مقدمة
بسم الله الحي الأزليِّ
لم يخطر لي يوم كتبت رواية المملوك الشارد أنها ستصادف ما صادفته من استحسان الأدباء لها، وإقبالهم على مطالعتها، واعتنائهم بانتقادها أو تقريظها، فإن كتبهم ورسائلهم قد انهالت عليَّ انهيال الغيث، وهم فيها بين منشطٍ ومستحسن ومقترح ومنتقد ومقرظ. وقد تكرم بعضهم بدرج ذلك في بعض الصحف اليومية، وعَنَتْ مجلة المقتطف العلمية بانتقاد تلك الرواية انتقادًا دقيقًا، فعلمتُ من خلال ذلك أن الرواية على حقارتها قد استحثت الأذهان للنظر في الروايات التاريخية وانتقادها؛ مما يدلك على حاجة البلاد إليها، ويوجب ثنائي لحضرات القراء، وشكري لفضلهم؛ لأنهم جرَّءوني على كتابة رواية أخرى هي هذه. اخترتُ لها موضوعًا أقرب إلى حالتنا الحاضرة من موضوع تلك، فجعلتها تتضمن الحوادث الأخيرة في مصر والشام، وأخصها الحوادث العرابية والسودانية، وحادثة سنة ١٨٦٠ في دمشق، وما تخلل ذلك من الأحوال والأعمال؛ مما لا يفي التاريخ بتفصيله حتى يتمثل للذهن تمثلًا واضحًا.
وقد أفضتُ بنوع خاص في وصف البلاد السودانية وعوائد أهلها، وأحوال المتمهدي الداخلية، مما لم يرد في كتب التاريخ وإنما عرفتُه باختباري الشخصي مذ وطِئتُ تلك الأقطار سنة ١٨٨٤، واختلطت بأهلها، وحضرت مجتمعاتهم ومواقع قتالهم، وتمرنتُ في لغتهم، واستطلعت سائر أحوالهم، وإما نقلًا عمَّن فرُّوا مؤخرًا من حوزة الدراويش بعد أن قضوا في أسرهم السنين الطوال، وقد عرفوا عوائدهم وأخلاقهم وسائر أحوالهم؛ فكلُّ ما سأذكره عنهم حقيقي يُركن إليه، ويُعتمد عليه اعتمادًا لا يقلُّ عن اعتماد كتب التاريخ بشيء.
على أني لم أختر هذا الموضوع إلَّا إجابة لاقتراح بعض الأصدقاء، فلبيت الدعوة راجيًا أن تقع خدمتي لديهم موقع الاستحسان، ولا ألتمس إغضاءَهم عما يلاقونه فيها من الزلل، بل أتقدم إليهم أن يوازروني بما عوَّدوني من النصائح والملاحظات، ولا حاجة إلى تكرار إقراري بالعجز، ولا سيما في فن الروايات التاريخية؛ لوعرة مسلكها، وكثرة عقباتها، وتطفُّلي على خوض عبابها؛ فقد طالما أقررتُ بذلك فيما كتبته قبل الآن، ولكني أكرر الرجاء لحضرات الأدباء وذوي الفضل من المُطَّلعين أن يمدوني بآرائهم، ويتحفوني بإرشادهم؛ توصلًا إلى كتابة ما تروق لديهم مطالعته؛ لأني إنما أكتب لهم، ولا غرض لي إلَّا ارتياحهم لما أرجو أن يقوم لديهم مقام بعض الواجب عليَّ نحوهم، مما تلذ لهم مطالعته ساعات الفراغ؛ آملًا أن تكون هذه الرواية أقلَّ نقصًا، وأقرب إلى رضائهم من تلك، فإذا تحقق لديَّ ذلك نشطت إلى مواصلة الكتابة في هذا الفن، وبذلت الجهد حتى تكون الرواية الثالثة أقلَّ خطأ من الاثنتين. والله الموفق إلى الصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل.