عقاب السماء
– ألو … مَن المتحدث؟
– صديقك عبد الرحيم.
– لعلك عاتبٌ عليَّ؛ إذ مضت عشرة شهور لم أرك فيها أو حتى أسمع صوتك، وذلك منذ أن كنت في زيارتك آخر مرة.
– نعم، هذا صحيح، وبالضبط كأنك تعد الشهور بعد زيارتك إيَّاي … وقد خُيِّل إلي أنك سافرت إلى أي بلدٍ عربيٍّ لتحسين دخلك ومعيشتك.
– كنت في سفر، ولكن ليس كما تظن، بل في متاهات لم أكن أتوقعها أو أحلم بها.
– لست أفهمك … إذ تتكلم بألغاز صعبة الفهم. ماذا تقصد بقولك «متاهات»؟
– يؤسفني، يا أستاذ عبد الرحيم، أن أُخبرك بأن زوجتي، التي هي ابنة خالي، قد توفيت فجأةً، وتركت لي أربعة أولاد … ومن ثم تجدني في متاهاتٍ أيِّ متاهاتٍ، لم أكن أتصوَّرها ولم تخطر على بالي … والأدهى من كل ذلك أنني لم أكن مستعدًّا لها.
– البقية في حياتك، وهذه حال الدنيا. كلنا إلى ذلك المصير، وليكن الله معك.
– ماتت فجأةً دون مرضٍ أو أية علامة تُنذر بقرب رحيلها … وربما تتذكر، يا أستاذ عبد الرحيم أنني كنت أحبها جدًّا؛ إذ نشأنا معًا منذ نعومة أظافرنا، وتزوجتها، وكنت أعتبرها كشخصي تمامًا … لم تقل لي، طول حياتها «لا» أبدًا، عمرَها ما عارضتني في فكرةٍ أو أمر، ولم تقصِّر إطلاقًا في تربية الأولاد تربيةً صحيحة … عاشرتها كزوجة فلم أحسَّ بأن لي أربعة أولاد، يذهبون إلى المدارس، ويستذكرون دروسهم، ولهم متطلباتهم من مأكلٍ وملبسٍ وترفيه وانتقالات … كانت تقوم بكل هذه الأمور، كي أتفرغ أنا لعملي في الإخراج التليفزيوني … وفجأة، ذهب كل شيءٍ في حياتي وتوقَّف … لم أكن أتصور ذلك العبء الضخم الذي تقوم به دون تأففٍ ولا تبرمٍ، ولا شكوى.
– كيف ذلك يا أستاذ صابر؟
– نعم. خلا البيت منها، ووجدتني أواجه مشكلة الأولاد … ولا أحد يخدمهم أو يخدمني أو يحادثني ويلاطفني ويشجعني، ويسرِّي عني عندما أكون مهمومًا … فجأة، وجدت نفسي مسئولًا عن الأولاد الأربعة، أُعِدُّ طعامهم وشرابهم، وألبسهم ثيابهم … وهكذا أُشرِف داخل المنزل وخارجه، وهم يلعبون في الشارع، أو وهم في طريقهم إلى المدرسة، بل وهم في داخلها أيضًا … تغيَّر كل شيءٍ في حياتي.
– إلى هذا الحد؟
– بل وأكثر منه؛ لقد تشتتت أفكاري تمامًا، واضطرب دولاب عملي بالتليفزيون، وتوقفت عن الإخراج، وطلبت من المسئولين أن يُسندوا عملي إلى مخرجين آخرين، إلى أن يعود إليَّ صوابي، وأعرف رأسي من قدمي.
– ألم يكن بمقدورك، يا أستاذ صابر، أن تترك الأولاد عند جدتهم أو جدهم، من أبيهم أو من أمهم؟ ألم تفكر في ذلك؟
– من سوء حظِّي، أن كلهم في عداد الأموات.
– أليس لك إخوة، أو أخوات؟
– لي أختٌ واحدةٌ متزوجة وتحمل عبء تربية ستة أطفال … كما أنها لا تُقيم هنا بالقاهرة، وإنما في سوهاج، وليس من المعقول أن تترك زوجها وأولادها، وتأتي إلى القاهرة لتربي أولاد أخيها، كما لا يمكنها تربية عشرة أولاد، إذا فكرت في إرسال أولادي إليها.
– طبعًا، من المحال استدعاؤها، أو إرسال الأولاد إليها … هذا ضربٌ من الاستحالة. وكيف تصرفت في مشاكلك التي تراكمت وتزاحمت عليك بلا رحمة ولا هوادة؟
– تقوم بيني وبين أولادي معارك لا تنتهي.
– تقول معارك! إلى هذا الحد؟
– نعم، إلى هذا الحد … فهم، كما يبدو، لا يعرفونني كما يجب … كانت أمهم تعرف جميع أسرارهم وكيف تسوسهم، وكان كل كلامهم معها، ومفاتيح مشاكلهم مع المرحومة … ولذلك فوجئت بتصرفات لم أكن أتصوَّر أنني سأجابهها.
– مثل ماذا؟
– ماذا تفعل، لو كنت مكاني، ورجعت إلى المنزل فوجدت أحد أولادك قد خلع ملابسه كلها ووقف عاريًا كما ولدته أمه في عزِّ هذا البرد الشبيه بالزمهرير، وبين إخوته بنت؟
– طبعًا، طار صوابك خوفًا من أن يُصاب الصغير بالتهاب رئوي، قد يودي بحياته.
– فعلًا، طار صوابي، فانهلت عليه ضربًا بأقرب عصا وجدتها، فأحدثت به جرحًا غائرًا فوق الحاجب، وكانت مأساة، واستدعى الأمر نقله بسرعةٍ إلى أقرب مستشفى حيث عُمِلت له بعض الغرز.
– أخطأت يا أستاذ صابر، ويكون خطؤك كبيرًا إذا عالجت مشاكلك مع الأولاد بالضرب بالعصا، فهذا قد يولد أوخم العواقب، وقد تصحو يومًا في الصباح فلا تجدهم في البيت، إذ يتَّفقون على الهرب من قسوتك … لاحظ أنهم يقارنون بين معاملتك ومعاملة المرحومة لهم.
– أعرف أن استخدام العصا في تربية الأولاد خطأٌ جسيم، ولكنهم يستفزونني بحيث أفقد صوابي وأتهوَّر، وأجد نفسي أُشبعهم ضربًا بكل ما تمتد إليه يدي من عصا أو مِسطرة أو ما إلى ذلك، لدرجة أنني أفكر في شراء سوطٍ لأردعهم.
– غدًا، ستقول لي إنك تفكر في شراء سلسلة حديدية تضربهم بها! … ما هذا يا أستاذ صابر؟ … لا … لا … أرجوك ألَّا تشتري سوطًا، وحاول أن تكسب ودَّهم بالمعاملة الحسنة ولين الجانب.
– إنهم لا يسمعون كلامي يا أستاذ عبد الرحيم، وكثيرًا ما أعود من عملي فأجدهم يلعبون في الشارع مع الأولاد الأوباش، فيتعلمون منهم الأخلاق السيئة والألفاظ البذيئة، وقد تصل بهم الحال إلى ما هو أسوأ من كل هذا. وفضلًا عن ذلك أجد ملابسهم قد اتَّسخت وتمزقت، وهذا دليلٌ على العراك مع أولئك السفلة.
– أعلم أن هذه أوضاع لا تسرُّ.
– وما قولك في أنني كثيرًا ما عُدت إلى المنزل فلاحظت اختفاء أشياء كثيرةٍ ثمينةٍ، وعلمت منهم أنهم أدخلوا بعض أصحابهم ليأتنسوا بهم؟
– هذه أمورٌ شديدة الخطورة على أخلاق أولادك.
– تراودني فكرة الزواج مرة أخرى، ولكني لا أحتمل هذه الفكرة.
– ولماذا؟
– أين هي الفتاة التي عندها استعداد للزواج برجل مُقيَّد بأربعة أولاد أكبرهم في الصف السادس الابتدائي … وأصغرهم لم يُكمل سنة ونصفًا من عمره.
– مَن جَدَّ وَجَد … ابحث عسى أن تجد ذات القلب الرحيم … الدنيا ما زالت بخيرٍ … ألم يجد محمود الشرقاوي زوجة لنفسه، وأُمًّا لأولاده الثلاثة، في مسلسل «الحب والصبَّار»؟
– وماذا كانت النتيجة يا أستاذ عبد الرحيم … تركت الزوجة البيت بعد أن ذاقت الأمرين، وكفَّرت معيشتَها جدةُ الأولاد … هذا فضلًا عن أن ما رأيناه على الشاشة، ليس إلا مجرد تمثيل في تمثيل، لا صلة له بالواقع.
– أتقول هذا، يا أستاذ صابر، وأنت مخرجٌ تليفزيوني؟
– نعم، أقوله، ومستعدٌ لأن أُجاهر به على الملأ … فما نراه على الشاشة الصغيرة والكبيرة ليس سوى تخريف في تخريف، وأفكارٌ وليدة تأليفٍ في تأليفٍ، لا تمتُّ إلى الواقع بصلة، ولا يمكن الأخذ بها أو القياس عليها في الحياة الواقعية … هذا كله، كما يقولون: «ضحك على الذقون.»
– ومع ذلك، أراك تحب عملك الذي كله «ضحك على الذقون». وكان الأولى أن يصدر مثل هذا الكلام من شخصٍ آخر، غير مخرجٍ تليفزيونيٍّ أو سينمائي.
– لذلك أعتقد أن الله، جلَّت قدرته، حرمني نعمة الحياة الهانئة، وهو الآن يعذبني بموت زوجتي الحبيبة، وبتمرد أولادي، وعدم طاعتهم أوامري، أو قبولهم حق أبوتي. نعم، أنا أعترف لك، يا أستاذ عبد الرحيم، أن هذا عقاب من الله.
– أنت رجلٌ مؤمنٌ يا أستاذ صابر، ولذا تعتبر ما حدث لك عقابًا من السماء.
– نعم، هو كذلك يا سيدي، ولذا سأُحجم عن الزواج مرة أخرى، حتى لا تتكرر المأساة.