سفر شفيق
وبعد بضعة أسابيع، وردت الأوامر إلى شفيق بالسفر إلى إكس؛ لِدَرْس فن المحاماة فيها حسب أمر الخديوي، فتقدم والده إلى الجناب العالي أن يسمح له بإرساله إلى إنكلترا؛ لأنه يعرف الإنكليزية جيدًا، وله وسائط أخرى للمطالعة هناك؛ فأذن له في ذلك.
فلما علم عزيز بسفره وقد اشتد به الحسد حدَّثته نفسه أن يفتك به، أو يسعى إلى إهلاكه بمكيدة أثناء سفره إلى لندرا، فلم ير أفضل من الإسكندرية لهذه الغاية؛ لأنه يكون فيها بعيدًا من أهله وأحبائه، فجاء إليه ليلة سفره، وقضى عنده معظم الليل مظهرًا له عظيم أسفه على فراقه، وأخبره أنه سيشيعه في الغد إلى الإسكندرية، فشكره شفيق وحسب ذلك له منَّة كبرى.
فلما كان الغد نزل والد شفيق إلى المحطة لوداعه، ونزل عزيز لمرافقته، فسافرا على القطار الحديدي قاصدين الإسكندرية، وقضيا معظم الطريق في الأحاديث عن مصر وفدوى، وعزيز يحاول إظهار رغبته في اقتران شفيق بها، ويعده المواعيد المشددة بالسعي في ذلك.
فوصل بهما القطار إلى الإسكندرية ساعة الغروب، فركبا عربة إلى فندق على شاطئ البحر، ولم يسبق لشفيق معرفة بالإسكندرية قبل ذلك اليوم، فلما استراحا وغيَّرا ثيابهما قال عزيز: هلم بنا يا شفيق إلى المدينة نقضي بعض الليل في مشاهدة أسواقها وبهجتها وزخرفها ترويحًا للنفس من وعثاء السفر، فأجابه إلى ذلك وذهبا حتى أتيا ساحة المنشية، فاندهش شفيق لما شاهد من زخرف المدينة، وسعة شوارعها، وإشراقها بالأنوار الغازيَّة التي تجعل ليلها نهارًا. ومما يزيدها بهجة حوانيتها المضاءة بالأنوار المزينة بأنواع السلع تزيينًا يأخذ بالعقول، ومما يدهش الناظر مبانيها الشاهقة المزخرفة بما على جدرانها من أنواع النقوش المحفورة، وما في شرفاتها من الرخام المجزَّع وغير المجزَّع، فعجب شفيق لهذه المناظر، وأخذته الدهشة، فبهت إلى أن تأبط عزيز زنده، وذهب به متلطفًا إلى رصيف الساحة المرصوف بالرخام. والمنشية مستطيلة الشكل فيها كثير من شجر اللبخ، وفي منتصفها تمثال هائل قائم على قاعدة مرتفعة من الرخام الأبيض يمثل فارسًا مهيبًا، وشيخًا وقورًا متسع الصدر، واسع اللحية، متعممًا بعمامة كبيرة، ومتزملًا بالجبة والقفطان، وممتطيًا جوادًا من جياد الخيل، ومتقلدًا سيفًا منحنيًا، وقد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى كأنه ينظر إلى جهة المدينة؛ ليتأمل بهاءها ورونقها، فازداد شفيق دهشة وسأل عزيزًا عن ذلك التمثال، فقال: إنه تمثال المغفور له محمد علي باشا؛ مؤسس العائلة الخديوية. فمال بكليته إلى التأمل في تمثال ذلك الرجل العظيم الذي أحيا الديار المصريَّة وأنقذها من وهدة الدمار.
أما عزيز، فلم يكن همُّه إلَّا تدبير مكيدة يهلك بها شفيقًا، فلما رآه منذهلًا بمناظر الإسكندرية أخذ يمتدحها له، ويُطنبُ بمحاسنها، وهما يتبختران ويسرحان نظرهما بالمارة أفواجًا، ومعظمهم في زي الإفرنج، وعلى وجوههم أمارات الانبساط، وعلائم الرغد والسعة، فلم يستعظم عزيز شيئًا من ذلك؛ لأنه كان يعرف الإسكندرية معرفة تامة. وكان مشتغل البال في أمر الفتك بشفيق، فلاح له أن يذهب به إلى حانٍ ويسقيه خمرًا حتى يغيب صوابه فيفتك به، ولكنه تذكر أن شفيقًا لا يتعاطى شيئًا من أنواع المسكر، وأنه يستنكف من مجالسة كل من يتعاطاها.
وفيما هما على رصيف المنشية مرَّا بحانوت قد ازدحم بالجلوس وهم يشربون شراب عرق السوس، وصاحب الفندق شيخ متعمم بعمامة بيضاء، مشدود النطاق؛ لئلا يتعثر بأذياله لكثرة حركته، واسمه محمود. وكان عزيز يعرفه من قبل، وله معه أحاديث وصداقة، فقال لشفيق: هلم بنا نشرب شيئًا من منقوع عرق السوس؛ فإنه رطب منعش. فأجابه شفيق ودخلا، ولم يحصلا على ما طلباه من المشروب إلَّا بعد الانتظار مدةً لكثرة الازدحام.
أما شفيق فلحظ بجلوسه في هذا الحانوت رجلًا في ثياب غريبة الزي كان يقتفي أثرهما عن بُعد، فلما جلسا مرَّ من أمام الحانوت واسترق النظر إليهما، ثم عاد ودخل فجلس على مسافة منهما وطلب من الشيخ محمود كأسًا، فجيء بها إليه. وقد كان الجلوس في هذا الحانوت جماعات جماعات يتفاوضون ويتسامرون، وفيهم الإفرنج والأتراك والوطنيون وغيرهم على اختلاف الأجناس والملل، وبعضهم يتحادث في «البورصة» والأسعار والأرباح، وآخرون في السياسة، وآخرون في الملاهي، وجميعهم فرحون لا تسمع فيهم إلَّا ضحكًا وقهقهة.
أما شفيق فاشتغل باله بأمر الرجل المتنكر، ولم يَملْ إلى مكاشفة عزيز؛ لئلا يظنَّ فيه جبنًا.
وما زال عزيز تلك الليلة يترقب فرصة يهلك بها شفيقًا فلم يقدر، فأجَّل ذلك إلى الليلة التالية، لعلمه أن الباخرة بريندزي لا تصل الإسكندرية إلَّا بعد ثلاثة أيام، فسارا إلى المنزل، وذلك الرجل في أثرهما حتى طلعا السلم، فقلق شفيق، لكنه حمل ذلك على محمل الاتفاق لسلامة نيته، فلما وصل غرفته طلب العشاء، وقضى بعض الوقت في محادثة عزيز، ثم سار كلٌّ إلى فراشه.
أما شفيق، فما استلقى على فراشه إلَّا تذكر الأهل والمحبوب. وكانت هذه هي الليلة الأولى التي باتها بعيدًا عن والديه، فتواردت عليه الأفكار، وتاه في عالم تصوُّراته، فألفه السهاد، وجفاه الكرى حتى لم يطق الاضطجاع، فنهض وجلس على كرسي بجانب السرير، ثم استخرج من جيبه أوراقًا قديمة؛ ليقتل الوقت بقراءتها؛ لعلها تأتيه بالنعاس، فلم تكن إلَّا لتزيده سهادًا وأرقًا، فخرج إلى غرفة الاستقبال لعله يرى شيئًا من الجرائد، فوجد صحيفة الأهرام، فأتى بها وأقبل على قراءتها حتى انتهى إلى تلغراف آتٍ من بريندزي مفاده: «إن الباخرة بريندزي تصل الإسكندرية صباح كذا (أي غد ذلك اليوم) على غير المعتاد، وتبرح الميناء عند الظهيرة.» فاهتز شفيق من الفرح لتلك المصادفة؛ تخلصًا من الانتظار على غير جدوى، ونهض لوقته وشرع في ترتيب أثوابه ولف أوراقه فعثر على دبوس فدوى، فخفق قلبه وترقرقت عيناه بالدموع حتى لم يتمالك عن تقبيله وحفظه في مأمن من ضياعه. فلما أعد كل حاجيات سفره نظر إلى الساعة فإذا هي الثانية بعد نصف الليل، فاضطجع على فراشه وهو ينتظر اكتحال عينيه بالكرى، فلم ينله منه إلَّا اليسير في آخر الليل.
وفي الصباح، جاء عزيز وهو لا يدري شيئًا من أرق صديقه، وقد قضى ليله في إعداد المكيدة ونصب الأشراك، فإذا بشفيق قد تزمَّل بأثواب السفر، فسأله عزيز عن السبب، فأطلعه على الجريدة، فلما عرف ذلك خاف حبوط مسعاه، فأخذ يحبب إليه الإقامة في الإسكندرية.
فقال له شفيق: والله لو خيِّرت ما اخترتُ إلَّا الإقامة في غير هذه المدينة؛ لأني أحببتها كثيرًا، ولكنني الآن على أُهبة سفر طويل، ومشقة عظيمة، وخير البر عاجله، فلعن عزيز في سره الساعة التي وصلت بها تلك الباخرة؛ لأنها أحبطت كل مساعيه، فكظم غيظه وأخذ يساعده في التأهب، فأنزله إلى القارب حتى وصلا الباخرة. وقد ركب معهما في ذلك القارب الرجل المتنكر، فلما لحظه شفيق عرفه، فأزمع أنه إذا كان مسافرًا على تلك الباخرة، فلا بدَّ له أن يتحرش به، ويعرف أمره، لكنه رآه قد عاد في القارب الذي عاد فيه عزيز فما أدرك السبب.
أما عزيز فوعد شفيقًا قبل وداعه ببذل جهده في مساعدته، وتحبيب والد فدوى إليه، ثم عاد بصفقة المغبون وهو يتلون تلوُّن الحرباء من الكَدر.
فبقي شفيق لا أنيس له إلَّا هواجسه، فأقلعت الباخرة تمخر عباب البحر، وهو لا يحول بصره عن وادي النيل، حتى حال الأفق بينهما، فودَّع الربوع والأهل والحبيب، وردد قول أبي الطيب:
فزاد غرامه وخفق قلبه، فأسند نفسه إلى سرير كان أمامه وهو بين الأسف على فراق الحبيب والمتطلع إلى طلب العُلا، فأثَّرت فيه هذه التصورات حتى كاد يغيب عن الوجود، فشغل عواطفه بحركة السفينة، ومنظر البحر، وأصوات المسافرين، ولكنه ما لبث حتى عاد إلى تأملاته، وبقي بين هذه التقلُّبات بضعة أيام إلى أن قابلت السفينة شاطئ مرسيليا، فنزل إلى البر، ومن هناك ركب القطار الحديدي إلى باريس، ومنها إلى فرضة هافر على خليج المانش، وركب — مِن ثَمَّ — سفينة بخارية شقت بهم خليج المانش، ثم دخلت نهر التيمس فوصلت مدينة لندرا، فدخلها على قطار حديدي، فهاله عظمها وكثرة الازدحام فيها. وكان على المحطة معتمد من المدرسة جاءَ بأمر الرئيس لاستقباله، فهنَّأه وذهب به إلى المدرسة. فلنتركه هناك يدرس المحاماة ونأتِ بالقارئ إلى مصر.