مقدمة
يسرُّني أن أُقدِّم لقُرائي الأعزاء عشرين قصة من واقع الحياة. ولن يصدقوني إن قلت لهم إنني كتبتها كلها في زمنٍ ضرب الرقم القياسي للسرعة في التأليف … فكل ما استغرقتْه هذه العشرون قصة من وقت، لا يتعدَّى خمس عشرة ساعة، بل أقل من ذلك بكثيرٍ.
ولست أقصد من قولي هذا أن أوحي إلى القارئ النبيل، ببراعتي في كتابة هذا اللون من الأدب، أو أنني أكتب دون عنايةٍ ولا تفكير ولا تفهُّم لصُلب القصة وتماسك أجزائها.
بل، على العكس، أردت أن أُعلِم قارئي النجيب، بحقيقة لا أجد ضيرًا في أن أخبره بها … فيوم أمسكت القرطاس والقلم لأكتب القصة الأولى، كنت جالسًا في المطبعة التي تُطبع فيها مؤلفاتي وما أترجمه عن الإنجليزية أو عن اللاتينية أو عن الإغريقية القديمة.
وكانت آلات الطباعة تعمل في نظامٍ آليٍّ رتيب يُحدث موسيقى منتظمةَ الوحدة، تصل أصواتها إلى أذني لذيذةً جميلةً مُشجية، لا تقل روعة عن موسيقى عبقري هذا الجيل، وكل الأجيال: الأستاذ الدكتور عبد الوهَّاب … وهكذا، ولد هذا الكتاب على أنغام موسيقى آلات الطباعة.
وإني لأرجو أن يعجبك وتجد فيه مُتعة عظمى، تختلف عن متعة عشرات القصص القصيرة الأخرى التي سبق أن قدَّمتها لك في كتبي السابقة، والتي لا أجد داعيًا لذكر أسمائها الآن، لأنها تكاد تكون معروفةً لمعظم قُرائي، وما أكثرهم، ولا فخر، وموجودة فعلًا على رفوف مكتباتهم المنزلية.
من حق قُرَّائي الكرام عليَّ، أن أشكرهم على ما ألقاه منهم من تشجيع يُلهب خيالي، ويشحذ قريحتي، وينشط قلمي الذي ما إن يمس الطِّرس حتى ينطلق تلقائيًّا، صامتًا متكلمًا.
قصص هذا الكتاب، بعضها مُستمَدٌّ من واقع عشته أنا شخصيًّا وحدث لي، أو عاشه أصدقائي وصديقاتي، وألممت به وبكل حذافيره حتى حفظتُه عن ظهر قلب … ولكنه لا يخلو من قصصٍ نَسَجَ الخيال خيوطها، وجمع بين عناصرها وأحداثها … ولن يستطيع القارئ الأريب، مهما تكن درجة ذكائه، أن يفرِّق بين هذه وتلك.
كان بوسعي أن أكتب القصص كلها من الخيال البحت، ولكني توخَّيت أن يكون الجزء الأكبر منها من الواقع الحقيقي؛ إذ كما يقولون: «الحقيقة أشد تأثيرًا في النفس، وأكثر إمتاعًا من الخيال.»
كان كتابي رقم ١٢٢ عن مسرحيات (أيسخولوس) … ذلك الكتاب المسرحي الإغريقي القديم … وإنه ليشرفني أعظم شرف، ويرفع هامتي عالية، أن أُفيد القارئ بأنني حرصت على أن يتضمن ذلك الكتاب ترجمة جميع مسرحياته التي كتبها منظومة باللغة اليونانية القديمة … وتعتبر ترجمتي تلك هي الترجمة الأولى في العالم العربي كله.
أما كتابي رقم ١٢٣، فترجمة لعشرات من القصص القصيرة العالمية، وخصوصًا الأمريكية والإنجليزية.
والآن، ها أنا ذا أقدم كتابي رقم ١٢٤. وهو كما ترى، ليس له ناشرٌ، أي أنني طبعته على نفقتي الخاصة، ومن دخلي المتواضع المحدود … إيمانًا مني بأنه من واجب صاحب الرسالة ألَّا يتخلى عنها … أحَبُّ شيئين إلى نفسي وقلبي، هما: القلم والمطابع … فلو سلبني اللصوص كل ما أملك، وتركوا لي القلم، ما ذرفت عيناي قطرة دمعٍ واحدة … ولو أن الحياة جرَّدتني من جميع المتع، ما اهتممت ما دامت تركت لي متعة دخول المطابع، ومشاهدة الآلات، ودولاب العمل يدور فيها مُحدثًا ذلك الصوت الموسيقي العذب الذي يشنف أذني بجرسه السمعي الجميل، بصورة لم يعرفها نوابغ الموسيقيين سواء في الشرق أو في الغرب … أحس، أيها السادة، بأنني أرقص على وقع تلك الأنغام، أروع مما ترقص أبرع راقصةٍ … أرقص من كل قلبي وأنا أسمع صوت آلات الطباعة وهي تدور وتدور … تطبع الحروف والكلمات والعبارات.
سوف أحرص على أن أذكر رقم كل كتابٍ جديدٍ يصدر لي … فهذا شرفٌ أخلعه على نفسي، وأريدك، أيها القارئ الأديب، أن تشاركني إيَّاه، إذ هذا حقٌّ من حقوقي، خشية أن يُخطئ العدَّاد فيما لا يمكنني أن أُخطئ في عده وإحصائه.
وختامًا، أتقدَّم بالشكر لصاحب الآلاء والنعم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، على كل سطر ساعدني في كتابته، وعلى كل قصة انتهيت من تأليفها بمعاونته، وعلى كل كتاب قدَّرني على طبعه وإظهاره في حيز الوجود وبين يدي القُرَّاء المحبوبين، على نفقتي ومن عرَقي وقُوتِي، إيمانًا منِّي بقولهم: «المر الذي يختاره لنا الرب، خير من الحلو الذي نختاره لأنفسنا.» … وقولهم: «بفلوسك، بنت السلطان عروسك.» و«حبيبتي في السما، كيف الوصول إليها … شخشخ لها بالذهب تنزل برجليها.» … وقولهم: «بارك الله فيما نفع وانتفع.» … و«تمجيد الناس يولد للمرء البذخ وتعاظم الفكر.» و«تعب الجسد من كثرة القراءة ينقِّي العقل.»
وكذلك إيمانًا منِّي بقولهم: «ربنا يجعل بيت المحسنين عامرًا دائمًا.» وبقولهم: «رأس الحكمة مخافة الله تعالى.» وقولهم: «فليعوِّض الله صبرك خيرًا.» وقولهم: «رحم الله امرأً عرَف قدر نفسه.»
وبعد هذا، فهل أطمع، يا قارئي الأصيل، أن تجاملني، ولو بابتسامة أو دمعةٍ واحدة عقب انتهائك من قراءة كل قصة في هذا الكتاب … وطوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناء الله يُدعَون.
والله ولي التوفيق.