، وتتصور
خطأً أن هذا وحده هو الزمان الحقيقي؟ وهل تصدق دعوى التيار الثاني الذي يتطلع للمستقبل
مطالبًا بقطع كل الجسور مع الماضي؟ من كل ما سبق يتضح زيف الدعوتَين وافتقارهما معًا
للوعي التاريخي بزمن الحاضر. فلا يمكن بطبيعة الحال الالتفات إلى الماضي، واعتباره
حاضرًا أبديًّا، فنحيَا في واقع لا زماني. كما يستحيل بنفس القدر أن نقطع كل الخيوط مع
الماضي؛ لأنه — أي الماضي — حيٌّ ولا يزال حيًّا بيننا على نحوٍ ما، حتى وإن لم تلحظه
عينُ الراصد لحركة الواقع.
نعود إلى حيث انتهينا من كلامنا عن جدل الحاضر والمستقبل الذي خلصنا منه إلى أننا
لا
نملك سوى الواقع المعيش. فإذا كان «الواقع المعيش … أو الحياة الحاضرة مبدعة فهي تنفتح
على المستقبل، ومن خلال هذا الانفتاح على المستقبل نتحول إلى الماضي لنحصل منه على
التجارب الضرورية للحاضر. وفي هذه الحالة يدخل الماضي حياتَنا بشكل مباشر، وبطريقة
أداتية كتجربة ضرورية لحياتنا الحاضرة الخلَّاقة.»
٣٢ هنا تكون العودة إلى الماضي ضرورة ملحَّة للاستعداد للمستقبل، ولكن هذه
العودة إلى الخلف أو إلى الماضي هي فقط لشحذ القوى، «كمَن يقفز فوق خندق، فلا بد له أن
يتحرك للخلف قليلًا كي يحفز قواه ويستجمع سرعته.»
٣٣ وبهذا المعنى وحده يمكننا أن نقول في النهاية إننا نعي الحاضر تمام الوعي
عندما ينفذ فيه الماضي والمستقبل بالصورة التي أوضحناها. وعصر النهضة الأوروبية هو
الفترة التاريخية التي وقع عليها اختيارُنا لتكون نموذجًا للوعي التاريخي بالزمن
الحاضر، فهي العصر الذي تبلورت فيه النظرة الصحيحة الواعية للزمن، والتي انطلقت من
الحاضر، وبدأت بداية جديدة كل الجدة مع عدم إغفال بُعدَي الماضي والمستقبل.
(٤-١) النهضة الأوروبية نموذجًا للوعي التاريخي
ما دمنا قد اتخذنا من عصر النهضة الأوروبية نموذجًا للوعي التاريخي، فلا بد أولًا
من التذكير بالمعنى الاشتقاقي للكلمة في أصلها الأجنبي، وفي ترجمتها العربية، لنؤكد
من خلاله موقفَ الوعي في تلك الحقبة الزمنية من الماضي والمستقبل معًا. فالكلمة
الأصلية
Renaiss ance تعني حرفيًّا الميلاد الجديد
أو الميلاد الثاني. وقد اصطلح على ترجمتها في العربية بالنهضة التي تعني البعث أو
النهوض من جديد بعد ركود طويل. وهي حركة ثقافية بدأت في إيطاليا منذ القرن الرابع
عشر، وامتدت إلى بقية الدول الأوروبية، وسادتْها حركةُ إحياء واسعة، وبعث للتراث
اليوناني والروماني القديم، ولكنه لم يكن بعثًا لشيءٍ ماضي أو إحياء لعصر قديم، بل
كان في جوهره ولادة جديدة لتراث قديم، بمعنًى آخر كانت عودة نقدية فاحصة للماضي،
ومؤسسة للمستقبل. فقد نظر الأوروبيون «إلى تراثهم، في عصر نهضتهم، نظرة ناضجة، لا
تخجل من الاعتراف بالاختلاف الجذري بينه وبين حاضرهم الجديد، وكانت بذلك عاملًا
حاسمًا في القضاء السريع على تخلُّفهم الفكري.»
٣٤ لقد تم توظيفُ رؤية الماضي بشكل نقدي وواعٍ من أجل الحاضر، بأن وضعَ
الأوروبيون تراثَهم الماضي في سياقه التاريخي، وكانوا على وعي بأنه مضى، وأدركوا
بحسٍّ تاريخي صادق تلك الفجوةَ الزمنية التي تفصل بين الماضي والحاضر، ومع اعترافهم
بالقيمة الحقيقية لتراثهم الثقافي وتقييمه في إطار عصره، إلا أن هذا لم يمنعهم من
الوعي بالحاضر الذي يعيشون فيه وإدراك متغيراته، فتملَّكتْهم رغبةٌ جامحة في البدء
من جديد.
تميز عصرُ النهضة بنظرة جديدة للإنسان والكون؛ فقد كان في مفهومه العام «عصر
الإنسانية، تميزه روح جديدة تفيض بالحرية وشعور جديد ومهيب بالفرد، وواقعية جديدة
في تصور الطبيعة»
٣٥ أنه أيضًا عصر الاكتشافات الكبرى، وعصر الإصلاح الديني، ونمو الدول
القومية، وبداية انطلاق الاقتصاد الرأسمالي والتجاري مصحوبًا بنهضة فنية شملت كلَّ
ميادين الفنون والآداب. كما كانت النهضة فترة توهج فكري شمل الروح والمعرفة
والفلسفة والسياسة والاجتماع، بحيث يمكن أن نقول إنها — أي النهضة — وضعت أوروبا
على عتبة العصر الحديث.
وصف المؤرخ الفرنسي المشهور ميشليه النهضة بعبارة شهيرة قال فيها «إنها اكتشاف
للعالم والإنسان»، أي أنها العصر الذي فتح «كتاب الطبيعة» و«كتاب التاريخ» معًا.
فقد انفتحت الطبيعة أمام الإنسان ليُمعن النظر فيها، وساد العصر «الشعور بالاتساع
واللامحدودية الذي يستولي على البشر.»
٣٦ أي الشعور بلا محدودية الأرض الذي تجلَّى في الكشوف الجغرافية ورحلات
كولمبوس وماجلان، ورحلات الدوران الأولى حول الكرة الأرضية. وأيضًا الشعور بلا
محدودية السماء، واكتشاف أن الأرض ليست هي مركز الكون، وأن هناك العديد من الأكوان
الأخرى، الأمر الذي أدى إلى التخلي عن وجهة نظر مركزية الأرض لصالح مركزية الشمس.
لقد كان الشعور باللامحدودية هو التعبير الحقيقي عن أهم الظواهر المميزة لعصر
النهضة، وهي روح الجرأة والمخاطرة والمغامرة إلى ما وراء كل الحدود، حدود الأرض
والسماء والعقل على السواء. الأمر الذي شجع العقل الأوروبي على طرح أسئلة كانت
محرمة عليه، وأن يطوف في بلاد وشعوب نائية ويجوب عالمًا لم يجبه أحد من قبل. ويطأ
أراضيَ وميادين جديدة بعقلية الرائد والفاتح والمغامر الذي يستمتع بمتعة الكشف ولذة
المغامرة.
وكما انفتح «كتاب الطبيعة» انفتح أيضًا «كتاب التاريخ»، واستعاد الإنسان «كرامته
الإغريقية»، ولم يَعُد العالم متمركزًا حول الشمس فقط، بل حول الإنسان أيضًا.
فالنهضة التي كانت في المقام الأول من أجل الإنسان لم يصنعها سوى الإنسان نفسه،
فكان «الإنسان الصانع» الذي ابتدع فنونًا عديدة، ووعت المخيلة دورها في مسار
التاريخ، فانطلق الفنان باعتباره شخصية فردية خلَّاقة متحررًا من روابط التقاليد
إلى حدٍّ كبير، وكان اكتشاف المنظور الذي فتح الفن على عالم لا نهائي. لقد كانت
الإنسانية الواعية بذاتها هي مفتاح عصر النهضة، فتمَّ تفسيرُ كلِّ شيء بمصطلحات
إنسانية معبرة عن الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض، الإنسان الذي أكد فرديته،
وامتلك ذاته، واتسعت معرفته وتطورت ملكاته النقدية الواعية. وكشفت النهضة عن ميلاد
جديد لإنسان جديد، ومجتمع يحمل قِيَمًا جديدة، كما كانت عصر رفع لواء الفاعلية
كشعار لإنسان حقق ذاته من خلال العمل، فكان الإنسان وإبداعاته الخلاقة هما الشحنة
الهائلة التي دفعت النهضة إلى الأمام كحركة تاريخية في اتجاه المستقبل.
لقد كانت القضية الأساسية في عصر النهضة، هي خلقُ رابطة جديدة بين الإنسان
والطبيعة، رابطة يتم فيها النظر إلى الكون نظرة جديدة غير سكونية، فكانت الطبيعة
الفاعلة عند جوردانو برونو، أي الطبيعة المبدعة التي تشكل العالم، والتي بفضلها
يشكل العالم ذاته بذاته، فكلٌّ من الإنسان والطبيعة يسيران جنبًا إلى جنب، وكلاهما
لم يكتمل بعد، بل ما زالت أمامهما إمكانية عيانية لعقد تحالف جديد، وكلاهما في
صيرورة متجددة على حدِّ تعبير باراسيلزوس
٣٧ أن العالم يسقط في العدم إذا لم «يخلق ثانية» في كل لحظة. وأن الإنسان
المسلح بخيال خلَّاق وذكاء مبدع مكلف بإنضاج إنسان أفضل وعالم أفضل. فالطبيعة لا
تنتج شيئًا كاملًا منذ البداية، ولكن على الإنسان أن ينجز ويتمم كل شيء.
٣٨ ومع هوبز يتحول العمل والإنتاج — اللذان كان المجتمع الأرستقراطي قد
لفظهما نهائيًّا — إلى أداة لتقييم العالم. فكانت النهضة هي اللحظة التاريخية التي
توقفت فيها الرؤية الأفلاطونية التي تهتم بتأمل الأفكار أو المثل، وازدرت العمل
وترفعت عنه.
إذا كنا قد اتخذنا من عصر النهضة — على وجه التحديد — نموذجًا للوعي التاريخي،
فإن هذا يعني أن العصر الذي سبقه — أي العصر الوسيط — لم يكن كذلك. فهل يعني هذا أن
العصر الذي يعنيه يمثِّل حالة انقطاع عن العصر السابق له؟ وهل يحقُّ لنا أن نقول
إنه عصر بداية جديدة كل الجدة ومقطوعة الصلة بما قبلها؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فهل
يمكن لنا أن نحدد عصر النهضة تحديدًا زمنيًّا دقيقًا يبدأ من تاريخ هذه القطيعة؟
حقيقة الأمر أن الحدود الفاصلة بين حقبتَين تاريخيتَين — كما بينَّا سلفًا — غير
ممكنة من الناحية العملية، بالإضافة إلى أنها شديدة الصعوبة في عصر النهضة؛ لأن عصر
النهضة — كما يرى جورج سارتون — قد مر «بفترتَين إحيائيتَين، بدأت أولى هاتين
الفترتين في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وبلغت أوجهًا في القرن الثالث عشر
بحافز من المعارف الإغريقية العربية التي تلقاها غرب أوروبا «عن طريق العرب». وأما
الفترة الثانية التي شهدت تقدُّمَ المنهج التجريبي فلم تبدأ قبل القرن السابع عشر.
وكانت أولى هاتين الفترتين الإحيائيتين في جوهرها إقرارًا للصلات بمعين الحياة
الثقافية الأساسي، أي كتابات الإغريق كما نقلها وصححها الباحثون من أبناء الضاد …
أما فترة الإحياء الثانية، فكانت في الواقع بداية جديدة … باعتبارها بداية العلم الحديث.»
٣٩
يتضح من النص السابق استمرارية واتصال تراث الماضي بحاضر النهضة، مما يوحي بنفي
فكرة القطيعة المعرفية بين زمن النهضة والأزمان السابقة عليها، ولكن حقيقة الأمر
أنه حدث في هذا العصر «بلا ريب انقطاع، ولكنه في نفس الوقت اتصال وتواصل؛ انقطاع
بالنسبة لما قبله، ولكنه انقطاع لا يتحدد بسنة ولا بعقد ولا حتى بنصف قرن، كما أنه
انقطاع لا يلغي ما قبله، وهو بالنسبة إلى ما بعده شيءٌ بارز ومذهل.»
٤٠ بهذا المعنى لم تكن النهضة الأوروبية مجردَ تطور نوعي وكمي للتراث
والتاريخ الثقافي، ولا كانت مجرد ميلاد جديد لتراث قديم فحسب، بل هي ولادة شيء لم
يحدث أن تصوره إنسان في زمن من أزمنة الماضي، فكانت بحق انطلاقًا وبعثًا أو ميلادًا
جديدًا كل الجدة، و«كأية حركة تاريخية كبرى، فإن لعصر النهضة ينابيع أصيلة عميقة،
فالسياسة والدين والتجارة والصناعة والشغف بتحليل معرفة علمية جديدة، وروح المخاطرة
… قد أسهمت جميعًا في حفز الحركة.»
٤١
لقد كانت النهضة لحظة امتلاك الوعي وتحديده لذاته، لحظة إدراك الواقع العيني
واكتشاف الإمكانات الثورية الكامنة فيه، والتصميم الإرادي على نقلها من حالة
الإمكان إلى حالة التحقق، أي اللحظة القادرة على استشراف المستقبل. ومع أنه «لم يكن
في عصر النهضة نهضة علمية كبيرة، فقد كان مرحلة لازمة للتطور، إنه بمثابة إحدى
المعارك التي ينبغي للبشر خوض غمارها لكي يصلوا إلى مستوى أرفع»،
٤٢ ومع ذلك فقد كشفت النهضة العلمية عن بداياتها في هذا العصر متمثلة في
بعض الكتابات التي تميزت بشدة وعيها بالواقع التاريخي لحاضرها مثل «أطلنطا الجديدة»
لفرنسيس بيكون، و«مدينة الشمس» لتوماسو كامبلانيلا، وهما المؤلفان اللذان كشفَا عن
إمكانات هائلة للتطور التقني بفضل قراءة مؤلفيهما لواقع عصرهما ودراسته بالعلم،
فاستطاعَا أن يستخرجَا إمكاناته الكامنة التي أمكن تحقيقها في المستقبل. وقدَّمَا
صورًا لاختراعات علمية عديدة اهتمت بها، وحققتها القرون التالية لهما، كما حقق
التقدم العلمي والثورة الصناعية بعد ذلك الكثير من هذه الصور. ولا تخلو كل إبداعات
النهضة من إلقاء هذا الضوء على إمكانات الواقع الكامنة ولا من استشراق الجديد
القادم في المستقبل.
كان عصر النهضة — إذن — لحظة (إذا جاز لنا استخدام هذه اللفظة) تتوسط بين الماضي
بكل ما فيه من تراث ثقافي يحمل قيمًا يمكن أن تدفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، وبين
المستقبل بكل ما يحمله من إمكانات لم تتحقق بعد. وهي لحظة يمكن أن توصف بالغموض
والنقص وعدم الاكتمال، وعلى الرغم من كل ذلك فهي اللحظة التي وضعت العقل الأوروبي
على طريق المستقبل، كما كانت بمعنى آخر لحظة خروج من الكهف الوسيط إلى الوعي بحرية
السؤال والبحث بغير حدود. إنها الميلاد الجديد الذي شمل كلَّ ميادين الفكر والروح
والعلم والكشف والمعرفة، وتأسس معه «حاضر» حمل في أحشائه المستقبل الذي ما يزال
مستمرًّا ومتجددًا إلى اليوم، بحيث نستطيع أن نقول إن حاضر أوروبا الآن والتقدم
الذي نعيش فيه هو الابن الشرعي للأسس التي وضعها عصر النهضة. لقد كان — أي حاضر
أوروبا الآن — هو المستقبل الذي حملته النهضة في أحشائها. ولقد امتزج التراث
الثقافي والعلمي للزمن الماضي بالذات المكونة والفعالة والمبدعة في هذه النهضة، أي
الإنسان، مما أدى إلى انطلاق النهضة في مجالات عديدة شكلت في مجموعها الكل الحضاري
للبشرية الغربية الواعية الفعالة؛ ففي مجال الفلسفة كان جورداتو برونو وكامبانيلا
وباراسيلزوس وياكوب بوهمه وفرنسيس بيكون. وفي مجال العلوم الطبيعية كان جاليليو
وكيبلر ونيوتن. وفي فلسفة الحق والقانون والدولة والتاريخ كان ألتوسيوس وماكيافيلي
وبودان وجروسيوس وتوماس هوبز وفيكو. وكل هذه الإبداعات الحضارية على تنوعها واختلاف
مستوياتها والموجهة من أجل الإنسان لم يخلقها سوى الإنسان نفسه. الإنسان المزود
بالوعي التاريخي بالمستقبل، وبالإرادة القادرة على تحقيق أحلامه المستقبلية في
الواقع المتغير والمتحول باستمرار. وبهذا يمكن القول إن أعظم ما أبدعته النهضة
الأوروبية أو أنتجته هو هذا الإنسان الجديد نفسه، وأن أعظم ما في هذا الإنسان هو
وعيه الجديد أو بالأحرى وعيه التاريخي والجدلي بماضيه وحاضره ومستقبله.