الغاية تبرر الوسيلة

تتمنى ماجدة أن يكون فارس أحلامها شابًّا وسيم الوجه، قوي البنية، مفتول العضلات، عريض ما بين المنكبين، جميل القسمات، حلو البسمات، وعلى قدرٍ متوسطٍ من الثراء، تحبه ويحبها، ثم يتزوجان ليعيشا معًا حياةً هنيةً هادئة سعيدة، لا يعكِّر صفوها معكر، على أن يكون مستقيم السير والسلوك، لا يعرف غير بيته.

ماجدة فتاة شديدة الإعجاب بنفسها لما حباها به الخلَّاق العظيم من جمالٍ فذٍّ، وسحرٍ فاتنٍ وفير، فشعرها كَستَنائي جميل، ناعم طويل، تُرسله فوق ظهرها فيزيده جمالًا على جمال، ووجهها كاستدارة البدر في ليلة التمام، وبشرتها بيضاء ناعمة، مشربة بحمرةٍ ورديةٍ جميلة، وعيناها سوداوان واسعتان لهما رموش طويلة، وحاجباها مزَجَّجان طبيعيًّا، وأنفها يشبه السيوف التي يصنعها سُرَيج في الدقة والاستقامة، وفمها صغير لا يتسع لمرور إصبع واحدة، وشفتاها ياقوتيتان جميلتان، إذا ابتسمت افتَرَّ ثغرها عن صفَّين من الأسنان تخالهما اللؤلؤ المنظوم … وبالاختصار هي بارعة الجمال، لذا تشترط أن يكون فارس أحلامها جميلًا في كل شيء.

إنها في الثامنة عشرة من عمرها، ومن حقِّها أن تختار فتى أحلامها من ذلك النوع الرائع الممتاز الذي هو أمنية كل فتاةٍ تَنشُد الراحة والاستقرار والجمال وهدوء البال … وتتطلَّع إلى أن تُنجب ذريةً صالحةً تَقرُّ بها عيناها.

غير أنه كلما نظرت ماجدة حولها، لم تجد صورة شابٍّ واحد تنطبق أوصافه على الفارس الذي يُداعب خيالها … ولكنها كانت تتحلَّى بالصبر الجميل وتؤمن بأن فتاها سيظهر في يومٍ يريد الله لها فيه أن تسعد … فهي متعلمةٌ حصلت على الشهادة التوجيهية بتفوقٍ إذ كانت الأولى على جميع الناجحين في محافظتها. كما أنها لبقة الحديث لا يقطر فمها إلا عسلًا مصفًّى رغم فقر أبيها، وينطبق عليها قول الشاعر الحكيم:

لا خيل عندك تُهديها ولا مال
فليُسعِد النطق إن لم تُسعِد الحال

مرض أبوها المسنُّ، وأقعده المرض عن العمل، فعوَّلت على أن تساعده بأن تعمل ولو عاملة في مصنع، ونظرًا لجمالها الفتاك، وجدت عملًا بسرعةٍ في مصنع يمتلكه رجل في سن والدها. فشكرت ربَّها الذي وفقها إلى عمل تكسِب منه رزقها ورزق أبيها ورزق أختها، بالحلال.

أخذت ماجدة تنفق على أبيها المريض، ولا تبخل عليه بأجر الأطباء وثمن الدواء. كما تنفق على أختها الصغرى زينب التلميذة بالمرحلة الإعدادية … أما والدتها فخطفها الموت منذ عامين، ولم يتحمل الأب صدمة رحيل زوجته الفاضلة، فجأة دون أي مرضٍ، فاعتلَّت صحته وأصيب بالشلل التام الذي أقعده عن العمل. وكما يقولون: «العبد في التفكير، والربُّ في التدبير.» وجدت ماجدة هذا العمل ليظل البيت مستورًا، وتستمر هذه العائلة الصغيرة في حياتها إلى أن يقضي الله أمره لكل فردٍ من أعضائها الثلاثة.

اقترب امتحان زينب في الشهادة الإعدادية، فاضطرت ماجدة إلى إحضار مدرس خصوصي لزينب، ليساعدها في اللغة الإنجليزية.

حضر الأستاذ عصام، فما كادت تقع عليه عينا ماجدة حتى توسمت فيه فارس أحلامها الذي تخيَّلته وتصورته منذ أن بدأت تفكر في مستقبل حياتها الزوجية … فحرصت على أن تقدم له قدح القهوة بنفسها في كل مرةٍ، وتردُّ على ابتسامته لها بابتسامةٍ عذبةٍ حلوة ذات معنى لا يفهمه إلا العاشقون.

جاء اليوم الذي فاتح فيه عصام ماجدة بحبه إيَّاها، وبرغبته في الارتباط بها … فرقص قلب ماجدة طربًا وظنت أحلامها قد تحققت … ولكن شيئًا خفيًّا منعها أن تندفع بالموافقة، إذ لم تكن الظروف العائلية التي تحيا فيها تسمح لها بحالٍ ما أن تتزوج، بينما صحة والدها تتدهور وتزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ومرتَّبها لا يكاد يكفي الإنفاق على البيت.

لاحظت زينب انفراد ماجدة مع عصام، عقب كل درس بالساعات، وهما يشربان الشاي أو القهوة معًا … فسألتها من باب الفضول، قائلة: أراك معجبةً بالأستاذ عصام يا ماجدة.

– هو ذلك يا زينب … فما رأيك فيه؟

– عصام رجلٌ طيبٌ يمتاز بصفاتٍ حميدةٍ ويعاملني أحسن معاملة، ويتفانى في شرح الدروس لي، كما أرجو ألَّا يغيب عن بالك، أنه ما عاد يتقاضى منَّا أية أتعاب، منذ أن وقع في غرامك يا ماجدة.

– فعلًا يا زينب … نعم الرجل الأستاذ عصام … هو كما تقولين، وأرى فيه كل صفات الزوج الذي أفكر فيه.

– يُخيَّل إليَّ أنه لا بد أن يطلب يدك.

– نعم، حصل ذلك يا أختاه.

– وهل وافقت؟

– لم أعطه ردًّا شافيًا. فللزواج مطالب ماديةٌ غير متوفرةٍ لدينا، بينما أبوك فقيرٌ ومريض لا يعمل … وأنا شخصيًّا لا يمكن أن أتزوج إلا إذا تحسنت حال معيشتنا وسمحت بتلبية كل لوازم الزواج.

– أعلم أنك كنت دائمًا تفكرين في مواصفات بعينها تتوفر في فتى أحلامك … فهل وجدتِها كلها في الأستاذ عصام؟

– وجدت فيه معظم ما أريده … والجميل في الأمر أنه يحبني، وهو الذي فاتحني في أنه يريد الارتباط بي، على سُنَّة الله ورسوله … كأن الله قد شاء أن يحقق لي أجمل أحلامي.

– إذن، فعجِّلي ولا تسوِّفي.

– كل شيءٍ مرهونٌ بأمر الله يا زينب.

– ونعم بالله.

•••

اشتدَّ المرض على الوالد العجوز، فلفظ أنفاسه الطاهرة … وهكذا وجدت زينب وماجدة نفسيهما وحيدتين في هذه الدنيا الغادرة، لا أنيس لهما ولا جليس.

حاول عصام أن يستغل هذا الظرف الجديد الذي حلَّ بالأختين، فراح يلحُّ على ماجدة في أن يعقد عليها … ولم يكن يعلم أن هناك شيئًا جديدًا قد جدَّ.

فقد حضر صاحب المصنع إلى منزل ماجدة ليعزيها في وفاة والدها … وأخذ يتردد على البيت بحجة السؤال وتقديم الخدمات … فلاحظت زينب ترحيب ماجدة بصاحب المصنع العجوز الذي في سن أبيها … فساورتها الهواجس، فقالت لماجدة: ما بال الحاج عزوز يزورنا أكثر مما يلزم … أكلُّ هذه الزيارات من أجل تعزيتنا في وفاة أبينا؟

– ليس بالضبط يا زينب … إنه يعرض عليَّ خدمات أخرى مُغرية.

– مثل ماذا؟

– بصراحة، يعرض علي أن يتزوجني، إذ يعيش وحده بعد أن ماتت زوجته منذ أكثر من عشر سنوات، وبعد أن تزوجت ابنته الوحيدة وتركت البيت لتعيش مع زوجها على ساحل البحر الأحمر.

– وماذا عن عصام؟

– أنا في حيرةٍ يا زينب … فلو تزوجت عصامًا ما استطعنا أن نجد ما نأكل به، وما يجعلك تواصلين دراستك.

– وماذا تكون الحال لو تزوجت صاحب المصنع، العجوز؟

– ستُفتح أمامي كنوز الدنيا يا زينب … ستكون لي سيارةٌ محترمة، ونصيب في المصنع، إذ سيكتب لي نصفه بمجرد موافقتي على الزواج به … وسينفق على تعليمك حتى تنتهي من المرحلة الجامعية … ثم إن حياتنا معه ستكون في بُحبوحةٍ وبذخٍ … لنا طاهٍ، وخادمة، ونعيش عيشة الأثرياء.

– وماذا عن فارس أحلامك، الذي طالما تمنيت الزواج به، وشغل تفكيرك منذ أن عرفته … وكان كل أمَلِكِ أن تركبي معه الجواد الأبيض، ويطير بك مثلما يطير الرمح في الهواء.

– أحلام طيشٍ يا زينب … لا بد من التفكير بعقل … أمامي كفَّتا ميزان: كفة الرجل العجوز ترجح كفَّة عصام المسكين، الذي يعيش على مرتبه الشهري البسيط المحدود.

•••

تزوجت ماجدة الحاج عزوز، الذي منعها النزول إلى المصنع، وجعلها سيدة البيت المعزَّزة المكرمة، يغمرها بحنانه وعطفه وخيراته … وخصَّص لزينب حجرة مؤثثة بأفخر الأثاث بها مكتب ومكتبة وجهاز تكييف، وأنفق عليها ببذخٍ حتى تخرَّجت في كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وعملت مدرسة لتلك اللغة بمدرسة ثانوية … وبالجملة: أكرم الله هاتين الأختين فعرفتا البذخ بعد شظف العيش.

لم ينسَ عصام ماجدة ولم يغب طيفها عن مخيلته لحظة واحدة. فلما علم زواجها من الحاج عزوز صاحب المصنع، أدرك الظرف الذي ألجأ ماجدة إلى هذا الزواج المادي، وتذكر قول الشاعر:

إن الدراهم في المجالس كلها
تكسو الرجال مهابةً وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا

ومع ذلك، فلم يحمل عصام في قلبه أية ضغينةٍ لماجدة، أو حقدًا عليها … وما كاد يسمع أخبار زينب المفرحة، وتخرجها في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، حتى تقدم إلى ماجدة طالبًا الزواج من أختها زينب.

لم تفاجئ ماجدة عصامًا بالرفض، بل طلبت منه أن يمهلها فترة للتفكير والتروي، إذ تتوقف على الزواج حياة العمر، وليس هو صفقة تجارية.

– كم من الوقت تستغرق هذه المهلة؟

– شهرًا، على الأقل، وبعدها تعلم قرارنا بالقبول أو بعدمه، وعلى أيه حالٍ، الزواج قسمة ونصيب … والرب يعمل ما فيه خير الطرفين.

انصرف عصام حزينًا إذ كان يأمل استجابة طلبه، ولكنه لم يفقد الأمل، وراوده إيمانه بالله وبأن الزواج مكتوبٌ للمرء منذ أن تحمل به أمه.

اختَلَتْ ماجدة بزينب وأخبرتها بالغرض من زيارة عصام، وأبدت لها رأيها ونصيحتها كأخت كبرى بمنزلة أمها، فقالت: عصام لا ينفعك يا زينب … ومن صبر وتأنَّى نال ما تمنى … غدًا يأتيك طبيب أو مهندس يستطيع أن يهيئ لك حياة أفضل.

– ولكن عصامًا يعرفنا منذ مدة طويلة، وعرفنا أخلاقه، ومهنته من مهنتي.

– عصام مدرس إعدادي، «لا طلع ولا نزل»، ومرتبه لا يكفل عيشة متوسطة، وجُل اعتماده على درس من هنا ودرس من هناك، أي إذا لم يحصل على درسٍ رجَعْتِ إلى عيشة الكفاف يا زينب … أي إن دخله على كفِّ عفريت يا زينب … ولا تنسَي أنك خريجة جامعة، ويجب أن يكون عريسك في مستواك العلمي، على الأقل.

– ولكنك يا ماجدة كنت متيمةً بعصام، وكان مثلك الأعلى.

– كان هذا زمن الأحلام يا زينب، أيام أن كُنا فقراء وأريد أي شيء أستند إليه … أما الآن، وقد جاد الرب علينا بالخيرات، وتبدلت الحال، فلما جاءت اللحظة الحاسمة، حكَّمت عقلي فاخترت من يسترني ويحميني من الجوع والفقر والحاجة.

– صدقت يا ماجدة … وعلى العموم، لم يكن عصام فارس أحلامي، بل مجرد مدرس ساعدني على فهم المقرر المدرسي … وكنت أُجامله إكرامًا لخاطرك على زعم أنك ترغبين في الزواج به يومًا ما … وعلى هذا، فعصام مرفوضٌ تمامًا … وتبعًا لنصيحتك ومشورتك يا أختاه، أنا لا أريد حياة كلها فقر وتقتير وجوع وعذاب … كفى ما ذقته في طفولتي عقب مرض أبي وموته … وكما ضحيتِ بمثلك الأعلى من أجلي، فإني بدوري، أصغي إلى نصيحتك الغالية، وأنتظر حتى يأتي من يَصلُح لي، ويكون قسمتي في هذه الحياة.

مضت مدة غير طويلةٍ على هذا الحديث بين الأختين … وذات يوم قالت ماجدة لزينب: عندي لك نبأٌ مفرحٌ يا زينب.

– شكرًا يا أختاه … هات ما عندك.

– تقدم إليَّ يطلب يدك زوجٌ محترم.

– إن كان قد نال استحسانك، فهو كذلك بالنسبة لي، فأنت الآن بمثابة والدتي.

– هو فارس من فرسان أحلامك، ظهر فجأة يا زينب … فمنذ بضعة أيام، جاءني يطلب يدك مني ابن أخت الحاج عزوز … وهو شابٌّ يتمتع بصحةٍ وافرة، ومنظرٍ جميل، وهندامٍ أنيق … هو مهندس في إحدى شركات البترول بالغردقة … فأمهلْتُه إلى أن أعرض عليك الأمر وأعرف رأيك وقرارك … فماذا ترين؟

– سبق أن قلت لك، إن أمري بيدك يا أختاه، وما يروقك يروقني.

– شكرًا يا زينب. أرأيت صِدق ما قلته لك: إن من صبر وتأنى، نال ما تمنى. وكذلك صدق القائل:

يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري
فدرهم الصبر يَسوَى ألفَ قنطار
لا شيء كالصبر يشفي جُرح صاحبه
ولا حوى مثله حانوت عطار

وَعَدَ ذلك الشاب بأن يزورنا عصر اليوم … فاستعدي للقائه.

لبست زينب أفخر ما عندها من ثياب، وتزينت بالحلي والجواهر، وتعطَّرت بأغلى العطور … وتمَّ اللقاء وحاز القبول من الطرفين.

وما هي إلا أشهر قلائل حتى تزوجت زينب المهندس «ياسر»، فأقام الحاج عزوز لها حفل زفافٍ صار حديث القاصي والداني … وانتقلت العروس مع عريسها إلى الغردقة.

وهكذا حقق الله لكل من ماجدة وزينب، ما كان أبوهما المشلول يدعو الله أن يحققه لهما، ويستر عرضهما بالحلال، بحكمته وحسن تدبيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤