توبة

سعاد فتاةٌ على قدرٍ وافرٍ عظيمٍ من الجمال الفذِّ، تبارك الخلَّاق فيما خلق، ذات قدٍّ ممشوقٍ جذابٍ، لا هي بالطويلة الفارعة ولا هي بالقصيرة المَقيتة. عيناها زرقاوان واسعتان تزينهما رموشٌ طويلةٌ سوداء، وهي ناصعة بياض البشرة، مورَّدة الوجه، حاجباها مزجَّجان، وأنفها قصير مستقيم أقنى، وفمها يكاد لا يتَّسع لإصبع واحدة، وجِيدها طويلٌ أبيض لو أبصرته نفرتيتي لتوارت في مخدعها. وكانت تعلم بما وهبها الله من ملاحة تأسر القلوب، وتجرُّ وراءها موكبًا من المعجبين، فترتدي أفخر الثياب، وتُعنى بأناقتها قبل كل شيءٍ آخر، وساعدها على ذلك ثراء والدها الذي كان لا يضنُّ عليها بمالٍ. أغدق عليها أغلى الحلي والمجوهرات، وزودها بسيارةٍ مرسيدس من آخر طراز تذهب بها إلى الجامعة. إذا نزلت سارت تتهادى في خُيلاء، لا تردُّ على تحية زملائها وزميلاتها إلا بإيماء؛ إذ كانت متغطرسةً متعاليةً لا تكلِّم أحدًا من الطلبة والطالبات إلا بالقدر الضروري. تغار منها كل الفتيات لما حباها به الله من فتنةٍ جمَّة وجاذبية فذَّة.

تدخل سعاد قاعة المحاضرات فتجلس في المقعد الأمامي المواجه لذلك المعيد البالغ الأناقة مثلها. وقد لاحظ كل أترابها ذلك، فكانوا يُفسحون لها الطريق إلى ذلك المقعد الذي كانت تكتب عليه اسمها. اختارت سعاد هذا المقعد بالذات؛ إذ كان يعجبها ذلك الشاب المُعيد المحاضر، الذي ينضح قوةً وصحةً وحيويةً، ويمتاز بتقاطيع وجهٍ متناسقةٍ شديدة الجاذبية. وقد أدرك كثير من الطلاب مدى اهتمام الآنسة سعاد بالأستاذ مجدي سويلم، الذي يُلقي محاضراته في مادة علم النفس، ولاحظوا الإهمال الذي تلقاه سعاد من المحاضر الشاب ذي المستقبل الناصع المرتقب، ولسان حاله يقول: «من يدري بك يا من تغمز في الظلام؟»

تقدَّم ممدوح زميل سعاد منها ذات مرةٍ، عقب إحدى محاضرات الأستاذ مجدي، وسألها بقوله: «أيعجبك الأستاذ مجدي؟»

قالت: «ولم لا؟»

قال: «أراه غامضًا في أجزاء كثيرةٍ من محاضراته.»

قالت: «عندك مذكراته مطبوعة يشرح فيها كل نقطةٍ يتعذر على أي طالبٍ فهمها. وبذا يمكنك أن تستعين بها.»

قال: «هي عندي، ولكنها لا تخلو من الغموض أيضًا.»

قالت: «وماذا تريدني أن أفعل لك؟»

قال: لعلك تُحدِّثينه في هذه النقطة، وتلفتين نظره إليها.

قالت: ولماذا لا تتقدم حضرتك منه، وتلفت نظره بنفسك … أم تريد أن تستخدم مَثَل القرد والكَستَناء معي؟

قال: وماذا يقول هذا المَثَل؟

قالت: القرد مولعٌ بأكل الكَستَناء المشوية، ولكنه لا يخاطر بإخراجها من فوق النار بأصابعه، فيستخدم مخالب القط في إخراجها.

قال: عسى أن يتقبل الكلام منك بسماحة نفس، وسعة صدرٍ، أكثر مما يتقبَّله منِّي.

قالت: ومن أوحى إليك أنه سيتقبل ذلك منِّي، ولا يتقبله منك أو من أي طالبٍ آخر، أو طالبةٍ أخرى؟

قال: نظراته إليك توحي بأنه يرتاح إلى شخصك.

قالت: أليس بينك وبينه نظرات من النوع المريح؟

قال: آسف يا آنسة سعاد! يبدو أنني ضايقتك بكلامي هذا.

قالت: فعلًا، لأنك تجاوزت حدودك بكثير، وأنا لا أسمح لأي طالبٍ أو طالبة بأن يتمادى معي بأي كلامٍ فيه جرح لإحساسي وتعريض بشخصي. وفضلًا عن ذلك، فإنني لم ألاحظ أبدًا أن الأستاذ مجدي حَدَجَني في يوم ما بنظرة تُخالف نظرته إلى غيري من الطلبة والطالبات الذين بالمدرج!

قال: آسف جدًّا، وسلام!

قالت: مصحوبًا بسلامة الله!

•••

حرَّكت كلمات ممدوح مشاعر سعاد، وفهمت أن الكثيرين يراقبونها في روحاتها وغدواتها، وسوف يتقوَّلون عليها، ويتمادون في تفكيرهم وأقوالهم … ولذا عولت على أن تترك مقعدها الأمامي المختار، وتجلس في مقعدٍ آخر بالمدرج، بعيدًا عن الأستاذ مجدي، لئلا تلوك الألسنة سُمعتها.

انتهز ممدوح هذه الفرصة الثمينة، وجلس إلى جوار سعاد في الصفِّ الخلفي من مقاعد المدرج، وراعى أن يتحلَّى بكل مظاهر الأدب والرقة والهدوء حتى كسب احترام سعاد … كما أن سعاد نفسها وجدت في ممدوح الورقة الرابحة، والوسيلة الناجحة، التي يمكنها أن تلعب بها لإثارة نيران الغيرة في قلب هذا الأستاذ المتغطرس الذي لم يستطع جمالها الفتَّان أن يُحرك عواطفه ولو بنظرةٍ بسيطةٍ إليها.

سعاد امرأة قبل كل شيءٍ، والمرأة إذا صمَّمت على أمرٍ نالته بشتى الطرق، وبمختلف المعاذير. فرأت، بطبيعتها الأنثوية، أن تتجاذب أطراف الحديث مع ممدوح إبَّان المحاضرات، على مرأى ومسمع من ذلك المجدي الذي يطاول بعنقه السماء، لكي تبدو أمامه أنها فضَّلت ممدوحًا عليه … وفعلًا لاحظ ذلك المحاضر انشغال سعاد عنه وعن محاضراته بالحديث مع ممدوح الطالب.

انتهز الأستاذ مجدي فرصة تحدُّث سعاد مع ممدوح أثناء المحاضرة، فأمرها بأن تكفَّ عن الثرثرة، وبأن تنتبه إلى المحاضرة، وتعود إلى مقعدها الأمامي كالمعتاد. فرحَّبت سعاد بهذا الأمر الصادر إليها، والذي كانت تنتظره، وتعلم علم اليقين أنه لا بد سيصدر إليها، إن عاجلًا أو آجلًا. فأذعنت لأمر أستاذها، وانتقلت على الفور إلى مقعدها الأصلي وهي تتهادى في تيهٍ وخُيلاء.

لاحظت سعاد لأول مرةٍ، أن عيني الأستاذ مجدي تُطيلان النظر إليها، فعنَّ لها أن تطرق الحديد وهو ساخنٌ، فابتسمت لأستاذها ابتسامةً حلوةً تُذيب الحجر الجُلمود … فابتسم لها بدوره. وكما يقول المثل: «نظرة فابتسامة فكلام …» وعلى هذا، لم يبق غير الكلام بعد المحاضرات … ولم يكن هذا مشكلة عويصة، وسعاد لا تَعدم وسيلة تجرُّ بها الكلام، بلباقتها ودهائها وجاذبيتها.

سارت سعاد مع مجدي إلى حجرة المدرسين، حيث وطَّدت علاقتها به، وأبدى هو إعجابه بجمالها وأناقتها، فاعتزَّ بصداقتها، واعتبر نفسه قد ملك زمام الخافقَين، وأن الدنيا قد دانت له … أما سعاد فآثرت، بدورها، أن تغلق فمها عمَّا يدور بداخلها، ويعتمل في صدرها، من مشاعر مماثلة فيَّاضة.

ما كادت سعاد تخرج من حجرة المدرسين، حتى وجدت ممدوحًا ينتظرها عند باب المبنى، ففاجأها بقوله: «يبدو، يا آنسة سعاد، أن الأمور بينك وبين الأستاذ مجدي قد تطوَّرت بشكلٍ رهيب.»

فقالت: ماذا تقصد؟

قال: أقصد استضافته إياك في حجرة المدرسين … تُرى، ماذا قال لكِ، وماذا قلتِ له؟!

قالت: وهل يهمُّك الحديث الذي دار بيننا؟ حقًّا، كم أنت فضولي متطفل!

قال: هل قبلت دعوته إيَّاك وستلتقيان قريبًا؟

قالت: نعم قبلتها، وسنلتقي معًا غدًا، إن شاء الله.

قال: الله … الله … يا لها من صراحةٍ خارقة، وجرأةٍ متناهية! … إذن، فهل لي أن أدعوك بدوري، إلى تناول كوب من الشاي معي، في مَقصِف الكلية؟

قالت: بأية مناسبةٍ تدعوني، ومنذ متى أقبل دعوات الزملاء؟ ألا ترى، يا سيد ممدوح، أنك تتدخل في شئوني الخاصة بغير وجه حق؟

قال: أدعوك بصفتي زميلك بالكلية، وعلم النفس يتطلب الاحتكاك بالنفوس، لكشف حسناتها وعوراتها.

قالت: وماذا تريدني أن أكتشف فيك؟

قال: ما يطيب لك … هذه فرصةٌ لي كي أكتشف، وفرصةٌ لك كي تكتشفي.

قالت: ولأي غرضٍ تريد أن تكتشف أموري يا بارد … والله إنك لسنكوح ثقيل الدم.

قال: مرحى! مرحى! هذا أول اكتشاف لك.

قالت: وليس آخر اكتشاف، لأنك أيضًا متطفلٌ، وغيورٌ، وساذج الفكر والحكم.

قال: حسنًا يا آنسة سعاد، وماذا أيضًا؟

قالت: أنت سافلٌ منحطٌّ ووضيعٌ، الرجال كلهم سفلة.

قال: وهل يدخل الأستاذ مجدي دائرة الرجال السفلة؟

قالت: بما فيهم الأستاذ مجدي … فقد دعاني إلى تناول الشاي معه في حديقة الحيوان، وأنت تدعوني إلى تناول الشاي معك في مَقصِف الكلية … كلكم ذئاب … وكلكم بأهداف دنيئةٍ واحدة … كلكم في اصطياد المرأة صيَّاد واحد.

قال: يبدو أنك وصلت إلى حقائق جديدة في علم النفس، تختص بعلاقة الرجل بالمرأة.

قالت: نعم، وصلت … ولذلك قررت أن أُكرِّس كل حياتي لدراسة نفوس البشر من الرجال، عسى أن يأتي يوم أعدِّل فيه رأيي في نفوسهم المعوجَّة، وأهدافهم الملتوية، وتفكيرهم السقيم. والآن، سلام … وأرجو ألَّا تتحدث معي بعد ذلك … كما أنني … والله يعلم … لن أتحدث مع الأستاذ مجدي، مهما تضطرني على ذلك الظروف … توبة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤