البادي أظلم

تفترق سفن الحياة وتلتقي في بحر العمر المتلاطم الأمواج، والذي تهبُّ فوقه العواصف العاتية كما يمرُّ عليه النسيم العليل، والحب كفيل بألَّا يطيل الفُرقة بين الشتيتين.

كانت «نيرمين»، يوم عرفتها، فتاة في ميعة الصبا، ونضرة الشباب … تسطع القوة والبراءة بين عينيها الواسعتين الزرقاوين، وتفيضان من قلبها البكر … ويتجلَّى وجهها فاتنًا رائع الجمال، من خلال النقاب. وهي ذات شعرٍ سَبط أسود فاحمٍ تلقيه مرسلًا طويلًا فوق ظهرها الناصع البياض، وابتسامةٍ ساحرةٍ حلوة، وأنفاس معطرة … وصوت عذب كالنغم الحالم … أما نظراتها فتُرسل السهام تخترق القلوب وتستقر في أعماقها … وقَوامها ممشوقٌ مستقيمٌ كعود الزان، ليس بالطويل ولا بالقصير.

كانت نيرمين بحق، غادة فائقة الحسن والملاحة، لذا ملكت على قلبي وجناني، فأحببتها حبًّا لا مزيد عليه، سحرني وجعلني أسير هواها … فإذا ما التقيت بها احمر وجهي خجلًا من ذلك الجمال الفتَّان الجذاب، وزاد خفقان قلبي … فأظل أنظر إليها بالساعات، نظرة الهائم الولهان، ولسان حالي يقول: «أيتها المالكة القلوب، سبحان من خلق فسوَّى، يا ساحرة الألباب، ومحيِّرة العقول بحسنك الباهر. ما أشد ما أسرْتِني بمحيَّاك اللطيف، وجمالك الأخاذ البديع الذي دونه جمال البدر في الليلة الرابعة عشرة. أنت وسْط أترابك ولِداتك، كالشمس وسْط الكواكب، إذا طلعَتْ لم يَبدُ منهن كوكب.»

لم يدر بخَلَدي أن نيرمين هذه ستكون في يومٍ ما، مصدرًا للمتاعب والأوصاب وانشغال البال، وأنني سأُحرَم رؤية خديها الأسِيلَين وخصرها النحيل وهي تتمايل تمايُل الأغصان، وتتيه تِيه الغيد الحسان … فهي بحقٍّ غادة هيفاء، فريدة المثال، لها وجه يُخجل الأقمار … وترتدي أفخم الثياب التي تزينها شتى الحلي الثمينة والمجوهرات الغالية … لكن شاءت الأقدار أن ترمي بي هذا المرمى، فحُرِمْت طلعة محيَّاها، ووداعة أساريرها، وحديثها العذب الطَّلِي.

غابت نيرمين عن ناظري، فجرحت قلبي جرحًا غائرًا لا يندمل، فأحنيت رأسي للقدر القاسي مكرهًا … والله يعلم أن حبِّي نيرمين هذه حب عنيف تحكَّم في نفسي، وملأ عليَّ يقظتي وأحلامي. ورغم هذه المحنة بقِيتُ أُداعب الأمل الأوْهَى من خيوط نسيج العنكبوت، ومن أنفاس المحتضَر.

سلخت من عمر الليل وقتًا طويلًا أقضيه في الطرقات هائمًا على غير هدى، يطاردني طيفها.

ظلت نيرمين، التي اختفت من حياتي، هي الأمل المرتقب … غير أنه تناهى إلى سمعي أنها تزوجت وسافرت مع زوجها السفير إلى فرنسا، فانهارت أعصابي، وخَبَتْ شجاعتي، وضاقت عيناي وغارتا في مَحجِرَيهما، وصارت الدنيا في وجهي أضيق من سَم الخِياط، من هول ما أقدمتْ عليه هذه الفتاة المستهترة العاتية، التي أوتيت من الجرأة والدهاء وسعة الحيلة، ما لم يملكه بشر وما يعجز عنه إبليس نفسه.

غدوت عندئذ كعود الثقاب المبتل، لا جدوى فيه، وانهزمْتُ تمامًا، وتركت العلاج للأيام من ذلك المرض الذي كلفني أعصابي ومنامي وراحتي وفرحي وهنائي … فأغرقت نفسي في العمل، ليل نهار كوسيلةٍ فعَّالة لتفادي هول الصدمة التي فاجأتني بها الأقدار، ونزل علي بها الزمن الغادر، ولم أعلم أنه استلَّ سيفه البتَّار وسلطه على رقبتي.

وهكذا غدت نيرمين، على مرِّ الأيام، ذكرى لم يبق منها في حياتي سوى اسمها ليس غير.

•••

حقًّا، ما أسرع تعاقب الساعات والأيام، وتوالي الشهور والأعوام … فتغيرت الحال والأوضاع، ووهن العظم منِّي واشتعل الرأس شيبًا، وتغضَّن الوجه، وذبلت العينان، وارتعشت اليدان والأصابع.

دقَّ جرس التليفون بعد أن مر من الليل أكثره، وظل يدق بشدةٍ، فانزعجت وساورتني الهواجس، وكان النوم يداعب أجفاني … ومع ذلك، أمسكت بسماعة التليفون بيدٍ ترتجف، خشية أن أسمع ما لا يسر من الأنباء.

– ألو.

– أنائم أنت؟

– طبعًا نائم، هل تظنينني أرقص في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

– الساعة الآن الرابعة فقط بعد منتصف الليل … فهل تنام قبل ذلك؟

– في الساعة الرابعة، يا سيدتي، يشقُّ الفجر بخنجره الفضي حجاب الظلام، معلنًا بزوغ يومٍ جديد … وعلى أية حالٍ، أنا رجلٌ صاحب أعمال، لا بد أن أكون متيقظًا تمامًا في أدائها … من أنتِ؟

– أنا من كنت يومًا كل شيءٍ في حياتك، وصرت الآن مجرد اسم … أنا نيرمين.

– هذه مفاجأةٌ جد قاسية – أتتذكرينني اليوم فقط؟

– وهل مضت مدة طويلة؟

– مضى ما يقرب من ثلاثين عامًا يا حلوة!

– أليس هذا وفاء مني أن أطلبك بعد كل هذه السنين؟

– كلا … ليس هذا وفاء، بل لأمرٍ ما تذكرتِني … وماذا تريدين مني يا نيرمين؟

– أريد أن أطمئن عليك، وعلى أحوالك وصحتك.

– في هذه الساعة الغريبة يا نيرمين؟

– أنا شخصيًّا لا أنام إلا بالنهار.

– هل حضرتك راقصة؟

– لقد تغيرتُ يا صديقي العزيز.

– ماذا تقصدين؟

– أنا موتورة، ويجب أن أنتقم.

– ممن يا أختاه؟

– من الرجل الذي تزوجته ضد رغبتي، إذ أعماني بمعسول كلامه، وخطفني من القاهرة إلى باريس … أبعدني عن أمي وأبي وحبيبي.

– وهل كان لك حبيب؟

– كنتَ حبيبي … وما زلتَ حبيبي.

– هذا هو الكلام المعسول الذي لا يكلف المرء شيئًا، وإن قشعر القلوب، بما يقوله اللسان الكذوب … ومن أدراكِ أنني ما زلت أحبكِ أو حتى أتذكرك؟

– أنا واثقةٌ من كلامي، ومن عمق الحب الذي كان بيننا.

– الحب الذي دُستِه تحت قدميك يا نيرمين، تتكلمين عنه الآن، وقد عفا عليه الدهر، وأصبح أثرًا بعد عَين … إنك تنفخين في «قربة» مقطوعة.

– سأنفخ حتى تشتعل النار من جديدٍ … فحبك إيَّاي موجود، ولكنه خامد ليس إلَّا.

– عبثًا تحاولين يا نيرمين … هل نسيت أنك متزوجة، وربما كنت أمًّا.

– صدقت … أنا أمٌّ لثلاثة بنات، لهن جمالي الذي سباك، أنت أولًا، ثم سبى والدهن الذي عقد قرانه بي وتزوجني وصحبني معه إلى باريس، في أقل من أسبوع.

– ولِم لَم تخبريني؟

– أخبرك بماذا؟ خشيت عليك من الصدمة ومن أي تصرفٍ أحمق يمكن أن تقوم به … سحرني المستقبل الذي رسمه لي ذلك الشاب الوسيم، الذي اشتراني من أبي، بأغلى ما تُشترى به النساء.

– وهل كان أبوك بحاجة إلى من يشتريك وهو الرجل الثري؟

– سنة الكون: المال يجذب المال … والمال يشتري الجمال.

– وهل بوسع المال أن يشتري الحب؟

– صدقت يا أمين … لا يمكن أن يشتري المال الحب … حاولت خلال ثلاثين عامًا أن أشعر بجمال الحب ففشلت … ولولا بناتي الثلاث لتمَّ طلاقي منذ سنين وسنين.

– والآن … ماذا تبغين؟

– الآن، قلبي يبحث عن الحب الذي ضاع.

– ولكني لست ذلك الشاب الوسيم.

– وأنا ما عدت تلك الفتاة الساذجة، التي أغرتها المظاهر الخدَّاعة الكاذبة … أريدك عقلًا أعتمد عليه، وقلبًا أرتوي من حنانه … أريد أن تُربِّت يداك على ظهري وخدِّي، وتجري أصابعك على شعري … وتحدِّق عيناك في عيني … وأسمعك تهمس في أذني بكلمة «أحبك» … وأقول لك بدوري: إنني أعشقك وأهيم بك.

– هذا عشم إبليس في الجنة … أما سمعت المثل القائل: «الصيف ضيعت اللبن»؟ هذا هو الجنون بعينه.

– نعم، ليكن بيننا حبٌّ إلى درجة الجنون … من نوعٍ يتفق وأعمارنا.

– آسف … لست على استعدادٍ لأن أكون كهلًا ومجنونًا … لا أنفعك في دور العاشق المتيم … لقد طعنت قلبي، والجرح لم يندمل بعد … والآن تطلبينني لتحقيق أغراضك في الانتقام من الشخص الذي هجرتِني من أجله … هل أنا «بعد فضلة»؟ وقلبي لا يزال يَدْمَى بسببك.

– دعني أعالجْه. دعني أكُنْ له البلسم الشافي.

– ولِم لَم تعالجيه وأنت «مدموازيل»، بل تأتين الآن وأنت «شَيْخَوازيل»؟ … آسف جدًّا يا نيرمين، حالتي ميئوس منها … لا ينفع فيها كل عقاقير وبلاسم الأرض … ماذا؟ أتبكين؟

– نعم، أبكي دمًا، لا دموعًا … ليتني ما تعجَّلت في الماضي وتصرفت تصرف أكبر حمقاء على وجه البسيطة … ليتني أموت الآن، وأنا أسمعك ترفض حبِّي إيَّاك المتأجج في صدري وقلبي.

– «دموع القوادر حواضر» … لقد نبذتِني منذ ثلاثين سنة، مت خلالها في قلبك … هل سمعت عن موتى يقومون ويعشقون؟ … وداعًا يا نيرمين.

– يا لك من شخصٍ قاسٍ عديم الرحمة.

– شكرًا يا ملاك الرحمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤