الحجاب أولًا
كاميليا فتاةٌ على جانبٍ لا بأس به من الجمال والثقافة إذ تخرَّجت من جامعة القاهرة بكلية الآداب قسم الفلسفة، وتمتاز بالأدب الجمِّ والتمسك بتعاليم دينها والاحتشام والعفَّة … وكانت تعتبر الدراسة الجامعية رسالةً هامةً، ولذا لم تهتم بشيءٍ أكثر من اهتمامها بالدراسة والتحصيل فكانت دائمًا من أُولَيات فرقتها الدراسية، لم ترسب في أي امتحانٍ ولم تتخلَّف في أية مادة طوال حياتها بشتى المدارس وفي الكلية … توَّجت رأسها بتاجٍ من الجمال، مرصَّع بالأدب والأخلاق والتدين وحب الخير والعلم.
كانت طوال سنوات دراستها جادةً صارمة، لا تجري وراء الأهواء، ولا تستسلم لتصرفات زملائها الخرقاء التي كانت تعتقد أنها تصرفاتٌ صبيانية، لا تستسلم لها غير الفتيات ناقصات العقل والدين.
وحتى بعد تخرُّجها في قسم الفلسفة، شغلت وقتها في صقل معلوماتها بالتبحر في اللغة الإنجليزية بالجامعة الأمريكية، من باب استغلال الوقت فيما هو نافع ومفيد، وكوسيلة لكسب رزقها إذا ما لجأت إليها صديقة لتساعد أطفالها الضعاف في تلك اللغة بمدارس اللغات.
طابت لكاميليا الحياة إلى حين، وهي ترى إقبال الصغار عليها للتقوية في اللغة الإنجليزية، ثم اكتشفت أنها لم تتمكن بعدُ من تلك اللغة الأجنبية وأن مستواها لا يصل إلى مستوى ما في الكتب من معلوماتٍ تتطلب التوغُّل في دقائق اللغة التي أقحمت نفسها فيها لمجرد أنها التحقت بالجامعة الأمريكية لفترة لم تزد على ثلاثة أشهر، حسبت بعدها أنها قد ألمَّت بكل ما في الإنجليزية من صفاتٍ غريبة صعبة وقواعد شاذَّة.
وهكذا لجأتْ إليَّ كاميليا كمدرس خصوصي يساعدها على مواجهة كتب مدارس اللغات. ولكنها سرعان ما ملَّت عندما أدركت أن اللغة الإنجليزية بحرٌ بعيد الغور مترامي الأطراف، لا يمكن قطعه أو عبوره في شهور، لأنه يحتاج إلى سنوات وسنوات من التخصص والتفرغ.
تراجعت كاميليا عن فكرة التدريس ولزمت دارها لتفرغ تمامًا لخدمة أبيها المليونير وقد بلغ من الكبر عِتِيًّا. معتقدة أنها بذلك تؤدي نحو أبيها ما يفرضه عليها دينها من حب الأبوين واحترامهما وخدمتهما والإحسان إليهما.
وفي بعض الأحيان، كانت كاميليا تتذكر أمها العظيمة التي خطفها الموت رغم ما كانت عليه من صحةٍ، وما كانت فيه من غرورٍ ورخاء، وفوق ذلك كانت بالغة الجمال والأدب والاحتشام. حزَّ في نفس كاميليا وحدتُها في البيت كأنما قد حُكِمَ عليها بأن تظل وحدها، تخدم أباها وترعى شئون البيت، وألا تستفيد من العلوم التي تعلمتها، إذ رفض أبوها الواسع الثراء أن تعمل ابنته هذه في مصالح الحكومة أو في أي قطاعٍ خاصٍّ، لأنها سترث بعد وفاته ربع تلك الثروة الطائلة.
بدأ الملل يتسرَّب إلى نفس هذه الفتاة الفاضلة، وسئمت حياتها التي أيامها كلها سواسية، تمر على وتيرةٍ واحدة، ما تصبح فيه تُمسي فيه … وما زاد الطين بَلَّةً جفاء والدها الغريب، الذي راح يعاملها معاملةً قاسيةً، ولم يعد يطيق بقاءها معه تحت سقفٍ واحد. وأخذت هذه المعاملة تزداد حدةً وقسوة، يومًا بعد يوم، حتى فكرت هذه الفتاة المسكينة أن تترك بيت أبيها، وتعيش لدى شقيقتها المتزوجة، أو عند أخيها المتزوج. ولكن خُلُقها السامي جعلها تعدل عن هذه الفكرة، لأنها اقتنعت فيما بينها وبين نفسها بعدم جدوى ترك أبيها وهو في تلك السن المتقدمة، وأن بقاءها معه هو الحل الأمثل.
زاد صياح الأب صباحًا ومساءً، لا يعجبه أي شيء، مع أن كاميليا لم تقصر في أي أمرٍ ولا في واجبٍ من واجباتها، ولم تألُ جهدًا في تلبية كل طلباته وإعداد كل ما يلزمه … ولكنه رغم هذا كان دائم التأفف والتبرم والصياح، ووصف ابنته بالإهمال وعدم الاهتمام بشئونه وشئون البيت … يبدو أن موت زوجته قد أثَّر في نفسيته، كما أن للسن حقًّا … ولكن ما ذنب هذه المسكينة وكان يجب عليه أن يرعى خاطرها وقد أصبحت وحيدةً في البيت، لوفاة أمها وزواج أخيها وأختها … وهكذا غدت كاميليا تزداد اقتناعًا، في كل يوم، بأن الحياة مع أبيها هي الموت بعينه، وكرهت أباها، أو هكذا خُيل إليها … ولكنها كانت تراجع نفسها في بعض الأحيان، وتقول لنفسها، وهي أستاذة الفلسفة: إذا كنت أنا لا أتحمَّل عصبية أبي وهو في هذه السن وأواخر الشيخوخة، فمن يتحملها؟ أي خادمٍ أو أية خادمةٍ، لا يمكن أن يطيقه وربما عمل على دسِّ السم له للتخلص من مضايقاته … وعلى هذا ترضخ صاغرةً لقضاء الله، وإساءات أبيها.
لجأت كاميليا إلى الصلاة، تطلب من المولى العلي القدير أن يخلِّصها من ذلك الجحيم، بأن يأتيها ابن الحلال فينتشلها مما هي فيه من عذاب … فصارت لا تترك فرضًا من الصلاة إلا وتُقيمه في حينه، وتصوم رمضان، وجزءًا من رجب، ومثله من شعبان.
وإذ تمسكت كاميليا بتعاليم دينها، لبست الحجاب، واكتشفت أن الحجاب زادها جمالًا وجاذبيةً وإغراءً … وكانت لا تظهر في بيتها إلا محجبةً … فلما أبصرها أحد أصدقاء أبيها، تقرَّب إليها، وطلب يدها، فوافقت من فورها، إذ وجدت فيه مخلِّصها، واعتبرت أن الله تعالى قد سمع دعاءها، واستجاب لصلاتها، وأن ساعة الخلاص من الذل الذي هي فيه قد دنت واقتربت.
بيد أن الفرحة لم تتم، إذ كانت لهذا العريس طلبات رفضتها كاميليا، شكلًا وموضوعًا، ولا يمكن أن تستجيب لها بأية حالٍ من الأحوال … وافقت على الطلبات المالية كلها، ولم تعترض عليها. غير أنها صُدمت عندما اشترط عليها أن تخلع ملابس الحجاب، وترتدي الثياب الفرنجية، ليس في البيت فقط، ولكن في الطريق أيضًا. كما اشترط عليها أن تتبرج بالأصباغ والمساحيق وتقصَّ شعرها الطويل. اصطدمت كاميليا بهذه الشروط اللاأخلاقية التي وقفت عقبةً كأْداءَ في سبيل زواجها وإنقاذها من تعسف والدها … كيف توافق على تنفيذ هذه الشروط، وهي الفتاة المحجبة التي تقيم الصلوات الخمس، الفرض منها والسنة، وكذلك التراويح. وكيف تقبل طلاء وجهها وشفتيها وخديها وحاجبيها ورموش عينيها بالأصباغ، وتصير مثل «عروسة المولد»، وكيف ترتدي الملابس التي تظهر كل تقاطيع جسمها، وتبدي أكثر مما تُخفي، والمفتوحة من الصدر فتبدي نهديها، ومن الخلف فتبدي ظهرها … كلا، وألف مرة كلا … «يفتح الله يا سيدي!» أنا أتمسك بتقاليد أسرتي، وقول باحثة البادية:
وقولها في قصيدة أخرى:
حاولت كاميليا أن تقنع العريس بأنه لا يليق أن يطلب هذه الأمور وهو المسلم المؤمن … ومما زادها تمردًا على هذا الطارق أنه استطاع إقناع أبيها بفكرة التفرنج … فراح أبوها، بدوره، يذم لباس الحجاب ويقول إنه يؤخرنا إلى الوراء مائة عامٍ، كما أن أمها لم تعرف ملابس الحجاب، ولا أختها المتزوجة.
أصرَّت كاميليا على عدم خلع الحجاب، ووقفت ثابتةً على رأيها والتمسك بتقاليد دينها … ورفضت بإباء وشمم أن تتزوج هذا العريس الذي يريدها غانيةً فاضحةً، أكثر منها زوجة صالحة وأمًّا فالحةً في تربية ما قد يُنعم الله عليها به من ذرية.