كان زمان وجبر
تخرَّجت نادية في مدرسة الألسن، وأخذت تبحث عن عملٍ ترتزق منه حتى حفيت قدماها، ولكن دون جدوى … وأخيرًا قرأت إعلانًا في إحدى الصحف الصباحية، يطلب فتاة تُجيد الإنجليزية والكتابة على الآلة الكاتبة، باللغتين الإنجليزية والعربية، كما تكون لها خبرةٌ بالتِّلِيكس … ولما كانت قد تعلمت ذلك عقب تخرجها في مدرسة الألسن توطئة للعمل كسكرتيرة في إحدى الشركات … تقدمت إلى الشركة صاحبة هذا الإعلان … وإذ كانت تقطن في نفس الحي الذي به الشركة، قبل طلبها، وتم تعيينها لأنها مستوفيةٌ لكل الشروط المطلوبة … فضلًا عن أنها أنيقةٌ وجميلةٌ وفاتنة.
مدير هذه الشركة شابٌّ سوداني الأصل وسيم الخلقة، جميل العينين، أسمر البشرة، حسن المعشر، لبق الألفاظ … وأحست نادية بأن الأستاذ «آدم» مدير الشركة يؤثرها باهتمامٍ بالغ، ويستدعيها كثيرًا إلى مكتبه، فتلبي أمره، وتقف إلى جانبه تقرأ خطابًا أو مستندًا يمسكه هو في يده … فأدركت نادية، بغريزتها الأنثوية، أن الأستاذ آدم معجب بها، وكثيرًا ما تحتك ذراعه بصدرها وهي تقرأ ما في يده … فتقول في نفسها: الذراع لا تحك بصدري عفوًا، ولا لغير ما سبب، بل لا بد أنه يقصد ذلك ويجد لذةً فيه.
بمرور الوقت انعدمت الكلفة بين نادية والأستاذ آدم … ومن حسن حظ هذا الأخير أن نادية نفسها وقعت في غرامه بصورة لم تخْفَ على أي عين، وما أكثر العيون التي كانت تراقبهما. فصارت نادية هي التي تتعمد أن يحتك صدرها بجسم الأستاذ آدم … وأحيانًا تميل فوقه وهي تقرأ الأوراق، فيقع خدها على خده، وما إلى ذلك من الحركات التي تجيدها النساء للإيقاع بالرجال.
أصبحت نادية لا تُرى إلا في صحبة آدم أو إلى جانبه في سيارته بعد انتهاء العمل بحجة توصيلها إلى بيتها. وكانت تحرص وهي جالسةٌ داخل السيارة، أن تتعرى فخذاها بين آونة وأخرى، وكانت ناصعة البياض المورد، بضة الجسم.
أحسَّت نادية بسعادة الحب وجماله … كانت ترى في آدم الزوج اللائق لها وتعتبر نفسها سعيدة ومحظوظة إن حصلت عليه زوجًا لها، إذ هو لطيف المعشر، باسم الثغر، واسع الثراء، ناجح في عمله. كما أنها تشعر نحوه بعاطفة حب خارقةٍ، لم تحس بمثلها تجاه أي رجل سواه سبق لها أن رأته قبل أن ترى آدم … فأخذت تتقرب إليه وتتحدث معه بعينيها أكثر مما تتحدث بشفتيها، كي تأسر قلبه.
تمادت نادية في علاقتها مع آدم، وكما يقولون: «الألف تجر الباء» … فسمحت لنفسها بأن تقبل دعوته إيَّاها إلى العشاء في أفخم المطاعم … فتوطدت الصلة بينهما، وزادت وثوقًا في العُرى، ونماء في الغِراس. كم كانت تتلهف نادية إلى أن تسمع من فم آدم أنه يحبها ويهيم بها … ولكنه ما كان ليقول هذا … ولعله كان يمعن في التزام الصمت من هذه الناحية … كان يبثها غرامه بيديه وليس بفمه … فاضطرت نادية، ذات مرة، إلى أن تبوح له بمكنون فؤادها، فقالت بلا استحياء: «أحبك يا آدم.» … وانتظرت أن يرد عليها بقوله: «وأنا أيضًا أحبك يا نادية.» … ولكنه اكتفى بأن أمسك يدها فقبَّلها … وكان الله يحب المحسنين.
كانت نادية يتيمة، مات أبواها منذ حداثة أظفارها، فتولَّى أخوها تربيتها والإنفاق عليها حتى تخرجت، وكانت تعيش معه ومع زوجته وأولاده.
توخَّت نادية أن يتعرف أخوها بآدم … فقامت بدعوة هذا الآدم إلى تناول الشاي بمنزلهم في إحدى الأمسيات … فأُعجب شقيقها فوزي بشخصية آدم، وتوطدت العلاقة بين آدم وفوزي أيضًا.
لم تَبُحْ نادية لأخيها بما يعتمل في صدرها وقلبها من أحاسيس جارفة نحو آدم … وظلت تتحرق شوقًا إلى أن يطلب آدم يدها من أخيها، خصوصًا بعد أن صارا صديقين حميمين، يلتقيان معًا في كثير من الأحيان … بيد أن آدم لم يفعل.
برَّح الحب بقلب نادية، وتأججت نيرانه في صدرها عنيفة شديدة، بينما آدم كان أشبه ما يكون بلوح من الثلج، أو كمن يقول: «من يدري بك يا من تغمز في الظلام.» … وهكذا كانت نادية تضرب في حديدٍ باردٍ لا يلين ولا يستجيب.
رأت نادية أنه ليس أمامها إلا أن تتمادى في تصرفاتها الحمقاء لتُوقع ذلك الآدم الذي قُدَّ قلبه من صَوَّان جُلمود … وعقب محادثةٍ تليفونية، وافقت على أن تلتقي بآدم في شقته الجديدة التي استأجرها بالزمالك.
أبصرت نادية هذه الشقة مؤثثة بأفخر الأثاث، ومزركشة بأحدث فنون الديكور، فظنت أنها ستكون شقتها فيما بعد عندما تتزوج آدم، وأنه اشتراها خصيصى لها في حياتهما المستقبلية معًا … ولذا دعاها لتعرف مقرها المستقبلي.
أُعجِبت نادية بهذه الشقة الجميلة، وكثر ذَهابها إليها والجلوس فيها مع آدم بالساعات … ولأول مرة، طلب آدم من نادية أن تسمح له بأن يُقبِّلها … فلبَّت طلبه عن طيب خاطر، ومنحته بدل القبلة الواحدة عشرات القبلات، بل المئات.
استمرأ آدم هذه اللعبة، وراح في كل مرة يطلب شيئًا آخر … فالقبلات تجر الأحضان، وهذه تسمح لليدين بأن تعبثا أينما يحلو لهما العبث … وهكذا، كان لا بد مما ليس منه بدٌّ … فتورطت نادية المصرية مع آدم السوداني الذي أفقدها أغلى ما تعتز به الفتاة.
دأبت نادية، بعد ذلك، على زيارة آدم في شقته كل يوم تقريبًا، حيث يعاشرها معاشرة الأزواج في غير ما خجل ولا استحياء … وطالت مدة العلاقة الجنسية بينهما إلى عدة شهور، فتحرك الجنين في أحشائها وعرفت أنها حُبلى … فطالبته بأن يتزوجها درءًا للفضيحة، وما لا تُحمد عقباه … ولكن آدم لم يكن ليفعل أكثر من أن يُطيِّب خاطرها ويسوِّف في كل مرة … رويدًا رويدًا اختفى آدم من شقته المفروشة بالزمالك.
ذهبت نادية إلى الشركة لمقابلة آدم، والتحدث معه بخصوص الزواج … فلم تجده، وقيل لها إنه استقال من عمله، وركب الطائرة عائدًا إلى السودان وطنه، ولن يعود إلى القاهرة قبل شهرين.
بعد أقل من عشرة أيام، علمت نادية من إحدى زميلاتها بالشركة أن آدم قد عاد من الخرطوم، ويقيم في شقة أخرى بالمهندسين، ولكنها لا تعرف عنوانه بالضبط.
عملت نادية المستحيل حتى عرَفت عنوان الشقة التي يُقيم فيها آدم، فلم تُضع وقتًا وذهبت من فورها إلى تلك الشقة.
ما كادت نادية تدق جرس الباب حتى فتحت لها الباب فتاة سودانية جميلة الوجه، خفيفة الظل، ولكنها كانت صارمة القسمات ترتدي الزي السوداني المعروف، وسألتها بقولها: ماذا تريدين يا سيدتي؟
– من تكونين يا فتاة.
– لست فتاة … بل أنا سيدةٌ متزوجة، ولي ابن في الثالثة من عمره، اسمه وليد.
– زوجة من أنت؟
أنا زوجة الأستاذ آدم ياسين.
– مدير الشركة المعروفة، بمصر الجديدة؟
– نعم، ولكنه استقال من عمله بتلك الشركة وأخذ مكافأته … وسنسافر غدًا إلى السودان عائدين إلى وطننا … هل من خدمة يا آنسة؟
– لا، وشكرًا … حسبت الأستاذ آدم ما زال يبحث عن سكرتيرة.
– عفوًا يا آنسة، هذا الكلام كان زمان وجبر … في المشمش.