ذكرى أقوى من الزمن
قابلتها بعد غياب خمس سنوات … بدت لي حزينةً مكتئبةً مكمودة الفؤاد … كأنها تحمل هموم الدنيا كلها فوق رأسها.
– أما زلتِ تتذكرينني يا أغلائيا؟
– وكيف يمكنني أن أنساكَ، وكان قلبي يهيم بحبكَ في يوم من الأيام؟
– ما أسعدني اليوم! إذ أسمع منكِ هذا التصريح، اليوم فقط.
– أي تصريحٍ؟
– قولكِ إن قلبكِ كان يَخفق بحبِّي، أنا وحدي، في يوم من الأيام.
– وهل كنتَ تنتظر منِّي تصريحًا بحبي إيَّاك، في ذلك الوقت؟
ألم نعش معًا، تحت سقفٍ واحدٍ، تارة في بيتكَ بالقاهرة، وطورًا في بيتي هنا، في أثينا؟
– حقًّا … كانت أيامًا حلوة، ليس بالإمكان نسيانها … كنتِ يا أغلائيا فيها جميلة فاتنة … وكان قلبي يهيم بحبكِ حبًّا دونه حب قيسٍ لليلى.
– ومن هما قيس وليلى؟
– هما عاشقان موَلَّهان في الأدب العربي، يقابلهما في الأدب الإنجليزي: روميو وجولييت.
– وهل كنت تراني أستحقُّ كل ذلك الحب الذي أحبه روميو لجولييت؟
– بل كنت أعتقد أن روميو لم يعرف كيف يحب جولييت، ولا قيسًا كيف يحب ليلى … وكان عليهما أن يتعلما منِّي كيف يحب الرجل معشوقته … أنسيتِ ما كنت أفعله معكِ مما يدل على أن حبك قد سيطر على عقلي ووجداني بدرجةٍ لم يشعر بها أحد قبلي؟
– حقًّا … كنت أراكَ تحدِّق فيَّ بنظرات الحب والهُيام في كل آنٍ وكل حين … وكنتَ تمسك يدي بقبضةٍ من حديدٍ، كأنك تخاف أن يخطفني منك شخصٌ ما … وهل نسيت أنتَ، ما كنت أفعله معك؟
– حاشا لله أن أنسى أحضان الحنان والعطف والقبلات الطويلة الدافئة، وكرمَكِ الحاتمي وأنا مقيمٌ في بيتك … كنت تجودين عليَّ بكل ما لديك في سخاءٍ تلقائيٍّ، غير مصطنَعٍ ولا متكلَّف أو مزيف.
– أحببتكَ حبًّا جمًّا … ولا تنس أنك طلبت يدي من أبي، فوافق من فوره.
– هذا صحيحٌ، ومع ذلك لم نتزوج … تُرى من كان السبب في عدم إتمام الزواج … هل هو أنا … أم أنتِ؟
– لا تُذكِّرني بعَجَلتي القذرة، التي أدفع الآن ثمنها غاليًا … خدعني ابن بلدي، وأوهمني بأن زواجي به فيه استقرارٌ وأمانٌ أكثر من الزواج بك كمصري يقيم في القاهرة.
– ليس هذا صحيحًا، إذ اتفقنا على أن نُمضي ستة شهور في اليونان وستة شهور أخرى في القاهرة.
– الواقع أن صديقي اليوناني ضحك عليَّ وخدعني.
– وهل كان صديقَكِ بعد أن عرَفتِني أم قبل أن تعرفيني؟
– بصراحة، كان صديقي وعشيقي قبل أن أعرفك … ولمَّا سوَّف وماطل في الزواج بي، اتجهت إليك بكل جوارحي … أتتذكر المرة الأولى التي التقيت بك فيها؟
– نعم، أتذكرها ولا أنساها. كانت في مكتبكِ بجامعة أثينا، ولا أنسى قدح القهوة الذي جئتِني به وكنت في شديد الحاجة إليه … وبعد لقائنا ذاك، أخذنا نتبادل الرسائل.
– ثم حضرت إليكَ في القاهرة، وكانت أول زيارة لي … قمت بها من أجلك، كي أراك وألتصق بك أكثر … وبذا أنسى حبيبي الأول.
– وعند مجيئكِ إلى القاهرة هرعت لاستقبالك، وصحبتكِ إلى بيتي، وقدَّمتك لأفراد أسرتي على أنك زوجتي المستقبلية … فأُعجبوا بك … وأسعدهم هذا الخبر أيَّما إسعاد، وأبدَوا رغبتهم في أن يتمَّ الزواج بعد وقتٍ قصيرٍ، قائلين: «خير البر عاجله.»
– هذا صحيحٌ، إذ أكرموني في بيوتهم، جميعًا، وعاملوني كأختٍ عزيزةٍ عليهم … لذلك عدت إلى أثينا وأنا مقتنعةٌ تمامًا بأنك ستكون زوج المستقبل، الذي أحظى معه بكل سعادةٍ … وفاتحت أبي بمشاعري فوافق على رغبتي في الزواج بك.
– لذا، عندما قدمتِني إليه وأنا أزور اليونان، في عزِّ الشتاء، بمدينة فولوس، أقام لي مأدبةً فخمة ضمَّت جميع إخوتك وزوجاتهم، كما ضمَّت كل أخواتك، فأدركت إذ ذاك أنني حُزت رضى أبيك وكل الحاضرين.
– حقيقي … وفعلًا، أرسل لك خطابًا حدَّد لك به موعد الزفاف بشهر أغسطس من نفس العام.
– وكان ردِّي عليه بالموافقة على هذا الموعد، وما كاد شهر أغسطس يُهِلُّ، حتى طرت إلى أثينا حاملًا الهدايا الثمينة لك ولجميع أفراد أسرتك، حتى خالكِ، إذ كثيرًا ما ركبنا سيارته في جولاتنا معًا باليونان.
– وماذا حدث بعد ذلك؟
– أتسألينني يا أغلائيا، ماذا حدث بعد ذلك، وأنت أدرى الناس به؟ حدث ما لم يكن في الحسبان، ويتندر به الركبان، في كل زمانٍ ومكان … حدث ما لم يحدث في التاريخ كله … حدث ما زلزل الأرض تحت قدميَّ، وشل عقلي وفكري فترة من الزمان لا أنساها ولن أنساها.
– الحق معك … إذ لم تجدني في انتظارك بمطار أثينا، بل وجدت خالي.
– فرُحْت أسأله عنك، وأنا كالمجنون، وعن سبب تخلفك … فلزم الصمت كأنه لم يسمع صياحي.
– وماذا بعد ذلك؟
– بعد ذلك، حاول الكلام فتلعثم وتلجلج، ولم يدر ماذا يقول … وأخيرًا قال، والخزي بادٍ على وجهه: «أغلائيا … سافرت إلى سويسرا.» فقلت له: هل هي رحلة عملٍ فجائية؟ قال: «لا … بل سافرت … لقضاء شهر العسل مع زوجها اليوناني.»
– هذا صحيحٌ … كنت جبانةً، إذ كان يجب أن أنتظرك وأخبرك بتلك الحقيقة حتى لا تُصدم بهذه الصورة التي تحدثت عنها الآن.
– بل حسنًا فعلتِ … إذ لو حدث وانتظرتِني وأخبرتِني بذلك … فربما حدث ما لم تُحمد عقباه … ربما خنقتك كي لا يتمتع بك غيري … إذ كانت الصدمة في غاية القسوة، ودارت الدنيا أمام عيني، وصار عاليها في واطيها، وواطيها في عاليها … فتركت خالك وحملت حقائبي محاولًا الهروب من المطار، ورفضت أن أركب سيارة خالك، وأنا أبصق في وجهه … هذا ما كان بوسعي أن أفعله في ذلك الموقف المخزي الغريب.
– وبعد ذلك … ماذا فعلت؟
– أخذت تاكسيًّا حملني إلى كالاماكي حيث ألقيت حقائبي في أحد الفنادق، وخرجت إلى الطريق قبل أن أُصاب بالهلوسة والجنون … وبدون وعيٍ، وجدت نفسي أجلس في هذا المقعد الذي نحن فيه الآن … وأصبحت أجد في هذا المطعم كل سعادتي.
– هل تتذكر أنني أنا التي عرَّفتك بهذا المطعم؟
– نعم، أتذكر ذلك، ولهذا أحببته، وصرت من زبائنه منذ عشرين سنة … أجيء إليه شهرًا في كل عامٍ ولي فيه مائدةٌ مختارةٌ لا يجلس إليها غيري … وقد أحبني صاحبه كل الحب، ويُكرمني ويعتبرني أخًا له … وعرَّفني بزوجته وأولاده، وكلهم أصدقائي، أقدم لهم الهدايا المصرية، ويقدمون هم لي هدايا يونانية.
– عندهم حقٌّ … فأنت إنسانٌ تُحَبُّ … ومن يعرفك، لا يمكن أن ينساك.
– ولكنك نسِيتِني.
– من قال ذلك؟ أنت في بالي، وفي عقلي وفكري، بل في أعماق قلبي … لا تغيب عن مخيلتي ليل نهار، حتى هذه اللحظة، التي أراد الله القدير أن أُقابلك فيها، كي أبوح لك بأن حبك لم يمت في قلبي … وإنما هو باقٍ … وخطاباتك التي تفيض بعبارات الشوق والحب المستعِر، ما زالت في حوزتي أخاف عليها الضياع لأنها عزيزةٌ عليَّ … وكم من مرة كنت فيها وحيدةً في مخدعي، فأُخرج أحد تلك الخطابات وأقرؤه، فأسرح في عالمٍ آخر، وأتصوَّر أنني بين ذراعيك تضمني وتعصرني … أما هداياك، فما فتِئْت أستعملها … حتى وأنا مع زوجي … ولا يجرؤ هو على أن يقول لي: «من أين لكِ هذا؟» وإلا انطلقَت الجحيم من عِقالها، وسمع ما لم يسمعه طول حياته … وهو يعلم هذا تمامًا.
– شكرًا لك على هذا الكلام الحلو … إن فيه عزاء لي بعض الشيء … وعلى فكرة … هل أنجبت أطفالًا يا أغلائيا؟
– للأسف، لم أنجب … وهذا من أسباب تعاستي في حياتي الزوجية مع هذا الزوج … فتَر حبه لي … ومات حبي له … وما عادت لي إلا الذكريات القديمة التي كانت لي معك … إنها أقوى من أن يعفو عليها الزمن أو ينساها.