الحب الرائع

تخطَّى الستين من عمره، ومع ذلك ما زال قلبه يخفق بالحب … ورغم كل المحاولات التي بذلها؛ ليقنع نفسه بأن الحب للشباب وحدهم وليس لمن كانوا في مثل سنِّه، إلا أن رغبته في الحب ظلت قوية شديدة. كان في حيرةٍ من أمره، فهو لم يتزوج طول حياته، ولكن سبق له أن أحب بدل المرَّة عشرات المرَّات، وذاق حلاوة الحب بمختلف ألوانه ومذاقاته. وكان يُمني نفسه باليوم الذي يجيء فيمتلئ قلبه بحب الله وحده، ويتفرَّغ للعبادة والصلاة اللتين حرم نفسه منهما طول فترة شبابه بحجة انهماكه في الدرس والتحصيل، والجري وراء لقمة العيش التي تتطلَّب منه كل دقيقة من وقته الثمين.

كان الأستاذ عاطف يحسُّ بعاطفة الحب قويةً متأججةً في كل قطرة من دمه. فإذا أبصر فتاةً جميلةً شُغل بها إلى حين، وتذكَّر شبابه الذي ولَّى، وتحسَّر واعترته نوبة من الحزن الشديد، لأن الفتاة الجميلة التي رآها لم تُعره أي التفات بمجرد أن وقع بصرها على تلك الخطوط البيضاء التي رسمها الزمن في رأسه وأصابت سوالفه وحاجبيه بصورةٍ ملفتة.

مضت على الأستاذ عاطف عدة سنوات عِجاف، ذاق فيها طعم القحط الشديد. فلا حب ولا إعجاب، ولا هوى ولا غرام، ولا مقابلات ولا همسات، ولا أي لونٍ من ألوان الانسجام والترويح عن النفس والتنفيس عن الجوى.

اشتعل قلب عاطف المتصابي، وتأججت فيه النيران المستعرة، وتحلَّى بالصبر والتجلُّد، وترك مقاليد الأمور لمن بيده تصريف الأمور … وأفرغ طاقته المكبوتة في التقرُّب إلى الله، وذكر اسمه وأقواله وآياته العاصمة.

كرَّس الأستاذ عاطف جزءًا من وقته وأمواله لعمل الخير لمن يستحقُّ الخير، وعوَّد لسانه النطق برقيق الألفاظ ومعسول الكلام، حتى رآه الناس شخصًا قد تحوَّل تمامًا عمَّا ألفوه منه … تحول إلى ملاك في عيون البعض، وإلى نصف ملاك في عيون الكثيرين، إذ صفت روحه وارتقت، واكتست بحلل من الشفافية الصارخة، التي قلما تجدها في كثير من الناس، ولا حتى لدى رجال الدين الملتزمين بمحراب الدين وعلومه وفقهه وتعاليمه.

بدأ الأستاذ عاطف يشعر بشيءٍ من الاستقرار العاطفي مع هدوء البال والفكر، ورضي بما قسم الله له من جمال روحي صار حديث المقربين وغير المقربين، وأمعن في زُهده وتمسكه بأثواب الفضيلة والطهارة بعد أن استمرأ طعمهما وحلاوة مذاقهما، وشكر ربه على ما آلت إليه حاله، واكتفى بهذه النتيجة الباهرة التي وهبه الله إيَّاها.

بيد أنه ذات يوم الْتقى بفتاة طلبت أمها منه أن يساعدها في دراسة اللغة الإنجليزية … فإذا بكل شيءٍ يتغيَّر مع الأستاذ عاطف، وعادت العواطف تتأجج بين جوانحه من جديدٍ بعد أن خمدت، أو بعد أن ظنها خمدت إلى الأبد.

كانت عبير هذه في الثانية عشرة من عمرها. تلميذة بإحدى مدارس اللغات بالمرحلة الإعدادية. وشاءت الظروف أن يسوقها المولى إليه. فما كاد أن يراها حتى امتلأ قلبه بحبها منذ النظرة الأولى، ولمس فيها كل معاني الطهارة التي يمتلئ بها قلبه، ووجد فيها البراءة والسذاجة والدعة والجمال الصادق بلا رتوش ولا أصباغ ولا ألوان … كما وجد فيها التلقائية … فبدأ يحبها كما لو كانت ابنته … وطلب من الله العلي القدير أن يجعلها ابنة له … وندم أشد الندم على أنه لم يتزوج ليرزقه الله بفتاةٍ من صُلبه، تكون رقيقة حلوة، في نعومة الصغيرة عبير.

كان الدرس مرة في كل أسبوعٍ يلتقي فيه الأستاذ عاطف بعبير في كل يوم سبت، فكان ذلك اليوم بالنسبة له أعظم أيام الأسبوع وأحلاها وأكثرها بركة، إذ يتمتع فيه بمشاهدة وجه معبودته الصغيرة التي في نقاء الفل والياسمين … تُسعده بأن يراها تلقاه بابتسامةٍ حلوة، فيخيل إليه أن الشمس أشرقت في وجهه، والقمر ابتسم وأضاء له بكامل محيَّاه … فكان يجلس معها بالساعات، كأن الدرس ليس موقوتًا بميقات، ولا محددًا بميعاد … وكانت عبير بدورها ترتاح إلى الجلوس الطويل مع الأستاذ عاطف، ويحلو لها أن تُعدَّ له بيدها قدح القهوة التي عرَفت أنها مزاجه الخاص، وتحس بالسعادة البالغة عندما تراه يرتشف القهوة، ويقول: الله! بارك الله فيمن أعدَّ هذه القهوة اللذيذة.

– هل أعجبتك القهوة يا أستاذ؟

– جدًّا، جدًّا يا عبيرتي.

– بالهناء والشفاء … هل أعد لك قدحًا آخر؟

– ليتك تفعلين يا عبير، ولكني لا أرغب في أن أتعبك.

– لا تعب ولا أي شيء … كما أن تعبك راحة.

– حقًّا، ما أروعك من فتاة … ليتك ابنتي!

– ولم تقول هذا؟ اعتبرني ابنتك.

– وهل تقبلين أن تعطيني هذا الشرف؟

– بل الشرف لي، أن أكون ابنتك يا أستاذ عاطف.

– أخاف عليك من أبوَّتي لك.

– ولم هذا يا أستاذي؟ أبي يحبني كل الحب، ولا أجد ما يُخيفني في حبه.

– لأن حبِّي إياك أقوى من حب والدك.

– إنك تبالغ يا أستاذ … هل هذا معقول؟

– من الصعب عليك أن تتخيلي مقدار الحب الذي أُكنُّه لك.

– أرى حبك إياي يتجلى في عينيك.

– وهل الحب ظاهر في عيني إلى هذا الحد؟

– نعم، ويكاد يقفز من عينيك إلى عيني ويملؤهما.

– ألم يصل إلى قلبك حتى الآن؟

– لست أدري، ما إذا كان قد وصل أو لم يصل بعد … فأنا لست خبيرة في حب القلوب، لأنني ما زلت صغيرةً، ولا أعرف سوى حب الله، وحب والدي.

– ولكنك تقرئين معي ما تزخر به مسرحيات شكسبير من حبٍّ جارفٍ، يقع أحيانًا من أول نظرةٍ … فما هو شعورك وأنت تقرئين سطور شكسبير من الحب بين العاشقين والمحبين؟

– قصص شكسبير مقررة علينا، ولأول مرة أقرأ عن الحب مكتوبًا في الكتب، ومقررًا عليَّ أن أدرسه وأستوعبه وأفهمه وأُلِمَّ به، كأنني سأصير خبيرة بهذا الشيء الغريب الذي اسمه «الحب».

– أوتعتبرين الحب شيئًا غريبًا؟

– كنت أحسبه كذلك، إلى أن وجدت نفسي أحبك من أول نظرةٍ، فظننت نفسي «ميراندا» بطلة مسرحية «العاصفة»، لشكسبير.

– ميراندا في هذه المسرحية معذورة، إذ لم تكن قد رأت رجالًا في حياتها باستثناء أبيها. ولذا، فإنها ما إن أبصرت «فرديناندو»، حتى وقعت في غرامه … أمَّا في حالتك يا عبير، فلا يعقل أن أكون أنا أول رجلٍ يقع عليه بصرك فتقعين في غرامه!

– أقابل رجالًا كثيرين، كأعمامي وأخوالي، وأصدقاء أبي. وفي مدرستنا مدرسون، وكان يعطيني دروسًا قبلك كثير من المدرسين، ومع ذلك، فلا أعتقد أنني شعرت نحو أي واحدٍ منهم، بما شعرت به نحوك، خصوصًا …

– خصوصًا ماذا؟

– خصوصًا بعد أن لمست فيك حبًّا أبويًّا خارقًا، جذبني إليك، وجعلني أعدُّ الأيام متلهفةً إلى لقائك كل يوم سبت … أبي لم يعطني من الحب ما تعطينيه أنت بكلامك الرقيق المعسول، وبنظراتك العامرة بالحنان والعطف، والحب الصادق القوي، الذي لم يسبق أن عهدته من أي شخصٍ قبلك.

– إذا كانت الحال على ما تصفين، فبوسعي أن أُناديك، فيما بيننا، منذ الآن، باسم «ميراندا».

– كذلك أنا، سأناديك في قلبي ونومي، باسم «فرديناندو»، ولن أسمح لأحد، كائنًا من يكن، بأن يُغضبك أو يتطاول عليك بلسانه، أو يُسيء إليك بأي لفظٍ جارحٍ، لأنك تحبني حبًّا أبويًّا، وستجدني معك دائمًا، قلبًا وروحًا.

– حقًّا يا ابنتي العزيزة عبير، ما أروعك من فتاةٍ جديرةٍ بكل عطفٍ وحبٍّ وحنانٍ … ثقي بأنني، منذ هذه اللحظة، سأتَّخذك ابنة لي … ومن حقِّك أن تطلبي ما تريدين، فألبي طلبك على الفور … اسألي تعطَي، مُري أنفِّذ.

– ليس بيني وبينك أوامر ولا طلبات … ما بيننا هو المعروف، واسم الله … أنا ابنتك، وأنت أبي … يا أحلى أبٍ عرفته بعد أبي الذي مات مُنذ عامين.

•••

أثلَج هذا الحديث صدر عاطف، وأفرح قلبه، وجعله يُشفَى من هواجسه وأفكاره، وأسعده أن يجود الله عليه بعد سنوات حياته الطويلة، بالفتاة المُتديِّنة «عبير»، كأغلى هديةٍ يمكن أن يجود بها الخالق الكريم على إنسانٍ محرومٍ من الذريَّة، بينما قلبه مملوءٌ بكل مشاعر الأبوة الصارخة.

وهكذا، أخذ طيف عبير يُطارد الأستاذ عاطفًا، ليل نهار، ويؤرِّقه في نومه، ويُضاعف من شرود ذهنه، وانشغاله في ابنته الغائبة … وارتسمت صورتها في مُخِّه وتغلغلت إلى الأعماق، ونُقِشَ اسمها محفورًا في أعماق قلبه.

فحتى اسمها زكي جميل … يُذكِّر المرء بالنسيم العليل … حلو كالماء العذب السلسبيل … عبق الرائحة ما له مثيل … وسنُّها طاهرٌ نبيل، ينضح بالذكاء والبراءة والسماحة، والبعد عن الخبث والشر والأذى، ولسانها يقطر عسلًا كأنه الحلاوة بعينها، وديدنها هو الصدق والأمانة والوفاء … وتفكيرها الصراحة المطلقة المحضة … لا تعرف اللفَّ ولا الدوران، ولا المكر ولا ما يوسوس به الشيطان.

التقت شفافية عبير بشفافية أبيها الروحي الأستاذ عاطف، ونبل أخلاقها بنبل أخلاقه، وطهارتها بطهارته، وأمانتها بأمانته، ومشاعرها بمشاعره … ولأول مرة في حياة عاطف راح يردِّد في نفسه، قائلًا: «ليتني كنت في مثل عمرها وسنِّها وعظمتها وقوة شخصيتها. ليتني أموت قبل أن يموت حبُّها الأبوي في قلبي.»

وهكذا أنعم الله، جلَّت قدرته، على عاطف الذي لم يتزوج طول حياته، بابنة ملكت عليه شغاف قلبه … وعوَّض عبيرَ عن موت أبيها، بأبٍ يفيض عطفًا وحنانًا ومحبةً. ولله في خلقه شئون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤