الذكرى القاتلة
حاولت حنان أن تُغمض عينيها وتستسلم للنوم، ولكن النوم تعذَّر عليها في تلك الليلة الطويلة … كان عقلها مشغولًا بذكرى أليمة تعرَّضت لها منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أنها كانت ماثلةً في ذهنها كما لو كانت قد حدثت لتوِّها، أو منذ ساعاتٍ قلائل.
حنان فتاة تتمتع بقدر لا بأس به من الملاحة والجاذبية تحسدها عليهما كل فتاةٍ … وهي ممشوقة القد يميل قَوامها إلى الطول المقبول. ولذا تهافت على طلب يدها كثير من الشبان من ذوي المراكز المرموقة والثراء وشرف النِّجار … غير أن حنان كانت ترفضهم جميعًا دون أن تُبدي أسباب الرفض … وإذا ما ألحَّت عليها أمها في معرفة سبب عزوفها عن الزواج وقد بلغت السن المناسبة للزواج، وإن كل فتاة في هذا العالم تتطلع إلى الزواج والاستقرار في الحياة، وتصير عضوًا له فائدته في المجتمع الإنساني. كانت حنان تقول لأمها: كلامك صحيحٌ ومعقولٌ يا أمَّاه، ولكني لو تزوجت فستجدين نفسك وحيدة في بيتك، وأنا لا أستطيع أن أتركك وحدك، بعد أن مات أبي وتركنا كِلتَينا وحدنا، وحرمنا عطفه وحنانه … أنت كل شيءٍ في حياتي يا أمَّاه … أنت التي تعبت في تربيتي هذه حتى وصلت إلى هذه السن، ومهما أفعل أو أبذل من تضحية في سبيل راحتك، فلا يمكن أن يفي بجزءٍ بسيطٍ من فضلك عليَّ.
كانت الأم تقتنع بهذه الحجة القوية وليدة صوت العقل … إذ كانت تعتمد على المُرتَّب الذي تحصل عليه حنان من عملها، لأن زوجها لم يترك لها سوى معاشٍ بسيطٍ جدًّا يكاد لا يفي بإيجار البيت وثمن الخبز وحده.
أحبت حنان أمها كل الحب، لا تدخر وسعًا في إسعاد قلبها وتوفير وسائل الراحة لها. وكانت الأم هي التي تقوم بأعمال البيت كلها، وسيدة المطبخ … وبذا تريح ابنتها من تلك الأعمال، إذ هي لا تعود من عملها قبل الساعة الرابعة عصرًا يوميًّا، وعادة ما تكون مرهقة من كثرة العمل، فتجد المائدة معدَّةً كأحسن ما يكون الإعداد لاستقبال ضيفٍ عزيز، وعليها ما لذَّ وطاب، إذ كانت الأم خبيرة بشئون الطهي، تصنع عدة ألوانٍ من أبسط الأغذية وأرخصها ثمنًا.
بعد ذلك تخرج حنان لقضاء بعض مطالب البيت … وأحيانًا تصحب أمها للقيام ببعض الزيارات للأهل والأصدقاء، ثم تعود لمشاهدة التليفزيون مع أمِّها، وبعده تهجع لتريح جسمها وأعصابها، ثم تنهض في الصباح؛ لتذهب إلى عملها وافرة النشاط موفورة الصحة والقوة، فتبدأ يومًا جديدًا.
إذا رأيت حنان بقوامها الممشوق، ورأسها المرفوع، قرأت في عينيها ومضات الحزن العميق، كأن في حياتها سرًّا تُخفيه، ويعنيها ألا يعرفه أحدٌ، مهما يكن مقربًا إلى قلبها.
حنان مثال الفتاة المتديِّنة الصالحة، البارَّة بأمها … تعمل على راحة أمها أولًا، ثم ترى بعد ذلك مصلحة نفسها، واضعة نصب عينيها قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. وكانت تحاول جاهدةً أن تبدو مبتسمةً أمام والدتها كي لا تشعرها بأنها تُضحِّي براحتها ومستقبلها وسعادتها من أجلها … وكانت أحيانًا تسمع ضحكاتها تنطلق من فمها مجلجلةً قويةً، كأنها أسعد الفتيات بحياتها في هذه الدنيا … وفعلًا كانت راضيةً بحياتها مع أمها، تطلب من المولى عز وجل أن يحفظ لها أمها متمتعة بكامل الصحة والقوة.
عبثًا، حاولت حنان أن تنام، فاستسلمت للبكاء الخافت، وراحت تسبُّ هذا الجيل وشروره، والدنيا بأسرها، إذ عادت إلى ذهنها ذكرى ذلك اليوم المشئوم في حياتها، قوية صارخة، لا يبرح ذهنها ما حدث لها.
ارتدت حنان، في ذلك اليوم الأسود، خير ما عندها من ثيابٍ، وتحلَّت بكل ما لديها من مجوهرات … وسارت في الطريق الهوينى، لا تلوي على شيء، وإنما تنشد السير في حدِّ ذاته كرياضة تحفظ لها شبابها، بينما هي في الواقع تستعرض جمالها الفتَّان، بعينيها اللتين في أطرافهما حَوَر، ورأسها الشامخ المرتكز على عنقٍ طويلٍ ناصع البياض، وقوامٍ ممشوقٍ حلو، تتهادى كعود الخيزران … وكان اهتمامها بحذائها الحديث الطراز ذي الكعب العالي، وبجَوربها الرفيع المزركش، يفوق كل حدٍّ … فكان من يشاهد حنان وهي سائرةٌ هكذا، ينجذب إليها تلقائيًّا بمجرد أن يقع بصره على ذلك الحذاء وفوقه الجورب الذي يبدي أكثر مما يخفي … يبدي ساقين جميلتين، سبحان من سوى خلقهما. فإذا ما رفع بصره إلى فوق صُعق من فرط الملاحة والفتنة، ومن الرَّدْفين الصاعدين الهابطين.
وبينما هي تمشي هكذا تتهادى، إذ وقفت إلى جوارها فجأةً سيارة فارهة، ونزل منها ضابط عالي الدرجة على كل كتفٍ من كتفيه شارات عسكرية يخطئها العدُّ. وبدون مقدماتٍ، أمرها بأن تركب السيارة … وكانت لهجة أمره مخيفةً تلقي الرعب في القلب، ومن هول المفاجأة لم تستطع حنان التفكير، بل انقادت لأمره، وركبت السيارة إلى جانب ذلك الضابط المجهول … وهي لا تدري كيف انصاعت له، أو كيف فعلت ذلك.
– ماذا تريد منِّي يا حضرة الضابط؟
– بعد قليل تعلمين.
– ولماذا لا تُعلمني الآن؟
– لا أريد أن أسمع كلمةً واحدةً منك، وإلا صفعتك على وجهك.
– ومن تكون يا هذا … ولأي ذنبٍ تصفعني؟
– قلت لك: اخرسي.
وهكذا انطلق الضابط بسيارته يُسابق الريح، حتى وصل إلى القناطر الخيرية … وهناك في شارعٍ مظلمٍ شديد السكون، جذبها من ساعدها وصعِد بها إلى شقةٍ مفروشةٍ … وقبل أن تفتح فاها بكلمةٍ أو تطلق صرخةً من حنجرتها، هجم عليها كالذئب الكاسر، ونزع ملابسها عن جسدها ثم افترسها وهي مذهولةٌ خائفة، وسلبها أعز ما تحتفظ به الفتاة.
جثت حنان عند ركبتي ذلك الضابط، وقد هتك عرضها، وطلبت منه أن يتزوجها، ولو لليلةٍ واحدةٍ ثم يطلِّقها، كي يستر عرضها … إلا أن ذلك الذئب نسي لغة الكلام وآثر الصمت الرهيب، وجذبها مرة أخرى إلى سيارته، وانطلق بها في منطقة ليس فيها ديار ولا نافخ نار، حيث أوقف السيارة وأمر حنان بأن تنزل منها.
توسلت حنان إلى ذلك الوحش الآدمي أن يُعيدها إلى حيث اختطفها، ولكنه دفعها بكلتا يديه دفعةً قويةً ألقت بها على الأرض خارج السيارة التي مرق بها في سرعةٍ جنونية … واختفى شبحه من حياتها حتى الآن.
وجدت حنان نفسها في هذه الورطة الثقيلة، فنهضت تمشي وهي لا تعرف إلى أين تتجه، ولكن قادتها العناية الإلهية إلى العمار، فذهبت إلى بيتها، وآثرت أن تُخفي سرَّها عن الجميع، وخصوصًا عن أمها، التي لو علمت بمأساة ابنتها هذه لصدمت صدمةً قد تُودي بحياتها على الفور … وهذا ما جعلها تكتم سرَّها، إذ كانت تحب أمها غاية الحب وتبذل كل ما في وسعها لتمنع عنها الهموم والأحزان.
كان سرها هذا هو سبب تعاستها، ومصدر سحابة الحزن التي ارتسمت على عينيها.
في هذه الليلة، استحال النوم على حنان، إذ راح شريط هذه الذكرى الأليمة، يلفُّ ويدور في عقلها ومخيلتها وأمام عينيها … صار كابوسًا حيًّا يتراءى أمام عينيها، دونه أي كابوسٍ يراه النائم … كادت تصرخ من هول ذكرى ما تعرضت له، ولكنها كتمت صرختها كي لا توقظ أمها من نومها، وهي راقدةٌ إلى جوارها، في فراشٍ واحد.