فتح الصندوق
أما شفيق فقضى ما بقي من الليل في هاجس من الافتكار في فدوى ورضاها عنه، وما دار من الحديث بينه وبين والدته بشأنها.
أما والدته فحالما طاب قلبها على ولدها وزوجها عادت إلى الافتكار بأمر الصندوق، وقد ساءها ما حدث تلك الليلة مما أخَّر فتحه، ولكنها صممت على السعي إلى فتحه حين مجيء زوجها قيامًا بوعده لها.
وفي الصباح التالي، لم يستيقظا إلَّا على طرق الباب، وإذا بإبراهيم قد عاد بخير، فسأل شفيقًا عن سبب تأخره بالأمس، فقال: إنه كان باحتفال فتح الخليج، ولم يخبره شيئًا عن أمر فدوى، فعنَّفه على ذهابه بدون إعلام، فاعتذر وساعدته والدته على إلقاء التبعة على خادم عزيز؛ لأنه لم يأتِ لإعلامهما، فاكتفى بذلك، ثم سار شفيق إلى المدرسة كجاري العادة.
وأتت سعدى إلى زوجها تسأله أن يفتح لها الصندوق حسب وعده، فبهت برهة ثم قال: أنصح لك يا سعدى أن تتغاضي عن هذا الأمر؛ لأني لا أرى في فتحه إلَّا ما يزيد قلقك.
فقالت: كلما زدتُ تمنعًا ازددت بفتحه رغبة؛ فأنجز بوعدك؛ فالحر إذا أنجز.
فقال: أنجز بالوعد، لكني أنصحك أن تكفي عن طلبك. فلم تقبل حتى أخرج من جيبه مفتاحًا صغيرًا، والتفت يمنة ويسرة حتى تحقق خلو المكان من الناس، فتناول الصندوق وأولج فيه المفتاح ويده ترتعش، وسعدى تحوم ببصرها نحوه حتى رفع الغطاء عنه، فانتشرت منه رائحة كريهة، ورأت شيئًا أسود، فتأملته فإذا به خصلة من الشعر قد اغبرَّ لونها على طول المكث في ذلك الصندوق، فهمَّت إلى لمسها، فمنعها إبراهيم قائلًا: أمعني بنظرك ولا تمدي يدك. فأحدقت بنظرها فإذا بشعر كثٍّ متكاثف يتخلله أثر دماء قد أكمد لونه على بعد الزمن، فلما عاينتْ ذلك أخذتها الرجفة، فامتقع لونها، ومالت إلى استطلاع الحكاية، فلم تجسر على مفاتحة زوجها بها؛ لما اشترطه عليها، فأخذتها الدهشة لشدة التأثر حتى لم ترفع نظرها من الصندوق إلى أن أقفله إبراهيم وأعاده إلى مكانه، ثم نظر إلى سعدى وقال لها: أرأيت كيف ازددت قلقًا بعد فتحه منك قبله، فأجابت وقد زاد اضطرابها: إني لفي قلق عظيم إن لم تطلعني على الحكاية، وإلا فإني الجانية على نفسي بهذا القلق، فهل لك أن تقصَّها عليَّ؛ فقد عدمت الصبر؟
فأحدق بها وقد ظهرت على وجهه أمارات الحزن والكآبة كأنه تذكر مصائب قديمة كانت قد تنوسيت على طول المدى، وقال: إني أخلصت لك النصيحة فلم تقبلي، فأنا بريء من تبعة ما تقاسينه من القلق؛ لأني لا أستطيع إلَّا المحافظة على ما اشترطته عليك، ولو ألمحت لك عن الحكاية ما ازددت إلَّا قلقًا، وما اكتفيت إلَّا بالتصريح، ولكن لا بدَّ من مجيء وقت أطلعك فيه على تفصيل الخبر؛ فأقصري — ناشدتك الله — إذ لا فائدة من إلحاحك، وليس الأمر في يدي.
قال ذلك ونهض إلى ثيابه فتبدل وخرج إلى شغله. أما سعدى فبقيت مشتغلة الخاطر منقبضة النفس، وقد تحولت طلاقة وجهها إلى العبوسة لا يهدأ روعها إلَّا باطلاعها على هذا السر.
أما إبراهيم فكان أكثر منها انقباضًا، وقد زاد قلقه لتذكره أحزانًا كادت تزول من ذاكرته.