ذات الرداء الأسود
«جينا» فتاةٌ حائرةٌ مترددةٌ … شخصيتها غير ثابتةٍ … لا تعرف كيف تبتُّ في أي أمرٍ كما يجب … تشكُّ دائمًا في آرائها، وتعتقد أنها لا تستطيع أن تجزم في أي مشكلٍ أو أمر من مشاكل وأمور حياتها برأي قاطعٍ صائب.
أحبت جينا عصامًا حبًّا جارفًا استولى على كل عقلها وتفكيرها، رغم أن عصامًا هذا يكبرها بثماني سنواتٍ، وكان شابًّا وسيم الوجه حسن الصورة، قوي الجسم، مفتول العضلات.
وكان جار جينا «حازم» يحبُّ بدوره جينا حبًّا يكاد يكون عِبادة. يطاردها باستمرار من البيت إلى المعهد الذي تدرس فيه … يلتقي بها صباحًا وهي خارجةٌ من منزلها، وينتظرها عند باب المعهد في موعد الانصراف، ويلازمها كظلِّها إلى أن تدخل بيتها.
حارت جينا بين الاثنين: بين جارها حازم وبين عصام المهندس الذي تخرَّج في كلية الهندسة بعد أن عاش في القاهرة بعيدًا عن وطنه الكويت طوال مدة دراسته الثانوية والجامعية، وكان طالبًا مجدًّا قطع سنوات الدراسة بلا تعثرٍ مما يدل على ذكائه وجده واجتهاده. وكان كلما التقى بجينا يقول لها: «أحبك يا جينا ولن أتزوج غيرك.» … لأن جينا كانت على قدرٍ وافرٍ من الملاحة وحلاوة التقاطيع وخفة الظلِّ، والقوام الممشوق المتناسق الأجزاء، فضلًا عن بشرتها البيضاء الناصعة المشربة بالوردية الجميلة، كانت، كما يقولون، «كفلقة القمر».
تلتقي جينا بعصام دون علم أسرتها، في الخفاء ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا … ويجدان كلاهما سعادةً كبرى في هذه اللقاءات. بينما كان بوسع حازم أن يزور جينا في شقتها، هو وأمه وأخته، بحكم الجيرة، ومدى ما بين الأسرتين من علاقةٍ وطيدةٍ بدأت منذ أن كان أبواها على قيد الحياة، واستمرت إلى ما بعد وفاتهما، وإقامتها مع خالتها القاسية، التي لا تعاملها برفقٍ أو حنان، بسبب عدم ارتياحها لتصرفات جينا، وإمعانها في الخروج وحدها، والعودة في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل.
جاء اليوم الذي أصرَّت فيه الخالة على أن تكون جينا من نصيب حازم … وفعلًا، تم الزواج. وفجأة وجدت جينا نفسها وقد تركت دراستها بالمعهد وتعيش في مكانٍ على ساحل البحر الأحمر، حيث يعمل زوجها حازم.
لم تكن جينا سعيدة أبدًا في حياتها كزوجة. ودبَّت الخلافات الشديدة بينها وبين حازم، الذي أمعن في إهمالها في تلك المنطقة النائية عن العمران. وتُقسم جينا يمينًا معظَّمة على أنها لم تمكِّن حازمًا من أن يفضَّ بكارتها أو يضاجعها أو ينال منها أي وطرٍ طوال الأسابيع الثلاثة التي هي كل حياتها الزوجية معه، والتي انتهت بطلاقها منه. وقد أثبت في ورقة الطلاق أنها ما زالت عذراء ولم يضاجعها إطلاقًا. عادت جينا مرة أخرى إلى خالتها التي راحت تسومها كل أنواع العذاب، لأنها اعتبرت هذا الطلاق كارثة تنال من سمعتها وسمعة جينا وسمعة العائلة كلها … ولم تجد جينا مفرًّا تهرب إليه من عذاب خالتها التي قُدَّ قلبها من صَوَّان، إلا أن تعود إلى دراستها بالمعهد، حيث تنسى همومها وضياع حبيبها عصام الذي تضاعف حبُّه في قلبها الكسير المهزوم، بعد فشلها في زواجها من حازم.
طفقت جينا تبحث عن عصام، وآلمها أن تعرف أنه سافر إلى الكويت عقب أن بلغه زواج جينا بحازم. اعتبر هذا الزواج إهانة لمشاعره، إذ كانت قد وعدته بألا تتزوج أي رجلٍ غيره. ولعله أدرك من ذلك أن لا أمان للنساء، وأن كيدهن عظيم، وأنهن شياطين خُلِقْنَ للرجال.
رغم ذلك، ما كاد خبر طلاق جينا من حازم يبلغ عصامًا، حتى أسرع بركوب الطائرة والعودة إلى القاهرة، فالتقى بجينا وكله لهفةٌ واشتياق، وبكى بين يديها من شدة الفرح متمثلًا بقول الشاعر:
لم يحاول عصام أن يُعاتب جينا على ما فعلت … واعتبر أن ما حدث لها ليس سوى وعد ومكتوب لا بد أن تراه العين، وزاد سروره عندما أطلعته على ورقة الطلاق، وعرَف أنها ما زالت عذراء، وأن منافسه ذاك لم يستطع أن يمسَّها أو يُعاشرها معاشرة الأزواج. فارتاح باله وهدأ خاطره، وشكر الله الذي حفظها له بكرًا.
تمت خطوبة جينا لعصام، ولم تكن سهلةً يسيرة، إذ خالة جينا غير راضيةٍ عن زواج جينا وعصام الذي لا تثق فيه. ومن ناحية أخرى، كانت أسرة عصام لا تُطيق اسم جينا الغريب عليهم في بلدٍ عربيٍّ لا يعرف غير الأسماء العربية المألوفة، ولا ترغب في أن يتمَّ هذا الزواج بحالٍ ما. فالفارق كبير بينهما. ماذا يُجبر عصامًا على الزواج بفتاةٍ مطلَّقةٍ وسبق لها الزواج ولعبت بزوجها الأول، بما لم تلعبه أية عروسٍ، سواء في مصر أو في الكويت. وعصام مهندس في السابعة والعشرين من عمره وما زال المستقبل أمامه باهرًا، بينما جينا لم تحصل على أية شهادة جامعية. وعصام من أسرة واسعة الثَّراء، بينما جينا فتاة يتيمة لا تملك مِليمًا واحدًا، وما زالت تكفلها خالتها. كما أن جينا سبق أن خانت عصامًا وارتبطت بجارها حازم، في حين أنها كانت على علاقة وثيقة بعصام، وعلى اتفاق فيما بينهما للزواج. لاحظت جينا سوء معاملة أقارب عصام لها. كان عمه وزوجة عمه يقيمان بالقاهرة، وكانا من أصدقاء خالة جينا، وعن طريق هذه العلاقة تعرفت جينا بعصام، فنشأ بينهما الحب القوي، كما عرفنا … حتى أم عصام، التي حضرت إلى القاهرة لزيارة ولدها، راحت تُعامل جينا معاملةً جافةً عدائيةً. كأنها لا تبارك زواج ابنها المهندس من هذه الفتاة مقطوعة الأصل والمنبت، والتي لولا خالتها، لتسكَّعت في الطرقات. فلما فاض بها الكيل، قالت لعصام: والدتك لا تطيقني يا عصام.
– ومن أوحى إليك بهذا الشعور الكاذب. هذا الكلام غير صحيحٍ بالمرة.
– بل هو صحيحٌ تمامًا، لدرجة أنني أتحاشى زيارتها، ولا تستطيع عيناي أن تلتقيا بعينيها، خشية أن أرى الكراهية في ناظريها فيمتلئ قلبي حزنًا وفزعًا … حتى زوجة عمك، هي الأخرى.
– ما لها زوجة عمي؟
– كلامها لي كطلقاتٍ نارية. لذا أشعر بأنني لست مرغوبةً.
– ولكنني راغب فيك، وكما يقول المثل: إذا كان القمر معي، فماذا يعنيني من النجوم؟ أنا الذي سأتزوجك، فلا تبالي بالآخرين.
– إنك تشترط علي، بعد الزواج، أن أعيش معك في الكويت … معنى هذا، أن حياتي ستغدو جحيمًا لا يُطاق، إذ سأكون تحت رحمة أسرتك وأقاربك الذين لا يحبونني، ويظهرون لي العداوة من الآن … تُرى ما سبب هذه الكراهية!
– لم يحدثوني في هذا الأمر، ولن أسألهم بدوري لأنني أعلم أنهم سيحبونك، ولا بد أن يحبوك إكرامًا لخاطري، بمجرد أن تُصبحي زوجتي.
– هل تعتقد أن زواجي بحازم هو سبب كراهيتهم لي؟
– ربما، لو أنهم يكرهونك حقيقة. ولكنك واهمةٌ، فهم يُحبونك، بينما يخيَّل إليك العكس. وعلى أية حال، أنا شخصيًّا آلمني ذلك التصرف ألمًا شديدًا، ولذا آثرت الهروب من مصر حتى لا أُصاب بانهيارٍ عصبيٍّ من هول الصدمة.
– وما الذي أتى بك ثانيةً إلى مصر، بمجرد أن بلغك طلاقي من حازم، وعودتي إلى بيت خالتي؟
– ربما أتت بي الرغبة في الانتقام.
– الانتقام من من؟
– من الحب الذي كاد يُحطِّمني، ويحيلني إلى لا شيء.
– فهمت … إذن، فأنت تريد الانتقام منِّي، فرصة فريدة في نوعها، على اعتبار أنني احتقرت حبك، وفضَّلت عليه حبَّ حازمٍ. إنك تريد أن تستردَّ ما سلبه منك شخصٌ آخر.
– أليست هذه هي الحقيقة المرَّة؟
– ولكنك تعلم أنني لم أحب أحدًا سواك. وأقسم لك بشرفي على أن حازما لم يمسَّني، ولم ينل منِّي غرضًا، ولم يبصر أي جزءٍ من جسمي تستره الثياب. وأنا لا أزال بِكرًا، وسوف تتأكد من صدق قولي، عندما تتزوجني.
– هناك موضوعٌ آخر أغضب أسرتي منك كل الغضب.
– وما هو؟
– هل يجوز لك أن تأتي للعزاء في عمي الذي مات منذ أسبوع، وأنت ترتدين فستانًا رمادي اللون؟
– وماذا كنت تنتظر منِّي أن ألبس؟
– فستانًا أسود. إنه عمي بمثابة أبي، وفي مقامه ومنزلته.
– وما قولك في أنه ليس عندي فستانٌ أسود على الإطلاق، ولم يسبق لي أن ارتديت اللون الأسود … فلبست أحْلَكَ ما كان عندي، وهو اللون الرمادي الداكن. لا تنس أنني في التاسعة عشرة من عمري ليس غير.
– أهذا شعورك نحوي، ونحو موت أقرب المقربين إلي … أفهم من هذا، أنني يوم أموت، قد تلبسين اللون الأبيض.
– الحزن في القلب يا عصام، وليس في الملبس.
– ولكن هناك تقاليد.
– لم يكن عندي فستانٌ أسود. ولم أشأ أن أختفي في هذه المناسبة، كي لا يُقال إنني لم أُجامل والدتك ولا زوجة المرحوم عمِّك.
– أنت لا تصلحين زوجة لي. أنت فتاةٌ مستهترةٌ. لم تحترمي مشاعري يوم أن تزوجت غيري في وقت كُنَّا فيه معًا في ذروة الحب والتمسك بالوعود الصادقة، ألا يتزوج أحدنا غير الآخر. والآن، أراك لا تحترمين مشاعر أسرتي وأقاربي. أنت آخر من تصلح لأن تكون زوجتي. ومن كانت على شاكلتك، لن أتورَّع عن إلقاء دبلة الخطوبة في وجهها، والابتعاد عنها، مخافة المصير المؤلم.
وهكذا، ترك عصام جينا وانصرف. أما هي، فانهارت تمامًا، وانهمرت دموعها أنهارًا. وضاعت كل آمالها، وأصرَّ ت على ألا تواصل دراستها بالمعهد حتى يكون الفشل كاملًا في كل شيءٍ.