العروس للعريس، والجري للمتاعيس
أحب زوجته الإيطالية كل الحب، إذ كانت رائعة الجمال الإيطالي الصميم، ذات عينين خضراوين واسعتين وفم ياقوتي صغير كالخاتم، ولها جاذبٌ حلو تشتهر به الإيطاليات. وفوق ذلك كانت حميدة الأخلاق، تحب الخير للناس كما لو كان لنفسها. وهي أستاذة ماهرةٌ في تدبير المنزل، تراعي جانب الاقتصاد في النفقات، ولا ترغب في إرهاق مالية زوجها رغم ثرائه العريض … تأكل الأطعمة الشعبية المصرية، كالفول المدمَّس، والفول النابت، والطعمية، والبِصارة، والعدَس وما أشبه، دون أن تتذمَّر أو تتأفف أو تشكو.
تعلمت فلورا اللغة العربية، تتكلَّمها بلهجةٍ ولكنة إيطاليتين تُضفِيان على كلامها كثيرًا من الجمال والعذوبة … يروق من يستمع إليها أن يسمع نبرات صوتها الجميل … فأحبها كل جيرانها والمتصلون بها وبزوجها الأستاذ مجدي صاحب مصانع الكراسي المعدنية المشهور في داخل البلاد وخارجها.
أنجبت فلورا ولدين، حرصت على تربيتهما تربيةً صالحة، ولقَّنتهما اللغة الإيطالية بغير عناءٍ فهي الأم، والمربية الأولى، والمدرسة الأولى. وربما كانت أُولَيات الكلمات التي تعلمها ولداها إيطالية. مضت حياة الأستاذ مجدي وفلورا رتيبة إلى حدٍّ ما، لا يكدر صفوها، في بعض الأحيان، سوى القليل النادر من المنغِّصات والاختلافات في معالجة بعض الأوضاع والأمور … ومع ذلك لم يفكر مجدي أبدًا في الانفصال عن زوجته فلورا الإيطالية، إذ تزوجها نتيجة حبٍّ عنيفٍ قوي.
كانت فلورا تَهوَى السهرات بطبيعتها، والطبع يغلب التطبُّع، وكثيرًا ما أقامت الحفلات الليلية داخل منزلها، تدعو إليها أصدقاءها من الجيران، كما يدعو إليها الأستاذ مجدي المقرَّبين إليه من موظفي مصانعه.
ذات ليلةٍ، لاحظ مجدي زوجته، في إحدى هذه الحفلات، تتحدث مع أحد المدعوِّين، وطال الحديث بينهما … فلعب الفأر في «عبِّه» وارتاب في وجود علاقة آثمة بينها وبين من كانت تتحدث معه، وزاد في ارتيابه أن ذلك الشخص كان كثير التردد على بيته … فكاد يُجَن، وفعلًا فقد صوابه، فترك لزوجته البيت، وأخذ ولديه، وأقام في فندقٍ بحي الزمالك، بعيدًا عن بيته وعن زوجته.
ما هي إلا أيام قلائل حتى أدرك مجدي خطأه، وخطأ تصرفه، فندم على ما بدر منه، وعاد إلى بيته، وعوَّل على ألا يشك مرة أخرى في سلوك زوجته الوفية.
بدأ الجيران يسمعون صوت صياح فلورا وهي تتناقش مع مجدي، كأن الاستقرار لم يعد إلى ما كان عليه … يُسمَع صوتها بالنهار، وأحيانًا في أواخر الليل. وكانت دائمًا في حالة هِياجٍ … وبعد ذلك ببضعة أيام، ساد الهدوء البيت … مرضت فلورا مرضًا بسيطًا، ثم لفظت روحها الطاهرة إلى باريها.
تناثرت الأقاويل والشائعات حول موت فلورا، إذ هناك أناس لا هَمَّ لهم سوى اغتياب غيرهم وانتهاز أيَّة فرصة لإشباع نفوسهم من تلك الهواية القذرة؛ فمِن قائل إن فلورا لم تمت مِيتة ربها، بل لزوجها يد في موتها ليتخلص منها، بأن أثار أعصابها … ومِن قائل: كان يسومها العذاب ألوانًا فحرمها نعمة النوم ليلًا، وهكذا كان الجيران يسمعون أصوات صياحها ليلًا حتى قبيل الفجر، كما سلبها راحة البال بالنهار … ومن قائل إن لمجدي معشوقةً مصريةً كان يُحضرها إلى البيت أمام بصر وسمع زوجته، فنهشت الغيرة قلب الزوجة، فماتت … وهكذا.
ولكن الله وحده، علَّام الغيوب، هو الذي يعلم كيف ماتت فلورا وهي ما زالت في الأربعينيات من عمرها … وقد تخرَّج ولداها في الجامعة، وتسلموا وظائفهم بنجاحٍ يطيل عمرها أربعين سنة أخرى.
ما هي إلا بضعة أشهر حتى دبَّت في شقة فلورا حركةٌ غريبة … عمَّال يعملون على قدمٍ وساقٍ في تركيب أجهزة تكييف الهواء في كل حجرةٍ وبهوٍ ورَدهة وحمام ومطبخ، بينما يَطلي آخرون الحوائط بألوانٍ جديدةٍ زاهية … وغيرهم ينزعون الأرضيات ويضعون أرضيات جديدة بالموكيت.
سُئلت الخادمة عن سبب هذا النشاط الغريب في شقة الأستاذ مجدي، فقالت: وما وجه الغرابة في هذا؟ يقوم سيدي بعمل هذه الإصلاحات والتجديدات كي تبدو الشقة جديدة في كل شيءٍ، ولا يظهر فيها الطابع السابق، وبذا ينسى آلامه التي سبَّبها موت مدام فلورا … وخصوصًا وأن ولديه سيتزوجان قريبًا، ويتركانه وحده في هذه الشقة الواسعة.
– ولِم لم يعمل هذه التحسينات إلا بعد وفاة زوجته؟ كان بوسعه أن يفرحها بها وهي حيَّةٌ فقد كان يحبها حبًّا لا يختلف فيه اثنان.
– الحقيقة أن مجدي بك سيتزوج فتاةً مصريةً صغيرة السن، تعمل في قسم الإدارة بمصانعه … فاشترطت عليه طلاء الشقة كلها باللون الوردي الزاهي، وعمل كل تلك التركيبات الجديدة. وهو لا يمكنه أن يرفض لها طلبًا … ومن فرط دلالها طلبت كل أجهزة تكييف الهواء هذه، وأجهزة المطبخ كلها بالكهرباء لقشر البطاطس والخضراوات، وقطعها شرائح أو مكعبات، وشَيِّ الدجاج آليًّا بجهاز يقطع التيار الكهربي عندما يتم النُّضج، وغير ذلك من الآلات الحديثة … كما اشترطت عليه أن يكون الحمامان والمطبخان بالسيراميك. تكلفت هذه التحسينات، حتى الآن، ما يقرب من مائة ألف جنيه … مع أن المرحومة مدام فلورا كانت ترضى بالقليل كي لا ترهقه بطلباتها … وكما يقول المثل: «حوشي يا خايبة للغايبة.»
– مسكين مجدي بك … مصاريف باهظة.
– نعم، وما خفي كان أعظم … المجوهرات والحلي والملابس والأثاث، وغير ذلك … بالشقة ثماني حجرات ومطبخان وحمامان، إذ كانت شقتين وأُزيل الفاصل بينهما، غير أن البابين ما زالا موجودين.
– وهل نسي حبه فلورا، ولمَّا يَمضِ على وفاتها سوى بضعة أشهر تُعَد على أصابع يدٍ واحدة.
– لا يريد مجدي بك أن يعاني من الفراغ، لا سيما بعد زواج ولديه الذي سيتم في حفل زفافٍ واحدٍ، في ليلةٍ واحدةٍ، بأكبر فنادق القاهرة، بعد شهر من إنجاز كل الإصلاحات والتحسينات في هذه الشقة.
راح بعض الجيران يضربون كفًّا على أُخرى، وهم في دهشةٍ مما يرون ويسمعون، ويترحَّمون على فلورا، التي كانت ترضى بأرخص الأطعمة، رغم ما لدى زوجها من أموالٍ طائلةٍ لم تظهر على حقيقتها إلا بعد وفاتها.
مضى العمَّال في عملهم يشتغلون ليل نهار حتى كادوا ينجزون كل عملهم ويفرغون منه … واقترب ميعاد زواج الولدين.
وهكذا أوشك حلم مجدي يتحقق بالزواج من الفتاة الفاتنة التي هي أصغر سنًّا من أصغر ولديه.
لم تسمح المقادير بأن يَغمِط مجدي حقَّ فلورا في حياتها، ويتمتع بعد موتها … فحدث ما لم يكن في الحسبان. المهندس سعيد يعمل بمصانع مجدي بك، ويهيم بحب نفس هذه الفتاة التي سيتزوجها مجدي، وقد خطبها رسميًّا، إلا أنها فسخت الخطوبة، لتعيش في تلك الفخفخة وذلك الثراء … تتمرغ فوق الأموال بغير حسابٍ … فحزَّ في نفس سعيد أن تنبذه خطيبته بهذه الطريقة المزرية … فصمم على قتل مجدي … وفعلًا، أطلق عليه سيلًا من الرصاص أراده في لحظة.
وهكذا، ساد صمتٌ رهيبٌ على شقة مجدي، وأُوصِدت جميع نوافذها، وانعدمت الحياة بداخلها، وأبى الولدان العودة إليها، إذ لم يرضيا عن تصرفات أبيهما، وموقفه الشاذ من أمهما … وعَدَلَا عن فكرة الزواج التي أجبرهما عليها أبوهما كي تخلو له الشقة مع عروسه الجديدة، فقد كان من شروطها أن تخلو لها الشقة ويتزوج الولدان ويقيما في مكانٍ ما غير شقة أبيهما … وهكذا … «إن ربك لبالمرصاد».