من مثلك يا منى؟
وأخيرًا عادت مُنى، بعد أن اختفت من بيت أسرتها مدة ستة شهور كاملةٍ … ظلت الأم طوالها تبحث عن ابنتها التي اختفت تمامًا، كأن الأرض ابتلعتها … لم تعثر لها على أثرٍ … ولم يسبق اختفاءها أية بوادر تدلُّ على سبب ذلك، وربما كانت خيطًا يوصل إلى مكانها.
سألت الأم جميع الأقارب، ولكن ما من أحد منهم رآها منذ مدة، ولم تزرهم هي بدورها كما كانت تفعل بين آنٍ وآخر.
بحثَتْ عنها لدى كل صديقاتها، غير أنها لم تصل إلى نتيجة … وأخيرًا ذهبت إلى صديقتها الحميمة سامية لعلها تعرف شيئًا عن سر اختفاء منى … إلا أن سامية لم تعلم باختفاء منى إلا من والدتها … ولكنها أطلعت أم منى على بعض أسرار ابنتها، فقالت ضمن ما قالت: منى تحب شابًّا اسمه عمرو، حبًّا قد يصل إلى العبادة … كانت تلتقي به كثيرًا ويسيران معًا على كورنيش النيل، لساعاتٍ طويلةٍ سعيدة … ربما سافرت معه.
– وأين يمكنني العثور على عمرو هذا يا سامية؟
– كل الذي أعلمه عنه، أنه يعمل في الأردن، وراح يُغري منى على أن تسافر معه إلى هناك، حيث يتزوجان، وتعمل معه بمرتب محترم.
– وهل وافقت منى على السفر مع عمرو هذا؟
– طبعًا، وافقت … لدرجة أنها كانت تبحث عمن يُقرضها بعض النقود لشراء تذكرة السفر، على أن تُرسلها إليه بمجرد أن تعمل في الأردن.
– وهل أنت متأكدةٌ مما تقولين يا سامية؟
– متأكدةٌ جدًّا يا طانط. فأنا صديقتها، وموضع ثقتها وأسرارها.
– إذا كان الأمر كما تقولين، وعند جهينة الخبر اليقين، فلا بد من البحث عن هذا العمرو.
– تبعًا لما أخبرتني به منى: يسكن عمرو في شارع الملك فيصل بالهرم.
– ألا تعرفين رقم المنزل؟
– لم تخبرني به.
طفقت الأم تبحث عن عمرو بشارع الملك فيصل، متنقلة من بيت إلى بيت، حتى اهتدت إليه، بعد لأي.
– أين منى يا عمرو؟
– من تكون منى هذه؟ ومن سيادتك أولًا؟
– أنا أم منى، التي استطعت أن تُحبب إليها السفر معك إلى الأردن.
– ها أنا ذا واقف أمامك يا سيدتي … فكيف تكون ابنتك قد سافرت معي؟
– وما قولك في أن هناك إشاعةً قوية، يرددها الكثيرون، بأنك على علاقة بابنتي، وأنك السبب في اختفائها، وتعرف مكانها؟
– هل اختفت منى؟
– لا تتظاهر بالسذاجة … أولًا، تقول من هي منى، كأنك لا تعرفها … والآن تسأل هل اختفت … لا بد أن لك يدًا في اختفائها … إن لم تخبرني أين أخفيت ابنتي، فسأخطر الشرطة بكل ما علمت.
– من حقك أن تفعلي ذلك يا سيدتي … ولكن ماذا تكون الحال إن اكتشفت الشرطة أنني بريءٌ من هذا الاتهام؟ إنني مثلك، لا أعلم أي شيءٍ عن منى.
– هل تنكر أنك تحب ابنتي منى؟
– تصحيحًا لكلامك، ابنتك هي التي تحبني. وقد حاولت، في أحد الأيام، أن تُلقي بنفسها في النيل إن لم أتزوجها … ولكنني أرفض أسلوب الضغط هذا، ولذلك ابتعدت عنها، خشية أن تفعل شيئًا بنفسها وتتهمني كي تجبرني على الزواج بها.
– إذن، فهناك احتمال أن تكون ابنتي قد انتحرت، بطريقة ما.
– جائز، والله أعلم!
– في هذه الحالة، تكون أنت السبب في انتحارها … سأخرب بيتك يا عمرو.
– أُقسم لك يا سيدتي على أنني لا أعلم شيئًا عن اختفاء منى، ولا عمَّا حدث لها … ولكن، إذا كانت قد انتحرت، فلا بد أن يكون البوليس قد علم بانتحارها، وأرسل إليك لتعرفي مصيرها وتدفنيها بيديك.
– هل أفهم من هذا أن منى ما زالت على قيد الحياة، وأنها لم تمت؟
– هو ذلك يا أمَّاه … وثقي تمامًا بأنني أرثي لحالك، وأعدك ببذل كل مساعدة أستطيعها في البحث عن منى … إذ يعزُّ علي أن أسمع أنها هربت من البيت دون أن تعرفوا مكانها … وأنا أعلم كيف يكون قلب الأم في مثل هذه الحال.
– أهذا وعد شرفٍ منك يا ولدي؟ أنا بحاجةٍ إلى كل مساعدة.
– هذا وعد شرفٍ مني يا والدتي … إذ عندي علم بالأماكن التي تعمل بها … أو على الأصح، التي كانت تعمل بها، والتي كانت السبب الرئيسي في غضبي منها، ونبذي إيَّاها.
– في أية أعمال كانت منى تعمل يا عمرو؟
– كانت تعمل في كباريهات شارع الهرم، ويستوجب عملها أن تبقى هناك طول الليل، حتى طلوع الفجر، في حوالي الساعة الرابعة صباحًا.
– يا خبر أسود! ابنتي تعمل في كباريهات شارع الهرم!
– هذا هو ما حاولت أن أُثنيها عنه، إلا أنها أصرَّت على هذا العمل الليلي.
– وهل تعرف اسم الكباريه الذي تعمل به منى؟
– لم أحاول أن أسالها عن اسمه. ولكن، ما أسهل العثور عليها في كباريهات شارع الهرم.
– هل تعدني بالبحث عنها يا ولدي عمرو؟
– سأبذل قصارى جهدي يا سيدتي.
– بارك الله فيك، وأرجو أن تعلمني بمجرد معرفة اسم الكباريه الذي تعمل به هذه الملعونة.
– إن شاء الله … اطمئني يا أمي، واعتبريني ذراعك اليمين في البحث عن منى.
– شكرًا جزيلًا يا ولدي … شكرًا يا عمرو … كلك مرؤة وشجاعة وشهامة … ليتها تزوجتك، ولم يحدث هذا الذي حدث.
– كل شيءٍ قسمةٌ ونصيب، والرب يعمل ما فيه الخير للجميع.
انصرفت والدة منى، وتنفَّس عمرو الصُّعَداء إذ وصلت المسألة إلى هذا الحد، ولم تتعقد الأمور فيصل الخبر إلى والد عمرو، فيثور إذ لا يروقه أن يتورَّط ابنه في موضوعٍ شائكٍ كهذا، مع فتاةٍ ساقطةٍ مثل منى، لا أمان لها ولا تتورع عن خَلق المشاكل، إذ كما يقولون: لا تستبعد الرفس على البغل النجس. ومما يدل على جرأتها الشريرة، أنه هان عليها أن تختفي من أمها، غير عابئةٍ بدموعها وحيرتها وتعبها في البحث عنها في كل مكان.
عنَّ لعمرو أن يُطلَّ من شرفة منزله بشارع الملك فيصل … وكأن الله، جلَّ تدبيره، قد أراد له أن يرى ما لا ترتاح إليه نفسه … فقد خُيِّل إليه أنه شاهد منى تنزل من سيارة فيات ١٣١، في ثيابٍ فاخرةٍ، وحلي لامعة، ومجوهرات ثمينة برَّاقة، ودخلت العمارة المجاورة لبيته، بعد أن وقف البواب وضرب لها تعظيم سلام.
نزل عمرو بسرعة وتقدَّم من ذلك البواب، وسأله عن صاحبة هذه السيارة، قال: هي مستأجرةٌ الشقة المفروشة عندنا، تدفع فيها خمسمائة جنيه شهريًّا، ويبدو أنها تعمل راقصة في ملهًى ليلي بشارع الهرم.
– وكيف عرَفت ذلك؟
– زائروها كثيرون، وكلهم من العرب … يأتون بها في سياراتهم الفارهة، قرب الصباح، ولا يخرجون إلا ظهرًا … وهذا يحدث كل يوم تقريبًا.
– ومن الذي يدفع إيجار هذه الشقة المفروشة؟
– مليونير عربي، يقول البعض إنه سعودي، ويقول آخرون إنه كويتي، ويقول غيرهم إنه أردنيٌّ … على العموم، هو عربيٌّ، ما في ذلك شك.
قرر عمرو أن يُقابل منى وجهًا لوجه … فتربَّص لها أمام المنزل المجاور لمنزله.
– أهلًا، منى!
– نعم يا سي عمرو … ماذا تريد منِّي؟
– رأيتكِ من شرفتي، فأوحشتِني.
– أوحشتك؟ منذ متى هذه العواطف، وقد كنت من قبلُ باردًا كلوح ثلجٍ.
– ولكنك أثرتِني اليوم.
– بأية مناسبة؟
– بمناسبة الحب الذي بيننا.
– كان زمان وجبر … كنت ساذجة وعبيطة … لا شيء الآن اسمه حب.
– أنا لا أصدق أُذني، الآن! … منى تقول هذا الكلام؟! … ليس هذا معقولا بالمرَّة!
– ولم لا؟ الحب في الروايات، وفي الأفلام … الحب كان موضة قديمة وعفا عليه الدهر … خليك اليوم في الواقع.
– ولماذا اخترتِ أن تقيمي في البيت المجاور لبيتي تمامًا؟
– عسى أن تراني في حالتي هذه، وترى ما أنا فيه من عزٍّ وفخفخة … أنا الآن أشتريك، وأشتري عشرة من أمثالك يا صعلوك … كنت تظن نفسك من درجةٍ أعلى من درجتي.
– وما زلت كذلك.
– هذا هو الوهم، الذي يُسعدني أن تعيش فيه أبد الدهر … تظن نفسك ملِكًا بقروشك … أما أنا، فعندي بدل القرش، ملايين.
– زادك الله من نعمه … وهل أنت سعيدةٌ بهذه الملايين؟
– كل السعادة … المغفَّلون لا حصر لهم … إنهم يدفعون الألوف لي، ثمنًا للابتسامة والنظرة والتحية … دنيا حلوة … ليالي الأنس، يا بطل.
– وأين أنا الآن في قلبك؟
– في قلبي؟ «فشر». أنت في نظري ملك الشحاذين … لا تستحق منِّي إلا نظرة إشفاق وإحسان … وداعًا … وحذار أن تعترض طريقي بعد ذلك.
•••
ذات يوم، جلست الأم وقد أسندت رأسها على راحتيها حزينةً، تفكر في ابنتها منى، وأين يمكن أن تكون قد اختفت … وإذا كانت تعمل في كباريهات شارع الهرم كما يقول عمرو، ففي أي كباريه تعمل … وما طبيعة عملها في ذلك الكباريه، وأين تُقيم، ومع من تُقيم … وبينما هي في هواجسها هذه، إذ بجرس الباب يدقُّ، فأسرعت سعدية أخت منى تفتح الباب … وما إن فتحته حتى أطلقت صرخة فرحٍ مدوِّية جلجلت جو البيت، وجعلت الأم ترفع رأسها عن يديها وتقول: من القادم يا سعدية؟
– أختي منى يا أمَّاه!
– منى … منى! شكرًا لك يا رب، يا منعم!
زغردت الأم وقبَّلت ابنتها منى التي طال غيابها ستة شهور كاملة ثم أخذت تنظر إلى منى من فوق إلى تحت، ومن تحت إلى فوق، ولا تصدق عينيها … ما هذه الثياب الفاخرة! وما هذه الحلي التي تَصِلُّ كلما رفعت ساعدها لتسلِّم على أمها وعلى شقيقتها! وما هذه المجوهرات كلها … سبحان المعطي … لم يعطها الله بيديه الاثنتين، وإنما كما يقول الريفيون: «فتح الزكيبة فوق رأسها!»
– أين كنت يا ابنتي؟
– كنت أعمل، وأعمل ليل نهار.
– وهل نسيت أن لك أمًّا؟
– لم أنسَ … وإلا لما حضرت إليك اليوم … خذي يا أماه.
– ما هذا؟
– مبلغ صغير؛ خمسمائة جنيه! (الأم تزغرد) وهذه مائة جنية لأختي سعدية ومائة جنيه أخرى لأختي نادية (الأم تزغرد) … والآن، وداعًا يا أماه! عندي شغل … لا تنشغلي عليَّ، ولسوف أمرُّ عليك من آن إلى آخر وأعطيك ما يجود به عليَّ الرحمن.
– ولمن السيارة التي سمعت صوتها تقف أمام بابنا؟
– إنها سيارتي، ومن عرق جبيني.
– (الأم تطلُّ من الشباك وتنظر إلى السيارة) إنها سيارة لوكس يا منى! … إلهي يفتحها في وجهك يا أم السعد، يا منى يا بنت الأكابر، يا أصيلة، يا شريفة … أثمر فيك العيش والملح والتربية … ربنا يطيل في عمرك يا منى … اذهبي إلى عملك مصحوبة بسلامة الله … ولا تفرطي في عملك هذا، يبدو أن خيره كثير … فليأتك الخير من الباب الواسع.