الصبر مفتاح الفرج

فرح الدكتور إبراهيم إذ رزقه الله مولودة حلوة التقاسيم باسمة الثغر باستمرار، فسمَّاها «فريدة» مؤملًا في أن تشبَّ فريدة في كل شيءٍ: فريدة في جمالها، فريدة في تعليمها وفي أخلاقها ومستقبل حياتها. وهكذا، امتلأت حياته، لأول مرةٍ، بالسعادة الخارقة لأنه ظل متزوجًا مدة أربع سنواتٍ كاملة، لم يُنجب خلالها أطفالًا، حتى منَّ الله عليه أخيرًا بفيفي، كما تعوَّد أن يُسمِّيها بعد أسبوعٍ من ولادتها.

ما كل ما يتمنى المرء يُدركه، إذ يبدو أن فرحة الدكتور إبراهيم كانت وقتيَّة، فإن ابنته التي توسَّم فيها أن تكون مصدرًا للسعادة الأبدية، تتحول إلى صورةٍ على نقيض ما توقَّعه الدكتور إبراهيم، ووضع أمله فيه.

بدأت مشاكله مع فيفي وهي في الشهر السادس من عمرها، إذ ضَمُرَ جسمها وامتقع لونها واشتد صراخها وعويلها، مما يدلُّ على أنها تُعاني ألمًا شديدًا، ولما عرضها على أشهر الأطباء الأخِصَّائيين، أجمعوا على أنها تعاني من فقر دمٍ شديدٍ جدًّا، وانخفاضٍ كبير في نسبة كُرَيَّات الدم البيضاء، وعلى أن علاجها يتطلَّب حرصًا واهتمامًا كبيرين، وأنه قد يستغرق عدة سنواتٍ. ومن هؤلاء الأطباء من همس في أذن أبيها بقوله: ليتك تتركها بغير علاجٍ لتموت في غضون شهرين على الأكثر، فتوفر آلاف الجنيهات التي ستنفقها على علاجها، دون جدوى.

ما كاد الأب يسمع قول هذا الطبيب المشهور حتى ذُعر لمجرد الفكرة، وأبى أن يعمل بمشورته مهما يُكلِّفه علاج فيفي من أموال. بدأت الرحلة الطويلة مع نفس الأطباء، وأرقى المستشفيات، حوالي خمسة وعشرين عامًا، أنفق فيها الدكتور إبراهيم ما لا يقل عن مائة ألف جنيه أجورًا وأثمانًا لمختلف العقاقير والدم الذي كان يُنقل إليها يوميًّا تقريبًا. هذا علاوة على عذابه الفكري والبدني، وهو يتحمَّل عبء هذه الابنة الغالية. وكان الله قد أنعم عليه بفتاتين أُخريين، سمَّاهما: «نادية وليلى» وبولد واحد سمَّاه «أمين». رغم ما كان يتحمله الدكتور إبراهيم من أعباءٍ ماليةٍ تئن لثقلها الجبال، فإنه لم يقصِّر أبدًا في الإنفاق على أولاده الثلاثة الآخرين، فأدخلهم خير المدارس، وأنفق على تعليمهم بسخاءٍ ما بعده سخاء.

وفي يوم حالك السواد، صعِدت روح الدكتور إبراهيم إلى باريها بعد أن رقد مدةً قصيرةً بالمستشفى، تاركًا عبء تربية أولاده الأربعة إلى أمهم التي كانت تتحمَّل العذاب والألم مع زوجها بإيمان ثابت في الله جلَّت قدرته وحكمته، كأنها الطود الراسخ، قلَّما تشكو أو تتذمر، مقتدية بزوجها الراحل الكريم، وإذ كانت بدَورها طبيبة، فقد كانت أكثر الناس ألمًا لحالة فيفي، واستمرت تنفق على علاج هذه الابنة المسكينة حتى آخر لحظة من عمرها.

وأخيرًا اختار الله فيفي إلى جواره، فاحتملت الأم الصدمتين، صدمة موت زوجها، وبعدها بأقل من ستة شهور صدمة وفاة فيفي الحبيبة التي كانت أكبر أولادها.

مرضت الأم المؤمنة، ولزمت الفراش مدة طويلة إثر صدمتها الأخيرة وهي لا تزال تردد: «سبحان من لا يُحمد على مكروه سواه.» … صدمتها المقادير القاسية، إذ خطفت منها رفيق العمر الغالي، كما خطفت الفتاة التي كانت قُرة عين أبيها وحبيبته.

قاسى الأولاد الثلاثة شتى المتاعب لمرض أمهم، وخيَّمت على البيت سحابةٌ كثيفةٌ من الكآبة والحزن والقلق. لقد تصدَّعت أهم أركان البيت، إلا أن العناية الإلهية أنقذت الأم من مرضها الشديد، واستطاعت بعد عدة شهور أن تعود إلى عملها بجدٍّ ونشاطٍ، كي تكفل لأولادها عيشةً سعيدةً. وحاولت الأسرة أن تستأنف حياتها العادية، مجترَّة آلامها في فقد أعز أفرادها.

كبِر الأولاد، وزاولوا العمل، وخفَّ العبء على الأم … تخرَّج أمين في كلية الطب، ففرحت الأسرة لنجاحه وتوفيقه، كما حصلت نادية على ماجستير من الجامعة الأمريكية، وتفوقت ليلى في دراستها بالجامعة الأمريكية وحصلت على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية.

جاء اليوم الذي أصرَّ فيه الدكتور أمين على السفر إلى أيرلندة ليتخصص في الأمراض العصبية وعمليات المخ، فكان سفره زلزلة قوية للأسرة، إذ كان هو الرجل الوحيد فيها، والذي حلَّ محل أبيه بعد وفاته. ولكن الأم اضطُرت إلى الرضوخ، على مضضٍ، لرغبة ابنها، حرصًا على مستقبله. وهكذا، سافر الدكتور أمين إلى أيرلندة، وترك أمه مع شقيقتيه: نادية وليلى.

صبرت الأم من جديدٍ، فقد غاب الولد عن ناظريها، واختفى صوته من أذنيها، وبدأت تعيش على سماع صوته في التليفون، وما تقرؤه من سطوره في الخطابات التي كان يُرسلها إليها من أيرلندة كل أسبوعين تقريبًا. وراح جسمها يترهَّل، وقواها تخور شيئًا فشيئًا، وصار مشيها وئيدًا من فرط ما فوق كتفيها من هموم وأفكار، وخوف من المستقبل الخئون.

عندئذ نصَّبت نادية نفسها رجلًا على البيت، وأخذت تُشرف على كل شيءٍ داخل البيت وخارجه. تخرج في الصباح الباكر متجهة إلى عملها بجدٍّ واهتمامٍ وجديَّة تفوق الوصف، حتى إذا ما انتهت من عملها الصباحي، ركبت سيارتها الصغيرة، واتجهت إلى عمل بعد الظهر، ولا تعود إلى البيت قبل الثامنة مساءً، لتجد أمها تنتظرها على أحرِّ من الجمر، تسألها عشرات الأسئلة لتطمئن على أحوالها، وهل تناولت إفطارها وغداءها، أم ظلت طول اليوم على الطَّوَى ببطنٍ خاوٍ.

تُعِدُّ نادية وليلى مائدة العشاء، فيلتف شمل الأسرة على مائدةٍ واحدة؛ لأن العشاء هو الوجبة الوحيدة التي يمكن لثلاثتهن أن يجتمعن فيها حول مائدةٍ واحدةٍ، تشاركهن خالتهن التي كانت تحسُّ بآلام أختها الدكتورة وداد، وبالوحدة الشديدة التي تكتنف حياتها بعد غياب الكل من حولها … فليلى تخرج صباحًا ولا تعود إلا في السابعة مساءً لأنها تعمل في شركةٍ أجنبيةٍ، تُحتِّم عليها العمل فترتين: صباحية ومسائية … ولما كنت هذه الشركة بعيدةً عن البيت، تُضطر ليلى إلى أن تقضي فترة الفراغ ظُهرًا في مكان العمل، حيث تتفانى في خدمة الشركة بلا أجرٍ ولا عائد.

استقرت الأوضاع على ذلك النحو فترة من الزمان، وبدا كما لو أن الزمان قد أخذ يملأ جو البيت بستائر من الهدوء والاستقرار والراحة، وبدا كما لو أن الجميع قد شرعوا يستنشقون هواءً طريًّا يختلف كل الاختلاف عن هواء السنوات الماضية القاسية.

وذات ليلةٍ، أعدَّت الابنتان وجبة العشاء كالمعتاد، وكانت الخالة موجودةً هناك؛ لتكون إلى جانب أختها وابنتاها في عملهما، وكان جهاز التليفزيون يعمل، والكل سعيدٌ. وتناولت الأم طعامها هانئةً، ثم قامت لتغسل يديها، وما كادت تنصرف من باب الحمَّام حتى دخلت حجرة نومها واستلقت على فراشها. وفي الحال سمعت الخالة صوت حشرجة يصدر من تلك الحجرة، فهرعت إلى سرير أختها، فأطلقت صرخةً مدويةً هزَّت جميع أركان الشقة.

في لمح البصر، انقلبت الأوضاع، وحدثت أمورٌ لم تكن في الحسبان … وما هي إلا ثوانٍ حتى اكتشفت الأسرة أن الدكتورة الوالدة قد لفظت أنفاسها الأخيرة … وهكذا اختلَّ توازن هذه الأسرة … حتى الأم، التي كانت محطَّ آمال الجميع، تركت البيت والدنيا لتصير ابنتاها وحدهما تُجابهان الحياة بمفردهما، بينما أخوهما الوحيد في أيرلندة لا يعلم شيئًا عن هذا الخبر الجلل، ولا عن الخسارة الجسيمة التي حلَّت بأختيه … بل كان العذاب ينتظر قلبه وفؤاده ووجدانه، وقد ضاع أمله في أن يعود لأمه وقد حصل على أعلى الشهادات الطبيَّة، كي تفخر به، ويعوِّضها عن فقد أبيه، وما عانته من آلام وعذاب منذ أن عرفت الزواج والحياة الزوجية.

كانت جنازة الدكتورة وداد مؤثرةً جدًّا، بكى كل من سار في تلك الجنازة، إذ كانت هذه الراحلة أمًّا بمعنى الكلمة، ومثالًا صادقًا للأم المكافحة المخلصة المتفانية في خدمة زوجها وبناتها وابنها … وكانت تقيةً صالحةً تسعى إلى عمل الخير بكل ما أُوتيَت من حولٍ وطولٍ، وتتفانى في ذلك حتى نشأت ابنتاها على نفس النهج من حب الخير، بالانضمام إلى الجمعيات الخيرية، والعطف على الفقراء والمحرومين، وتعليم الصغار لمحو الأمية.

حضر الدكتور أمين من أيرلندة بعد انتهاء الجنازة بيومٍ واحد. وأخذ يتلقَّى التعازي بوجهٍ صارمٍ ثابت، وقلبٍ مؤمنٍ بالله وبقدره … بدا رجلًا بمعنى الكلمة، وتماسكت الابنتان مع أخيهما، فحبسوا دموعهم جميعًا، وكبتوا مشاعر حزنهم … وبعد يومين، عاد أمين إلى عمله في أيرلندة، وخلا البيت من جديد، من رجل البيت الوحيد … ترك أمين البيت وهو يعلم أن شقيقتيه على قدر المسئولية التي ستضطلعان بها بعد موت والدتهما، وأنهما تتصفان بخلقٍ متينٍ قويٍّ، وتعرفان جيدًا كيف تدبِّران الأمور.

بعد ذلك حضر أمين جنازة الأربعين … وكانت مفاجأةً لأختيه ولخالته، أن حضر إلى القاهرة وبصحبته فتاة أيرلندية على قدرٍ عظيمٍ من الجمال الهادئ والفتنة الجذَّابة والصوت العذب، فقدمها إلى شقيقتيه وخالته وأخواله وأعمامه وعمَّاته، على أنها زوجته المستقبلية، وأنه سيعقد قرانه عليها في الكويت حيث سوف يستقر بها كطبيبٍ بأحد مستشفياتها الكبرى، ولسوف تعمل معه خطيبته بنفس المستشفى، إذ تخصصت في التمريض كحكيمة (سستر). وقد تعرَّف بها من خلال عمله معها في أحد مستشفيات أيرلندة.

سافر أمين وخطيبته إلى الكويت، وبعد أسبوعين من استقرارهما هناك، عقد قرانه على عروسه الأجنبية، وحضرت شقيقتاه حفل الزفاف وكان بسيطًا جدًّا، ولما عادتا إلى القاهرة أخذتا تتقبَّلان عبارات التهنئة من كل من سبق أن عزَّاهما في وفاة والدتهما. وبذا صدق الشاعر إذ قال:

هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزون حتى تبسَّما

لأول مرةٍ، عرفت هذه الأسرة معنى الفرح … رغم أنه تمَّ في بلدٍ شقيقٍ، وكانت الأختان تتمنيان أن يحدث الزفاف في بيتهما الذي لم يعرف حتى الآن سوى الأحزان المتعاقبة.

ما إن مر عامٌ آخر، حتى لاح فرحٌ جديدٌ عمَّ الأسرة والأهل والأصدقاء والمعارف، إذ أُعلنَت خطوبة ليلى للدكتور «رامز». ولأول مرةٍ عرفت ليلى طعم الابتسام والفرح. أما أختها الكبرى نادية، فباركت هذه الخطوبة وفرحت لها من أعماق قلبها، ومضت تُسهِّل لها كل أمورها بما وسعها من قوةٍ وإخلاص، حتى تمَّ الزفاف وكان على ليلى أن تغادر منزل الأسرة كي تنتقل إلى بيت زوجها بمدينة نصر، القريبة من القاهرة.

وهكذا، خلا البيت على نادية وحدها، فوجدت نفسها جليسة الوحدة القاسية، لا أنيس ولا جليس، ولا أب ولا أم، ولا أخ أو أخت … بل كل ما هُنالك فراغٌ قاتل، كله ذكريات أليمة؛ فهذا فراش أبيها، وذاك فراش أمها، وذلك فراش أختها فريدة، وهذه حجرة أخيها أمين الخاوية، وتلك حجرة ليلى خالية.

حكم الزمان على نادية، بعد طول الكفاح، بأن تجتر الأيام، وتأسو بثقلها … فشرعت توزِّع وقت فراغها، عقب الانتهاء من العمل، في زيارة عمَّاتها وخالاتها وصديقاتها، حتى إذا ما عادت إلى البيت، هرعت إلى الفراش مُتعبةً منهوكة القوى، تنشد النوم الذي كان يستحيل عليها في معظم الليالي … فما أكثر الذكريات الأليمة التي تجتاح رأسها وقلبها … وكان معظم عزائها زيارة ليلى وزوجها لها كل يوم جمعة بطوله، وزيارة خالتها الوفيَّة لها في كل عشاء تقريبًا.

مرت السنون وتعاقبت الشهور، وتخطَّت نادية، بعد كل الذي حدث في حياتها، تخطت سنَّ الشباب الجميل، وبلغت الثامنة والثلاثين من عمرها، وأقنعت نفسها بأنها ستصبح صورةً طبق الأصل من خالتها، التي تجاوزت السبعين ولم تتزوج … على أية حال كانت مؤمنةً تضع في ذهنها قول الشاعر:

دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عين وانتباهتها
يغير الله من حالٍ إلى حال

تعرف أن الزواج موضوع لا يد فيه للإنسان، فقد تعلمت من أستاذ التربية الدينية أن المرء يوم أن تحبَل به أمه، يُكتب له مَن سيتزوج؛ أي أن الزواج قسمة ونصيب.

وهكذا، في يوم لم يكن منتظرًا ولا مرسومًا جاء من طرق باب شقة نادية؛ ليقول لخالتها: «أنا المهندس عادل منتصر، جئت من بلدتي في أقصى الصعيد، لأطلب يد الآنسة نادية، بعد أن علمت بتاريخ أسرتها من بعض أقاربي في القاهرة فعسى أن يكون لي شرف القبول.»

بعد السؤال والتحرِّي والتقصِّي وافقت نادية وخالتها على الخطوبة … فجُدِّدَت الشقة وطُلِيَت جدرانها … وتخلصت نادية من كل الأثاث القديم؛ ليحل محله أثاثٌ جديد … وبدأت الثُّرَيات تتلألأ في حجرات الشقة وأبهائها ورَدَهاتها، وعفا الدهر على قصص الحزن والأهوال الماضية.

وفي غضون بضعة أشهر، زُفَّت نادية إلى عادل في حفلٍ بهيجٍ حضره أمين وزوجته وليلى وزوجها وجميع الأهل وفرحوا مهللين ومكبِّرين.

كُتب لنادية الصابرة المؤمنة أن تعيش كأسعد فتاة … عاد إليها شبابها، وانمحى من وجهها ما كان قد ظهر به من تجاعيد … صبرت وقامت بكل ما هو مطلوب منها في الحياة، بإيمان ورضوخ لإرادة الله عز وجل … فكافأها الله مثلما كافأ أختها وأخاها … وهكذا، لم تندثر هذه الأسرة، بل تشعَّبت وتفرَّعت … وغدًا نسمع عن الأحفاد والحفيدات … والكل يعيش في سلامٍ وهناء وسعادةٍ، شاكرًا المولى الذي منع فأعطى، وعذب ثم سمح وصفح، وجرب ثم جازى، وهو على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤