إعدام زهرة
تحتفظ هيام بصورة فوزي في صدرها باستمرار، لأنها كانت غالية عندها وعزيزة عليها، ولأهميتها وحلاوتها كلما نظرت إلى الصورة العزيزة، تذكرت أحلى الذكريات … كان فوزي أملها الوحيد ومستقبلها وكل حياتها … بدونه تتوقف أنفاسها ويكفُّ قلبها عن النبض والخفقان.
لا يزور النوم عيني هيام ليلًا إلا بعد أن تعيش لحظاتٍ طويلة يقْظَى، تسترجع فيها بعض المواقف اللطيفة التي حظيت بها وهي في صحبته ورفقته … أما الأحاديث التليفونية فما كان أكثرها وأحلاها، وكانت لا تخلو من الضحكات البريئة السارة.
كانت اللحظة الوحيدة التي لا تريد أن تتذكرها هي التي تحوَّل فيها فوزي من مجرد كائنٍ حيٍّ رقيق، كله قوةٌ وحيوية، إلى خيالٍ متجسمٍ في صورة.
كان فوزي وهو صبي حَدَثٌ، يلعب مع هيام في الحارة. وهكذا عرَفَته، ابن جارتهم السيدة علوية صديقة والدتها الحميمة … اعتادت هيام أن تقول لفوزي كل شيءٍ ولا تخفي عنه أمرًا، مَهْما يكن سرًّا، وتُصغي بدورها، بكل اهتمامٍ، إلى كل سر يفُوه به عن نفسه وعن أسرته … وهكذا تعلمت هيام أن يكون لها الصديق الذي تأنس إليه، وتثق به، وتعتمد عليه … ولم يكن ما معها من نقود ملكًا لها وحدها، بل يشاركها فيه فوزي، يشتريان به ما يرغبان فيه، ويتناولانه في سعادةٍ بالغةٍ، دون اهتمامٍ أو اعتبارٍ لما يأتي به الغد، واضعَين نُصب أعينهما المثل القائل: «اصرف ما في الجيب، يأتك ما في الغيب.»
إذا مرض فوزي زارته هيام؛ لتبقى إلى جوار فراشه طول النهار، ترعاه، وتخفِّف عنه آلامه، وتسلِّيه بأن تروي له النكات المضحكة التي سمعتها من زميلاتها بالمدرسة … وفي كل مرةٍ تعوده فيها، كانت تحمل إليه طبقًا من الحلوى صنع والدتها، فضلًا عن وردة حمراء أو بيضاء تُقدمها إليه بيدها الطاهرة البريئة.
تقدَّم هذان الصديقان في العمر، ووصلا معًا إلى المرحلة الإعدادية … ولأول مرة وجدت هيام نفسها تهيم بحب فوزي، فاختفت تمامًا مرحلة الصداقة البريئة، وحلَّت مكانها مرحلة الحب العاطفي … ووجدت استجابةً من فوزي لمشاعرهما الجيَّاشة الجديدة، التي تملكت من نفسيهما قبل الأوان، واتخذا شعارَهما: «من لم يحب، لم يؤد للشباب واجبه!»
وهكذا عرفت هيام الحدائق والكازينوهات يبث كل منهما الآخر، فيها، ما يعتمل في قلبه من نار الحب الذي يتمنَّاه الكبار، ويعجزون عن تحقيقه أو الحصول عليه، أو حتى على ذَرَّةٍ من جماله وبهائه، وبراءته ورَوائه. نَعِمَ هذان الصغيران بحبٍ هادئ جميل، لا يعرف الشجار ولا الشقاء … وكانت لغتهما أقرب إلى الهمس منها إلى أي شيءٍ آخر معروف في لغة الكلام … وكان أقصى ما يفعلانه هو أن يسيرا معًا متشابكَي الأيدي في ولاءٍ شديدٍ قوي.
إذا جلس فوزي وهيام في كازينو، اكتفيا بشرابٍ خفيفٍ، وأمضيا الوقت كله، ينظر أحدهما إلى الآخر في تركيزٍ عميقٍ، بينما تتماسك الأيدي فوق المائدة، وهما صامتان، لا كلام ولا حتى همهمة … وكانا يجدان في ذلك متعةً أي متعةٍ … أما روحاهما فكانتا تحلِّقان في سمواتٍ عليا، وسط الطيور المغردة، وبين العصافير المشقشقة المزقزقة.
في هذا الجو العاطفي الجميل، استطاعت هيام أن تحصل على التوجيهية بامتيازٍ، لتلتحق بالجامعة، بينما تعثَّر فوزي … وكان عليه أن يُعيد الفرقة الثالثة الثانوية، للمرة الثانية، إذ لم يوفَّق في اجتياز الامتحان.
دخلت هيام كلية الآداب، حيث عرفت الاختلاط بزملائها الطلبة والطالبات، ووجدت نفسها في بيئةٍ تختلف تمام الاختلاف عن البيئة التي كانت فيها من قبل … فالحرية كاملةٌ … لها أن تحضر المحاضرات أو لا تحضرها … بوسعها أن تتحدث مع الزملاء من الشباب بنفس الحرية التي تتحدث بها مع الزميلات … وهناك الكافتيريا حيث تستطيع أن تدخِّن لو أرادت … وبهرتها حياة الجامعة، التي قوامها مطلق الحرية.
تعارضت ظروف هيام مع ظروف فوزي، فدخل الغرور قلبها وركبها … هي جامعيةٌ ناجحةٌ، وفوزي راسب توجيهية … إلا أنها حاولت، قدر طاقتها، أن تقتل هذا التفكير الأناني، الذي تغلغل في صدرها، وتوغَّل في قلبها، وزلزل هناء نفسها … وأحسَّ فوزي، من ناحيته، بما اعترى هيام من تغيرٍ في المعاملة، مع قلة المقابلات التي كانت من قبل يوميًّا بلا استثناء، وانعدام لحظات الغرام والانسجام، وتغيرت طريقة كلامها، فصارت: عندي محاضرات … أنا مشغولةٌ في الأنشطة الجامعية … وقتي ضيقٌ لا يكاد يكفي لاستذكاري المحاضرات والمذكرات … لقد كبِرت على حركات زمان … وهكذا كانت تتهرَّب منه بشتى المعاذير … وكما يقول المثل: «مفكرة النساء كلها أعذار.»
اضطرب قلب فوزي، واهتزَّ بشدةٍ، وطار النوم من أجفان عينيه كلتيهما، وصار لا يُرَى إلا أحمر الأجفان مُسهَّدًا عصبيًّا باكيًا، ولسان حاله يقول:
فشل فوزي، للعام الثاني، في الحصول على التوجيهية، وكذلك كانت حاله في العام الثالث … بينما هيام في العام الثالث من دراستها الجامعية، وغدت نظرتها إلى فوزي، نظرتها إلى فتًى فاشلٍ لا يستحق الحب ولا الاحترام … وأخذ تُسمعه عبارات الاحتقار عسى أن يثوب إلى رشده، ويُفيق إلى نفسه، ويعود إلى صوابه … غير أن هذا الفوزي كان قد عرَف الطريق إلى الحبوب والمساحيق المخدِّرة، وتحوَّل من ذلك الغلام الوديع الرقيق، إلى شابٍّ شرسٍ يقضي معظم نهاره في عالم «المساطيل» الغائبين عن الوعي السليم.
قررت هيام أن تبتعد عن فوزي «الخايب» … أما هو، بدوره، فصار يُلاحقها في حرم الجامعة … غير أن منيرًا، زميل هيام في الجامعة، وصديقها منذ التحاقها بها، تصدى لفوزي، ولقَّنه درسًا لا ينساه … فمسح به الأرض من شدة الضرب واللكم والركل … وحسبت هيام أن هذه العلقة ستعيد فوزيًّا إلى صوابه، وتوضح له مقامه، وتبعده عن طريقها إلى الأبد … حقيقة، ما زال قلبها عامرًا بحبه، إلا أن الأوضاع تغيَّرت الآن … ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكل زمانٍ دولةٌ ورجال … هي ما زالت على حب فوزي الصغير البريء الناجح في مدرسته، وفي كسب قلبها … غير أنه وقد تحوَّل إلى شابٍّ راسبٍ فاشلٍ، يُدمن المخدرات، فلا يمكن أن تقبله رفيقًا لشخصيتها الموفقة الناجحة.
بعد ذلك، حدث ما لم يكن في الحسبان … كان الطقس جميلًا والنسيم يهبُّ عليلًا مُنعشًا، وكانت هيام تمشي مع زميلها منير في حرم الجامعة، بجوار ساعة الجامعة، متجهين إلى قاعة المحاضرات، فإذا بفوزي يخرج لهما من خلف حائط، ويهجم على منير بمِطواةٍ قرن غزال، فغيَّب نصلها في صدره وقلبه، فتدفقت دماؤه غزيرةً وسقط على الأرض صريعًا فاقد النطق يتخبط في دمه … وحاول فوزي أن يهرب من مسرح الجريمة، ولكن هيام أُصيبت بنوبة من الصراخ الشديد العالي … فجاء حرس الجامعة يجْرُون وقبضوا على فوزي … وامتلأت الصحف بقصة الاغتيال الغادر والأسباب الكامنة وراءه … وبعد الإجراءات القضائية الطويلة حُكم على فوزي بالإعدام شنقًا لقتله منيرًا، عمدًا مع سبق الإصرار والتربُّص.
يوم إعدام فوزي، تذكرت هيام الصورة الوحيدة التي أهداها إياها فوزي، وهو يستعد لدخول امتحان التوجيهية في المرة الأولى … ودون أيِّ تفكيرٍ، وجدت هيام نفسها مدفوعة إلى تقبيل هذه الصورة بجنونٍ، وأقسمت على أن تحتفظ بها في صدرها حتى تكون في متناول يدها ليل نهار، كي تعيش مع الذكريات الحلوة التي امتلأت بها حياتها في أروع سني عمرها، يوم أن كان كلاهما زهرة يانعة لم تلوثها إلا قطرات الندى الطرية، فتَزيدها جمالًا وإيناعًا … وهكذا عملت بقول الشاعر دون وعي منها:
أقسمت هيام ألَّا تحب أو تقع في الحب، بعد كل ما مر بحياتها من أفراح وأتراح … وأوحت إلى نفسها بأنها متزوجةٌ من فوزي … الفتى البريء الهادئ، الجميل الروح والخُلُق والوجدان.
مضت خمس سنوات، وهيام تعيش في هذا العالم المليء بالأوهام … لا تفارقها صورة فوزي، وتحرص على أن تُقبِّلها كل صباحٍ، قبل ذَهابها إلى عملها، وكل ليلة قبل أن تهجع وتنام.
تشاء الصدف أن تروق هيام في عين رئيسها في العمل، الأستاذ «فوزي رحيمة»، ففاتحها في طلب يدها، فاستأذنته في أن يمهلها مدة أسبوع تفكر فيه، ثم تعطيه ردَّها بعد ذلك.
لم تذق عينا هيام طعم النوم عدة ليال، تفكر في أمر زواجها من رئيسها، وكانت قد عوَّلت على ألَّا تتزوج، وإنما تعيش على الذكريات … ثم قالت لنفسها: ما هذا الهُراء … كيف أرفض هذه الفرصة النادرة، والزواج سنة الله في خلقه، وعليه استمرار حياة الإنسان على الأرض … لا بد أن أتزوج.
وهكذا بعد مرور الأسبوع، أعلنت موافقتها لرئيسها … فتقدَّم إلى أسرتها طالبًا يدها … فوافق أبوها وأمها، وأُقِيمَ حفل الخطوبة عظيمًا باهرًا … وما هي إلا أشهر قلائل، حتى زُفَّت إلى عريسها بحضور أهلها وزملائها وأصدقائها وأصبحت «حرم الأستاذ فوزي رحيمة».
قبلت هيام الزواج من هذا الرجل لفكرةٍ جنونيةٍ؛ ذلك أنه كان يحمل اسم حبيبها الأول الغالي، الذي حُكم عليه بالإعدام من أجل حبِّه إياها، الذي بسببه اقترف جنايته الجنونية، ولأنه لم يقبل لنفسه المذلَّة والضيم في حضرة محبوبته … ولله في خلقه شئون.