شرُّ الأخلاق المِراء
فخرج عزيز وترك الباشا يفكر فيما سمعه عن ابنته، وقد وجهَ انتباهه من ذلك الحين إلى مراقبتها وهو لا يزال واثقًا بتعقلها وعفافها، فلم يمنعها شيئًا مما اعتادت عليه من ضروب المعيشة والذهاب والإياب، ولكنه صار يلاحظ أميالها عندما تسنح له الفرص، على أن اهتمامه الأعظم كان منصرفًا إلى ما أمَّله من الكسب إذا تولَّى الوصاية على أموال عزيز.
وحينما كان عزيز عند الباشا يكلِّمه بشأن ابنته كان بخيت واقفًا عند الباب، فسمع كل ما دار بينهما، فبادر قبل خروج عزيز واختلى بشفيق يقصُّ عليه حكاية صديقه بسرعة؛ خوفًا من أن يدركهما عزيز، وعند نهاية الخبر قال: لا بدَّ لنا من تأجيل اجتماعك بسيدتي ريثما تذهب الشُّبهة عنها.
فبُهت شفيق لما سمع من كلام بخيت، ولكنه لم يقطع بأن عزيزًا اجتمع مع الباشا قصد السعاية أو التفريق بينهما؛ لما كان وعده به من المساعدة عند عودهما من الجزيرة، فصبَّر نفسه ريثما يتحقق الخبر.
أما عزيز فخرج من خلوة الباشا توًّا إلى خلوة شفيق، فلم يره فيها، فبحث عنه حتى لمحه منفردًا ببخيت، فتغاضى عنهما حتى افترقا، ثم سار إلى شفيق وهو يظهر الخجل. ولعلمه أن بخيتًا أطلعه على كل ما دار بينه وبين الباشا، بادره قائلًا: اعذرني يا عزيزي؛ فقد أطلت الغياب عليك. أما إذا أطلعتُك على ما فعلته، فإنك تعذرني. وأراد بذلك أن يرفع الشبهة عنه. ثم قال: وما هو الوقت الآن؟ فقال: نحن في منتصف الليل، وقد انقضى التمثيل وارفضَّ الجمهور؛ فهيَّا بنا.
فقال عزيز: هيَّا بنا نتمم سرورنا بمشاهدة احتفال فتح الخليج. وخرجا من الملعب واستدعيا العربة.
فقال شفيق: قد كفانا ما لقيناه الليلة، ولا شك أن والديَّ في قلق عظيم على تأخُّري، وقد أنهكني السهر؛ لأني لم أعتد عليه.
قال عزيز هازئًا: مَن ينام الليلة وهي ليلة فتح الخليج؟ أما والداك فلا أظنهما يتقاعدان عن الذهاب إلى هذا الاحتفال؛ لأن أهل القاهرة عمومًا، صغارًا وكبارًا، يذهبون هذه الليلة إلى هناك. وما زال يحاول إقناعه حتى أتت العربة فأمسك بيده وأجلسه فيها، وركبا يريدان فم الخليج وكلاهما تائهٌ في عالم هواجسه؛ هذا يصعد بأفكاره إلى العفاف والحب الطاهر، وذاك يهبط بها إلى الدناءَة والخيانة. والأمر العجيب أن أفكارهما مع تناقضها تنتهي بهما إلى نقطة واحدة هي فدوى.
أما شفيق فهذه أول مرَّة خامر ضميره الريب في صداقة عزيز على أثر ما سمعه عنه، فأراد مكاشفته لئلا يكون فيما بلغه عنه تحامُل عليه.
وفيما هما بأثناء الطريق قال شفيق: إن الصداقة التي بيننا تقضي عليَّ بمكاشفتك في أمر سمعته، وقد ساءني حصوله؛ فأرجو ألا يكون صحيحًا.
قال: ماذا بلغك؟ قال: بلغني أنك تركتني وذهبت لمسامرة إحدى النساء، وقد أفضى بك الأمر إلى الحديث مع بعض الناس بما لا يوافق مصلحتي.
قال عزيز نازعًا سيكارته الثخينة من فيه وهو يتميز غيظًا كأنه سمع ما يحط من قدره، وقد أدرك أن شفيقًا علم كل ما دار بينه وبين والد الفتاة فقال: إني مسرور من مكاشفتك إياي بما في ضميرك أيها العزيز؛ إذ ربما ترفع عني بذلك وقيعتك بي، فتبرِّئني مما خامرك من الشك في صداقتي؛ وبناءً عليه سأطلعك على حقيقة الخبر؛ ليتحقق لديك صدق طويتي لك، فإني لم أفعل ما فعلته إلَّا سعيًا إلى مصلحتك قيامًا بوعدي؛ لأني توسَّمت من ميلك إلى فدوى على أثر إنقاذك إياها من مخالب الموت ما حملني على السعي سرًّا إلى ما يسهِّل اقترانك بها. ولا بدَّ لنا في ذلك من الحكمة والتعقُّل.
أما الامرأة التي أشرت إليها، فهي التي سيكون عليها معتمدنا في مرغوبنا؛ لأنها عجوز محنَّكة، ولها إلمام تام بدخائل بيت الباشا، وقد علمت منها أن الوسيلة الفضلى لنوال بغيتنا إنما هي استجلاب خاطر والدها، فجالسته في خلوته مدَّة، وبعد الإفاضة معه بالحديث استطردت إلى الخوض في قضيتنا، فجئتُه من حيث رجوت التطرُّق إلى الغرض، فنبهت أفكاره إلى وجوب الاحتراس على ابنته، وعدم الإباحة لها في الخروج وحدها، راجيًا بذلك أن يسألني عن الخطر الذي يترتب على ذلك فآتي على ذكرك، وما كان من أمر إنقاذك إياها من خطر العار والموت، وأستطرد إلى ذكر صفاتك، ثم أُلمح إلى مناسبة اقترانك بها، ولكني لم أستطع الوصول الليلة إلى هذا الحد؛ لأني رأيت منه إعراضًا عن الموضوع، فاقتصرت على قصد أن أعود إلى ذلك في فرصة أخرى.
وكان عزيز يتكلم بمظهر السذاجة إيهامًا لشفيق، فأخذه شفيق مأخذ الإخلاص وقال له: إني يا عزيز غير طامع في نيل الفتاة؛ لبُعد الحالة بيني وبينها، ولا أقول: إني أريدها، إنما أقول: إني لا أطمع فيها.
فالتفت عزيز إليه بغتةً حتى وقعت النظارات عن عينيه وكادت تنكسر، فمد يده إليها ورفعها وهو يمسحها بطرف منديله ويمسح آماق عينيه قائلًا: وإذا اعتبرت الحقيقة فأنت جدير بها وبأعظم منها. لا أقول ذلك تحقيرًا لها في عينيك؛ لأنها فتاة غنية، وقد زينها الله بكمال الذات والصفات، ولكنك أنت أيضًا شاب نادر المثال بآداب نفسك، وذكاء عقلك، فلو طلبت أي ابنة أردتها لنلتْها ونلتَ معها مالًا وافرًا؛ لأن هذا العصر عصر الشبان، وهم الذين ينالون المهر. وذلك أمر مشهور.
فأجابه شفيق هازئًا: إن التعقُّل والرزانة والتأدب جواهر لا تباع ولا تشترى، على أن «الدوتَّا» ليست من عادتنا نحن الشرقيين، ولو أدركت لطف هذه العذراء وأدبها لعلمتَ أنها ليست ممن يدفعن المهور.
فقال عزيز متبسمًا وهو يتَّقد غيرة وحسدًا، وقد عمد إلى تحقيرها في عينيه، مشيرًا بيده الطويلة على قامته القصيرة: إني لا أنكر عليك شيئًا من ذلك، ولكن لديَّ ملاحظة؛ فاسمح لي بإبدائها.
قال شفيق: قل ما بدا لك، فقال: إن مثلها — ولا أخفي عنك — لم يحسُن بها أن تبقى في الجزيرة وحدها في مثل هذا الليل الدامس، حتى عرَّضت بنفسها إلى الخطر الذي عرفته.
فاستعرتْ نارُ الغيرة في قلب شفيق، وأحسَّ كأن تلك الإهانة قد لحقته هو، ولم يرَ بدًّا من دفعها عن مالكة لبه، فقال وقد بدت علائم الخجل على وجهه: كلانا يعلم، يا عزيز، أنها لم تذهب إلى الجزيرة لتبقى هناك إلى الليل، وأنت نفسك أخبرتني أن سائق المركبة أعاقها بتواطؤٍ مع ذاك الرجل الذميم، فهل يحطُّ ذلك من قدر أدبها وتعقُّلها؟
فلما رأى عزيز ما يتخلل كلام شفيق من الغيرة الشديدة على صحة أدب فدوى تلوَّى تلوِّي الحية، وقد اشتعل فؤَاده حسدًا؛ إذ لم يرَ من الإيقاع بها إلَّا إثارة عواطف شفيق للدفاع عنها، فكظم غيظه، وخاف إذا اختلق عليها أكذوبة أخرى أن يقع في شر أعماله، فينكشف أمره، وتحبط مساعيه، فصمت وهو يتلاهى بعصًا عقفاء كانت بيده يضعها بين شفتيه، ثم يعود فيلعِّب بها أصابعه، حتى حوَّل إليه بصره قائلًا: لا أقول لك يا عزيزي إنها بقيت في الجزيرة إلى ذلك الحين باختيارها، وإنما قلت إن ذلك التأخير ربما أضرَّ باسمها، ولا أجهل أن ما حصل لها هو عن غير إرادتها، ولو تنبأت بحصوله ما خرجت من بيتها قط.
قال ذلك إخفاءً لما كاد يظهر من حسده وغيرته، ولكنَّ قلبه ما برح يزداد بغضًا وحسدًا لشفيق، حتى حدَّثته نفسه أن يفتك به في المركبة؛ ظنًّا منه أنه يستطيع بذلك الظهور أمام والدها مظهرًا آخر، فيدعي أنه هو الذي أنقذها من مخالب الموت، وأنه استخدم شفيقًا آلة له، ولكنه لم يجسر على ذلك لعلمه أن شفيقًا أشدُّ منه بطشًا، فعمد إلى الحيلة شأن الضعيف الساقط.