خرج ولم يعد
علي موظف بسيط بوزارة التربية والتعليم، وهو كذلك بسيطٌ في معيشته وتفكيره. يعتقد تمامًا في الخرافات والخزعبلات، فلا يسافر أبدًا في يوم الأربعاء إيمانًا منه بأنه لو سافر في ذلك اليوم، لا بد أن يُصيبه مكروه. وإذا خرج من بيته لقضاء حاجة، ونادته زوجته أو أحد أولاده، عاد إلى بيته ولم يخرج، إذ يعتقد أن تلك الحاجة لن تُقضى. وهو، علاوة على ذلك، لا يجلس في مقهًى أو يذهب إلى نادٍ، بل من باب بيته إلى عمله، ومن عمله إلى بيته، أي أنه من النوع المُسمَّى «من الباب للباب».
في أحد أيام الجمعة جلس علي في داره، وأخذ يتصفَّح جرائد الصباح، فوقعت عينه في باب «الحوادث» على عنوان أثار انتباهه؛ إذ قرأ «خرج ولم يعد»، فهزَّ رأسه وأسنده على راحتيه، وراح في تفكيرٍ عميقٍ، يقول لنفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله، أين ذهب؟ هل تاه؟ هل خُطف؟ هل وقع في بالوعةٍ مفتوحةٍ؟ هل هاجر وركب البحر؟ هل انتحر؟ هل صدمته سيارة ونقله رجال الإسعاف إلى حيث لا أدري؟ ثم تذكَّر حوادث كثيرةً مماثلةً قرأ عنها أو تعرض لها بعض مَعارفه، فزادت في بلبلة أفكاره وجعلته يُكلِّم نفسه، ويضرب كفًّا فوق كفٍّ.
تصادف مرور زوجته «أم محمد» أمامه فأبصرته على هذه الحال، فسألته: «أراك تهزُّ رأسك ذات اليمين وذات الشمال، وتهذي بألفاظ غير واضحةٍ ولا مفهومة، كمن يتعجب من حالٍ أو يشغل باله أمرٌ، فماذا يُهمك؟»
لم يرد علي على زوجته، واستمرَّ يمط شفتيه، ويأتي بحركاتٍ غريبةٍ كمن به مس.
فسألته زوجته مرة أخرى: «ما الخطب يا علي؟ هل هناك ما يؤلمك أو يُثير حفيظتك؟ أنا زوجتك، ومن واجبي أن أُسري عنك وأطمئنك.»
قال بعد لأي: «اقرئي هذا الذي حدث أمس … ماذا لو أن محمدًا خرج ولم يعد، ماذا تكون حالنا، وإلى أين يتجه تفكيرنا، وهو ولدنا البكر؟»
فصرخت أم محمد، تقول: «فأل الله ولا فألك يا علي … أعوذ بالله من كلامك الأخرق وتفكيرك السقيم … هل جُننت يا رجل؟»
فقال بعد أن هدأت ثورتها بعض الشيء: «ما قد يتعرض له الآخرون، قد يحدث لنا … أم تعتقدين أن لدينا تمائم تمنع عنا التعرُّض للأخطار؟»
فصرخت أم محمد قائلة: «ماذا دفعك إلى مثل هذا التفكير الأحمق؟ أغلب الظن أنك لست في وعيك يا علي … لعلك واقعٌ تحت تأثير المخدِّرات.»
فقال لها في هدوء: «ما لها المخدرات؟ أفاضل الناس هم الذين يتعاطون المخدرات، تُنعش أمزجتهم، وتُذهب العقول، وتصحب الإنسان إلى عالمٍ آخر يختلف تمامًا عن هذا العالم. عالمٌ كله مرحٌ ومسرَّات ولذات، فينسى المرء همومه وأوجاعه ومشاغله.»
قالت أم محمد: أَفهم من ذلك أن عندك همومًا وآلامًا، تُعاني منها وتتعذب … ترى من السبب في هذه الهموم والأوجاع … أهو العمل، أم والدتك المريضة، أم أخوك العاطل؟
قال: وما دخل والدتي وأخي في همومي وآلامي، وما يشغل بالي؟
قالت: إذن، هو العمل … أما زالت علاقتك برئيسك سيئةً، ويتربَّص بك في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيُحاسبك عليهما حساب الملكين؟
قال: لو كان العمل هو سبب همومي، لتغلَّبت عليه، حتى ولو وصل الأمر إلى أن أتركه.
قالت: اتركوا ذاك واسمعوا هذا! كيف تترك العمل وتقبع في دارك عاطلًا، واليد البطَّالة نجسةٌ … ومن أين نعيش والسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضَّة … أتريد أن يقف حالنا؟
قال: ومن قال لك إن حالنا ماشٍ؟ نحن لا ننال لقمة العيش القَفَار إلا بشق الأنفس، بينما يتمتع كثيرون غيرنا بكل ما لذَّ وطاب، وينفقون الملايين بدون حساب.
قالت: أتقصد أن تقول إنك بَرِمٌ بحياتك ومعيشتك، وإنك لهذا السبب تبدو مهمومًا؟
قال: هو ذلك يا أم محمد … لأول مرة تقولين الصدق، وتفهمين ما يعتمل في داخلي!
قالت: هذا كلامٌ غريبٌ يا علي، يزعجني ويثيرني. لم يسبق أن سمعت منك مثل هذا القول … رغم أنني لم أفهم تمامًا ما تقصد.
قال: وكيف تفهمين ما دمت تتظاهرين بأنك لا ترَين ولا تسمعين ولا تفهمين … أنت دائمًا كالأصمِّ في موكب الزفاف.
قالت: أرى ماذا، وأسمع ماذا، وأفهم ماذا؟ أنت الذي لا تفهم ما تقول، ترصُّ الألفاظ رصًّا بدون معنى، كما يرصُّ البنَّاء الطوب … لقد تأكدت الآن أنك لست في وعيك … لا بد أنك تحت تأثير مخدِّرٍ، لعنه الله، ولعن من علَّمك إيَّاه.
قال: قلت لك ألف مرةٍ، لا تتدخلي في شئوني الخاصة. أنا رجل، ولي مطلق الحرية أفعل ما أشاء … ومنذ متى تتدخل النساء في شئون الرجال؟
قالت: أنا شريكة حياتك، ولي الحق في أن أقوِّم اعوجاجك. لست أعزب. وحياتك ليست لك، بل هي لزوجتك وأولادك قبل أن تكون لك. هذا السم الذي تتعاطاه سيؤدِّي بنا إلى أن نمدَّ يدنا للسؤال ونستجدي الناس.
قال: دعينا مما لا طائل تحته، وتكلَّمي في لبِّ الموضوع، لا تزوغي من الحقيقة … رغم أن الحقائق غير خافيةٍ، وتراها كل عين، حتى في ظلام الليل.
قالت: ما هذا الذي تتفوه به يا علي … أية حقائق تلك التي تتكلم عنها، والتي يبدو أنك أنت وحدك الذي تراها؟
قال: سلامة عينيك … هل أعيش مع زوجة عمياء العين والقلب تحت سقفٍ واحدٍ؟
قالت: قل حقائقك كلها، ولا تكتم منها حقيقةً واحدةً … لأنني بدوري، عندي حقائق أريد أن أذكرها، إذ طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى.
قال: يا لها من فلسفةٍ كاذبةٍ … أتظنين نفسك، يا ست نفوسة، قد حللت مكان نبوية موسى؟ عن أي شخصٍ هذه الحقائق التي تتكلمين عنها؟ … لا تقولي إنها عنِّي.
قالت: من أكل لحمًا نيئًا وجعه بطنه. من أين عرفت أن تلك الحقائق عنك؟ هي فعلًا عنك وليست عن أي أحدٍ غيرك.
قال: معنى هذا أنه قد أصبحت هناك حقائق تخصُّني، وتتمسكين بها علي، في حين أن عندي آلاف الحقائق ضدك، ولا تخصُّ أحدًا سواك.
قالت: ولم لا تكون هناك حقائق تخصُّك؟ … لكل إنسانٍ في هذه الدنيا حقائق تنصره، وأخرى تخذله، وما من أحد يرى عيبَ نفسه.
قال: وحقائقك التي تحتفظين بها عنِّي، هل تنصرني أم تخذلني؟
قالت: لن أجيب على سؤالك هذا إلا بعد أن تصارحني بحقائقك عني، وهل هي حقائق في صالحي أم حقائق ضدي.
قال: بل هات ما عندك، أنت أولًا … حتى يكون كيلي من نفس كيلك.
قالت: وهل بيننا كيل ومكاييل؟
قال: نعم، ألم يكن حبُّك إيَّاي في بداية تعارفنا، يُقاس بالمكاييل؟
قالت: هذا موضوعٌ عفا عليه الدهر، ومع كلٍّ، كنت أردُّ لك مكاييلك بمكاييل مماثلةٍ، لعل وعسى!
قال: لعل وعسى ماذا؟
قالت: أن تتزوجني، وأعيش في كنَف رجلٍ.
قال: أهكذا كان تفكيرك يومذاك؟
قالت: هو ذلك … فكل فتاةٍ تودُّ لنفسها أن تتزوج وتكوِّن أُسرةً. هذه سُنَّة الله في خلقه. وقد وجدت فيك الزوج الملائم لي، ويقيني العَنَس والوحدة وسخرية الناس.
قال: وهل حققت لك كل ذلك؟
قالت: إلى حدٍّ ما، فقد قتلت وحدتي بأطفالي الثلاثة: محمد وحسن وسامية.
قال: ألم أنقذك من سخرية الناس!
قالت: لا أظن … فجميع معارفي يسخرون منِّي إذ قبلتك زوجًا لي.
قال: فلتُقطع ألسنتهم … أنا سيد الرجال، وما كنت تستطيعين العثور على زوجٍ أفضل منِّي … يا لك من امرأةٍ مارقةٍ حيزبون! … لقد تأكدت الآن أنك تتعاطين الحبوب التي تُذهب العقل والفكر والصواب.
قالت: كلَّا، وألف مرةٍ كلَّا. أنا لا أتعاطى مخدرات، وإنما أنت الذي تتعاطاها. وحتى مع فرض المستحيل، من شابهت زوجها فما ظلمت.
قال: والله إن لم تكفِّي عن مثل هذا الكلام، وتقطعي لسانك، فسأخرج من هذا البيت على ألَّا أعود إليه أبدًا.
قالت: إن كنت رجلًا من ظهر رجلٍ، فافعل ما تُهددني به … أنت في البيت كعدمك.
وهكذا نهض علي من كرسيه، وأقسم على أنه سيخرج ولن يعود … وانصرف فعلًا.