مقدمة
يثير عنوان هذا البحث العديدَ من علامات الاستفهام أولها: ما هي المفارقة التاريخية؟
وثانيها: كيف تتأرجح دراسة التاريخ بين الحس التاريخي — وهو الأساس الذي تستند إليه أية
دراسة موضوعية وجادة للأحداث التاريخية — وبين الحس اللاتاريخي وما يُثيره من علامات
تعجب لم تألفها الدراسات التاريخية؟ وثالث هذه التساؤلات وأهمها: لماذا نيتشه الآن؟ وهو
سؤال لا يُثيره عنوان هذا البحث فقط، بل هو مطروح في الدوائر الثقافية العالمية منذ
فترة طويلة مضت وحتى أيامنا هذه. فعلى الرغم من مرور مائة عام على رحيل نيتشه، إلا أنه
ما زال الفيلسوف الذي تدور حوله الدراسات في أنحاء عديدة من العالم، ليس فقط لأنه من
كبار الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر، وليس فحسب لتفرد شخصيته في تاريخ الفكر
وأهميته الكبرى في تاريخ الفلسفة وتعامله مع أصعب المسائل تعقيدًا، بل لأهمية أفكاره
الفلسفية في ميادين عديدة من البحث المعاصر. وعالمية فكر نيتشه يُتوقع لها أن تستمر
وتزدهر في المستقبل في شكل سلسلة من الدراسات لتحليل وتفسير وتقييم الجوانب العديدة من
فكره. وربما يكون الهدف من هذه الدراسات — على تنوعها — هو الإسهام في مراجعة فكر نيتشه
الذي تعرَّض لسوء الفهم وسوء الاستخدام ما يقرب من قرن من الزمان، وتم التجني عليه
وإخضاعه قسرًا وظلمًا لأفكار ونظم سياسية — كالنازية والفاشية — ربطت اسمه بأكبر كارثة
في التاريخ الحديث.
يعود سوءُ الفهم الذي تعرض له فكر نيتشه إلى أسباب عديدة، ساهم فيها بغير شك الفيلسوف
نفسه بتناقضاته ومفارقاته الشهيرة، وتُخفي كتاباته وراء أقنعة مجازية تستعصي على الفهم
في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع المادة الضخمة لأعماله التي اتسمت
بالتشدر واللانسقية والنسيج غير المترابط — حتى داخل العمل الواحد — في شكل أمثال
وحِكَم وجمل متقطعة. وقد تعرضت فلسفة نيتشه لسوء الفهم من قِبَل المتحمسين والمعارضين
لها على السواء؛ تعامل البعض مع فلسفته الأخلاقية بشكل يغلب عليه الانفعال والتبسيط
المخل الذي أساء فهم هذه الفلسفة على حقيقتها، كما فسر البعض الآخر فلسفته تفسيرات تدعم
الأيديولوجية النازية مما نتج عنه كره الناس لنيتشه أكثر من كرههم للنازيين أنفسهم، أو
الذين أساءوا استخدام أفكاره، وربما يكون غنى وثراء وتناقضات أفكار نيتشه وشاعرية
أسلوبه الغني بالصور والاستعارات والرموز هي التي أثارت هذه المواقف المتباينة.
لكل الأسباب السابقة تأتي أهمية الدراسات المعاصرة التي تسهم في مراجعة نقدية متطورة
لفلسفة نيتشه التي أثبتت قضايا عصرنا الحاضر أنها ما زالت حية بيننا، وأن نيتشه بكل
المقاييس معاصر لنا، وأنه من طراز من الفلاسفة الذين لا يمكن أن نتجاهلهم، بل ويتحتم
علينا أن نقدرهم حقَّ قدرهم، حتى لو وجدنا أنفسنا في مواجهات خلافية معهم. لم يكن نيتشه
مجرد فيلسوف صاغ وجهات نظر فلسفية حول بعض قضايا عصره، ولم يكن يسعى لفهم الفلسفة
وتحليلها فحسب، بل تحدَّى تراثها تحديًا نقديًّا ومارسها وعايشها معايشة باطنية، بل كان
أيضًا مهمومًا بماضي الفلسفة وحاضرها ومستقبلها، وهو الذي وضع «مصير الفلسفة ومستقبلها»
موضع سؤال وشك، ووضع نبوءة للتاريخ لمائتي عام قادمة محذرًا ومنذرًا بمستقبل الفلسفة
ومستقبل البشرية. وبفضله ما زال السؤال عن مستقبل الفلسفة والبشرية مطروحًا حتى اليوم.
والآن وبعد مرور مائة عام، هل صدقت نبوءة نيتشه في التاريخ عندما أطلق صيحته: «الآن
ستفنى الأخلاق بالتدريج: هذه رؤية كبرى في مائة فصل للقرنَين القادمَين في أوروبا، وهي
الأكثر رعبًا، والأكثر شكًّا، وربما الأكثر أملًا من كل الرؤى.»
١ هل ستظل صرخة التحذير التي أطلقها قائمة لمائة عام أخرى؟ وهل كان نيتشه
فيلسوفًا متعاليًا على التاريخ، أم أن رؤيته لم تتجاوز التاريخ؟ وهل صدق استقراؤه لواقع
حاضره الثقافي؟ وهل بلورة نيتشه لمشكلة الزمن الحاضر بوضعها في إطارٍ أوسع، وهو مشكلة
الحضارة الأوروبية ومصيرها ينم عن وعيٍ وحسٍّ تاريخي أم أنه يكشف عن الحس اللاتاريخي
—
بكل ما تحمله الكلمة من مفارقة — أم أنه جمع بين الوعي التاريخي واللاتاريخي معًا؟ وهل
هذه الرؤية النكوصية للتاريخ — التي تفسر تاريخ الحضارة الغربية في عصره بأنه ارتداد
ونكوص من عصور بطولية إلى عصر تدهور وانحطاط تجوس فيه العدمية — كانت من أجل الهدم فقط،
أم من أجل إثارة التفكير في المستقبل في ضوء قلقه على المستقبل الإنساني؟ ثم أخيرًا هل
الهدف النهائي لنقد نيتشه وهدمه للحضارة الغربية هو تدمير أم إبداع؟ بمعنى آخر، هل هو
آلام احتضار أم مخاض ميلاد؟
سيحاول هذا البحث الإجابة عن هذه التساؤلات التي تدور في محورين أساسيين: يدور المحور
الأول حول: فلسفة نيتشه التاريخية، ويتناول مفهوم نيتشه عن التاريخ، وكيف يكون في خدمة
الطاقة المبدعة للحياة انطلاقًا من نقده لمفهوم الحقيقة. وينقسم هذا المحور إلى ثلاث
نقاط: (١) أنواع التاريخ، ويعرض للأنواع الثلاثة للتاريخ التي حددها نيتشه، وكيفية
ارتباط كلٍّ منها بالحياة. (٢) المفارقة التاريخية، وهي التي تتضح معالمها في تأكيد
نيتشه على الحس التاريخي والحس اللاتاريخي معًا، كما تتأكد أيضًا في فكرة العود الأبدي
عندما يصبح الماضي مستقبلًا، ويصبح المستقبل ماضيًا. (٣) الرؤية النكوصية للتاريخ،
وتعرض لرؤية نيتشه لتدهور التاريخ من عصور بطولية نبيلة تعبر عن أخلاق السادة، إلى عصور
متدهورة تتحكم فيها أخلاق العبيد.
أما عن المحور الثاني فيدور حول كشف قناع الزمن الحاضر، ويعرض لرؤية نيتشه النقدية
التي تدين تدهور الحضارة في العصر الحديث، وتؤكد رؤية نيتشه النكوصية للتاريخ والحضارة،
وهي التي سيدور حولها المحور الأول. وينقسم هذا المحور أيضًا إلى ثلاث نقاط: (١) الرؤية
النقدية للعصر الحديث بين نيتشه وروسو، وقد اقتصرنا في هذه النقطة على تفسير كلٍّ منهما
لمشكلة التدهور الحضاري، وبحثهما عن العلل التاريخية لفساد زمنهما الحاضر. (٢) أصول
المجتمع البشري، التي تتناول الرؤيتين المتعارضتين عند كلا المفكرين لتلك الأصول، وهنا
ننتهي إلى النقطة الثالثة والأخيرة من هذا البحث وهي (٣) مأساوية الوجود التاريخي
للإنسان، ويتناول كيف واجه كلاهما تلك المأساة. وينتهي البحث بخاتمة قصيرة عن ضرورة
الاهتمام بفلسفة نيتشه التي يمكن أن تساعدنا على تجاوز المحنة الحاضرة للوجود والتاريخ
العربي.
(١) فلسفة نيتشه التاريخية
قد يتوقع القارئ أن نتحدث تحت هذا العنوان عن نوع المعرفة التي اتبعها نيتشه في دراسة
التاريخ، أو عن المنهج الذي سلكه لنفس الغرض، وهي الأمور التقليدية التي تتعرض لها
أغلبُ دراسات فلسفة التاريخ، لكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن فيلسوف غير تقليدي مثل
نيتشه؛ فالتاريخ بالنسبة له ليس موضوعًا للقراءة، ودراسته لا تنحصر في جمع وثائق وحقائق
عن أحداث الماضي وشخصياته، ولا أهمية عنده للترتيب الزماني أو المكاني لأحداث التاريخ،
بل لا يعنيه منه تلك المسيرة الأخلاقية التي رسمها الله للإنسان على الأرض للوصول في
النهاية إلى المملكة النهائية أو مملكة الله. إن التاريخ بالنسبة لنيتشه مشكلة فلسفية
وجودية عينية، وقيمته تكمن في توظيفه «للزمن القادم»، وغايته الكبرى هي الوصول لنماذجه
الأسمى.
تنطلق فلسفة نيتشه بأكملها — لا فلسفته التاريخية فقط — من مشروع طموح لإعادة تقييم
كل القيم الموروثة. وهو يستهل مشروعه بطرح السؤال: «بماذا نؤمن؟ من هنا يجب أن تحدد
أهمية كل الأشياء من جديد.»
٢ وقد جعل نيتشه من النقد أساس هذا التقييم ونقطة بدايته، وحدَّد لمشروعه
جانبَين يمثل الجانب الأول العنصر الإيجابي لإعادة التقييم كما ظهر في «هكذا تكلم
زرادشت»، وتمثل مؤلفاته المتأخرة العنصر السلبي منه: «والآن بعد أن تم الجزء الإيجابي
من مهمتي، فقد جاء دور الرفض، دور إطلاق صوت: «اللا» في القول والفعل، إعادة تقييم
القيم الموجودة نفسها، تلك الحرب الكبرى، الإهابة بيوم القرار الحاسم.»
٣ وقد طرح نيتشه بحثَه النقدي للقيم في خمسة تساؤلات حول القيم الأساسية التي
قام عليها جوهر التراث الغربي: «ما قيمة المعرفة؟ ما قيمة الأخلاق؟ ما قيمة الدين؟ ما
قيمة الفن؟ ما قيمة الدولة؟»
٤ ولأن كلًّا من هذه الأسئلة يستلزم بحثًا أو بحوثًا مستقلة خاصة عندما نعرف
أن إعادة تقييم القيم هي المشروع الأساسي لكل أعمال نيتشه منذ كتاباته الأولى الخصبة،
وحتى مؤلفاته المتأخرة الأكثر نضجًا، وأن مشكلات القيمة هي المهمة التي وهب حياته
الفلسفية من أجلها، فلن نتناول في هذا المجال سوى السؤال الأول الذي يندرج هذا البحث
في
إطاره لما يتضمنه من أسئلة أخرى: «ما قيمة الحقيقة؟ ما قيمة العقل؟ ما قيمة الموضوعية؟
وما قيمة العلم؟ ما قيمة التاريخ؟ وهل الحقيقة شيء يمكن الوصول إليه؟»
٥
لم يطرح نيتشه تساؤله عن طبيعة المعرفة، ولم يهتم بطبيعة الحقيقة — كما فعل سائر
الفلاسفة — وإنما حصر دائرة بحثه في قيمة المعرفة، وقيمة الحقيقة، فكان هجومه على
التراث الفلسفي الغربي هو بداية هذا المشروع النقدي. فإذا كان أفلاطون «قد وضع في
محاورة «الجمهورية» أُسسَ التاريخ الغربي، فإن نيتشه قد دمر في «هكذا تكلم زرادشت» هذا
التاريخ الذي وهن وفسد بعد أن أضنته المسيحية تاريخيًّا.»
٦ وإذا كان هناك العديد من الفلاسفة الذين اهتموا بطبيعة الحقيقة، فإن القليل
منهم هو الذي شك في قيمة الحقيقة، فاتخذ نيتشه من هذا الإغفال نقطة بدايته، وجعل قيمة
الحقيقة — وليست طبيعتها — محورًا لفلسفته في إطار نقده للقيم. ولا شك أن عملية إعادة
تقييم القيم أدت إلى رفضها بالكامل. فقد رفض نيتشه رفضًا نهائيًّا نظرية المثل أو الصور
الأفلاطونية، وأخذ على عاتقه تدمير تلك النزعة. وإذا كان أفلاطون قد أسس قديمًا ما أطلق
عليه «العالم الحق»، فقد أكد نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» أن العالم الحقيقي محض خرافة،
وبدأ نقده للتاريخ من نقده للفكرة الأفلاطونية-المسيحية عن الحقيقة مدينًا تمييز الفكر
الأوروبي بين «ماهية الشيء» و«ما يبدو منه»، مؤكدًا أن روح الاستياء والمرارة التي تميز
تاريخ الميتافيزيقا الغربية كله من أفلاطون حتى كانط، إنما كانت نتيجة المقابلة بين
عالمَين متعارضَين «العالم الماورائي» الذي تم تصويره على أنه العالم الحق، وعالم
الصيرورة (الهنا والآن) الذي تم تصويره على أنه العالم الظاهر فحسب. وهي الفكرة التي
جعلت مفكري التراث الغربي يخلقون «عالمًا ميتافيزيقيًّا» كان عند أفلاطون هو «العالم
المثل» وكان في المسيحية هو «ملكوت الرب».
نظرت الحضارة الغربية إلى القِيَم على أنها الحقيقة التي تستحق التبجيل، فهذه القِيَم
هي التي وضعت الخير في مقابل الشر، والصدق في مقابل الكذب. وأخذ نيتشه على عاتقه
اقتفاءَ آثار سلالة تلك القِيَم ليؤكد عدم وجود قيمة بدون تقييم «أيًّا كانت القِيَم
في
عالمنا الآن فليس لها قيمة في حد ذاتها، ولا وفق طبيعتها — الطبيعة دائمًا بلا قيمة،
ولكنها تكتسب القيمة في بعض الأحيان لكونها موجودة — لكننا نحن الذين أضفينا عليها هذه
القيمة.»
٧ وقد اضطلع نيتشه بهذه المهمة النقدية في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»، وهي
المهمة التي تطلبت دراسة الظروف التي نشأت فيها القِيَم الأخلاقية — كيف نمت وتطورت
وتغيَّرت — وتطلَّبت أيضًا دراسة الأشكال المختلفة التي ظهرت فيها تلك القيم الأخلاقية.
وقد ظهر اهتمام نيتشه بسلالة الأخلاق «في وقت مبكر في سنِّ الثالثة عشر، فكرَّس جهده
الفلسفي للبحث عن أصل الشر، وعلى الرغم من أنه نسبه — أي الشر — في هذه المرحلة إلى
الله، إلا أنه فصل في سنٍّ متأخرة بين اللاهوت والأخلاق، وتوقَّف عن النظر إلى الشر
فيما وراء العالم. فكانت دراسته للتاريخ وعلم اللغة واهتمامه بعلم النفس قد حولت
إشكاليته وصاغتْها بشكل أكثر نضجًا تحت أية ظروف ورث الإنسان أحكام القيمة عن الخير
والشر؟ وهل أحكام القيمة تُعدُّ ازدهارًا للإنسانية أم علامة على تدهورها؟»
٨
للأسباب السابقة قدَّم نيتشه تحليلًا تاريخيًّا وسيكولوجيًّا لنشأة القيم وتطورها
في
محاولة لإقناعنا بالتخلي عن كل أشكال النزعة الأفلاطونية-المسيحية التي وضعت القيم في
عالم الخلود أو في السماء، وهو ما يشجعنا على إيجاد قائمة جديدة من القيم تتصدى للتدهور
العدمي الذي غرق فيه التراث الأوروبي. ويناشدنا نيتشه «بتغيير مكان القيم من السماء إلى
الأرض، من الأبدية إلى التاريخ، ويتطلب هذا التغيير إثبات الوجود الأرضي والتاريخي؛
لأنه إذا تمَّ إنكارُ أو إغفال أيِّ جزء من الوجود الإنساني، فإن هذا سيفسح مجالًا
للمثالية أو يسمح بعودتها وعودة فكرة «ما ينبغي أن يكون» لتعود معها الثنائية التراثية
بين الوجود الإنساني الناقص الخالي من القيم واليوتوبيا المتخطية أو المتجاوزة للتاريخ
transhistorical Utopia كما عند أفلاطون أو المسيحية.»
٩ ويرى نيتشه أن مشكلتنا هي أننا ما زلنا نؤمن بقيم مطلقة وغير مشروطة
للحقيقة، وذلك بغير أن نتحقق منها، وأن «ما نحتاجه هو الشك المطلق في كل المفاهيم الموروثة.»
١٠
يهاجم نيتشه التأريخ الحديث الذي يقف أمام ما يسميه «حقائق» موقفًا رافضًا للتقييم
سواء كان هذا التقييم بإقرارها أو برفضها. ويتساءل في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»: «هل
يُعلن التأريخ الحديث موقفًا أكثر تأكيدًا للحياة والمثل؟ إن زعمه الأمثل هذه الأيام
أنه مرآة: يرفض كل غائية، ولا يرغب في إثبات أي شيء.»
١١ ويُرجع نيتشه هذا الموقف السلبي — في رأيه — لأصحاب النزعة التاريخية إلى
نموذج الزهد الذي ساد كلَّ الفلسفات السابقة التي نظرت إلى الله كحاكم أسمى ننشده
ونحتكم إليه، والذي يطالبنا نيتشه بالتخلي عنه؛ ولذلك تبحث المقالة الثالثة من
«جينالوجيا الأخلاق» عن تحرير الإنسان وإرادته من ذلك النموذج، ولا يتم هذا إلا بالبحث
في أصول الأخلاق لنكتشف في النهاية أننا نفقد الثقة به (أي بالنموذج)، وينفض الإنسان
عن
نفسه الخوف ليكتسب الشجاعة: «وبصرف النظر عن المثل الأعلى للزهد
ascetic
ideal، فإن الجنس البشري لم يكن له معنى، وجوده على الأرض بلا هدف:
لماذا الإنسان على الإطلاق؟ كان سؤالًا بلا إجابة، إرادة الإنسان والأرض كانت محتجبة
وراء القدر الإنساني الأعظم … ما يعنيه المثل الأعلى للزهد هو أن شيئًا ما مفتقدٌ، أن
الإنسان كان محاطًا بفراغ مخيف، لا يعرف كيف يبرر ويؤكد نفسه، وأنه يعاني من مشكلة أن
يجد لنفسه معنى، ولكن مشكلته ليست في المعاناة نفسها، ولكن في عدم وجود إجابة عن صرخته
المتسائلة: لماذا أعاني؟»
١٢
وقد عمقت المسيحية في رأي نيتشه من معاناة الإنسان عندما أنزلت اللعنة على الجنس
البشري من منظور فكرة الذنب والخطيئة الأولى، وجعلتهما عمق جوهرها لتدمير الحياة. فأصبح
الزهد وما يصاحبه من معاناة نوعًا من العقاب والتطهير معًا، وكان أيضًا هو الذي «قدم
للإنسان المعنى، بل كان هو المعنى الوحيد الذي قدم حتى الآن أي معنى هو أفضل من لا شيء
على الإطلاق، فيه فُسرت المعاناة، وبد الفراغ الهائل وكأنه امتلأ … معاناة مدمرة من
منظور الذنب، مع كل هذا تم إنقاذ الإنسان، امتلك المعنى، ولكن لم يَعُد بالإمكان أن
نُخفيَ عن أنفسنا أن الإرادة التي أخذت وجهتها من المثل الأعلى للزهد: هي هذه الكراهية
للبشر … هذا الفزع من الحواس، من العقل نفسه، الخوف من السعادة والجمال، هذا التوق إلى
الهروب بعيدًا عن كل ظهور وتغيُّر وصيرورة والموت والتمني والتوق نفسه — كل هذا يعني
—
أنها إرادة اللاشيء
nothingness، كراهية الحياة،
التمرد على الفروض الأساسية للحياة، ولكنها تبقى إرادة! والإنسان يفضل إرادة اللاشيء
على ألا تكون هناك إرادة.»
١٣ يتضح من تحليل النص أن المعاناة التي يعانيها إنسان نيتشه تختلف — بغير شك
— عن معاناة الإنسان المسيحي، وإن كان لا يفهم من الأولى هل يمارس الإنسان المعاناة من
أجل ذاتها، أم من أجل البحث عن المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو المعنى الذي يقصده
إنسان نيتشه؟ لكن المعاناة في الحالة الثانية «المسيحية» هي كما سبق القول نوعٌ من
العقاب والخنوع للتطهر من الذنب الذي ألقت به الديانة المسيحية على عاتق البشر؛ ولذلك
يعتقد نيتشه أن البحث في أصول الأخلاق وتسلسلها هو المسئول عن موت المسيحية كعقيدة، وهو
أيضًا المسئول عن ضعف وهلاك الأخلاق المرتبطة بها. يرفض نيتشه إذن نظرية الحقيقة التي
تقرُّ بأن الحقيقة ثابتة، وهي النظرية التي تأسس عليها التراث الفلسفي، والتي استندت
إلى نموذج الزهد العازف عن الحياة، ويرفض أيضًا الإرادة المفارقة والمنحرفة — في رأيه
—
لهذا النموذج، فما هي إذن الحقيقة التي ينشدها نيتشه؟ وما هي الإرادة المصاحبة
لها؟
تشكل فكرة الحقيقة محورًا أساسيًّا في فلسفة نيتشه، ولكننا لا نستطيع أن نخوض في
هذه
المشكلة الكبرى التي تضمنت موقفه من نظريات الحقيقة. فقد تناولت دراسات عديدة مشكلة
الحقيقة عند نيتشه وعرضت تفسيرات كثيرة لها منها ما اعتبره بعضُ الباحثين تفسيرات
تقليدية للمشكلة كتلك التي قدَّمها كلٌّ من هيدجر وكاوفمان، ومنها ما أطلق عليه تفسيرات
غير تقليدية كما عند دي مان De man، والدراسات التي
وردت في كتاب«نيتشه
الجديد» New
Nietzsche، وهناك بعض الدراسات التي تؤكد تطور فكرة نيتشه نفسه من موقفه
من الحقيقة خاصة في أعماله المتأخرة التي ربط فيها بين الحقيقة والعلم، وعلاقة الحقيقة
بإرادة القوة وإرادة الحقيقة. وللأسباب السابقة لن نتعرض لجوهر هذه المشكلة التي من
الممكن أن تجرف هذا البحث عن الإطار المرسوم له، ولكننا سنشير فقط إلى هجوم نيتشه
الشديد على المثل الأعلى للزهد لاعتقاده أن الإيمان بالحقيقة هو التعبير الأخير عن هذا
المثل الأعلى.
ربط نيتشه مبدأ الزهد بالفلسفة، فإذا كانت الروح الفلسفية قد نشأت لظروف طارئة من
المثل الأعلى للزهد، فهو يحاول من جانبه تحرير الفيلسوف من الزهد وتحرير الحقيقة من
العبودية. فقد درج الفلاسفة على النظر إلى الحقيقة على أنها ثابتة، وبذلك تم عزلها عن
الحياة، في حين يرى نيتشه أن الحقيقة متغيرة، وتخضع لتقلبات الحياة وتغيراتها. ولذلك
يطرح سؤاله «الجينالوجي»: ماذا تريد إرادة الفيلسوف للحقيقة؟ لتأتي الإجابة بأنها إرادة
محافظة، كل ما تنشده هو المحافظة على الذات. فالفيلسوف يفضل التحديد على عدم التحديد،
الثابت على المتغير، الواحد على المتعدد، لقد كان الدافع الأخلاقي في تاريخ الفلسفة هو
دافع الإبقاء على نموذج محدد من الحياة.
ويرفض نيتشه — بطبيعة الحال — إرادة الفيلسوف للحقيقة بالمعنى السابق شرحه؛ لأنه
يرى
أن الفيلسوف ممثلٌ لإرادة القوة، ولاقتناعه أيضًا بأنه لا يمكن لأي شيء أن ينشأ
مستقلًّا عما حوله، ولا يمكن له أن يحيَا بعيدًا عن علاقته بالأشياء الأخرى، فهذه
العلاقة هي التي تشكل ظروف وجوده واستمراره لقد نشأت كل القيم والأفكار والمفاهيم في
الزمان وفي صور متعددة؛ ولذلك كانت مهمة نيتشه في بحثه عن أنساب الأخلاق هي أن يبرز تلك
الظروف العينية والتاريخية إلى النور. كذلك انحصرت مهمتُه في تقديم تحليل أو تشخيص
تاريخي للحاضر، وتقويضه ليفتح إمكانيات تدعيم أو تعزيز الحياة، فالتقييم الأخلاقي إذن
هو أساس البحث عن الحقيقة. وتصبح الحقيقة في رأي نيتشه «قيمة تستحق الاحترام فقط عندما
ترتبط بالتقييم»، أي عندما ترتبط بفعل الإرادة. فالحقائق ليست في عالم المثل الأفلاطوني
ولا في طبيعة الأشياء، وإنما في الإرادة التي تعبر عن نفسها في هذا العالم، عالمنا
الأرضي، وبهذا المعنى فقط تكون «جينالوجيا الأخلاق» عند نيتشه هي المنهج الذي بفضله
نكتشف أصل الأفكار والمثل في فعل الإرادة. وتركز الجينالوجيا على نوعية خاصة للإرادة،
فعلى سبيل المثال يعيد نيتشه تفسيرَ عبارة «الحقيقة قيمة» أو «الحقيقة تستحق التبجيل»
في عبارة أكثر دقة «أنا أريد الحقيقة بدلًا من الخطأ. الجينالوجيا إذن دراسة للطريقة
التي تريدها الإرادة، هل هي إرادة ضعيفة أم قوية؟ هل هي إرادة نبيلة أم تابعة؟ هل هي
فعلٌ مبدع أم ردُّ فعلٍ انتقامي؟ هل هي إثبات للحياة أم إنكار للإرادة؟»
١٤
لذلك كله جاء بحث نيتشه في أنساب الأخلاق على مرحلتين، في المرحلة الأولى بحث الظروف
التي نشأت في ظلها أحكام القيمة، وفي المرحلة الثانية طرح التساؤل عن قيمة أحكام
القيمة. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن المرحلة الأولى كانت بمثابة المرحلة التمهيدية
للمرحلة الأخرى النقدية؛ ولذلك كانت الوظيفة الأساسية لجينالوجيا نيتشه هي وظيفة نقدية.
«إن البحث في أصول تقييماتنا وقوائم الخير ليس متطابقًا على الإطلاق مع النقد الموجه
لها على الرغم من أن الإحساس بنوع من الأصل المخجل يجلب معه شعورًا بتناقص قيمة الشيء
الذي نشأ بهذه الطريقة، كما يمهد السبيل لموقف نقدي منه. ما هي على الحقيقة قيمة
تقييماتنا وقوائمنا الأخلاقية؟ ما هي محصلة سطوتها؟ وبالنسبة لأي شيء؟ الإجابة من أجل
الحياة»، لكن ما الذي يعنيه نيتشه بالحياة التي طرح من أجلها كلَّ تلك الأسئلة؟ يتساءل
هو نفسه، ثم يجيب: «لكن ما هي هذه الحياة؟ تشتد الحاجة إلى صيغة جديدة أكثر تحديدًا
لمفهوم الحياة، إن مفهومي عنها هو: الحياة هي إرادة القوة.»
١٥
يبدو تعريف نيتشه للحياة في هذه العبارة غير محدد تمامًا — كما تصور هو ذلك — ولن
نجد
في كتاباته — على كثرتها — تعريفًا جامعًا مانعًا لمفهومه عن الحياة. وليس ما يهمنا هنا
هو البحث عن مفهوم محدد لفكرة الحياة، بل إن ما يهمنا هو تأكيد نيتشه على أن الوجود
كلَّه ليس إلا الحياة، وليست هذه الحياة إلا إرادة، ولكن هذه الإرادة ليست فحسب إرادة
حياة كما يقول شوبنهور، بل هي إرادة القوة التي لا تعني سوى التسامي والعلو. ولذلك فإن
الحقيقة عند نيتشه هي ما يساعدنا على الاستمرار في الحياة، وهي في كلمة واحدة ما ينفع
الحياة، وبهذا المعنى تكون الحقيقة مرتبطة بالحياة ومتقلبة معها، وليست ثابتة ولا
مطلقة، بل هي وسيلة غايتها نفع الحياة.
(١-١) أنواع التاريخ
امتد هجوم نيتشه على القيم إلى الهجوم على التاريخ والنزعة التاريخية — هذه
النزعة التي رأت أنها حققت غايتها في عصره — فطرح سؤاله عن قيمة التاريخ وليس عن
نوع المعرفة التي تسلم بها الدراسات التاريخية، ولم يَعْنه مدى صدق معرفتنا
التاريخية عن الماضي، بل جاء سؤاله عن قيمة التاريخ؛ لأنه كان على وعي كامل بمخاطر
استخدام التاريخ؛ لذلك جاء تأمله الثاني في كتابه تأملات في غير أوانها تحت عنوان
يحمل دلالات هذا الوعي «استخدامات ومساوئ التاريخ بالنسبة للحياة»
On the Uses and Disadvantage of History
for life. لا يبحث هذا التأمل
عن الترتيب الزماني لما حدث في التاريخ، بل يحاول أن يفضح زيف ما يسميه التاريخيون
في عصره بالوعي التاريخي ليُثبت أنه إحدى العلامات الأساسية للوضع المتفسخ للعصر
الحاضر: «سأحاول أن أنظر من جديد لأشياء يفخر بها عصرُنا أي دراسته للتاريخ لكشف ما
به من ضرر وخلل وعجز … إن الحس التاريخي المتضخم — كما هو في عصرنا — بإمكانه أن
يدمر الأمة.»
١٦ كما حدد نيتشه هدفه بوضوح من دراسة التاريخ، ولماذا نحتاجه: «أي فائدة
من التاريخ إذا انحصر في كونه تعليمًا عقيمًا بغير حيوية، ومعرفة لا ترتبط بالفعل،
ألا يصبح التاريخ بذلك شيئًا كماليًّا لا جدوى منه … نحن نحتاج التاريخ، لكن لأسباب
مختلفة عن تلك الأسباب التي يحتاجها المتسكع في بستان المعرفة … نحن نحتاج التاريخ
من أجل الحياة والفعل، لا لكي نُديرَ ظهورنا للحياة والفعل … نحن نخدم التاريخ
بالقدر الذي يخدم به الحياة.»
١٧
هكذا لم يبحث نيتشه في التاريخ إلا باعتباره مجالًا يخدم الحياة، الحياة على هذه
الأرض وفي هذا العالم وليس في عالم آخر. ولذلك أنزل نيتشه القيم من عالم السماء إلى
عالم الأرض، لا للهبوط بها إلى أدنى المستويات، بل لتغدو متعلقة بالحياة الأرضية
ومرتبطة بها. إن عودة القيم إلى الأرض وإلى الإنسان لا يعني سوى تمجيد قدرة الإنسان
على الخلق والإبداع، والتأكيد على أن الحياة هي القوة الدافعة وراء هذا الخلق
والإبداع، كما أن الحياة هي العنصر الكامن وراء كل قيمة، وكل معرفة. وعلى الرغم مما
في الحياة من قوى دافعة، إلا أنها مليئة بالفظائع أيضًا، فإذا كانت الحياة هي إرادة
القوة، فإن هذه القوة — بالمعنى السابق أي التسامي والعلو — تتجلى في قدرة الإنسان
على الوعي بهذه الفظائع ومواجهتها بشجاعة، وبقدرته أيضًا على إثراء نفسه بالعلم
والمعرفة والسيطرة على الطبيعة، ومقدرته على الفعل الخلَّاق، وشجاعته في الانتصار
على نفسه. كل هذا من أجل تمجيد الحياة وإعلائها، وكل هذا النشاط الخلاق لا يتم إلا
من خلال التاريخ الذي يتحول إلى مجال يخدم الحياة.
وإذا وضع التاريخ في خدمة الطاقة المبدعة للحياة، فنحن نحتاج — في رأيه — إلى أن
نتعرف على ثلاثة أشكال رئيسية لدراسة وكتابة التاريخ: النوع الأول يسميه نيتشه
التاريخ التذكاري
monumental history، والنوع
الثاني أطلق عليه اسم التاريخ
العتيق
Antiquarian
history، والنوع الثالث والأخير هو التاريخ النقدي
Critical history. وتتعلق هذه الأشكال
الثلاثة «بحياة الكائن البشري؛ فالتاريخ التذكاري يتعلق بالإنسان ككائن فاعل
ومناضل، ويتعلق التاريخ العتيق به ككائن محافظ ومنطوٍ، أما التاريخ النقدي فيرتبط
بالإنسان باعتباره كائنًا يعاني ويسعى إلى التحرر.
١٨ فالنوع الأول لدراسة التاريخ يتطلب إنسانًا مفعمًا بالقوة، وقادرًا على
الفعل، إنسانًا لا يستوقفه من التاريخ سوى اللحظات الكبرى في حياة الجنس البشري،
ليعرف من خلال التاريخ أن الأفعال المجيدة كانت ممكنة في يومٍ ما، وأن هذا المجد من
الممكن أن يعود مرة أخرى؛ لأن مثل هذا التاريخ هو نوع من تأكيد الحياة وتعزيزها،
يجنب الإنسان اليأس ويساعده على الفعل. وهذا التاريخ التذكاري يكشف الماضي النبيل
المنسي عندما يتعرف فيه الإنسان على المجد البشري في فترات الفعل البطولي الذي يخلق
الأبدية في مواجهة صيرورة الزمن، بحيث لم يَعُد الوجود الإنساني في تلك اللحظات
الكلاسيكية النادرة لعبة يلهو بها الزمن، أو يبتلعه تدفق الصيرورة بلا رحمة. ولذلك
لا بد من الوقوف أمام لحظات الوجود الإنساني النبيل الذي تمثل في المجد والأفعال
البطولية، ولا بد من تقدير حياة العظماء الذين استطاعوا فرض الأبدية على تدفق
الصيرورة من خلال أعمال مجيدة، فتغلبوا بذلك على الزوال والفناء الذي هو طبيعة كل
الأشياء.»
ومع ذلك لم يغفل نيتشه مخاطر استخدام هذا النوع من التاريخ. فعندما يكون الدارسون
له من البشر الذين يتسمون بالقوة ويمتلكون إرادة الفعل، أي عندما يتناوله بشرٌ
عظماء، فإنهم يستلهمون منه الشجاعة، ويتعلمون من آثار الماضي، ويحولون هذا التعلم
إلى ممارسة من أجل تعزيز الحياة، أي من أجل أن يصبح الماضي في خدمة الحاضر. أما إذا
تناول هذا النوع من التاريخ بشرٌ يتصفون بالضعف، فإنهم يحولون آثار الماضي إلى
أصنام جامدة، ويخنقون قوته المبدعة ولا يوظفونه لتعزيز حياة الحاضر زاعمين أن عظمة
الماضي ومجده لا يمكن أن يعودَا، رافعين شعارهم «انظر، هذا هو الفن الحقيقي، لا
تُعِر اهتمامًا لهؤلاء الذين يريدون شيئًا جديدًا»،
١٩ وفي هذه الحالة يصبح التاريخ التذكاري «زيًّا تنكريًّا لكراهيتهم للمجد
والقوة في عصرهم، كراهية تتخفى وراء إعجابهم المتخم بمجد وقوة العصور الماضية،
وبهذا يقلبون المعنى الحقيقي لهذا النوع من التاريخ سواء كانوا على وعي بهذا أو لم
يكونوا، ويعملون وفق شعارهم: دع الميت يدفن الحي»،
٢٠ مثل هؤلاء البشر يتعرفون على العظمة، ولكنهم لا يستطيعون أن يأتوا
بمثلها؛ ولذلك يخنقون الحاضر بالتوقف عن استلهام مجد وعظمة لحظات بعينها من الماضي،
ناظرين إلى هذا الماضي على أنه موضوع ثابت وغير قابل للتغيير، رافضين تجربته
ومعايشته من جديد.
يتميز النوع الثاني من التاريخ — وهو التاريخ العتيق — بنوع من التبجيل والطاعة
والاعتراف بفضل الأسلاف على الوجود، ويميل الباحث في هذا التاريخ إلى المحافظة على
جذوره وميراثه متصورًا أنه يخدم الحياة «بالاهتمام بما كان موجودًا في الماضي،
ويريد المحافظة على الظروف التي أتى هو نفسه للوجود في ظلها لمن يأتون بعده، وهكذا
يخدم الحياة.»
٢١ يقع المؤرخ لهذا النوع من التاريخ أسيرًا لكل ما ينحدر إليه من الماضي،
وهنا تكمن خطورة استخدام هذا التاريخ في رأي نيتشه؛ لأن «كل شيء ماضي وقديم … يستحق
في النهاية التبجيل، بينما كل شيء جديد يرفض ويستبعد.»
٢٢ ويفقد المؤرخ لهذا النوع من التاريخ التوتر المبدع بين الماضي والحاضر
برفضه الانفتاح على الحاضر والجديد، وبهذا يميل إلى تحنيط الحياة، بل وإلى إفنائها
أيضًا، ظنًّا منه أنه يحافظ عليها «عندما تخدم حياة الماضي … عندما لا يعود الحس
التاريخي يحافظ على الحياة، بل يحنطها، تموت الشجرة إذن بالتدريج من قمتها إلى
جذورها، وفي النهاية تفنى الجذور نفسها. إن التاريخ العتيق نفسه يفسد منذ اللحظة
التي لم يَعُد فيها ينشط ويوحي بحياة الحاضر.»
٢٣ وفي هذا النوع من التاريخ تستمد الشعوب مقومات وجودها من اجترار الماضي
والعيش فيه، بل وتتخذ منه بديلًا عن الحياة في الحاضر. ونجد نموذجًا على هذا النوع
من التاريخ في واقعنا العربي لدى أصحاب الدعوة للعودة إلى جذور وأصول الحضارة
العربية في زمانها الماضي بدون نقد أو تمحيص لاستخلاص أفضل عناصرها وتوظيفها وفق
متطلبات زمننا الحاضر، واستبعاد ما لم يَعُد يصلح لمتغيرات الواقع الجديد. وبذلك
يفرغون الحاضر من القيمة، ويكتفون بالوقوف أمام إنجازات الماضي، وكأن التقدم في
نظرهم هو في طريق العودة إلى الوراء، بحيث يصبح الأسلاف هم الذين يتحكمون في
التاريخ.
من هذا الموقف الذي انتهى إليه كلٌّ من النوعين الأول والثاني من التاريخ
وموقفهما من الماضي تظهر ضرورة النوع الثالث، أي النوع النقدي: «إذا أراد الإنسان
أن يحقق شيئًا ما عظيمًا، فإنه يحتاج أن يسيطر على الماضي من خلال التاريخ
التذكاري، ومَن يُصرَّ في الجانب الآخر على ما هو تقليدي ومبجل، فإنه يهتم بالماضي
كنوعٍ من التاريخ العتيق، أما مَن هو مهموم ومحزون ببؤس الحاضر، ويريد أن يُلقيَ
بالعبء بعيدًا بأي ثمن، فهو وحده بحاجة إلى التاريخ النقدي، ذلك الذي يحاكم التاريخ ويدينه»،
٢٤ ويشكل التاريخ النقدي الوجه السلبي من التاريخ التذكاري. فإذا كان هذا
الأخير يمتلك الماضي ويستحوذ عليه؛ فعلى التاريخ النقدي أن يمتلك القوة لتحطيم هذا
الماضي وتدميره. ولكي يعيش الإنسان عليه أن يستخدم القوة من حينٍ لآخر ليحطم جزءًا
من الماضي، ويفعل هذا «بأن يحضره — أي الماضي — أمام محكمة تفحصه بنوع من الشك
وأخيرًا تدينه: كل ماضٍ يستحق أن يدان؛ لأن تلك هي طبيعة الكائنات البشرية، فالعنف
والضعف الإنساني قد لعبَا دورًا عظيمًا في حياة البشر.»
٢٥ وإذا كان الماضي قد أدى دورًا خطيرًا في إضعاف الجنس البشري، فقد حدد
نيتشه الوسيلة المثالية — في رأيه — للتعامل مع هذا الماضي أو مع ذلك التاريخ: «إن
أفضل ما نفعله هو مواجهة تراثنا وطبيعتنا الموروثة بمعرفتها، ومن خلال طبيعة أخرى
جديدة، نفجر الصراع المنظم ضد ميراثنا الفطري أو الموروث، ونغرس في أنفسنا عادات
جديدة، غريزة جديدة، طبيعية جديدة تطرح طبيعتنا الأولى بعيدًا.»
٢٦ هكذا يدعونا نيتشه إلى التعامل بقسوة مع الماضي الذي نحن نتاج له، فنحن
نتاج جرائم الأجيال السابقة وحصيلة أخطائها. وعلى الرغم من أن هذا واقع لا يمكن
تغييره، فإن بإمكاننا أن نعيد تفسير ماضينا بشكل نقدي، وأن نُبدعَ تاريخًا آخر
بديلًا نبتكره نحن بأنفسنا بخلق طبيعة أخرى للجنس البشري.
ويُعدُّ هذا النوع الثالث من التاريخ — أعني التاريخ النقدي — أصلح أنواع التاريخ
لتعزيز الحياة، وهو الذي يحاكم الماضي وينقده ويستمد منه أفضلَ إمكاناته وعناصره
ليطورها في الحاضر، ولينطلق بها إلى المستقبل. ويدعو نيتشه كلَّ مَن يمارس التاريخ
النقدي أن يخلق طبيعة جديدة إذا أراد تأكيد الحياة وتعزيزها. وقد كان نيتشه على وعي
بما قد يُثيره قولُه هذا من التساؤلات أو — إذا تحرينا الدقة — من المخاوف حول تلك
الطبيعة الثانية، التي قد يفهم منها أنها طبيعة تابعة للأولى؛ ولذلك يسارع بتبديد
تلك المخاوف بقوله: «لهؤلاء الذين يستخدمون التاريخ النقدي من أجل الحياة، هناك شيء
جدير بالملاحظة وهو معرفة أن هذه الطبيعة الأولى كانت في يوم ما طبيعة ثانية، وأن
كل طبيعة ثانية منتصرة ستصبح طبيعة أولى.»
٢٧ ولكن إذا كان نيتشه يحثُّنا على ممارسة التاريخ النقدي الذي يحاكم
الماضي ويدينه ويدمره لخلق تاريخ جديد، فإن خطورة استخدام التاريخ سواء كان
تذكريًّا أم عتيقًا أم نقديًّا تكمن في أنه يظل دائمًا مرتبطًا بالماضي، وكأن مشكلة
التاريخ تتلخص في كيفية التعامل مع الماضي؛ فكيف إذن يرتبط الوجود التاريخي
بالماضي؟ إن ما يعني نيتشه من الماضي هو تأثيره على الوجود التاريخي وليس الزمان
الذي مضى ويتعذر رجوعه. أي أن المشكلة تتحول إلى علاقة التاريخ بالحياة، فكيف يرتبط
كلٌّ منهما بالآخر؟ يؤكد نيتشه في تأمله الثاني في كتابه «تأملات في غير أوانها»
على الطبيعة التاريخية واللاتاريخية معًا، وضرورة كليهما لصحة الحياة والفرد والشعب
والثقافة، ولكن كيف يعيش الإنسان بشكل تاريخي وغير تاريخي في آنٍ واحد؟
(١-٢) المفارقة التاريخية عند نيتشه
قبل أن نتكلم عن المفارقة التاريخية عند نيتشه، لا بد أن نتوقف عند مفهوم
المفارقة نفسه paradox، وهي كلمة مشتقة من الكلمتين
اليونانيتين para (أي ضد)
doxa (أي الرأي أو الظن)، والكمة تعني في
مجموعها ما يكون ضد المسلم به والمعتقد فيه أو المنتظر. أما المفارقة في المنطق
فتعني العبارة غير الواضحة بذاتها، وإن كانت تعبر عن حقيقة ما عكس المتوقع منها.
وقد آثرنا استخدام مفهوم المفارقة في الحديث عن فلسفة نيتشه لما تعنيه الكلمة من
معنى ما وراء العقل أو متجاوز للعقل. ويجب ألَّا يجزع القارئ من هذه المفارقة،
فعندما نتحدث عن فيلسوف مثل نيتشه، فإننا لا نستطيع أن نفهمه من خلال المفاهيم
والتصورات العقلية المألوفة في تاريخ الفلسفة، ولا أن نتعامل مع أفكاره من خلال
قواعد وقوانين المنطق؛ لأن نيتشه فيلسوف لم يعتكف — كسائر الفلاسفة — في برجٍ عالٍ
ليصوغ نظرية فلسفية أو نسقًا فكريًّا، بل عاش الفلسفة وتألم بها، وكتب بقلم شاعر
وتحدث بصوت نبي، مبشرًا بحضارة جديدة وتاريخ جديد وإنسان جديد، فلا عجب إذن أن تتسم
كتاباتُه بالمفارقات وهو صاحب العبارة الشهيرة: «العالم تناقض كبير.»
إذا عُدنا إلى الرؤية تاريخية لزمن نيتشه وجدنا أن أصحاب النزعة التاريخية
يدعوننا إلى التمسك بالحس أو الوعي التاريخي، بينما يدعونا نيتشه — هذا الفيلسوف
السابق لأوانه على حدِّ تعبيره! — إلى الحس اللاتاريخي جنبًا إلى جنب مع الحس
التاريخي. وهنا تكمن المفارقة النيتشوية التي يحملها هذا البحث عنوانًا له
والمتمثلة في السؤال الذي طرحناه منذ قليل: كيف يعيش الإنسان بشكل تاريخي وغير
تاريخي في آنٍ واحد؟ تتأكد هذه العلاقة الجدلية بين الطبيعة التاريخية واللاتاريخية
للإنسان في التفرقة التي أقامها نيتشه بين الإنسان والحيوان من حيث علاقة كلٍّ
منهما بالزمن. فإذا كان الأخير يعيش بشكل غير تاريخي — لا يعرف معنى الأمس أو اليوم
أو الغد — وتتميز حياته بالنسيان السلبي، فإن الإنسان يتأكد وجوده الحقيقي في قدرته
على النسيان، ولكنه ليس النسيان السلبي كما في حالة الحيوان، بل هو نسيان من النوع
الإيجابي، ووجود الإنسان هو فحسب في «قدرته على النسيان في الوقت المناسب والتذكر
في الوقت المناسب، في غريزته المفعمة بالقوة لأن يحيا بشكل تاريخي عندما يكون ذلك
ضروريًّا، وأن يحيا بشكل لا تاريخي عندما يكون ذلك ضروريًّا، فاللاتاريخي والتاريخي
ضروريان بنفس القدر لصحة الفرد والناس والثقافة»،
٢٨ والقدرة على النسيان هي الشرط الأساسي والجوهري لسعادة الجنس البشري.
فإذا كانت دراسة التاريخ تتطلب التذكر الفعال للحظات الكبرى في تاريخ الإنسانية،
فهي تتطلب أيضًا النسيان الفعال «النسيان أساسي لأي فعل، تمامًا كما أنه ليس النور
فقط، بل الظلام أيضًا أساس لحياة كل كائن حي. والإنسان الذي يريد أن يحيا بشكل
تاريخي فحسب سيكون مثل مَن حرم قسرًا من النوم، أو الحيوان الذي اضطر أن يعيش قط
بالاجترار وسيظل يعيد الاجترار.»
٢٩ ومهمة الإنسان إذن هي تطوير قدرته على النسيان من أجل الحياة؛ لأن
النسيان الإيجابي الفعال له قوة مبدعة. التذكر والنسيان إذن ضروريان بنفس القدر في
التعامل مع التاريخ ليكون في خدمة الحياة.
وبقدرٍ ما تتوقف قيمة دراسة التاريخ على تأكيد الحياة وتدعيمها، تتوقف أيضًا على
تأكيد قوة الوعي اللاتاريخي وتدعيمه. فالتاريخ في رأي نيتشه ليس عالمًا خالصًا
كالرياضيات، ولذلك فهو يرفض الحجج «العلمية» التي تزعم أن التاريخ علم موضوعي متعلق
بالحقائق التجريبية، ويؤكد أن الظاهرة التاريخية ليست ظاهرة معرفية فحسب، بل يجب
توظيفها من أجل الحياة. ويتجلى العنصر اللاتاريخي في قوة توظيف الماضي لأغراض
الحياة. وهو بهذا يشير إلى العلاقة بين الماضي والمستقبل التي لا يحكمها الصراع، بل
إن الماضي يصبح مستقبلًا؛ فالعنصر اللاتاريخي بالمعنى السابق هو الذي يوجه الماضي
ناحية المستقبل، وحتى الذين يتصورون أنهم يتمتعون بالحس التاريخي فقط، فإن «النظر
إلى الماضي يفرض عليهم الاتجاه للمستقبل، ويشجعهم على الاستمرار في العيش، وتحقيق
آمالهم التي يريدونها … ويعتقد هؤلاء التاريخيون أن معنى الوجود سيأتي للنور أكثر
فأكثر في مسار تقدمهم، وهم يسيرون وراءهم فقط ليتعلموا فهمَ الحاضر وتمنِّي
المستقبل. هؤلاء ليس لديهم أية فكرة — على الرغم من انشغالهم بالتاريخ — عن أنهم في
الواقع يفكرون ويعملون بشكل غير تاريخي، وأن انشغالهم بالتاريخ لا يتوقف على
المعرفة الخالصة، بل على خدمة الحياة.»
٣٠ هكذا يكون الإحساس باللاتاريخية هو الأساس الذي يقوم عليه استخدام
التاريخ من أجل الحياة عندما يظهر معنى جديد للماضي، إنه يعود — أي الماضي —
للإنسان مرة أخرى، ويجعله كائنًا مستقبليًّا قادرًا على أن يظهر للنور تاريخًا
جديدًا مختلفًا عما قد ظهر بالفعل.
هكذا يصبح الماضي — بالمعنى السابق — نموذجًا إرشاديًّا مبدعًا للمستقبل، فالنفاذ
إلى المستقبل لن يكون إلا من خلال الماضي، بمعنى آخر ليس بإمكاننا الوصول إلى
الماضي إلا عندما ندخل في المستقبل، وهي الفكرة الملغزة والمحيرة في فلسفة نيتشه،
أعني فكرة العود الأبدي التي عبر عنها بلغة ميتافيزيقية غامضة. وتؤكد هذه الفكرة
على أن كل اللحظات التي انقضت في حياة الإنسان ستعود مرةً أخرى. وأن كل الأشياء
والوقائع التي حدثت في الماضي ستعود لتحدث مرةً أخرى في المستقبل. وكأن هذه النظرية
تقرُّ بأبدية الزمان أو دورية التاريخ، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يتسق هذا مع رفض
نيتشه للأبدية في صورتها الأفلاطونية؟ هل قال نيتشه بالعود الأبدي للهرب من تناهي
الوجود الإنساني؟ وهل العود الأبدي إنكار للأبدية وتأكيد لمفهوم الوجود التاريخي؟
أم هو تأكيد لها، أي للأبدية؟
يصعب في حقيقة الأمر تحليل البنية الداخلية لفكرة العود الأبدي على أنها مجموعة
من الحجج العقلية، علمية كانت أم فلسفية. فالفكرة في جوهرها بقدر ما تلخص غموض
فلسفة نيتشه ومفارقاتها بصفة عامة، فهي تؤكد أيضًا البناء الزمني للعود الأبدي من
خلال تأكيدها على أن كل شيء سيعود، أي أن هناك عودة لكل لحظات الإنسانية، فهل هي
إذن بحث في طبيعة الزمن؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفكرة في مضمونها تعني أن جوهر
الزمن هو التكرار الأبدي، مما يجعل الباحث لفكرة العود الأبدي يعتقد أن الفروق
الموجودة بين الأبعاد الزمانية محض وهم، فإما أن تتلاشى — في هذه الحالة — المسافة
التي تفصل بين الماضي والمستقبل، أو أن الأبعاد الزمانية تتداخل في بعضها البعض،
ويفقد الزمن وجهته الصحيحة، ومسيرته المألوفة لنا (من الماضي إلى الحاضر، ثم التقدم
في المستقبل) على نحو يثير الحيرة والارتباك، مما جعل بعض الباحثين يقول بتعدد
الأبنية الزمنية المتشابكة عند نيتشه: «(١) فالوجود التاريخي في جوهره متوجه نحو
المستقبل، إنه يرى معنى الوجود في مسار عملية تقدمه. والوجود التاريخي يحوي داخله
بذرة المستقبل، التي تتوجه بالضرورة إلى الأمام بصورة حتمية. وكل نمو أو تطور هو
كامن بالقوة في هذه البذرة كما أنه يتوق باستمرار لكي يفض نفسه. (٢) ومع ذلك ففي
تفسير الوجود التاريخي المتجه للمستقبل، هناك دائمًا صدًى لتحديد الصيرورة
باعتبارها تحررًا من الوجود الأبدي بصورة قابلة للعقاب، وقد تم التعبير عن هذا
بوضوح في وصف الحياة اللاتاريخية بأنها تلك القوة المظلمة المندفعة، والتي لا تشبع
من الرغبة في ذاتها. الوجود التاريخي هو ذلك الوجود الذي يعاني أو يحرك هذه القوة
المظلمة المندفعة إلى الماضي، ويواجهها باعتبارها قيدًا على زماننا، وهو قيد يشلنا
ويعلمنا في نفس الوقت، وذلك على التحديد في سعيها واندفاعها نحو المستقبل. هكذا
ينشأ تناقض بين زمن الصيرورة الذي يتلاشى في الماضي وزمن الوجود التاريخي الذي يتجه
نحو المستقبل بوصفه هدف تقدمه. وينشأ السؤال المتعلق بالوجود التاريخي: كيف ينبغي
أن تكون علاقته بهذه الحياة، وهي التي يقابلها باعتبارها كانت موجودةً دائمًا
أمامه، أو كيف تكون علاقته بالماضي بأوسع معانيه. وهكذا يواجه الوجود التاريخي
بالسؤال عما إذا كان عليه أن يكون ماضيًا لم ينقطع، أو أن يكون قادرًا على أن
يُعيدَ صنْعَ التاريخ مما قد حدث بالفعل. (٣) ويتضح مما سبق أن الزمن لا يختفي
ببساطة في الماضي ولا يتلاشى فيه، وإنما يرجع ثانية للإنسان ويتحداه أن يُقيمَ
علاقة معه. هذه العودة للماضي هي إلى أقصى حدِّ البنية الأساسية والبنية الإشكالية
في نفس الوقت. والتفكير فيها (أي العودة للماضي) مع التفكير في اتجاه زمني معين لا
ينساب من المستقبل إلى الماضي، وكذلك لا ينمو ولا يتجه من الماضي إلى المستقبل
يُسقط أي فكرة عن توجه زمني ذي بُعدٍ واحدٍ من حيث تقاطع كل العوامل التي يتحدد بها
هذا التوجه الزمني أن الماضي يعود.»
٣١
وتضعنا فكرة العود الأبدي في مفارقة أخرى، فمن ناحية يكون الماضي مستقبلًا، كما
يصبح المستقبل ماضيًا، ومن ناحية أخرى تصبح الزمانية والأبدية شيئًا واحدًا، وكأن
الفكرة تعتمد في أساسها على أبدية دورة الزمن، التي تعني أزلية الماضي وأبدية
المستقبل معًا، عندما تصبح النهاية عودة إلى البداية، ولكن الفكرة في مجموعها تضعنا
في إشكالية التعرف على — أو تحديد — الأبعاد الزمنية الثلاثة. وربما نجد في
«اللحظة» الحل الوحيد لهذا اللغز المحير، فهي — أي اللحظة — تجمع كلَّ الأبعاد
الزمنية في «آنٍ» واحدة، وهي جوهر الزمن. وتأكيد اللحظة هو تأكيد لطبيعة الزمن
نفسه: «وإذا كان لدى الإنسان القوة والشجاعة ليؤكد اللحظة التي تشكِّل الزمن،
فسيكون الإنسان — إذن — قادرًا على تأكيد طبيعة الزمن نفسه، تمامًا مثل تأكيد
الوجود الإنساني كله باعتباره غيرَ منفصل عن قدره أو مصيره، مثل هذا التأكيد يعتمد
على أن نعرف أن حياة الإنسان كلية ومصيرية، وأن اللحظة ليست مكتفية بذاتها ولا
منعزلة عن كل اللحظات الأخرى؛ لأن تجربة اللحظة باعتبارها أبدية تكشف كلَّ وجود الإنسان.»
٣٢ يفهم من كل هذا أن كلية الوجود مفهوم يتضمن تفسير الأبدية، فكل لحظة هي
كلية الوجود، وكلية الوجود هي في كل لحظة، إذن «لا يستطيع أي من الماضي أو المستقبل
أن يأتيَ بأي شيء … النتيجة هي نوع من اللاحركة في العلاقة بين لحظات الزمن. لكي
تتحقق كلية الوجود، ليس من الضروري أن تتحرك من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل،
طالما أن كل شيء حاضرٌ في كل لحظة.»
٣٣
ربما يفهم مما سبق أن في كلية الوجود إنكارًا للحركة، هذا بالإضافة إلى أنها تبدو
كما لو كانت أبدية تتقنع بالزمانية التي تعارض الأبدية، ولكن لكي نفهم نيتشه — هذا
الفيلسوف غير التقليدي — يجب أن نتحرر من المضامين التقليدية لمفهوم كلٍّ من
الأبدية والزمانية اللذين وفقًا لهما تعني الأبدية الوجودَ غير المتحرك الذي يعلو
على الصيرورة، بمعنى آخر أن الأبدية تعني الواحد، والزمانية تعني التعدد؛ وذلك لأن
نيتشه يفهم علاقة الواحد بالكثرة كوحدة قائمة على التعدد. ولهذا فإن الأبدي والزمني
عنده ليسَا متعارضَين. وكما أن الوجود ليس معارضًا للصيرورة، فإن الأبدية أيضًا
ليست معارضة للزمانية. لم يفصل نيتشه إذن الأبدي عن الزمني، بل أوجد علاقة متداخلة
بينهما بما يعني أن اللحظة الحاضرة تتضمن لحظات الزمن الماضي وزمن المستقبل. ويتشكل
موقف الإنسان من الحياة بأن يتعلم كيف يعيش اللحظة، وكيف أن الكائن الإنساني الأعلى
ممكن في كل العصور — كما كان كذلك في الماضي — وهو الذي يشكل ثقافة العصر، وهو عند
نيتشه الإنسان المبدع المتجاوز للتاريخ، المبدع للقيم. وإذا كان للتاريخ هدف، فإنه
لن يكون شيئًا آخر سوى عمل تلك الشخصيات المتجاوزة للتاريخ التي تعيش اللحظة وتُبدع
من أجل الأبدية. ويمتدح نيتشه الفرد المتجاوز للتاريخ، الذي لا يرى الخلاص في
صيرورة التاريخ، وإنما يراه في العالم الذي يكتمل ويصل لنهايته في كل لحظة.
لقد رأى البعض أن فكرة العود الأبدي لا يمكنها أن تأتيَ بإبداع متفرد، وأنها غير
منسجمة مع فكرة الاختيار الحر، بالإضافة إلى أنها تعطل شرعية الإبداع الإنساني،
ولكن كيف يكون ذلك وكل فلسفة نيتشه تتجه إلى إبداع الجديد؟ ربما يزول هذا اللبس
عندما نعرف أن فكرة العود الأبدي تؤكد أن على الإنسان أن يعمل أو يُبدع أفضل ما
عنده في اللحظة؛ وذلك لأنه على وعي بأنها ستعود إليه ثانية. هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى تؤكد الفكرة على عنصر المسئولية الملقاة على عاتق الإنسان إزاء أفعاله
وإبداعه في اللحظة التي سترتد إليه ثانية في دورة تالية. ربما تكون هذه أيضًا هي
إحدى مفارقات نيتشه التاريخية «إن إرادة العودة إلى الوراء لا يمكن لها أن تتحقق
إلا بالإرادة المتجهة إلى الأمام. ويكون خلاص الماضي أو إنقاذه كامنًا في الإرادة
المبدعة للمستقبل. فالمستقبل هو الذي يتم فيه إبداعُ الجديد من القديم من الماضي»،
٣٤ هكذا تتشكل من الماضي إرادة مبدعة جديدة في «اللحظة البريئة» الكامنة
في المستقبل، والتي تضمن وصول الجديد والمتفرد. كل شيء سيصير، لذلك فليس هناك حقائق
أبدية وليس هناك قيم مطلقة. وسواء كانت فكرة العود الأبدي إنكارًا للأبدية أم
تأكيدًا للصيرورة، ولتدفق الزمن، فإنها مما لا شك فيه تأكيد للمفهوم الصحيح للوجود
التاريخي. وإذا كان الوجود هو الصيرورة، فكل شيء يتغير. وبما أن الصيرورة في حد
ذاتها ليست خيرًا ولا شرًّا، ليست حسنة ولا سيئة، فنحن نستطيع إذن أن نفرض عليها —
أي على حركاتها العشوائية — ما نريد من القيم؛ ولهذا فإن الإبداع لا يمكن تمييزه عن
العماء
Chaos. وبذلك تكون الحياة — في اعتقاد نيتشه
— مرادفة للعماء، أي أنها في ذاتها بلا قيمة؛ لأن المعنى والقيمة إبداع إنساني، ومن
ثَم يعتمد الإبداع الإنساني على العماء.
هكذا نجد أن نيتشه، وبعد أن صدمنا بفراغ الحياة من القيمة، حاول ملء فراغ القيم
من خلال مفاهيمه وتصوراته عن العود الأبدي. وإذا لم يكن الوجود الإنساني سوى
تفسيرات للعماء أو تقلبات له، فإنه يترتب عليه أن الإبداع الإنساني الذي يتم في
اللحظة البريئة هو ما وراء الخير والشر، و«مهمة الصيرورة — أي أن نصير نحن أنفسنا —
to become what we are هي مهمة مزدوجة ومفارقة
تتطلب قدرة الفرد المبدع على حفظ التوتر بين البراءة والتجربة، بين الجهل والمعرفة،
أن يعرف متى يتذكر ومتى ينسى … هي أيضًا مهمة اتحاد غريب للعماء والبصيرة.»
٣٥بهذا المعنى السابق يصبح الهدف الأسمى لنيتشه من فكرة العود الأبدي هو
إضفاء القيمة والمعنى على وجود الإنسان في العالم الأرضي الذي يحيا فيه؛ ليس هذا
فحسب، بل إن الفكرة في ذاتها هي بمثابة دعوة للتعلق بالحياة والارتباط بها وليس
إنكارها أو الزهد فيها. إن فكرة الفناء أو التناهي الذي يهدد حياة الفرد، قد تدعو
الإنسان للإعراض عن هذه الحياة الفانية التي مآلها إلى زوال، وربما تكون هذه الفكرة
— الفناء أو التناهي — قد شغلت نيتشه كثيرًا، فأراد أن يخلص الإنسان منها بأن جعل
الفناء أو التناهي مرحلة من مراحل حياة أبدية متكررة دومًا؛ بحيث إن ارتباط فكرة
التناهي بالعالم الأرضي لا يصرف النظر عنه. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن صيرورة
العالم لا تنفي عنه صفة الدوام. من هنا جاء تأكيد نيتشه على فكرة العود الأبدي
كمحاولة لإضفاء الخلود والأبدية على الحياة، وسد الفجوة بين ثنائيات أرقت الإنسان
طوال تاريخه كالتناهي واللاتناهي، والصيرورة والثبات، والفناء والخلود، فلم تَعُد
هذه الثنائيات تتصادم، بل أصبحت مرحلة من مراحل حياة أبدية يتعلق بها الإنسان وينشد
المزيد منها. كما تقضي الفكرة أيضًا — أي فكرة العود الأبدي — على إحساس الإنسان
باستعباد الزمن، بحيث لا يصبح أسيرًا للماضي، بل مسيطرًا عليه، وذلك عندما يعود
إليه مرةً أخرى ويخضعه لإرادته، على الرغم من أن الفكرة في ذاتها تتسم بالقدرية،
وهذه أيضًا من مفارقات نيتشه التاريخية.
تكشف فكرة العود الأبدي عند نيتشه عن كيفية خضوع الإنسان للضرورة بحريته، وما دام
العود الأبدي يعتمد على وحدة اللحظة والصيرورة، فإننا إذا أردنا اللحظة فلا بد أن
نتقبل ما تُفضي إليه تلك اللحظة بنوعٍ من القدرية العمياء، بل أيضًا بنوع من «حب
القدر» AmorFati، فكلُّ ما يحدث في حياتنا الإنسانية مجرد
تغيرات عشوائية للعماء Chaos تحدث بطريقة قدرية
متفردة، ولكن ماذا تعني هذه القدرية عند نيتشه؟ هل ستجعلنا نعزف عن الحياة ونعرض
عنها، ما دامت تفرض علينا تقلباتها العشوائية التي ربما تأتي على غير إرادتنا؟
الواقع أن فكرة نيتشه عن حب القدر لا تزيدنا إلا إقبالًا على الحياة وتمسكًا بها،
فعلى الرغم مما نتعرض له من معاناة وآلام في هذه الحياة، فعلينا أن نتقبلها بكل حب
وشجاعة، أي أن حب القدر لا يزيد الإنسان إلا تعلقًا بالحياة وإقبالًا عليها.
وتدور فكرة العود الأبدي حول إثبات اللحظة التي هي في نفس الوقت إثبات للصيرورة …
جوهر الزمن. والعود الأبدي يتمثل عند نيتشه في العبء الذي يحمله الإنسان بحريته،
وهو القادر على التغلب على الاستياء والحقد على الحياة من خلال تأكيد مأساة وجوده
في كل لحظة. ولهذا يدعونا نيتشه إلى أن نتخيل شيطانًا يهبط إلينا في ساعة وحدتنا
الموحشة، ويخبرنا بأن الحياة التي نعيشها الآن، والتي عشناها ستتكرر أكثر من مرة،
بل ستتكرر عددًا من المرات لا حصر له، وفي تتابع بدون نقص أو زيادة. «ويعني هذا أنه
ليس هناك أي شيء جديد في هذه الحياة المعادة، وكل ألم، كل بهجة، كل شيء سوف يعود
إلينا مرة ومرات، كيف نستجيب لهذا الشيطان؟ هل نلقي بأنفسنا على الأرض ونلعنه، أم
نجرب الألم المروع عندما نعرف أن المقدس يتحدث إلينا؟»
٣٦
والواقع أن تساؤل نيتشه السابق يؤكد على المفارقة التاريخية، فهو يدعونا إلى
الإمساك باللحظة والعيش فيها، فلا معنى — إذن — للنظر إلى الماضي في ندم إذا كان
سيعود مرةً أخرى، كما أنه ليس هناك ما يدعو للجزع من المستقبل ما دام سيعود أيضًا
في دورة أبدية، في صيرورة اللحظة التي يلتقي فيها الماضي بالمستقبل، فيصبح المستقبل
ماضيًا كما يصبح الماضي مستقبلًا، ويتخلق الجديد من القديم ويتحول القديم إلى إبداع
جديد، ولكن هل سيحقق التاريخ تقدمًا في هذه الصيرورة الأبدية على ما تحمله هذه
العبارة من مفارقة أيضًا؟ وكيف نظر فيلسوف «الإبداع في اللحظة» إلى مسار التاريخ؟
بمعنى آخر كيف سيكون مسار التاريخ في ظل هذه العودة الأبدية للأحداث؟
(١-٣) الرؤية النكوصية للتاريخ
نظر نيتشه إلى التاريخ نظرة تختلف عن رؤية عصر التنوير له، فقد ساد هذا الأخير
فلسفة تحدوها ثقة مطلقة في العقل البشري، وإيمان بأن مسار التاريخ ينطلق في خط
مستقيم نحو التقدم. بينما نظر نيتشه إلى ذلك المسار نظرة نكوصية. ولا بد أن ننوه
إلى أن النكوص المقصود في هذا المقام ليس هو المصطلح المستخدم في علم النفس، والذي
يعني النكوص إلى مرحلة تخلف مضت؛ لأن ما نعنيه هو ارتداد العصور التاريخية
وانتكاسها من عصور بطولية إلى عصر فساد وانهيار، مما جعل نيتشه يثور ثورة عارمة على
زمنه الحاضر، أي على عصره. وفي الوقت الذي اعتقد فيه المجتمع الأوروبي الحديث أنه
خطَا خطواتٍ هائلة في التقدم إلى الأمام، قام نيتشه بكشف قناع التنوير، فكان هو
المشخص الأمين والصريح لتدهور الحضارة الغربية وانحدارها. وقد رأى
Stanley Rosen أن ثورة نيتشه على عصره مرت
بمرحلتين: المرحلة التشخيصية، ثم المرحلة الثورية، وتتكون هذه الأخيرة من مرحلتين
فرعيتين: الأولى تدميرية، والأخرى مبدعة أو متنبئة بإبداع جديد. في المرحلة الأولى
يجب أن نتحرر من الماضي بالعدمية الفعالة أو التدميرية، وفي الثانية يجب أن نقهر
هذا البعد العدمي بفعل مبدع.
٣٧
قدم نيتشه في المرحلة التشخيصية لثورته على الحضارة الغربية تحليلًا تاريخيًّا
وسيكولوجيًّا دقيقًا لتدهور هذه الحضارة، وسلط الضوء على الظلام الكامن فيها، ثم
تحول في المرحلة الثانية ولبس — في رأي ستانلي روزن — قناع الأيديولوجية الثورية،
واستخدم ما يسمى بالبلاغة
المزدوجة
Double rhetoric في المرحلتين التدميرية والإبداعية للأيديولوجيا
الثورية؛ فلكي يدمر كان على نيتشه أن ينشد العدمية، ولكي يُبدع كان عليه أن يقهرها.
٣٨ اتخذ نيتشه الخطوة الأولى الجريئة والخطيرة من أجل الخطوة الثانية.
والأولى هي تدمير كل الأسس الطبيعية والمتعالية للقيم التراثية، والثانية هي تحرير
الإنسانية من كل القيود المفروضة على الإبداع. وربما كان التدمير هو الجانب الحقيقي
الأصيل في فلسفة نيتشه، والتدمير الذي يعنيه هو التحريض على الإبداع، التحريض على
ظهور الإنسان الجديد أو «السوبر مان». قام نيتشه بالتدمير على أمل أن ينهض من رماد
الحاضر طفلٌ مبدع لقائمة جديدة من القيم، ويمكن أن نقول إن التدمير هو القاعدة
الأساسية التي ابتدعها نيتشه لهدم المرحلة المتدهورة لزمنه الحاضر.
عندما أعلن نيتشه ثورته على التراث الفلسفي كان واعيًا باللحظة التاريخية
المختلفة التي يعيشها، وكان على معرفة كاملة بما أثمرته الحداثة المتأخرة؛ بحيث
يمكن أن نقول إن تدمير نيتشه للتراث كان إيحاء بمرحلة جديدة من الوجود التاريخي،
وإن تحليله لزمنه الحاضر قد استند إلى الرؤية النقدية التي استنكرت قراءة كانط
الأخلاقية للتاريخ، وأعلنت عداءها لتأثير النزعة الهيجيلية في دراسة وكتابة
التاريخ. الأولى صورت التاريخ على أنه حلقات للصراع بين الطبيعة والأخلاق، وأنه —
أي التاريخ — وسيلة الإنسان الوحيدة للوصول إلى غايته ككائن أخلاقي يعيش في مملكة
الغايات، أي أن التاريخ بالنسبة لكانط هو الساحة التي يتم فيها تسوية الخصومة أو
التضاد بين الطبيعة والأخلاق. وقد عارض نيتشه «وجهة نظر كانط الأخلاقية وانتقد بشدة
— خاصةً في كتاباته التي تركها وراءه، ولم تُنشر إلا بعد موته — ما سماه «ممارسات
العقل الثوري» و«ثورة العقل العملي» التي تكشف عن كراهية للطبيعة والصيرورة.
فالتاريخ عند كانط لا يمثل سوى مرحلة تطور أخلاقي للإنسان باعتباره غاية في ذاته
End-in-itself، ولا تتعلق فلسفةُ التاريخ
بتاريخ الأخلاق، بل بتحقيق الإنسان لجوهره الأخلاقي باعتباره كائنًا عقلانيًّا»،
٣٩ إذ يصبح الإنسان أخلاقيًّا من خلال ممارسته لإرادته العقلية.
أما عن هيجل فقد أعلن نيتشه عداءَه لفلسفته التاريخية، هذا على الرغم من أن بعض
الباحثين — مثل برنشتاين — قد فسر نيتشه تفسيرًا يفهم منه أنه قدَّم فلسفة للتاريخ
نصف هيجيلية، وقام بعقد مقارنات بين «جينالوجيا الأخلاق» لنيتشه و«ظاهريات الروح»
لهيجل باعتبارهما رصدًا للحركة التاريخية للفكر الأوروبي، وباعتبار أن فلسفة هيجل
كشفت بالتدريج عن الحق في الفلسفة والدين؛ فالحالات المعرفية التي صوَّرها نيتشه في
معالجته لهذا الموضوع أشارت إلى وجود نوع من الضرورة الجدلية التي تنتمي إلى شكل أو
نموذج التحليل التاريخي عند هيجل، ومع ذلك فقد كان نيتشه أكثرَ اهتمامًا بنقد
المراحل الأولى أكثر من اهتمامه بتوضيح أن كل مرحلة تفترض مسبقًا المرحلة السابقة
عليها، وأن المرحلة الأخيرة تتضمن في داخلها كلَّ المراحل السابقة.
٤٠ كما وجد البعض الآخر من الباحثين — مثل روزن — أن في فكرة العود الأبدي
عند نيتشه أثرًا لمذهب هيجل عن عودة الوعي الجدلي المتطور، ففي كليهما تكمن البداية
والنهاية لهذا التاريخ. كما يرى أيضًا أن مذهب نيتشه في العود الأبدي قد يذكِّرنا
بمذهب هيجل في دورية التصور والمفهوم المتطور تطورًا كاملًا. بمعنى أن نيتشه يستعيد
تاريخ الفلسفة الأوروبية في كلٍّ من البداية والنهاية لهذا التاريخ. إن دورية
التاريخ هي عودة كل المواقف الفلسفية الممكنة، وما يسميه نيتشه
المنظورات الشاملة
Comprehensive persectives
أو الألواح الأساسية للقيم، ولكن السلب
عند هيجل أو العماء
Chaos الباطن في حركة التاريخ
ينظم نفسَه لكي يتمخض عنه كلية الصيرورة. أما عند نيتشه فإن العماء ينظم نفسه في
منظورات
perspectives أو عوالم
worlds تعود بشكل دائم. الصعوبة عند هيجل هي
كيف يتواءم المطلق مع الإنسان، والأبدي مع الزمني، وكيف يمكن للوعي المتناهي أو
الوعي الذاتي أن يتحد مع المطلق، في الوقت الذي يحتفظ فيه بهويته الذاتية
المتناهية. وهناك صعوبة مشابهة عند نيتشه أيضًا، فعلى فيلسوف المستقبل أو الروح
الحر أن يصبح خالقًا لنموذج جديد للجنس البشري، ولكي يفعل هذا لا بد أن يعلم أن
الذاتية والوعي الذاتي هي أشياء وهمية أو منظوران للمطلق الأساسي الذي يسميه «إرادة
القوة»، لكن في قاع العماء يكون الحل عند هيجل في وحدة المتناهي واللامتناهي
باعتبارهما «حقيقة الكلية الشاملة». أما عند نيتشه فيبدو أنه لا يوجد حلٌّ ما دام
العماء يلغي معنى وأهمية كل إبداع أو منظور متناه،
٤١ ولكن هل صحيح — كما يقول روزن — أن العماء يلغي معنى كل إبداع؟ لقد سبق
الإجابة عن هذا السؤال في معرض حديثنا عن العود الأبدي، حيث أكدنا الفكرة النيتشوية
عن أن الحياة صيرورة، وهذه الأخيرة مرادفة للعماء، وأننا نستطيع أن نفرض على
حركاتها العشوائية ما نشاء من المعنى والقيمة في «اللحظة البريئة» أي أن الفعل
الإبداعي الحر، هو الذي يحيل اللحظة إلى أبدية متجددة في كل لحظة، وذلك بأن يحقق
فيها إرادة القوة، ويضفي عليها القيم المعبرة عن هذه الإرادة.
وعلى الرغم من هذه المحاولات التي تقرب فلسفة نيتشه من جدلية هيجل، فقد هاجم
نيتشه فلسفة هيجل التاريخية هجومًا عنيفًا، وخاصة في فكرة التقدم، فبينما وجد هيجل
أن التاريخ العالمي في تقدم نحو الحرية، وأنه بلغ ذروته في عصر هيجل نفسه، نرى على
العكس أن نيتشه يُعلن تدهور التاريخ وانهياره، بل يرى فيه ارتدادًا ونكوصًا. ففي
عرض هيجل للتطور التاريخي نجد أنه سلب كلَّ إنجازات الإمبراطورية الرومانية في
التاريخ وانتقدها بلا رحمة لكي يمجد المسيحية باعتبارها احتجاجًا مشروعًا على روما
وعلى كل العالم الذي يحكم حكمًا مطلقًا مستبدًّا. وعلى الرغم من أن طبيعة منهج هيجل
تُحتم عليه أن يشير إلى الإسهام الحقيقي لكل قوة سياسية كبيرة في الماضي لعبت دورًا
هامًّا في التطور التاريخي بما في ذلك العالم الروماني، إلا أنه قدم الإنجازات
الرومانية على أنها أخطاء بغيضة ليُبرهن بذلك على تقدم مسار التاريخ. أما نيتشه فقد
ذهب إلى عكس موقف هيجل عندما أعلى من شأن الإمبراطورية الرومانية التي وجد فيها،
وفي العصر اليوناني الكلاسيكي (خاصة عصر ما قبل سقراط) فترات بطولة وحيوية، وإن كان
لا يعفي بعض حكام روما من النقد خاصة الذين تسببوا في أعظم كارثة في التاريخ — في
رأي نيتشه — عندما سمح انحطاطهم وفساد حكمهم بانتشار الديانة المسيحية في العالم:
«إن انحطاط الحكام والطبقة الحاكمة هما علة الأذى الأعظم في التاريخ، بدون قياصرة
الرومان، والمجتمع الروماني، لم يكن لجنون أو حماقة المسيحية أن تصل إلى السلطة أبدًا.»
٤٢ لم يُقر نيتشه بأن نيرون أو غيره كانوا حكامًا عظماء، ولكنه أنكر أن
الجنس الروماني كله كان منحطًّا، بل امتدح الحصاد الإيجابي في العصور البطولية
للإمبراطورية الرومانية القديمة بلا تحفظ، وأكد أنه في اللحظة التي انتصرت فيها
المسيحية بدأ التاريخ في الارتداد والنكوص.
لقد فسر نيتشه التاريخ في كتابه «جينالوجيا الأخلاق» بأنه صراعٌ بين نوعين من
الأخلاق: أخلاق السادة وأخلاق العبيد. تمثل النوع الأول في الحضارات الكبرى
الأرستقراطية كالحضارة اليونانية والرومانية والجرمانية، وهي في رأيه العصور
البطولية التي تميزت بالقوة والحيوية والسيادة. ويمثل النوع الثاني العصر المسيحي
وما صاحبَه من قيم تعبر عن أخلاق العبيد. وما التاريخ البشري إلا محاولةُ كلٍّ من
هذين النوعين السيطرة والسيادة على الآخر، وعقد نيتشه مقارنة بين صحة وقوة
الإمبراطورية الرومانية وبين ضعف ومرض الديانة اليهودية-المسيحية عبر القرون، فبعد
الصراع الميلودرامي التاريخي بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي، انتصرت
المسيحية واكتسبت شعبيتها الكبيرة، وازداد توهجها بشكل لا يمكن تجاهله، وانتصرت
معها قيم العبيد، إلى أن جاء عصر النهضة الذي تألق بعودة النموذج الكلاسيكي — وهو
النموذج النبيل في رأي نيتشه — لتقييم كل الأشياء، ومن ثم عاد مجدُ روما من جديد،
وبدت الإمبراطورية الرومانية وكأنما استيقظت من الموت، وبدأت المثل والقيم
الأرستقراطية تنهض من جديد، واستعادت أخلاق السادة، ولكن سرعان ما انتصرت الروح
العبودية للديانة اليهودية-المسيحية مرةً أخرى في حركة الإصلاح الديني التي قام بها
مارتن لوثر، ودبَّت الروح في الكنيسة مرةً أخرى، كما انتصرت أخلاق العبيد ثانيةً مع
الثورة الفرنسية، وانهارت معها آخر النظم النبيلة في أوروبا في القرنين السابع عشر
والثامن عشر: «مع الثورة الفرنسية انتصرت اليهودية مرةً أخرى على النموذج
الكلاسيكي، وفي هذا العصر كان المغزى الأكثر عمقًا وأهمية هو انهيار آخر نبالة
سياسية في أوروبا، انهارت في القرنين الفرنسيين السابع عشر والثامن عشر تحت تأثير
غرائز العامة التي اتصفت بروح الانتقام والحقد، وسادت البهجة الكبرى، أي سادت نزعة
حماسية صاخبة لم يُسمع بها على الأرض من قبل.»
٤٣ ولكن مع ظهور نابليون عادت قيم السادة الأرستقراطية مرةً أخرى، ولكن
سرعان ما سقطت وزالت بسقوط نابليون الذي اعتبره نيتشه آخر شعاع نور لقيم السادة في
أوروبا. وهكذا وصل نيتشه إلى إدانة واتهام العصر الحديث الذي نتج عن دين العبودية،
وعندما صرح بأن آخر النظم النبيلة في أوروبا قد انهار مع الثورة الفرنسية، فقد أعطى
للصراع بُعدًا سياسيًّا، وواصل رؤيته النكوصية للتاريخ التي امتدت من هجومه على
الإنسان الذي روضته الديانة المسيحية وأضعفته، إلى الهجوم على الإنسان الحديث —
الذي هو امتداد لتلك الديانة — وعلى عصره الحديث الذي يمثل سيادة قيم العبيد
المتدهورة.
ولكن كيف يمكننا — في ضوء نظرية نيتشه عن العود الأبدي السابق شرحها — أن نفسر
هذه الرؤية النكوصية للتاريخ؟ ألا تمثل هذه الرؤية نوعًا من التناقض في فكر نيتشه؟
ألا يمكن — وفق الدورة الأبدية للتاريخ — أن تعود العصور البطولية مرة ومرات أخرى
كثيرة؟ هذه التساؤلات وأخرى غيرها عديدة لا نجد لها إجابة شافية عند نيتشه، وهذه
أيضًا إحدى مفارقاته؛ إذ يصعب تصور رؤيته النكوصية للتاريخ في ضوء نظريته عن العود
الأبدي، وهي النظرية التي تنهار تمامًا إذا ما حاولنا تحليلها تحليلًا منطقيًّا
دقيقًا، وذلك بسبب افتقادها إلى المعقولية، وإن لم يكن هذا غريبًا على فيلسوف هو ضد
إعمال العقل.
(٢) كشف قناع الزمن الحاضر (العصر الحديث) بين نيتشه وروسو
يمثل الزمن الحاضر مفترق طرق حاسمًا في كل فلسفة للتاريخ: فكيف نظر نيتشه إلى زمنه
الحاضر؟ وهل اختلفت رؤيته التاريخية أم تشابهت مع مَن سبقوه من فلاسفة التاريخ؟ في واقع
الأمر إن رؤية نيتشه للزمن الحاضر اختلفت عن أوغسطين — على سبيل المثال — الذي اجتمعت
كلُّ أبعاد الزمن عنده في الحاضر، فالإنسان عنده لا يتحكم في التاريخ؛ لأنه محدد سلفًا
من قِبَل العناية الإلهية، كما اختلفت أيضًا عن هيجل الذي رأى — كما شرحنا فيما سبق —
في مسار التاريخ تقدمًا بلغ ذروته في عصره، ولم يكن متشابهًا مع ماركس الذي كان انتصار
التاريخ عنده مضمونًا بحكم الحتمية التاريخية ووفق تصوره للتطور الحتمي للتاريخ. كما
اختلفت رؤيتُه أيضًا عن فلاسفة التاريخ في عصر التنوير الذين آمنوا إيمانًا مطلقًا
بتقدم وازدهار التاريخ في عصرهم. في حين نرى عند نيتشه هجومًا عنيفًا على زمنه الحاضر
واتهامًا لإنسان العصر الحديث بالضعف عبَّر عنه تعبيرًا شاعريًّا في كتابه «هكذا تكلم
زرادشت».
يصعِّد نيتشه كراهيته ونفوره من زمنه الحاضر إلى درجة التحذير من المستقبل، بحيث
نستطيع أن نقول إن فلسفته في التاريخ تطورت في ضوء قلقه على المستقبل الإنساني، كما
تطورت من تأمل الماضي بجانبَيه، جانب التدهور وأسبابه، وجانب الأمل الذي يؤسس أحد أركان
فلسفته التاريخية، وهي أنها فلسفة أرادت أن تُحدث نوعًا من إثارة التفكير والتحريض على
الفعل لترتقي بالمستقبل الإنساني عندما أكد بشكل مثير ومحرض الاحتياج الإنساني للسيطرة
على التاريخ: «ما هو إذن منتهى آمالنا هو أن نتوجه نحو إيجاد فلاسفة جدد وليس هناك
اختيار، نحو أرواح قوية وأصيلة بالقدر الذي يزودنا بالدوافع التي تجعلنا نُقيم تقييمات
مضادة، ونُعيد التقييم ونقلب ما يسمى بالقيم الأبدية نحو رواد، رجال مستقبل يشغلون
أنفسهم في الوقت الحاضر بربط العقدة التي تضطر إرادة العامة إلى السير في طرق جديدة،
نحو تعليم الإنسان أن مستقبل الإنسان هو إرادته، وأن مستقبله متوقف على الإرادة
الإنسانية، وأن نعد لمخاطرات عظمى ومحاولات شاملة لإحلال النظام والتهذيب عن طريق وضع
نهاية للهيمنة المرعبة لِلَّاعقل والمصادفة التي سميت حتى الآن باسم التاريخ.»
٤٤ وإذا كانت رؤية نيتشه التاريخية قد اختلفت عن رؤى فلاسفة التاريخ السابق
ذكرهم، فهي قد تشابهت إلى حدٍّ ما مع رؤية جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م)، حيث نظر كلاهما
إلى الزمن الحاضر نظرة نقدية فاحصة عبرت عن رؤية نكوصية للتاريخ.
(٢-١) الرؤية النقدية للعصر الحديث بين نيتشه وروسو
لقد شهد العصر الحديث مفكرَين كبيرَين قدَّمَا تحليلًا وافيًا لتدهور الحضارة
الغربية والإنسان الحديث، هما نيتشه وروسو، فعبَّرَا عن أكبر تيارَين نقديَّين
للحضارة التي أنتجها العصر الحديث. إن أفكارهما ما زالت تخضع لتفسيرات متنوعة، كما
أن كليهما قد وضع مشكلة التاريخ والإنسان في نطاق أوسع وهو مشكلة الحضارة. لقد
قدَّمَا تحليلًا سيكولوجيًّا لإنسان الزمن الحاضر، وبحثَا عن العلل التاريخية التي
أصابته — في رأيهما — بالاضطراب العصبي. وعلى الرغم من هجوم نيتشه على روسو، إلا أن
هذا الأخير لعب دورًا هامًّا في تفكير نيتشه السياسي، هذا برغم المحاولات العديدة
لنزع الصفة السياسية عن فلسفة نيتشه، وحصرها في مجال الأخلاق فحسب. اهتم كلا
الفيلسوفَين بانحلال الحضارة الإنسانية، واتفقَا في نقدهما للثقافة الحديثة
المتدهورة. وقدَّم كلاهما تاريخ التطور الأخلاقي والسياسي للإنسان، وبحثَا في أصول
المجتمع البشري، كما فسرَا مصير الإنسان من خلال الطبيعة المتناقضة للحياة السياسية
والأخلاقية في العصر الحديث. وإذا كان كلٌّ من نيتشه وروسو قد سعى إلى تحويل
الطبيعة البشرية في سياق حضارة متدهورة، فإن ما يفرق بينهما هو تفسير كلٍّ منهما
لمشكلة التدهور التي يمكن رؤيتها في مفاهيمهما المتعارضة لكيفية وصول إنسانية
المستقبل إلى ذروتها.
كان نيتشه على وعي بأن التأثير الهائل لروسو على الثقافة والفلسفة الألمانية
مشابه تمامًا لتأثير الثورة الكوبرنيقية على كانط في فلسفته المعرفية والأخلاقية.
وربما يعود هذا إلى أن روسو في رأي البعض هو «أول مفكر يبيِّن تناقضات الحياة
السياسية الحديثة «بين الفرد والمجتمع، الإنسان والمواطن، الاستقلال والتسلط،
الحرية والضرورة … إلخ» والتفكير في التناقضات هو الموضوع الرئيسي في الفلسفة
الألمانية منذ كانط»،
٤٥ لذلك كان لفكر روسو السياسي تأثيرٌ كبير على الفلسفة الألمانية، وبخاصة
على كانط وهيجل وماركس، حيث فسره البعض بأن ليبرالي، وفسره البعض الآخر بأنه شمولي.
وقد سمحت تعارضات ومفارقات فكر روسو بهذه التفسيرات المتنوعة، خاصةً في العلاقة بين
الفرد والمجتمع، عندما أقر في كتابه «أصول التفاوت الاجتماعي» (عام ١٧٥٥م) بحقوق
الفرد، ثم عاد في العقد الاجتماعي (عام ١٧٦٢م)، وأخضع كل هذه الحقوق للدولة. وكان
نيتشه على وعي أيضًا بالدور الذي أداه روسو في تشكيل الحداثة، وكيف ألهمت كتاباته
الثورة الفرنسية. وعلى الرغم من معارضة نيتشه لروسو، إلا أن من الممكن أن نعتبر هذا
الأخير هو مفتاح فلسفة نيتشه — كخصم له — في تفسير الحداثة، حتى لقد ذهب البعض إلى
القول بأن نيتشه كناقد للحضارة الغربية في القرن التاسع عشر يمثل ما كان يمثله روسو
في القرن الثامن عشر في نقده النافذ لتلك الحضارة. لقد أثار كلاهما التفكير في
العديد من القضايا والأسئلة المتعلقة بقيمة الحضارة التي ما زالت أصداؤها تتردد حتى
الآن. فما أثاره روسو عن آثار الحضارة الصناعية لم يفقد معناه في عصرنا الإيكولوجي
الآن، بينما تشخيص نيتشه للعدمية وانقلاب القيم والحالة المتدهورة للحضارة
الإنسانية ما يزال — ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين — كابوسًا لم نستيقظ منه
بعد.
تعرضت أفكارُ كلٍّ من نيتشه وروسو لقراءة سياسية وأخلاقية مزدوجة، فقد اتهم كلٌّ
منهما بأن له نزعة فردية أخلاقية، كما كان لأفكارهما صدًى لدى بعض النظم الشمولية
في القرن العشرين، عندما ربط البعضُ فكرَ روسو بالأحداث الدامية والمفزعة للثورة
الفرنسية، وربط البعضُ الآخر فكرَ نيتشه بالمحاولة النازية للسيطرة على العالم، ثم
الأحداث الدامية للحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من إعلان نيتشه أنه ضد روسو،
وأنه تحدى نزعته الرومانسية وتشاؤمه التاريخي، إلا أن هناك أوجه تشابه بينهما، كما
أن هناك أيضًا مسافة تفصل بينهما واختلافات في توجهاتهما.
لقد اختزل روسو مشكلة الحضارة في مشكلة الأصالة، أي البحث عما هو أصيل، وما هو
صناعي في طبيعة الإنسان، وحصر المشكلة في التنظيمات الاجتماعية الفاسدة التي تقف في
طريق طبيعتنا الأخلاقية الحقيقية، فبحث عن الطبيعة الخيرة للإنسان التي لم تَعُد
موجودة، وربما لم توجد أبدًا بعد أن أفسدها التطور التاريخي للبشرية. بينما المشكلة
بالنسبة لنيتشه هي في الحقيقة مشكلة التاريخ وطبيعة الزمن، بحيث تكمن مشكلة الحضارة
الإنسانية لديه في إخفاقها في تأسيس علاقة أصيلة بالماضي. فالإنسان لا يمكنه وقفُ
صيرورة الزمن، ولكنه يشاهد فقط هذه الصيرورة دون أن يشارك فيها ليرى نفسه في
النهاية وقد أصبح ضحيةً الزمن مما يؤدي به إلى النقمة على الحياة، ومحاولة الانتقام
منها. وبما أنه ليس بإمكاننا العودة إلى الوراء بسبب تعاقب الحياة وأنفسنا والآخرين
— إذ ليس بإمكاننا وقف عجلة الزمن ولا تغيير ما قد حدث بالفعل — فإن المشكلة التي
تواجهنا كبشر محددين بالوعي التاريخي هي كيف نقيم علاقة أصيلة مع الماضي، وذلك بأن
نصبح تاريخيين، حتى ولو تحقق هذا عن طريق المفارقة التاريخية — التي تحدَّثنا عنها
من قبل — أي بأن نتعلم أيضًا كيف نصبح لا تاريخيين.
هذه المفارقة التاريخية نجدها أيضًا عند روسو — وإن كانت بشكلٍ آخر مختلف — فإذا
كان البعض يُطلق على روسو وصفَ «نبي التاريخ»، فإنه لم يجد في التاريخ ما يفسر أو
يحل له اللغز الغامض، وهو إصلاح ما فسد من الأخلاق، لا يمكن العودة إلى البراءة
الطبيعية الأولى، إلى العصر الذهبي، ولهذا السبب لا يمكننا استحضار الماضي، فليس
أمامنا إذن سوى المستقبل الذي يكمن فيه الأمل في الإصلاح، بل إنه الفرصة الوحيدة
لتحقيق السعادة الإنسانية الحقيقية والعدل والمساواة والانسجام في العلاقات
الاجتماعية، ولكن قانون التطور الذي بيَّن أنه لا عودة بالزمن إلى الوراء، قد بيَّن
أيضًا أن المستقبل قد حطم القيم الإنسانية. وهكذا وجد روسو نفسه في مصيدة الزمن!
فسخط على الحضارة التي أثمرتها الصيرورة الزمنية، وأصبح عدوًّا للزمن الذي لا يمثل
بالنسبة له سوى التغير والانحدار والتدهور، ومن ثَم يئس روسو تمامًا من التاريخ،
ونقم على كل ما يأتي به التطور التاريخي الذي حطم بساطة الإنسان وسعادته وشفافيته.
وسواء كان روسو على وعي بما يواجهه تفكيره من مشكلة الحضارة أم على غير وعي، فإن
تفكيره كان مصحوبًا بيأس عميق. لقد وضع روسو نفسه — ووضعنا معه — في مواجهة مع
الطبيعة من جانب والمجتمع المدني من جانب آخر.
أما عن نيتشه فقد وضع مشكلة الحضارة لا في داخل الحضارة نفسها، بل في الأخلاق.
وإذا كان روسو يرى أن الحضارة الحديثة لم تجلب معها غير الشر، فإن نيتشه أحال
المشكلة إلى إعادة تقييم ما نسميه بالخير والشر، أي إعادة تقييم كل القيم. إن مسألة
الحضارة لا تتوقف في رأيه على الخيرية الطبيعية للإنسان التي أفسدتها أمراض المجتمع
الحديث، وليست في إصلاح أصول الأخلاق الإنسانية، بل هي في إعادة تقييم تلك الأخلاق
إلى حدِّ تجاوزها لنفسها. وحقيقة الأمر أن المشكلة في إطارها الأوسع هي مشكلة
التاريخ، وهي الفكرة المهيمنة على كل فلسفة نيتشه، والتي تعبر في أعماقها عن القلق
على مصير الإنسانية، بحيث يصبح التجاوز الذاتي للأخلاق هو في الحقيقة التغلب على
مشكلة التاريخ والميتافيزيقا والحضارة والتراث.
٤٦
(٢-٢) أصول المجتمع البشري بين نيتشه وروسو
لم يتفق نيتشه وروسو في نقدهما للحضارة الغربية فحسب، وإنما اتفقَا أيضًا في
تأكيدهما أن أصول المجتمع البشري تكمن في أن الإنسان كائن تاريخي، وإن كانَا قد
اختلفَا في النتائج التي توصلَا إليها في بحثهما في هذه الأصول. وليست فكرة البحث
عن الأصول غريبة عن تاريخ الفلسفة، ولكن «السمة غير المألوفة لجينالوجيا نيتشه في
بحثه عن الأصول تفترض أنه لا يوجد شيء في هذه الأصول، فبينما يبحث الآخرون لإيجاد
شيء ما في نقائه الأصلي، شيء ما لم تفقده الثقافة ولا التاريخ بريقه، ينكر نيتشه
فكرة البنية الأساسية التي وجدت في تاريخ الفلسفة بكل أشكالها (الجوهر — الذات —
الروح — الشيء في ذاته) وإذن فلا يوجد ما يسمى بالأخلاق الطبيعية. لقد بحث كلٌّ من
نيتشه وروسو عن أصول النظام الاجتماعي ومشكلة الحضارة، وعلى الرغم من بدايتهما من
فرضيات متشابهة أهمها أن الإنسان كائن تاريخي، فقد توصل كلٌّ منهما إلى نتائج
متباينة. انتقد نيتشه مبدأ الخيرية الأصلية لطبيعة الإنسان التي تغنَّى بها روسو،
ووصفه بأنه مبدأ مضلل، فليست التنظيمات الاجتماعية الفاسدة هي التي دمرت هذه
الطبيعة الخيرة، وعندما تسقط تلك التنظيمات أو عندما يتم إصلاحها، فلن تظهر من جديد
تلك الطبيعة الخيرة المختفية أو المكبوتة. إن هذه الطريقة في البحث عن الأصول — في
رأي نيتشه — تمثل بحثًا مضللًا لمعرفة أنفسنا، بل إن النزعة الأخلاقية الطبيعية
والإيمان بالخيرية الطبيعية عند روسو هي التي منعته من إيجاد حلٍّ للغز مشكلة
الحضارة التي عبر عنها بلغة متشائمة.»
لذلك جاءت جينالوجيا الأخلاق لنيتشه ولم تنظر لمشكلة التاريخ على أنه بحث عن
الأصول فحسب، ولم تكن هجومًا على قيم العصر الحديث فقط، بل كانت أيضًا ضد طريقة
معينة لتفسير أصول ومعنى وأنساب تلك القيم. ولم تهدف الجينالوجيا إلى اكتشاف جذور
الهوية الإنسانية، ولكنها سعت لإقامة نماذج مختلفة لما أبدعه الكائن البشري كفرد؛
ولذلك تؤكد الجينالوجيا على خصوصية وتفرد الأحداث التاريخية. وقام نقد نيتشه
الجينالوجي على أساس منهجه في التاريخ، وهو أنه ليس هناك حقائق تاريخية، بل هناك
تفسيرات أخلاقية لما نسميه حقائق. لذلك فهو يحاول كشفَ معنى التاريخ من بحثه
الجينالوجي في أصول وتطور الأخلاق.
كان العدل هو الفرضية الأساسية التي ميزت بدايات الجنس البشري عند روسو، بينما
كان الظلم هو البديهية الأساسية لتلك البدايات عند نيتشه. فقد مجد الأول الحالة
البدائية الأولى للإنسان التي تمثل بالنسبة له مرحلة ما قبل الاضطراب العصبي الذي
أصاب الإنسان في العصر الحديث. وتطلع روسو إلى العصور الأولى عندما كان البشر — على
الرغم من أن طبيعتهم الإنسانية لم تكن أفضل مما هي عليه في العصر الحديث — يتمتعون
بوجود آمن، وبوضوح كل منهم للآخر، وكانت هذه الشفافية في العلاقات الإنسانية تمنع
تطور الرذائل كالغرور والتكبر التي أفسدت الإنسان الحديث. وبالغ روسو في هذه الصورة
ليسلط الضوء على شرور ومساوئ العصر الحاضر، ويرثي حالةَ الخداع والعبودية التي سادت
العادات الحديثة. أعلن روسو في خطابه عام ١٧٥٠م بمناسبة حصوله على جائزة بحثه عن
تقدم العلوم والفنون «أن أناس العصر الحديث هم «قطيع من البشر» أطلق عليهم اسم
«العبيد السعداء» الذين يتجاهلون فقرهم وبؤسهم، بحيث أصبحوا كتلةً من البشر ليس لها
ملامحُ وصوَّرهم بشكلٍ منفرٍ وكريه.»
٤٧
نظر نيتشه إلى روسو على أنه فيلسوف سياسي للمرارة والحقد والنقمة في العصر
الحديث، وعلى أنه أول رجل حداثي صوَّر الحضارة بشكل يُوحي بالشفقة على الإنسان مما
يؤدي إلى الشعور بالاحتقار والاشمئزاز منه، خاصةً عندما أعلن للناس في تصدير خطابه
الثاني عن أصول التفاوت الاجتماعي بأنه «ساخط على وضعكم الحاضر، بسب ما يهدد
سلالتكم التعيسة، ربما تتمنون لو كانت لديكم القوة للعودة إلى الوراء، وسيكون هذا
الشعور إطراء لأسلافكم، ونقدًا لمعاصريكم، ورعبًا لسيِّئي الحظ الذين سوف يأتون بعدكم.»
٤٨ ويرى نيتشه أن المرارة والاستياء الواضح في فكر روسو هما نتيجة النزعة
الأخلاقية التي وجهت كل تفكيره.
وأخيرًا فقد قدَّم كلٌّ من نيتشه وروسو صورةً متعارضة عن أصول المجتمع البشري
وأزمة الإنسان الحديث التي ردَّها روسو إلى المنافسة والاغتراب الذاتي، وافتقاد
حالة المساواة الطبيعية الأولى؛ ولذلك لم توجد عنده سلالة أنساب للسيد والعبد (التي
نجدها عند نيتشه)؛ لأنها لم تكن من السمات الطبيعية الأولى للجنس البشري، وإنما ظهر
هذا التقسيم التراتبي للمجتمع مع تطور التنظيمات الاجتماعية التي سببت اغتراب
الإنسان عن نفسه، فتدهورت أحواله بدلًا من أن يرتقيَ بطبيعته، وظهرت المنافسة التي
أثمرها التطور التاريخي، وانتهت إلى تحقيق سعادة الفرد على حساب الآخرين. بينما نجد
عند نيتشه أن أزمة الإنسان الحديث أعمق بكثير من تلك المنافسة والاغتراب-الذاتي
اللذين يتحدث عنهما روسو، بل ذهب نيتشه إلى العكس من هذا عندما رأى ضرورة الحفاظ
عليهما، وأيضًا على النظام التراتبي للمجتمع؛ ولذلك نجد عنده جينالوجيا السيد
والعبد، حيث إن السيادة هي السمة الطبيعية، والسيد هو الشكل الطبيعي للإنسان، وكما
أن هناك سادة، فهناك أيضًا عبيد. وكانت مهمة نيتشه في الجينالوجيا أن يقدم هؤلاء
السادة باعتبارهم تمثلات عليا للوجود. وإذا كان روسو يؤكد أن التراتبية والتنافس ما
هما إلا متغيرات تاريخية، فإن نيتشه يؤكد من جانب آخر أن المجتمع التراتبي هو
المجتمع الطبيعي. وإذا كان روسو ينشد العودة إلى الخيرية الطبيعية التي افترض أنها
كانت الفطرة الطبيعية للبشر، فإن نيتشه ينشد العودة إلى العدوانية أو السلوك الشرس
الذي يحقق السيادة. وبينما يتمنى روسو أن تحقق البشرية «خيريتها الطبيعية» يدعو
نيتشه البشرية أن تتعلم كيف تصبح «أكثر شرًّا».
(٢-٣) مأساوية (تراجيدية) الوجود التاريخي
كان نيتشه على وعيٍ تامٍّ بالغموض الذي يميز علاقة روسو بالتاريخ. كما كان على
اقتناع بأن الوجود التاريخي مأساة، ولكنه رأى أنه مأساة ضرورية، وأن على الكائنات
البشرية أن تكون قوية وشجاعة بقدرٍ كافٍ لتؤكد السمة المأساوية لوجودها، وإلا فلن
يبقى أمامها سوى الهروب من هذا الوجود للبحث عما وراء هذا العالم، فيُصبحون ناقمين
على الحياة، منكرين واقعها القاسي والمتغير والفاني، لا هروب من الزمن إذن، فهو
قانون الحياة حيث كل شيء يفنى ويموت، ولكن كيف يتغلب الإنسان على المأساوية التي
وجد نيتشه أنها طابع الوجود الإنساني؟ هل بروح الاستياء أو الانتقام أو الضغينة
التي زعم — أي نيتشه — أنها هي الحل الذي هرب إليه روسو في مواجهة هذه
المأساة؟
تؤدي فكرة الضغينة
resentment دورًا هامًّا في
فلسفة نيتشه؛ إذ يفسر من خلالها تاريخ الأخلاق كله بوصفه تاريخًا تتميز فيه أخلاق
السادة عن أخلاق العبيد؛ ولذلك تسعى فلسفة نيتشه بأكملها إلى تحرير الأرواح الحرة
من هذه الروح الانتقامية التي تولدت من المعاناة. ويصف نيتشه روسو بأنه فيلسوف
المرارة والاستياء الذي أضفى على حياته الشخصية، ومعاناته معنًى كليًّا، فبدلًا من
أن يبحث عن مصدر معاناته ألقى باللوم والمسئولية على عاتق المجتمع: «رجال مثل روسو
يعرفون كيف يوظفون ضعفهم. إن عجزهم ورذائلهم تبدو كما لو كانت سمادًا لمواهبهم،
فإذا كان روسو قد نعى فساد وانحلال المجتمع باعتباره نتيجة باعثة على الأسى على
الحضارة، فهو قد فعل هذا على أساس تجربة شخصية. إن المرارة التي نتجت من هذه
التجربة أعطت لإدانته الحافة الحادة وسموم السهام التي أطلقها، إنه يفضي بهمومه
كفرد أولًا وقبل كل شيء، ويعتقد أنه يبحث عن الشفاء الذي يؤثر بشكل مباشر على
المجتمع، ولكنه سيكون من خلال المجتمع، وبشكل غير مباشر فائدة أو منفعة له هو نفسه»،
٤٩ ويعبر موقف الاستياء عن نفسه بشكل سلبي يتكشف — في رأي نيتشه — في
أخلاق العبيد: «ليس هناك أكثر رعبًا من طبقة العبيد البرابرة الذين ينظرون لوجودهم
على أنه ظلم، ويستعدون الآن ليثأروا ليس فقط لأنفسهم، بل لكل الأجيال،
٥٠ فبدلًا من أن ينتصر الفرد الذي يشعر بمأساة الوجود على طبيعته المدمرة
لذاته وللآخرين، وبدلًا من أن يُثبت نفسه ووجوده بروح نبيلة، وبدلًا من أن يقهر روح
المرارة والاستياء المؤذية، نجده يسعى للتعويض عن ذلك بالانتقام، ويدافع عن نفسه
بالأخلاق السلبية — التي هي نموذج لوعي العبيد — بأن يُعلن أن الآخرين (السادة أو
المجتمع) هم الأشرار، ويزعم لنفسه العكس من ذلك بأن يفترض الطيبة والنقاء في
طبيعته.»
لقد أضفى روسو على الطبيعةِ السمةَ الأخلاقية بأن صوَّر الحالة الطبيعية الأولى
على أنها بريئة وغير فاسدة. بينما يرى نيتشه أن الطبيعة في حدِّ ذاتها دورةٌ صماء
تتسم باللامبالاة، الطبيعة في نفسها عبثٌ، تدور دورتها بلا هدف، وبدون عدل ولا
رحمة؛ ولهذا لا يمكن أن نسمَ دورتها العمياء بالسمة الأخلاقية، ولا أن نسلبَها
إياها فنقول إنها لا أخلاقية. ولذلك يسخر نيتشه من الفلسفة الرواقية التي تطالبنا
أن نعيش وفقًا للطبيعة، أي أن نعيش وفق المبدأ الكلي الكامن في الطبيعة، أي وفق
التجانس والحكمة الكلية.
٥١ فإذا كانت الطبيعة في أعماقها — عند نيتشه — هي التعريف السابق شرحه،
فكيف نعيش وفقًا له؟ إننا بهذا المعنى لن يكون بإمكاننا أن نفكر في الوجود الإنساني
باعتباره نتيجة تصميم أو إرادة أو هدف خاص، لن يمكننا أن نتصور الإنسان خاضعًا
لمحاولة تحقيق نموذج للسعادة أو الأخلاق، فنحن الذين اخترعنا مفهوم الهدف، والواقع
أنه ليس هناك هدف للوجود الإنساني أي أن الهدف مفتقد. كما أنه ليس هناك مَن يفرض
على الإنسان صفاته: لا الله ولا المجتمع ولا الأسلاف أو الآباء، ولا يوجد مَن يفرض
عليه أفعاله؛ لأن على الإنسان أن يصبح نفسه.
لا توجد إذن إنسانية طبيعية في رأي نيتشه، ولكن الإنسان يصل إلى الطبيعة بعد صراع
طويل، وقد وجد ذلك في إنسان القرن التاسع عشر: «إن هناك علامات على أن الإنسان
الأوروبي في القرن التاسع عشر أقل خجلًا من غرائزه، لقد خطَا خطوةً نحو السماح
لنفسه بنزعة طبيعية غير مشروطة، أي لا أخلاقية (بالمعنى التقليدي للأخلاق)، وبدون
أن يزداد إحساسه بالمرارة. يخيل لبعض مَن يسمعون هذا كأن الفساد قد تقدم واستشرى.
من المؤكد أن الإنسان لم يقترب من الطبيعة التي يتكلم عنها روسو، لكنه حقق خطوة
أخرى نحو التقدم في الحضارة التي احتقرها أو مقتها روسو.»
٥٢ لا يمكن لنا إذن — في رأى نيتشه — أن نعيش وفقًا للطبيعة، بل أن نعيش
وفقًا للحياة، وكأنه استبدل الحياة بالطبيعة، أي أن نعيش وفقًا لأعماق الحياة
وإرادة الحياة.
قد يفهم مما سبق أن نيتشه يُنكر فكرة العودة إلى الطبيعة، بينما حقيقة الأمر أنه
يُنشد العودة إلى الطبيعة، ولكن مفهومه عن تلك العودة مختلف ومعارض لمفهوم روسو،
فهو يصرح في نصٍّ له بعنوان التقدم في نظري: «أنا أيضًا أتكلم عن العودة إلى
الطبيعة على الرغم من أنها ليست عملية رجوع إلى الوراء، بل انطلاق أو صعود إلى
أعلى، نحو طبيعة ونزعة طبيعية عالية حرة، بل مرعبة، طبيعة قادرة على أن تقوم
بالمهام العظمى كما هي قادرة على أن تلعب معها. على سبيل المثال نابليون كان مثلًا
للعودة إلى الطبيعة، أما روسو فلا.»
٥٣ ويميز نيتشه بين ثلاثة نماذج للإنسان يحدد من خلالها نوع «العودة إلى
الطبيعة» الذي نشده ووجده في أحد هذه النماذج: النموذج الأول يمكن أن نطلق عليه
نموذج إنسان روسو، فقد رسم نيتشه صورة له انتهت بتصوير روسو نفسه على أنه حالم
يوتوبي وثوري اجتماعي وفي نفس الوقت له موقف من الحياة يتسم بالمرارة والنقمة؛
فصرخة روسو للعودة إلى الحيوية الطبيعية إنما تنم عن احتقار الإنسان لنفسه وتوقه
للعودة إلى الوراء. أما عن النموذج الثاني فهو إنسان جوته، وهو النموذج المضاد
للنوع الأول، فقد مجد نيتشه جوته باعتباره تجسيدًا لهذا النموذج الثاني الذي أطلق
عليه وصف النموذج الديونيسي. ويتحدث نيتشه عن شمولية جوته، بمعنى التأليف بين العقل
والحساسية، بين المشاعر والإرادة: «ليس جوته مجرد ألماني، بل هو حدث أوروبي محاولة
رائعة لتجاوز القرن الثامن عشر، أو التغلب عليه عن طريق العودة إلى الطبيعة،
والصعود إلى النزعة الطبيعية لعصر النهضة، لقد استطاع أن يقهر ذاته ويتجاوزها
Self-overcoming، وأن يحمل في صدره أقوى غرائز
هذا القرن: عاطفيته، تعبده للطبيعة وروحه المضادة للتاريخ، ومثاليته وعدم واقعيته وثوريته.»
٥٤ فالعودة إلى الطبيعة التي يفضلها نيتشه، ووجدها متجسدة في جوته نفسه —
وهي بالطبع مختلفة عن العودة إلى الطبيعة كما هي عند روسو — تتمثل في رمز الانتصار
على الرومانسية أو قهرها وتجاوزها، كما تؤكد السمة اللاأخلاقية للوجود، والتي تعني
أن الوجود في حدِّ ذاته ليس وجودًا أخلاقيًّا، ولكننا نحن الذين نضفي عليه التقييم
الأخلاقي، كما تؤكد أيضًا تبني موقف من الحياة فيما وراء الخير والشر، موقف تأكيد
وتعزيز للحياة وليس احتقارها، ويأتي أخيرًا إنسان شوبنهور الذي يرفضه نيتشه لسبب
بسيط وهو رفضه — أي شوبنهور — للحياة وعزوفه عنها.
ويعود هجوم نيتشه على روسو إلى تفسير هذا الأخير لمشكلة الحضارة التي زعم أنها
أفسدت الوجود التاريخي للإنسان، فقد كتب نيتشه تحت عنوان ضد روسو: «لسوء الحظ لم
يَعُد الإنسان شريرًا بما فيه الكفاية؛ إن خصوم روسو الذين يقولون إن الإنسان حيوان
مفترس هم لسوء الحظ مخطئون. إن لعنة الإنسان لا تكمن في فساده، بل في مدى ما وصل
إليه من الرقة والأخلاقية.»
٥٥ ويتضح من هذا النص هجوم نيتشه على الفهم التقليدي للتقدم الحضاري،
وإعادة تقييمه لمشكلة الحضارة من جديد، فهو لم يدحض الحجة القائلة بأن الحضارة قد
أفسدت الإنسان، بل هو يصرح بأنها لم تفسده بما فيه الكفاية، الأمر الذي يُفهم منه
أن التدهور أو الانحلال هو أحد المظاهر الضرورية للحياة واللازمة لنموها وبقائها،
وربما كان أيضًا هو أحد الأسباب التي تُضفي المأساوية على الوجود الإنساني. وبذلك
لا يمكن لنا أن نفسر العدمية بأنها هي علة التدهور، وإنما هي النتيجة المنطقية له:
«إن كل حركة مثمرة ومفعمة بالقوة تُحدثها الإنسانية تُبدع أيضًا، وفي نفس الوقت
حركة عدمية.»
٥٦ يتصور نيتشه إذن النزعة العدمية كشرط تاريخي أو حالة تاريخية، لا كحالة
شاملة للعقل، إنها حالة غامضة يمكن تفسيرها بطريقتين: فيمكن أن تُفسَّر على أنها
علامة على القوة المتزايدة للروح، وهي التي يسميها نيتشه بالعدمية الفعالة
Active Nihilism، كما يمكن أن تُفسَّر
على أنها انحدار ونكوص لقوة الروح، وهي التي يسميها بالعدمية السلبية
Passive Nihilism.
٥٧ بذلك يكون نيتشه قد وضع مشكلة الحضارة في إطار تاريخ النزعة العدمية
الأوروبية. ومن ثَم قام بمحاولته الجريئة لإعادة تقييم كل القيم بما في ذلك قيمة
الحضارة نفسها.
إن الوعي التراجيدي بالحياة يكمن في فلسفة نيتشه. وقد عبر نيتشه نفسه عن ذلك
بشجاعة نادرة بأن أعلن أنه أول فيلسوف تراجيدي يُقبل على الحياة بكليتها أو في
مجموعها. إنه يقول نعم لطبيعتها المتنوعة والمتعارضة، نعم للبهجة والألم معًا،
وربما كان هذا أبلغ تعبير عن قوة إرادة الحياة التي تبتهج حتى بالكوارث والمآسي:
«إن قول نعم للحياة — بما في ذلك أغرب وأفظع مشاكلها، وإرادة الحياة المبتهجة
بقدرتها التي لا تنفد على التضحية بأسمى نماذجها — ذلك هو الذي وصفته بأنه ديونيسي،
وهو الذي رجحت أنه هو الجسر الموصل إلى نفسية الشاعر التراجيدي.»
٥٨ يتغلب الإنسان إذن على مأساوية وجوده التاريخي بالمزيد من إرادة
الحياة، فالحياة والألم لا ينفصلان. وإذا كانت الأخلاق التقليدية أو الموروثة هي
نسق من التفكير يحاول — في رأي نيتشه — أن يفرض مستوًى مطلقًا من الصواب والخطأ،
والخير والشر على الوجود، فإنها — أي الأخلاق — تقطع التجربة الإنسانية المفعمة
بوفرة الحياة، وهي محاولة لإدانة الوجود، كما هي محاولة لإدانة وإنكار إرادة القوة،
وهي عند نيتشه الغريزة الأساسية للإنسان التي من خلالها ينمو يتطور.
ماذا بعد عرض فلسفة نيتشه التاريخية وما تحمله من مفارقة بين الوعي التاريخي
والوعي اللاتاريخي؟ هل ساهمت هذه الرؤية النقدية للتاريخ في حل مشكلة التاريخ أو
مشكلة الحضارة التي وصلت أزمتُها إلى متفرق طرق لم يظهر فيه بارقة أمل لإصلاح ما
أفسده التطور الثقافي والحضاري؟ ربما يكون الإسهام الحقيقي لهذه الرؤية النقدية
لمشكلة التاريخ (التي ألقينا عليها الضوء بقدر ما سمحت به الخطوط العريضة لهذا
البحث) هو إعادة النظر في الموروث الثقافي، ومراجعة اعتقادات ظل الإيمان راسخًا في
الأذهان فترات طويلة من الزمن، وذلك فضلًا عن إسهامها في إعادة تقييم كل ما أثمرته
الحضارة الإنسانية. لقد كان نيتشه رائدًا جسورًا لتيارات عديدة جاءت بعده، وأخذت
على عاتقها مراجعة التراث الغربي، وزعزعة الثقة في الميراث الحضاري. واستمرت هذه
التيارات — التي أخذت وجهتها من نيتشه — في فلسفات هيدجر، ومَن يطلق عليهم اسم
فلاسفة الاختلاف وتيار ما يسمى الآن بفلسفة «ما بعد الحداثة»، وعلى رأسها التيار
التفكيكي الذي يتزعمه جاك دريد — على الرغم من رفض هذا الأخير إدراج منهجه التفكيكي
تحت ما يسمى ﺑ «ما بعد الحداثة» — فمنذ إطلاق نيتشه صرخته الأولى وإعلانه «موت
الإله» كحدٍّ أوروبي — وهي الفكرة التي قصد بها تحطيم الميتافيزيقا الغربية
وتدميرها وإعلان موتها وزلزلة الأسس التي يستند إليها التراث الحضاري الغربي — منذ
ذلك الحين ما زالت تتوالى التيارات والرؤى النقدية من أجل إعادة التقييم. لم يكن
هدم نيتشه للتاريخ وللحضارة إلا من أجل بناء هذا التاريخ وتلك الحضارة من جديد، ولم
يكن هجومه على إنسان العصر الحديث إلا من أجل ظهور إنسان آخر جديد سماه «السوبر
مان» أو الإنسان الأعلى. وبفضل دعوة نيتشه لتدمير التاريخ والحضارة الغربية، يُعيد
الغرب الآن حساباته من جديد لتأسيس مفاهيم جديدة تستند إليها حضارة غريبة
جديدة.
وإذا كانت الدوائر العالمية الآن — من خلال الاهتمام الشديد بمرور مائة عام على
رحيل نيتشه — تعبِّر عن احتياجها إلى فكره، وتقدم الدراسات والتحليلات والتفسيرات
التي لا حصر لها عن السؤال المطروح في بداية هذا البحث، لماذا نيتشه الآن؟ فأحسب
أننا نحن العرب أشد احتياجًا من الغربيين إلى رؤية نيتشه النقدية للتاريخ والحضارة،
كما أننا أشد احتياجًا من الغرب إلى أن يكون لدينا الوعي التاريخي والوعي
اللاتاريخي معًا، أي أن تكون لدينا القدرة على التذكر والقدرة على النسيان بنفس
القدر، أي القدرة والشجاعة على الفحص النقدي للماضي، لا لكي نعيش في الماضي
فنُعرِّض حاضرنا للخطر، بل أن يكون فحصًا نقديًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى،
فنستحضر من الماضي لحظات مجده بالقدرة على التذكر، ونغفل ظروفًا ولحظات من الماضي
لا يجب التمسك بها بالقدرة على النسيان، حتى نتمكن من أن نعيش الحاضر بالكامل ونتجه
بقوة وشجاعة نحو المستقبل المأمول.
ما أحوجنا نحن العرب إلى أن تكون لدينا جسارة نيتشه وشجاعته في الهدم والتدمير،
حتى نستعيد القدرة على البناء والإبداع من جديد. أما إذا طرحنا السؤال السابق —
لماذا نيتشه الآن؟ — في عالمنا العربي، فالإجابة في جملة واحدة؛ لأنه ما أحوجنا
اليوم إلى نيتشه «عربي» يحطم الأوثان، ويصرخ داعيًا إلى حضارة جديدة، ووعي وإرادة
حياة جديدة، وتاريخ جديد، وحاضر جديد يتمخض — بالإرادة والوعي والقيم الجديدة — عن
مستقبل جديد.