لقاء الضائع وشكوى الغرام
وبينما هما في الحديث وصلت العربة إلى ساحة فم الخليج والاحتفال قد انقضى، ولم يبق في الساحة إلَّا نفر قليل، فسرَّ شفيق لذلك؛ لأنه كان قلقًا لطول غيابه عن والديه معظم ذلك الليل الذي لاقى فيه الأهوال.
فقال لعزيز: هيَّا بنا إلى منازلنا؛ فقد انقضى معظم الليل وأنا واجس من قلق والديَّ عليَّ.
قال عزيز: إني أضنُّ بفراقك يا عزيزي؛ لأني لا أسرُّ إلَّا بمشاهدتك، وقد كانت هذه الليلة لديَّ من أسعد الليالي. أما إذا كان لا بدَّ لك من العود الآن، فإني أُشيِّعك لئلا تصيب وحشة في الطريق. قال ذلك وأمر السائق فحوَّل الأعنة إلى شارع العباسية. فعادا وكلاهما هاجس فيما لاقاه تلك الليلة من غرائب الاتفاق، حتى وقفت العربة أمام باب بيت شفيق وقد سمعا صوتًا من إحدى النوافذ ينادي: شفيق، شفيق. فعرف شفيق أنه صوت والدته فأجابها: لبيك يا أماه.
فقالت: ما هذا التأخر يا ولدي؟ ألا تدري أن والديك على مثل الجمر لطول غيابك؟ ما عهدتك على مثل هذا يا شفيق. وهرولتْ لملاقاته، فأسرع إليها عزيز وهمَّ بتقبيل يديها احترامًا، فمنعته من ذلك وردَّت عليه التحية، لكنها لم تكن مسرورة من مرافقته لابنها.
ثم التفتت إلى شفيق وقالت له: أيليق بك يا ولدي أن تطيل علينا الغياب بدون أن تُعلمنا؟
فأجابها متعجبًا: ألم يصلكما الخبر بذهابي مع صديقي عزيز إلى احتفال فتح الخليج؟ قالت: لا، فأطرق عزيز وقد دفع الأرض برجله متظاهرًا بالكدر وقال: يبان لي أن الخادم قد نسي أو توانى في إبلاغكم الخبر بذهابي مع عزيزي شفيق؛ فلا بدَّ لي من عقابه وطرده. ثم ودَّعهما وخرج.
فقالت سعدى لشفيق: أين والدك يا بنيَّ؟ قال: لا أعلم. ألعله خرج في أثري؟ قالت: نعم، فقال: والله يا أمَّاه إني آسف لما حملتكما من المشقة هذه الليلة، ولكن ثقي بأني لم أتأخر إلَّا لوثوقي باطلاعكما على خبر ذهابي. فأخذته بيده حتى دخلت به المنزل فسألته: هل تناولتَ العشاء يا ولدي؟ قال: نعم، فقالت: أتدري أننا لم نذقْ طعامًا ولم نعرف رقادًا حتى الآن؟ فقال: سامحيني يا أماه؛ لأني لم أفعل ذلك عمدًا.
ثم دخلا حجرة المائدة وقد أُعدَّ الخادم ما حضر، فدعت ابنها ليواكلها فأجابها وجلسا يتناولان الطعام وهما قلقان على غياب إبراهيم، فأعاد شفيق السؤَال عن أبيه، فقالت: لا خوف عليه؛ لأنه خبِر الدهر فعرف خلَّه من خَمره، ولعلَّ تأخره في شاغل مهم، ولا يلبث أن يعود. ثم استطردت إلى السؤَال عن سبب تغيُّبه كل تلك الليلة.
فقال: كنت في احتفال فتح الخليج كما أسلفت لك، فقالت: لم أعهد بك التلبُّس بغير الواقع؛ فإنك لم تكن في ذلك الاحتفال.
فتعجَّب شفيق لمعرفتها ذلك، فقال: من أين لك أني لم أكن هناك؟ فقالت: ألست مصيبة؟
قال: نعم يا أماه، وإنما أسألك العذر، وسأقص عليك الخبر على أن تبقيه في سرك ولا تطلعي عليه أحدًا حتى والدي. ثم جلس يقصُّ عليها الحكاية من أولها إلى آخرها وهي مقبلة عليه بسماعها، وقد استغربت ما صادفه تلك الليلة من الغرائب، حتى إذا أتى إلى حديث الفتاة احمر وجهه، وأندى جبينه، وكاد يمتنع عليه الكلام، فاندهشت والدته وخافت عليه من سلطان الغرام وهو لا يزال يافعًا غض الشباب، فقالت له: وكيف أحببتها لأول نظرة وأنت لا تعرف عنها شيئًا؟
قال: أعترف لك أني أجهل السبب، ولكني أعلم أني شعرتُ نحوها بما لم أشعر به نحو أحد في هذا العالم بعدُ، ولا أُخفي عليك أيضًا أني شاهدتُ من محبتها لي ما لا يقلُّ عن ذلك، ولكن آه يا أماه! (وكاد يشرق بالطعام) فبادرته قائلة: لا بأس عليك يا ولداه! ممَّا تشكو؟
فترقرقت عيناه بالدموع وقال: اعذريني، اعذريني يا أماه لأني لا أملك حواسي.
– ما لك يا حبيبي؟ خفض من اضطرابك ولا تخفِ عني ما بك.
قال: أحبها يا أماه، نعم أحبها حبًّا مفرطًا. ولم يتمالك عن البكاء، فخافت عليه أمه من شدة الانفعال، فترامت عليه وضمته إلى صدرها وقبَّلته قائلة: لا تخجل يا ولداه؛ إن المحبة إذا قرنت بالشرف والشهامة لا حياء بها ولا خجل، فسكِّن روعك، واشرح لي كيفية حبِّك لها، وهل تحس نحوها بحب قلبي؟
– أحبها يا أماه حبًّا لا أفهم كيفيته ولا مقداره، ولكني أحس أن له تأثيرًا في كل جوارحي؛ كأنه جرى مجرى دمي في مفاصلي، فقالت: كأني بك تميل إلى الاقتران بها.
فأطرق حياءً وخجلًا وقد مال إليها مجهشًا كأنه يريد التكلُّم ويرى دون طلبه عقبات، حتى قال: أميل يا أماه، ولكن ماذا ينفع الميل وبيني وبينها بون عظيم، وأنا في أصعب الأحوال؟ لا أعلم حقيقة مستقبلي.
فرقَّ قلبها له، وغلب عليها الحنو فقالت: إني أعرف الفتاة يا ولدي، وقد سمعت عن تهذيبها ولطفها وذكائها من فلانة جارتنا، فلا ألومك على حبك لها، لكن لا يخفى عليك صعوبة مركزك، وما يحول بينك وبين الافتكار بهذا الأمر، فضلًا عن أن الفتاة من عائلة عريقة في الحسب والنسب، وذات ثروة عظيمة، فاجتهد أن تكون رجلًا عظيمًا فتستحقها، ولا يأخذ منك اليأس مأخذه، فطالما كنت ذكيًّا مهذبًا، صادق اللهجة، صحيح المبادئ، مقدامًا، لا يمنعك مانع من الارتقاء ودوس كل ما يعترضك من المصاعب. ومما يساعدك على نيل مطلوبك كون حبِّكما متبادلًا؛ فلا تخف ميلها إلى سواك، وأطْلعها على حقيقة حالك؛ فإن كانت أهلًا لحبك، والحبُّ متبادلًا؛ رضخت لسلطان الهوى، وساعدتك في مرادك، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وإلا فهي ليست أهلًا لك؛ فالتحجب بك أولى، ونسيانها منك أحرى.
إن كلامك الحي أيتها الوالدة الحنونة قد نبَّه فيَّ أشرف المبادئ، ورقَّى أفكاري إلى درجة لا أرضى معها التزلُّف والمذلة، ولكن آه يا أماه!
فأين أنا الآن مما تقولين؟ وكم هو الزمن الذي يؤكد لي حقيقة مستقبل أستحق به فدوى، حتى إذا فرضنا المستحيل وتأكدنا ذلك النجاح الموهوم، فهل تبقى فدوى إلى ذلك الوقت كما هي الآن؟ لقد أبعدت يا أماه مرماك.
فقالت له: الحب يعمي البصيرة يا ولدي. كن حازمًا ولا تطع هواك، فأين أنت الآن من نيل تلك الفتاة ولا تزال تلميذ مدرسة لا مهنة لك ولا منصب يقوم باحتياجاتك؟ فضلًا عن أن أباها لا يزوجها إلَّا لمن يماثلها ثروة، أو لمن هو مشهور بين رجال الأعمال. ولا أظنك إذا نِلْتها ترضى أن تعيش من مال أبيها.
فقال: كلا، وأظنها إذا عرفت بأني لست شيئًا مذكورًا يفتر حبها؛ فلا بدَّ لي من السعي إلى العلاء إرضاءً لها، ولو كلفني ذلك شق الأنفس. على أنها لو رضيتْ هي فأنا لا أرضى.
قالت: أرى من الرأي بعد انقضاء الامتحان النهائي في المدرسة التجهيزيَّة أن تتلقى فن المحاماة أو الطب.
فقال شفيق: أما الأول فلا بدَّ لي في درسه من المسير إلى أوروبا، وأما الثاني فيقتضي لدرسه ست سنوات، وإذا قلَّت فخمس.
قالت: كيف يمكننا الاصطبار على بعدك سنتين وقد رأيت قلقنا عليك الليلة؟ أما الطب فربما استطعنا بوسيلة ما أن نجعل مدة الدرس فيه أربع سنوات، فقال: ننظر في ذلك غير مرة. وأنا الآن في قلق على والدي. ثم نظر إلى الساعة فإذا هي الثالثة بعد نصف الليل، وفيما هما في ذلك دخل الخادم يقول: في الباب جاويش، وفي يده كتاب لك يا سيدتي، فقالت: هاته. فجاءها به، فتناولته وسألت: من أين هذا؟ قال: من المعية السنية يا سيدتي. فاضطرب قلبها وارتعدت فرائصها حتى لم تقو على فضِّه، فرمت به إلى المائدة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فقال شفيق: ما الداعي لهذا ونحن لم نطلع على مضمونه؟ أتأذني لي بفضه، فأذنت له، ففضَّه فإذا فيه: لا ينشغل بالك على غيابي الليلة؛ لأني دُعيت وأنا خارج من البيت إلى المعية السنية، وسأبقى إلى الغد، فاكتبي لي عن مجيء شفيق مع ناقل هذا. فلما قرأ الكتاب زال اضطرابهما وقلقهما، فكتبت إليه تخبره عن عود شفيق، فعاد الجاويش ولبث شفيق ووالدته برهة تائهين في عالم من الهواجس حتى اقترب شفيق من والدته يسألها: ما معنى هذه الدعوة في هذا الليل؟ وما هي علاقة والدي مع المعية؟ فما هو من مستخدمي الحكومة المصريَّة، ولا من أصحاب الأملاك!
فقالت: لا يخفى عليك يا ولدي أن والدك من مستخدمي قنصلاتو إنكلترا، وأنت تعلم ما تسعى إليه هذه الدولة مع فرنسا بشأن مصر، حتى أصبح مركز الخديوي في خطر، وبما أن والدك من محبي الحكومة المصريَّة، بعثت إليه المعية للسؤال عن بعض تلك الشئون، وقد فعلت ذلك قبل الآن، ثم قالت: لا خوف عليه — بإذن الله — ولكني خشيتُ بادئ بدءٍ أن تكون الدعوة من أفندينا رأسًا؛ لما أخشاه من عواقب مثل هذه الدعوة.
ثم سار كلٌّ إلى فراشه ولم يبق من الليل إلَّا القليل.