زينب والذئب

لم يكن من الصعب عليه أن يُقبِّل زوجته قبل انصرافه إلى عمله، كما دأب أن يفعل في صباح كل يومٍ … ولكنها أغضبته في تلك الليلة وجعلته ينام موتورًا بعد أن أثارت أعصابه بصورة لم يألفها من قبل، ومع ذلك قبَّلها عن طيب خاطرٍ، فقُبْلتها الصباحية أحبُّ إليه من كل شيءٍ، يستبشر بها خيرًا، ويتوقع بسببها يومًا سعيدًا.

بات الحاج مهدي ليلته مؤرَّقًا، يفكر في الأوضاع التي تسوء يومًا بعد يومٍ من جراء نفقات المعيشة ومطالب زوجته التي يبدو ألا نهاية لها … وكان يعزيه أنها لا تطلب شيئًا كثيرًا لنفسها، إذ تقنع بأقل من القليل، كما تقنع بالحرمان … غير أن كل مطالبها كانت من أجل المصاريف اليومية لزوجها، وللولدين، وللابنة، ولمصاريف المدارس والملابس والمواصلات … يبدو أنه ليس هناك فرملة لذلك الغلاء الفاحش المطرد الارتفاع، وجشع المهنيين الذي لا يقف عند حدٍّ، بل يستغلُّون ضرورة الحاجة إليهم فيطلبون أجورًا لا يقبلها العقل، ولا تتفق مع أي منطقٍ أو معقولٍ … وماذا تفعل السيدة فاطمة إزاء ذلك … هل تجعل أولادها يجوعون، أو يشبُّون جهلاء، أو يتعرَّون في عز البرد … ترضى هي، عن نفسها، بأن تعيش على الطَّوَى ولا تتناول إلا وجبةً بسيطةً واحدةً كل ثلاثة أيام … ولكن ماذا عن الأولاد؟

لأول مرة يحسُّ الحاج مهدي أنه أخطأ بأن تزوج على كبرٍ من فتاةٍ في سن ابنته، لو تزوج في السن المناسبة … لقد وجد في فاطمة الجمال الذي ينشده، والأخلاق الفاضلة والاحتشام اللذين يعجب بهما. وقد ازداد ارتباطًا بها، بعد أن أنجبت له أحمد وحسنًا وزينب.

يكاد دخله من عمله بالمحافظة، لا يكفيه لشهرٍ طويلٍ لا ينتهي، وخصوصًا أنه من أصحاب المزاج و «الكيف» … لا غنى له عن السيجارة والشيشة وكوب الشاي الثقيل. أما فاطمة فلا تُدخِّن ولا تشرب الشاي إلا نادرًا جدًّا عندما يكون الطقس شديد البرودة، فتكتفي بكوب شاي واحد في الصباح … وقد حاول الحاج مهدي أن يحد من التدخين أو الشيشة، فلم يستطع، إذ تأصلا في دمه منذ أن كان صبيًّا في العاشرة ويكلفه أبوه بأن يضع له جمر الفحم في الشيشة ويُعدُّها له، فيُضطر إلى أن «يشد» منها نفسًا أو اثنين.

عبثًا حاول الحاج المهدي أن يجد عملًا إضافيًّا بعد الظهر أو بالليل، يستطيع عن طريقه الحصول على قرشٍ حلالٍ يسد به طلبات الأولاد والزوجة المطحونة في خدمته وخدمه أولاده، وخصوصًا زينب، قُرة عين أبيها التي سمَّاها بهذا الاسم، تيمنًا بالسيدة زينب، التي زارها في مسجدها ونذر لها إن رزقه الله مولودة أنثى أن يُسمِّيها زينب … فاستجاب الله له وولدت زوجته ابنته في أول يوم من أيام مولد السيدة زينب، فحققت للحاج مهدي أمنيته، وكان من الواضح جدًّا أنه يولي هذه الوليدة الأخيرة كل حبه واهتمامه … ويضايقه جدًّا أن يراها بحذاءٍ ممزقٍ أو بثوبٍ بالٍ.

لأول مرةٍ فكرت زوجته فاطمة، في أن تعمل في البيوت؛ لتساعد زوجها الذي يُعاني من ربو شديدٍ يقطع أنفاسه ويشلُّ حركته … ولكن الحاج مهدي ثار ضد هذه الفكرة، واستنكر أن تعمل زوجته في حياته.

– وماذا في ذلك يا حاج، والعمل شرف؟

– عندما أموت، اشتغلي … ولكن ما دمت أنا حيًّا أُرزق، فهذا محالٌ.

– وما دخل الموت في الموضوع … دخلك لا يكفينا، وأنا ما زلت في ريعان الشباب، قوية الساعدين ولا ضير في أن أساعدَك، وأنا شريكة حياتك … المهم الحصول على القرش الحلال بالعمل الشريف.

– لا أريد ذلك القرش الذي يجعلك تعملين … أنا في غنًى عنه … أنا الوحيد المكلَّف بالإنفاق على البيت … أنا سيد هذا البيت … ولا يمكن أن تعمل زوجتي … تقاليدنا لا تسمح بأن تعمل الزوجة … هذا عارٌ ما بعده عار.

– تقول هذا إن كنت سأعمل راقصةً أو في «كباريه»، أو في «بار» … ولكني سأقوم بعملٍ شريف … فقد عرضت عليَّ جارتي «أم سعيد» أن أعمل لدى ضابط من أقرباء الناس الذين تعمل عندهم، في أشد الحاجة إلى من تقوم بخدمة زوجته المريضة نظير مرتبٍ يُضاهي مرتبك، وربما أكثر منه … فما المانع من هذا العمل؟ لعل أحوالنا تتحسن، وملابس أولادنا تتجدَّد، ونعرف اللقمة المُغذية، بدلًا من الاقتصار على الفول والطعمية والمخلل.

– هل أفهم من هذا أنك تعيرينني؟

– حاشا لله يا حاج … فإذا عيرتك فإنما أعير نفسي … أنا زوجتك وصرت كشخصك، ما يعيبك يعيبني وما يُفرحك يفرحني وما يضرك يضرني … الله، جلت قدرته، أعطانا العقل لنتصرف به ولنرفع من مستوانا ودخلنا في هذه الأيام السود … لا تتعلق الأمور، الآن، بي أو بك وإنما تتعلق بأولادنا … من حقهم أن يعيشوا حياة أفضل، ويأكلوا لقمة أفضل.

– لا بأس، ولو أن عملك يشقُّ على نفسي … ولكن بشرط ألا يُسفر عن عملك إهمالك البيت وواجباتك نحوي ونحو الأولاد.

– اطمئن يا حاج … أنت والأولاد أولًا … ثم الشئون الأخرى بعد ذلك.

•••

العقيد مهران، رجلٌ مهيب المنظر، قوي الشكيمة، طويل القامة، ثاقب النظرات … كان عسكريًّا في كل شيءٍ، من قمة رأسه إلى أخمَص قدمه … إذا أصدر أمرًا فلا بد من تلبيته مهما يكن خطأً أو عسير التنفيذ … أصيبت زوجته بشللٍ ألزمها الفراش، بيد أن الذي يراها في رقدتها، يتصور أنه يرى ملاكًا طاهرًا هبط من السماء ليقبع على ذلك الفراش.

كانت فاطمة ملزمةً بخدمة زوجة ذلك العقيد طول فترة الصباح من الساعة الثامنة صباحًا، إلى أن يعود من عمله في الثالثة بعد الظهر. تعلَّقت حرم العقيد بفاطمة، إذ تفانت هذه في خدمتها وتلبية طلباتها والعمل على راحتها راحة تامة، فغمرتها بحبها وكرمها … فلا تعود فاطمة كل يوم إلى بيتها إلا وهي محمَّلة بأطيب المأكولات، مما سر الحاج مهدي، وشكر الله على الخير الجديد الذي هبط على بيته من السماء … فتغيرت أحوال الأسرة كلها تغيرًا كاملًا … جرى القرش في أيدي الصغار والكبار، وتبدلت الحال، وتحسن ملبس الصغار، وأصبحت زينب في ملابسها الجديدة، عروسًا بحقٍّ.

ألحَّت زوجة العقيد مهران على فاطمة بأن تجيئها يومًا بابنتها، وليكن يوم العطلة الأسبوعية المدرسية وهو يوم الجمعة. فلبَّت فاطمة طلبها … وما كاد العقيد يرى زينب حتى راح يقبلها، كما لو كانت ابنته، وبدا أن قلبه قد تعلَّق بهذه الصغيرة بدرجةٍ كبيرةٍ غريبةٍ، تحتاج إلى أكثر من تفسير … ربما لأنه لم ينجب أطفالًا.

صدرت أوامر العقيد مهران إلى فاطمة بأن تحضر ابنتها زينب معها، كل يوم جمعة، لتُمضي معه ذلك اليوم … وراح ذلك العقيد الكهل يتفنن في إرضاء زينب، فيمطرها بالهدايا الكثيرة التي تهواها مَن في مثل سنِّها من الفتيات الصغيرات، حتى كادت زينب تنسى أباها تمامًا، وتعتبر العقيد مهران أباها الحقيقي، الذي ملأ جيوبها بالنقود، ويديها بالأساور والخواتم، وعنقها بالعقود، وأذنيها بالأقراط، وبطنها بالكباب ولحوم الديوك الرومية وأشهى الحلويات والفاكهة.

تعلَّقت زينب بدورها، بمهران كمصدر لا ينضب معينه من الكرم والمحبة والحب … فتتركه يقبِّلها بنهم، كما يُقبِّل كل أب ابنته، ويتمادى في إظهار حبه الشديد لها، ولا يتورع عن النطق بعبارات الغزل، ثم أباح ليديه أن تتحسسا كل جزء من جسمها بلا استثناء، حتى الأجزاء الممنوع مجرد النظر إليها، وهي لا ترى في ذلك ما يعيب.

كان يوم الجمعة، هو اليوم الذي تبقى فيه زينب مع العقيد مهران في حجرة نومه، بينما تظل أمها في خدمة حرم العقيد في حجرة نومها، ولا تجد مبررًا واحدًا لتدخل حجرة نوم العقيد، إذ كانت أوامره تمنعها ذلك … كما أن فاطمة كانت تثق في أخلاق العقيد المتزوج بذلك الملاك الرابض في فراش المرض. وكانت حرم العقيد لا تكف عن شكرها، وتقبيل يدها كلما قامت بخدمتها أو مساعدتها على قضاء حاجتها.

استدعى العقيد مهران فاطمة، فجأة ودون إنذارٍ مسبقٍ، وطلب منها أن تكفَّ عن خدمة زوجته؛ إذ ما عادت بحاجة إلى هذه الخدمة، وأعطاها مائة جنيه مكافأة بسيطة عن مدة خدمتها القصيرة.

– وهل هانت عليك زينب؟

– زينب في قلبي يا ست فاطمة.

– حسبت أنك لا تستطيع أن تسلاها.

– هو ذلك، ولكن هذا لظروف زوجتي التي تستدعي أن أُسافر بها إلى الخارج، للعلاج.

– إذن، هناك ما يستدعي نقل السيدة حرمك المصون إلى الخارج للعلاج.

– بالضبط … وهذا هو سبب الاستغناء عن خدماتك، وعن زينب.

– وهل بوسعي أن أسأل على الهانم عندما تعودان من الخارج؟

– لا بأس … ولا تنزعجي، فقد يطول بقاؤنا بالخارج لأكثر من سنة … هكذا يقول الأطباء.

– مصحوبين بالسلامة يا مهران بك، والربُّ يشفي المدام ويعيدها إلينا بكامل الصحة والعافية.

انقطعت فاطمة وابنتها عن خدمة العقيد مهران وحرمه … وبعد شهرين من ذلك الوقت، ظهرت على زينب أعراض القيء الشديد.

– هل عندك برد شديد، يا كبدي؟

– هو ذلك يا أماه … خذيني للدكتور.

– ليست هناك حاجة إلى دكتور … اشربي مشروبًا دافئًا، ومصِّي ليمونة، واستكيني في الفراش.

زالت أعراض القيء والإغماء التي كانت تتعرض لها زينب.

– ألم أقل لك، إنها أعراض بردٍ شديد؟

– صدقت يا أماه … والحمد لله الآن … بعد أن تعذبت كثيرًا من هذا القيء الغريب … وكنت أحس بمزاجي غير معتدل، وليست لي قابلية للطعام.

– هل قصدك أنها أعراض تشبه أعراض الحمل؟

– كفانا الله الشر يا أماه … ما هذا الذي تقولين … أنا ما زلت عذراء لم يمسسني بشر.

•••

ما هي إلا بضعة أشهر، حتى بدأت زينب تحس بتحرك جسمٍ غريبٍ في أحشائها، وبدا بطنها كما لو قد أصابه بعض الانتفاخ والورم. أفضت زينب لأمها بما تحس به، وبما يتحرك داخل بطنها.

– هذه أوهام يا زينب … لا تضعيها في بالك.

– أحاول ذلك يا أمَّاه … ولكني أحس بشيءٍ غريبٍ يلعب في جوفي.

– إنك واهمةٌ يا زينب … قد تكون هذه غازات.

– لو كانت غازات لخرجت.

– هل أعدُّ لك كوبًا من اليانسون أو الكراوية يا زينب؟

هذه قد تُريح بطنك من الغازات.

•••

راح بطن زينب يَكبَر وينتفخ ويتكور حتى بدا ظاهرًا للعِيان لا يمكن إخفاؤه … وهنا أدركت الأم هول الكارثة … أدركت ما يمكن أن تكون قد تعرضت له ابنتها مع ذلك العقيد الشرير، فراحت تضيق الخناق على ابنتها وتستدرجها لتخبرها كيف استطاع أن يعتدي عليها، وكيف رضيت له بأن يهتك عرضها.

– أخبريني يا زينب، في صراحةٍ، بما فعله معك العقيد، فأنا أمك، كي نتدبر الأمر منعًا للفضيحة.

– ماذا تقصدين؟

– هل اعتدى على عفافك بالإكراه يا زينب، فلم تستطيعي مقاومته؟

– لم يحدث شيء من هذا القبيل يا أماه! ولا أتذكر أنه فعل شيئًا كهذا معي.

– أي قبيل تعنين يا فاجرة؟

– لا تتسرعي بالحكم عليَّ … تذكري أنك أنت التي أحضرتني إلى بيت العقيد مهران وكنت تتركينني معه بالساعات في حجرة نومه … وكلانا في خلوةٍ تامةٍ … كان يُقبِّلني بشراهةٍ ويحتضنني ويتحسس كل أعضاء جسمي … تذكرت الآن فقط.

– ماذا تذكرت؟

– ذات مرة … ونحن معًا يُقبلني ويتحسس جسمي … أعطاني شرابًا، ما إن تناولته، حتى رحت في غيبوبة ولم أُفق منه إلا بعد وقت لا أعرف إن كان طويلًا أو قصيرًا … وأنت مع زوجته في حجرة نومها.

– هذه هي الحقيقة والواقع … أعطاك شرابًا مخدرًا واعتدى عليك.

– وما العمل الآن يا أماه؟

– العمل عمل الله … لا بد من الانتقام من ذلك العقيد الدنيء المجرم.

– وأين هو العقيد الآن؟ ألم يقل لك إنه سيسافر مع زوجته ليعالجها بالخارج … ولن يعود قبل سنة؟

– كان لا بد له من أن يقول ذلك لإخفاء جريمته البشعة … لا بد من مقابلته … سأضربه بالحذاء على أمِّ رأسه، وسأجعل سنة أبيه سوداء … ما كل طير يُؤكل لحمه.

•••

ذهبت فاطمة إلى بيت العقيد مهران، فوجدت كل شيءٍ على ما هو عليه كما تركته … لم يسافر، ولم يتحرك … لم يكن غريبًا في البيت سوى الخادمة الجديدة، التي ترعى زوجته المشلولة.

– أنا فاطمة أم زينب يا مهران بك.

– وماذا أتى بك إلى هنا؟

– جاء بي الشديد القوي … ابنتي في خطرٍ … سمعتي وسمعة زوجي وسمعة أسرتي كلها في خطرٍ … باختصار … زينب حامل … ومنك يا مهران بك.

– هذا هراء وجنون!

– لا هراء ولا جنون … أنت خدَّرتها بالشراب المخدر، واعتديت عليها … صحح خطأك، وبسرعة … فالبنت على وشك الوضع … وحتى هذه اللحظة … لا يعرف أبوها هذه الحقيقة المرة.

– أيكفيك مائتا جنيه؟

– ولا أموال قارون تكفيني تعويضًا عن شرف ابنتي المسلوب، وشرفنا جميعًا … يجب أن تتزوجها على سنَّة الله ورسوله.

– وزوجتي المريضة؟

– هات لها ضرَّة تقوم على خدمتها … زينب تخدم زوجتك.

– وتحمل اسمي؟

– نعم، تحمل اسمك … هذا ما أردته أنت بفَعلتك الخسيسة … سوَّلت لك نفسك أن تعتدي على فتاةٍ صغيرة، وتسلبها أعزَّ ما تحتفظ به … هذا حقها أمام الله وأمام القانون وأمام المجتمع، أن تصبح زوجتك، وأم الطفل الذي في أحشائها منك أيها الذئب البشري.

– وماذا إن لم أتزوجها؟

– سأبلغ البوليس والنيابة، فيقبض عليك ويحكم عليك بالسجن لا محالة … فابنتي قاصرٌ، والقانون يُعاقب على الاعتداء على القاصر بالسجن لمُددٍ طويلة، فضلًا عن الفضيحة والعار، وربما ماتت فيها زوجتك الطيبة، ثم إن أهل زوجي صعايدة ولا يتركون ثأرهم … سيقتلونك أثناء المحاكمة، أو حتى بعد خروجك من السجن عند انقضاء مدة الحكم.

– إذن … فسأتزوج زينب.

– هذا هو عين العقل والحكمة لمن كان في مثل سنِّك ومركزك وظروفك العائلية.

– سأتزوج زينب يا ست فاطمة لأنني أحبها من كل قلبي … ويشرفني أن أعطيها كل حبِّي وحناني، وأترك لها بعض ما أعطاني الله من خيرات.

– وهكذا تزوج العقيد مهران زينب ابنة الحاج مهدي، الذي لم يعلم، ولن يعلم باعتداء العقيد على ابنته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤