سلاح الضعيف الحيلة
فسار إلى خلوة الباشا ودخل عليه مُسلِّمًا بإحناء رأسه كتحية الإفرنج.
فلما رآه الباشا اعتبره لما يظهر على لباسه من مظاهر الرفعة والمجد، فرحب به وأجلسه بجانبه، ثم سأله عن بلاده وإلى من ينتسب، قال وهو يمضغ الكلام في فمه ويقطعه شأن أغراب اللغة الذين لا يحسنون التكلم بالعربية جيدًا: إني من أهل هذه المدينة يا سعادة الباشا.
قال الباشا: ولكني أرى في لغتك لهجة إفرنجية.
قال: ذلك لأني أسافر إلى باريس كل سنة لقضاء فصل الصيف فيها.
– والعائلة الكريمة من أي العائلات.
– إني يا سعادة الباشا من عائلة جندب، واسم عبدكم عزيز.
فنظر إليه مندهشًا وقال: مِن عائلة جندب! وما هي القربى بينك وبين السيد جندب المغربي المتوفَّى منذ سنتين؟
قال: هو والدي يا سيدي.
– هو والدك إذن! فهذا رجل غنيٌّ، ولم يكن له إلَّا ولد واحد، وقد ترك له مالًا وافرًا.
– نعم، يا سعادة الباشا، هو والدي، وأنا ابنه الوحيد.
– ماذا تتعاطى من الأعمال؟
إني ما أزال في المدرسة، وفي النية متى خرجت منها أن أنشئَ جريدة سياسية ليس بقصد الربح، ولكن لأجل المقام وخدمة ذوي المناصب والأعيان مثل سعادتكم.
قال الباشا وقد استبشر: حسنًا تفعل؛ لأن أفندينا إسماعيل باشا يحب المشروعات الأدبية، وينشطها كثيرًا، ويحب رجال العلم، فإذا جاءَه أحدٌ بقصيدة يجيزه عليها بمبالغ طائلة، وقد يمنحه الرتب والنياشين، وكثيرًا ما رأيناه ينشط الجرائد بأن يعين منها نسخًا عديدة لدوائر الحكومة، فإذا عزمت على إنشاء جريدة فعوِّل.
فقال عزيز: صدقت يا سعادة الباشا، ولكني أظن أن ذلك قد كان دأب سموِّ الخديوي قبل تشكيل لجنة المراقبة التي تعينت لمراقبة حسابات مالية البلاد برأي الدول، فإن المراقبينِ قد باشرا مراجعة الحسابات، وأغلَّا يدي الخديوي عن النفقات غير الضرورية. أفلا تظن ذلك يحول دون نجاح مشروعنا؟
قال الباشا: نعم، إن المراقبينِ قد أوقفا النفقات غير الضرورية، غير أن إنشاءَ جريدة وتنشيطها لا يدخل في أعمال المراقبة، وفضلًا عن ذلك فإن المراقبة قلما قيدت أعمال الخديوي، حتى إن الوزارة الولسينية التي أدخل الدول فيها وزيرين أجنبيينِ — فرنسوي وإنكليزي — قلما أثَّرت في بسْط كفِّه.
قال عزيز: وما قولك في الحكومة الشُّورويَّة؟ ألا تظنها تقيد أعمال الخديوي بعد أن كان الحاكم المطلق يمنح ويحسن دون معارض؟ وأما الآن، فإن لمجلس النظار دخلًا في كل الإجراءَات، جزئية كانت أو كلية.
فقال الباشا: لا يعيقنَّك ولا يثْنِ عزمك شيءٌ، فإذا عزمت فعوِّل، وما أنت في احتياج إلى الكسب.
قال عزيز: حسنًا، ولكن لديَّ مسألة أخرى مهمة أريد عرضها على سعادتكم، قال: تفضل، قال: قد توفي المرحوم والدي وترك لي مالًا طائلًا، وليس لديَّ أحدٌ من ذوي قرباي يتولى إدارة هذه الأموال وأكون على ثقة منه، ونظرًا لما هو مشهور عن حسن أمانتكم؛ أتيتُ أستشيركم في ماذا أفعل.
فاشتم الباشا من كلامه رائحة الربح الكثير، ولا سيما إذا قُدِّر له أن يكون هو الوصي، فقرَّب كرسيه من عزيز وقال له: يصعب عليَّ أيها الحبيب ألا أساعدك بهذا الأمر؛ لأن الأمناءَ قليلون، ولا سيما في هذه الأيام، وإذا شئتَ فإني أبحث لك عمَّن يقوم لك بذلك، فإذا لم يتأتَّ لنا إيجاد رجل أمين، فإني أتعهَّد أن أقوم لك بهذه الخدمة؛ لأن والدك — رحمه الله — كان من أصدقائي.
فقاطعه عزيز متلهفًا وقال له: إنها منَّة من سعادتكم إذا كنتُم تتعطفون، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ثقلة عليكم. أما إذا تمَّ لي الحظ وتوليتم وصايتي، فأكون من السعداء؛ لأني أعلم حينئذٍ أني سلمت زمامي لمن هو بمنزلة والدي، وأعاهد سعادتكم أني حالما يقسم لي الله الاقتران أرفع عنكم هذا الثقل؛ إذ أكون قد وطَّنت نفسي.
فكاد الباشا أن يطير فرحًا؛ لعلمه بالغنى الوافر الذي ورثه عزيز عن أبيه، وأنه سيحصل على التصرف به إذا تولى الوصاية عليه، ولاح له أيضًا أنه سيسعى إلى تحبيبه بابنته وتزويجه إياها، فيصير كل المال إليه. وكان إذا تصوَّر ذلك يختلج قلبه سرورًا، ويزيد اعتباره لعزيز، ويتوق إلى حديثه، فتقدم إليه بسيكارة، فتناولها عزيز شاكرًا، وجلس يدخن وهو يتنقل بنظره من جهة إلى أخرى؛ تارةً إلى المرسح، وأخرى إلى التمثيل، ثم يرفع النظارات ويمسحها بطرف منديله وهو يفكر بوسيلة يُعرقل بها مساعي شفيق إذا أراد فدوى؛ لما لاحظ من حبهما المتبادل.
وفيما هما بذلك جاءَ بخيت يقول: يا سعادة الباشا، إن سيدتي فدوى قد عادت إلى خلوتها، فقال: حسنًا. ثم عاد بخيت.
أما عزيز، فعلم أن خروج فدوى لم يكن إلَّا لمقابلة شفيق خارج الملعب، فازداد حسدًا، فأجهد الفكرة لبلوغ مرامه، فاهتدى إلى حيلة، فقال للباشا: أليس الذي خاطب سعادتكم خصيًّا؟
قال: نعم، هو خصي خرج بابنتي في آخر الفصل الأول لترويح نفسها خارج الملعب، وأتى الآن ليخبرني برجوعها.
– وهل السيدة فدوى ابنة سعادتكم.
فتعجَّب الباشا من ذلك وقال: نعم، هي ابنتي، ومِن أين عرفتها؟
قال عزيز: قد عرفت ذلك بطريق الاتفاق. فاشتغل قلب الباشا كثيرًا، وتقدَّم إلى عزيز ليفصح عن كيفية معرفته بها.
فامتنع عن الإجابة أولًا بدعوى أن ليس في الأمر ما يوجب الاهتمام، ثم قال: ولكن يجب عليَّ حبًا بمصلحة سعادتكم، وصيانة لشرف السيدة كريمتكم، أن أوجِّه التفاتكم إلى أمر مهم؛ وهو أن الأجدر بكم ألا تهملوا أمر مراقبة الخاتون ابنتكم؛ لأنها جوهرةٌ ثمينة؛ فلا تعهدوا أمرها إلى الخصيانِ؛ لأن الأمين بينهم قليل.
قال الباشا: الحق في جانبك يا عزيزي، لكني قد عهدت أمرها إلى أفضل مَن عرفت بين هؤلاء؛ فإن بخيتًا الذي رأيته الآن خادم أمين صادق يحب الفتاة حبًّا عظيمًا، ويحافظ على شرفها، وقد أظهر أمانته في أحوال مختلفة.
قال عزيز: إن قولي هذا لم يكن إلَّا على سبيل التعميم، وقد كفى ما أشرت إليه الآن، وعسى أننا نلتقي مرة أخرى للمفاوضة فيما دار بيننا.
قال الباشا: إذا أتيت منزلي غدًا نتفاوض مليًّا. ثم نهض عزيز مودِّعًا وقد أظهر ما استطاع إظهاره من اللطف والرقة والثقة والغيرة حتى حبَّب الباشا به.