الامتحان السنوي
مضت عدة أسابيع بعد تلك الحوادث وعزيز يتردد على الباشا ويؤمله بما دار بينهما من الحديث، حتى كان وقت الامتحان العمومي في المدرسة التجهيزيَّة باحتفال شائق في سراي درب الجماميز، حضره الخديوي وسائر الوزراء والأعيان كجاري العادة، فتقدم التلامذة للامتحان الجهاري، وكان الخديوي يراقب مقدرة كل فرد إلى أن كان دور شفيق، فأجاد في أجوبته حتى استدعى انتباه العموم له، فأعجب الخديوي بذكائه وفطنته وما يزينهما من الرزانة والكمال، فاستدعاه إليه على مشهد من الحضور، فلما مثل بين يديه وقف متأدبًا.
فقال له: ما اسمك؟
قال: عبدُ سموِّكم شفيق إبراهيم.
فالتفت الخديوي إلى سر ياورانه يسأله إذا كان يعرف والده، فقال: إنه من مستخدمي قنصلاتو إنكلترا، فأظهر أنه يعرفه، ثم التفت إلى شفيق قائلًا: عفاريم أوغلم عفاريم. يعني أحسنت يا بنيَّ أحسنت، وصرَفه فعاد إلى مكانه فرحًا لما لاقاه من استحسان ولي النعم، والناس تصفق له تهنئةً بما نال، فلما ارفضَّ الجمهور تقدَّم ناظر المدرسة إلى والد شفيق — وكان من جملة الحضور — فبلَّغه أن الجناب الخديوي قد أمر بإرسال شفيق إلى أوروبا لإتقان العلوم فيها على نفقة الحكومة، فأثنى على إنعام الجناب العالي وعلى وجهه علامات المسرة؛ لما حازه ابنه من التفات ولي الأمر، ثم أتى شفيق إلى والده فهنَّأه بنجاحه، وخرجا والناس ينظرون إلى شفيق ويعجبون من رصانته وذكائه؛ لأنه مع هذا الفوز لم تأخذه هزة الطرب، أو تبد على وجهه علامات الإعجاب والخفة.
أما عزيز فكاد يقضي عليه حسده من شفيق، ولكنه كظم غيظه وجاءه مهنئًا بما ناله من الإنعام، ثم سار شفيق ووالده.
فلما وصلا البيت وعلمتْ والدته بما ناله من الالتفات فرحت لنجاحه، وكدرها أمر فراقه، فأخذ يخفِّف عنها ويهوِّن عليها، وقال تسلية لها وتطييبًا لخاطرها: إنني إذا تغيبت عنك ثلاث سنين أو أربعًا لدرس فن المحاماة، فإني أتقنه ويسهل عليَّ الدخول إلى أحد المناصب المهمة؛ كالقضاء مثلًا، فإنه منصب جليل يتمناه كثيرون ولا ينالونه، فقالت وقد أعجبت بكلام ولدها وأخفت كدرها: متى يكون ميقات السفر؟ فقال: لا أظن ذلك يتم قبل بضعة أسابيع، فقالت: الأمر لله يفعل ما يشاء.
وكان ممن حضر الامتحان والد فدوى، فأعجب بما ناله شفيق من التفات الخديوي، وقد أحبه لما عاين من ذكائه ولطفه، فلما عاد إلى بيته وجلس إلى المائدة مع عائلته وصل به الحديث إلى حكاية الامتحان، فأطنب بشفيق وصفاته، فلما سمعت فدوى اسم مالك لبِّها اختلج قلبها في صدرها، وعلا وجهها الاحمرار، وأخذت أطرافها بالارتجاف، ولكنها تشاغلت بتقطيع فاكهة كانت أمامها، ولم ترفع بنظرها إلى والدها إخفاءً لما كاد يظهر على وجهها من ظواهر الوجد، ولكنها كانت تودُّ تحقيق الخبر لتعلم إذا كان شفيق الحكاية هو شفيقها، فلبثت تنتظر ما يجيئها به الحديث، فلم تستزد علمًا، فأمَّلت نفسها أن في الغد تأتيها جريدة الأهرام بتفصيل الخبر، فلبثت تستعدُّ الدقائق، وترقب الساعات وهي في هاجس عظيم، حتى كان الغد وأتى عدد من الأهرام إلى والدها، فتلقَّته وفضَّته، وأول ما حولت نظرها إلى رسالة العاصمة، فإذا فيها: «قد أنعمت الحضرة الفخيمة الخديوية على جناب الشاب الأديب شفيق أفندي إبراهيم بالتوجه إلى الديار الأوروبية؛ لدرس فن المحاماة في أعلى مدارسها على نفقة الحكومة السنية؛ وذلك لما شاهد سموه من ذكاء هذا الشاب ونشاطه.» فكانت فدوى تقرأ وقلبها يختلج بين الفرح والوجل؛ إذ قد سرها تعطف الخديوي عليه؛ لعلمها أنه إذا صار قاضيًا يكون أقرب إلى إرضاء والدها، ولكنها أشفقت أن يكون في غيابه ما يضعف أملها بنيله، فذهبت إلى حجرتها واستدعت بخيتًا؛ لتطلعه على ما يطويه فؤادها من أمر شفيق؛ لأنها لا تقدر أن تكاشف أحدًا من الناس بما يدور في خلدها من الحب والوجد إلَّا هذا العبد الأمين، فقالت له: هل سمعت بما تم لحبيبي شفيق؟ قال: نعم، قرأت عنه في جريدة الأهرام، فقالت: إن نجاحه وفوزه مما يفرحني ويزيده اعتبارًا في عيني، غير أن سفره إلى أوروبا لا ينتهي قبل أربع سنوات، ومَن يدري ما يأتيه الزمن من الحسنات والسيئات؟ وقد قيل: «الدهر في الناس قُلَّب.» وأوروبا بلاد تشغل الأم عن رضيعها (ثم تنهدت ونظرت إلى بخيت كأنها تستطلع رأيه).
فبادرها قائلًا: قد آنست يا سيدتي بهذا الشاب شهامة ومروءة فوق ما سمعت عنه، وأظنه إذا عاهدك لا ينكث بعهده، فقلب المحب الصادق لا يميل إلى الهوى. وقد فهمت أنه يحبك مثل حبك له أو أكثر، فإذا رأيت أن أذهب إليه فأسأله موعدًا تجتمعان به فتتفاوضان فعلتُ؛ لعلك تثنينه عن السفر، أو تبرمين معه عهدًا. فأطرقت برهة ثم رفعت بصرها إليه وقالت له: حسنًا تفعل يا بخيت، غير أنك لا تدع مظنة لوالدي بتخلفك عني وذهابك من البيت بأمري، فترقَّبْ فرصة يكلفك بها والدي الذهاب لقضاء أمر فتتوجه إلى شفيق؛ لئلا يظن بي والدي سوءًا؛ لأني أراه يراقب ذهابي وإيابي على أثر ما سمعه من ذلك الشاب المتفرنج، كما أخبرتني.
فقال بخيت: إن احتفال المولد أفضل موفق لاجتماعكما إلَّا إذا ذهب سيدي والدك إليه، فنعود بصفقة المغبون، فأرى أن نعين يومًا تذهبين فيه إلى النزهة في أحد المنتزهات؛ فلنختر اليوم العاشر من هذا اليوم فتذهبين بمركبتك إلى قصر النزهة في شارع شبرا، فنتخذ وسيلة نقوى بها على الدخول إلى الحديقة وندخله معنا، وحينئذ يخلو لكما الجوُّ.
فقالت: نعم الرأي، فقال: حيث استحسنتِهِ فها إني ساعٍ إلى قضائه.