الملاك الشيطان

عرفها عندما كانت بالمرحلة الإعدادية. لم يُقابلها وجهًا لوجهٍ ولكن لسانه خاطب لسانها، وعقله تعامل مع عقلها … وكانت «ناهد» هذه تُفضِّل أن يناديها أهلها وأصدقاؤها ومعارفها، باسم الدلع «ناني» الذي اشتهرت به بين زميلاتها في المدرسة، وتؤثره كثيرًا على اسمها الأصلي.

عرف مراد المهندس الشاب الحديث التخرُّج، عرف «ناهد» عن طريق التليفون، وعلم أنها من سكَّان الزمالك، وأنها عضوٌ في نادي الجزيرة حيث تلتقي بصديقاتها المشتركات في ذلك النادي، ولمس في أحاديثه الهاتفيَّة معها، مدى ما تتحلى بها من حلاوة روح وسماحة نفسٍ وطهارة قلب.

أولعت ناني باللغة الإنجليزية، واهتمت بتعلُّمها اهتمامًا شديدًا، لذا كانت تقضي معظم وقت تحدُّثها مع مراد في تعلُّم الكثير من المفردات والمصطلحات الإنجليزية التي كان يُلِمُّ بها مراد … كانت رغبتها في إتقان التحدُّث بالإنجليزية قويةً صادقةً، وأفادها مراد قدر استطاعته إذ كان بدوره من عُشَّاق اللغة الإنجليزية.

طلب مراد من ناني موعدًا يلتقي بها فيه، فأبت بشدة، واحتجَّت قائلة: أنا ما زلت صغيرةً على هذه اللقاءات، ولا يمكن أن أُقابل أي رجلٍ في أي مكان.

– لقد صرنا أصدقاء، ومن واجب الأصدقاء أن يلتقوا، ويعرف كل منهم الآخر.

– هذا صحيحٌ ومنطقيٌّ، غير أنني لا أزال صغيرةً على مثل هذه الأمور، ومن ينطق بالألف، لا بد أن ينطق بالباء، وعلى أية حالٍ، عندي حلٌّ.

– وما هو؟

– أُرسل لك صورتي، كي تستطيع أن تتصورني أثناء حديثك معي بالتليفون.

– لا بأس، وفكرةٌ رائعة. ولن تكتمل روعتها إلا إذا أعطيتني رقم تليفونك، حتى لا تكون العصمة في يدك وحدها.

– آسفة جدًّا. فلا يمكن أن تأخذ رقم تليفوني لأنني لا أعيش وحدي، بل معي أبي وأمي، ومعنا أيضًا دادة «سعاد».

– إذن، فسأنتظر وصول صورتك بفارغ الصبر، وعلى رأي المثل: «من لا يستطيع الحصول على اللَّحم، اكتفى بالمرق.»

– إن شاء الله، تصلك الصورة قريبًا … باي!

•••

بعد أيام قلائل، تسلَّم مراد مظروفًا بسيطًا جدًّا، يحمل اسمه بالكامل، وعنوان سكنه كاملًا أيضًا. وما إن فضَّه حتى عثر على صورةٍ ملونةٍ لفتاةٍ مطموسة معالم الوجه، غير واضحة التقاطيع، ومع ذلك تشير إلى فتاةٍ ممشوقة القوام. فتضايق كثيرًا، إذ كان يتوقَّع صورةً واضحة المعالم تُبيِّن شكل صاحبتها، وخصوصًا وجهها.

– هل وصلتك صورتي؟

– وهل هذه صورتك بحقٍّ، أم صورة خيال غامض المعالم والتقاطيع؟

– ألم أعجبك؟ أحزنتني يا مراد، لأن شكلي لم يعجبك.

– لم أستطع أن أستبين شكل عينيك، ولا خدَّيك أو شفتيك وفمك وعنقك … إنها تشبه صور «خيال الظل».

– إلى هذا الحد؟

– وأكثر من هذا الحد يا ناني … أريد صورة أخرى، أحتفظ بها في جيبي، وأنظر إليها بين كل فينةٍ وفينة، وأُريها لأصدقائي، وأتباهى أمامهم بجمالك وجاذبيتك ورقتك.

– لا أعتقد أن بوسعي أن أُرسل إليك صورة أخرى … هذا رابع المستحيلات.

– يبدو لي أنك تخافينني، رغم أنني لا أعرف عنوانك ولا رقم تليفونك … بينما أنت تعرفين كل شيءٍ عنِّي.

– أما معرفتي اسمك وعنوانك، فمن دفتر التليفون. كما أنني زُرت المكان الذي يقع فيه بيتك وتحدثت مع عامل الجراج، فأخبرني بعاداتك، وكل حركةٍ من تحرُّكاتك، متى تخرج في الصباح، ومتى تعود ظهرًا، ومن هم أصدقاؤك وصديقاتك، كما أشار لي إلى سيارتيك الحمراء والصفراء. وقال إنك تقيم في الدور الرابع بالشقة رقم ٣٦ . وجال بفكري أن أصعد إلى شقتك وألاحظك وأنت تخرج، إذ أخبرني بأنك موجودٌ بالمنزل، ولكني عدلت عن هذه الفكرة.

– ولِم لَم تفعلي؟

– لن تراني يا مراد … وإنما ستسمع صوتي فحسب … موافق أم لا؟

– طبعًا، غير موافق.

– إذن، باي.

•••

أغلقت ناني التليفون في وجه مراد، فضايقه هذا التصرف الذي صدر من هذه الفتاة الصغيرة التي كان يتحدث إليها كما يتحدث إلى طفلةٍ في غضاضة الإهاب لا تعرف العنف ولا قلة الذوق، وكان يبني على صداقتها قصورًا في الهواء. فتألَّم كثيرًا وهو يستعيد أحاديثها معه، وخصوصًا عن ذلك الجار، الذي تظاهرت بأنها متيَّمةٌ بحبِّه، ولم تخرج معه إلا مرةً واحدة سارا فيها على كورنيش النيل أمام منزل مراد.

من حديث ناني لمراد، ما بلبل أفكاره وجعله يندم على عدم مجاراتها، أنها أخبرته بأنها لاحظت ذات يومٍ غياب سيارته الحمراء، فأدركت أنه بالخارج، فظلت تتلكأ مع جارها سائرَين جيئة وذَهابًا أمام بيت مراد، ولم يدرك ذلك الجار أنها معه بجسدها فقط، أما عقلها وعيناها فكانت ترقب اللحظة التي يعود فيها مراد إلى داره، وتُمني نفسها بأن تراه، وفعلًا رأته. فلما سمع مراد ذلك منها، تأكَّد أنها كانت تؤثره بحبها واهتمامها، وإلا لما جازفت بالخروج مع جارها التلميذ كي تحقق غرضًا آخر، أكبر وأعمق.

ظل مراد أكثر من أربع سنين ينتظر أن يحمل إليه التليفون صوت ناني مرةً أخرى، ولكن دون جدوى، فأخذ يسأل نفسه عمَّا عسى أن يكون قد حدث لها. وتذكر أنها أخبرته ذات مرةٍ، أن أباها يريدها أن تتزوج ابن عمها، الذي لا تشعر هي بأي حبٍّ أو ميلٍ إليه. فراح يحاول إقناع نفسه بأنها لا بد وأن تزوجت ابن عمها الذي يعمل بدولة قطر. الأمر الذي أبعدها عن القاهرة كلها والذهاب إلى الدوحة. ولهذا السبب انقطع عنه تمامًا صوت ناني.

حاول مراد أن ينسى هذه الناني كل النسيان، وفعلًا نجح في نسيانها، وكأنها لم تكن في يوم ما، صوتًا يتصل به ويتحدث إليه بالتليفون.

•••

بينما مراد جالسٌ في بيته، ذات يوم يُطالع صحف الصباح، إذ بجرس التليفون يرنُّ، فأمسك السماعة، وقال: ألو … من المتحدث؟

– أنا ناني.

– ناني من؟

– ناني من؟ هل نسيتني يا مراد؟ حقًّا، ما أتعسني وأنا أراك تنكرني كأنك لم تسمع صوتي قبل اليوم، والذي طالما قلت لي أنه متميزٌ عن بقية الأصوات، ولا يتكرر.

– أهلًا، أهلًا يا ناني. صوتك اليوم مفاجأةٌ لي لم أكن أنتظرها بعد غياب أربع سنوات، بل خمس سنوات.

– ماذا حدث لك يا مراد في هذه السنوات الخمس؟ هل تزوجت؟

– كلَّا، لم أتزوج. ولكني خطبت ولم يحدث نصيب، ففسخت الخطوبة. وأنت، هل تزوجت؟

– لا، لم أتزوج، ولا أظنني سأتزوج، لا قريبًا، ولا بعيدًا. وهذا هو ما أنويه أنا، وعقدت العزم عليه. لن أتزوج طول حياتي. ولن أرتبط بأي رجلٍ، إلى الأبد.

– ينمُّ صوتك على أنك حاقدةٌ على الرجال جميعًا … هل وقعت في تجارب مع الرجال؟

– لست ناني التي عرفتها منذ خمس سنوات. أنا كل ليلةٍ مع رجل، أنا وصديقتي منى. وهكذا نقضي معًا سهرات حمراء.

– ما أبشع ما تقولين يا ناني. كل ليلة مع رجل! وماذا حوَّلك من ملاك إلى شيطان؟

– لدي أسبابٌ قويةٌ أحدثت عندي هذا الانقلاب. فقد طلَّق أبي أمي، وتزوَّج غيرها، وهكذا تركني إرضاء لزوجته الجديدة. وبعد ذلك بفترةٍ قصيرةٍ تزوجت أمي رجلًا غير أبي، وتركتني بدورها. وهكذا وجدت نفسي أنا ودادة سعاد ننتقل من فندقٍ إلى فندق، وعرفنا الشقق المفروشة وما يدور فيها من فسق يشيب لذكره الولدان.

– ولماذا لما تلجئي إليَّ، وتطلعيني على مأساتك؟

– لم أرغب في أن تتسخ علاقتي بك … أردت أن تظل علاقتي بك نظيفةً، بعد أن صار كل شيءٍ في حياتي قذرًا. وربما يهمك أن تعرف نوع الرجال الذين أسمح لهم بمضاجعتي. كلهم من السود: من أهالي اليمن والسنغال والسودان ومن على شاكلتهم. لا أسمح لأي مصري بأن يلمس جسمي أو حتى يقترب منِّي.

– وما الهدف من ذلك؟

– إنهم يحترمونني، ويركعون عند قدمي، ويملئون وِفاضي.

– مفهوم … مفهوم.

– كما أنهم لا يتحدثون العربية، وكلامي كله معهم باللغة الإنجليزية. وبذا أواصل هوايتي التي بدأتها معك، وأنا طفلةٌ بالمرحلة الإعدادية. أما الآن فأنا أستاذة في أكثر من ميدان، في اللغات، وفي الرذيلة، وفي التنكيل بالرجال واللعب بهم كأنهم عرائس مربوطة بخيوط نهاياتها في أصابعي أنا وحدي، وكيف أحصل منهم على الدولارات بالمئات وبالألوف، يدفعونها عن طيب خاطرٍ، علاوة على الهدايا من المجوهرات الثمينة.

– غير أن حياتك هذه، يا ناني، محفوفةٌ بالمخاطر الشديدة. فلا أمان للسود لأنهم شديدو العنف، مجانين من ناحية الجنس. ثم إنك لا بد أن تصابي بأكثر من مرضٍ من الأمراض الخبيثة التي لا يمكن الشفاء منها بسهولةٍ، كالزُّهْري والسَّيَلان والقرحات الرِّخوة وغيرها، مما تسبب تأكلًا في الجسم، وتترك آثارًا غائرةً، وقد لا تُشفَى أبدًا.

– جمالي يحوِّل هؤلاء الجبابرة إلى نعاجٍ وخِراف فأصبح أنا الآمرة الناهية … أنا البيضاء وهم السود … أنا المتميزة الوجه، وهم حالكو البشرة، فنكون كما يقول الريفيون: كالبالوظة مع المفتقة!

– وماذا عن عذريتك؟

– عذريتي ذهبت في خبر كان. إنها وهم لا وجود له. إنها كلمة ينطق بها الفم، ويبتلعها الهواء … فُتِحَ الدردنيل من سنوات، وتمر السفن جيئة وذَهابًا في كل وقت وكل حين، ليلًا ونهارًا.

– عذريتك هي شرفك ورأس مالك.

– شرفي ضاع يوم أن ضاع أبي وأمي، وهنت عليهما ليتمتعا باللَّذات الجنسية، كأنهما لم يتذوقاها قبل ذلك لسنوات عدة. تركاني أواجه الذئاب الآدمية وحدي، وهما يعلمان أنني لا بد منحدرة إلى هذا المصير. لقد ضاع رأس مالي بضياع والديَّ.

– يا لهول ما أسمع! ناني تتحول إلى مومس؟

– لا تقل «مومس» … فأنت بهذا تسبُّني … المومس امرأة نكَّل بها الدهر، واعتدى عليها الزمان وحكم عليها بالذل والهوان، دون رحمةٍ ولا شفقة. كما يشرفني أن تصفني بأنني مومس، قل هذه الكلمة كما يحلو لك، كررها ما طاب لك أن تكرِّرها … فأنا فعلًا أقذر من المومس.

– هل أستطيع أن أراك يا ناني، عساي أساعدك في محنتك هذه ومأساتك، وقد أُنقذك من هذه الوهدة القذرة التي تردَّيت فيها.

– هذا لن يحدث بأي حالٍ يا مراد. أنت تعتبرني غير شريفةٍ، بينما تعتبر نفسك الشرف بعينه … ومن ثم فإن لقاءنا مستحيل … وداعًا يا مراد … باي باي. ولكنك في هذه المرة لا تتوقع أن تسمع صوتي مرةً أخرى … وداعًا يا مراد … أنت النقطة البيضاء في ثوبي الملطَّخ بالعار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤