أحمد عرابي
مرت الأيام على عزيز وهو بين هاجس بالحب وواجس من الفشل حتى كاد يقتله هيامه، فلاح له أن يكاشف والد فدوى بما في نفسه، ثم ظهرت الثورة العرابية؛ وهي أنه كان في جملة ضباط الجيش المصري ضابط يقال له أحمد عرابي، وطني النزعة، أصله من إحدى قرى مديرية الشرقية. دخل في خدمة الجيش أيام المغفور له سعيد باشا، وما زال يترقى حتى بلغ في عهد الخديوي توفيق باشا رتبة أميرالاي.
وكان في الجيش المصري عدة من الضباط الشراكسة، وكانت الرتب الجهادية العليا تمنح غالبًا لهم. أما المصريون فقلما يتجاوزون رتبة أميرالاي. وقد كان المصريون على عهد الخديوي إسماعيل باشا قلما يباح لهم التظاهر بما يخامر قلوبهم من الأسف لتمتع الغرباء بأحسن مصالح الجند، لما كان من نوع حكومته القاضية بتفضيل الكظم على التظاهر بحرية الضمير. فلما تولى الخديوي توفيق باشا، ورأى المصريون حبَّه لهم ولمصلحتهم، وإنعامه عليهم بالرتب والمصالح العالية، وتخويلهم حقوقهم من التمتع بخيرات بلادهم، شرعوا في مكاشفة أسرارهم، وإظهار ما كان في قلوبهم. ولم يكن الخديوي يستنكف من إعطائهم حقوقهم، ولكن تلك الإنعامات أثرت في بعض الضباط المصريين تأثير النسيم اللطيف إذا مرَّ على نار بدأ فيها الاشتعال، ولم تكن مكشوفة للهواء، فلم يكن لها لهيب، فكشفت وجاءها ذلك النسيم فاتقدت، وأي اتقاد، حتى أشعلت ما حولها وكادت تقود إلى الدمار. ذلك كان تأثير الحرية التي وهبها الخديوي لرعيته.
وكان رؤساء الثورة ثلاثة ضباط: أحمد عرابي، وعلي فهمي، وعبد العال، فتعاهدوا على السعي إلى التفرد بمصالح بلادهم وإدارة أعمالها بأنفسهم، واستئصال الأجانب من خدمة الحكومة، وخصوصًا الجهادية، بجمعيات سرية كانوا يعقدونها لذلك، ووافقهم على غايتهم سائر الضباط المصريين. ونظرًا لرغبة الخديوي في تعزيز جانب المصريين، كما تقدم، كان يجيب طلباتهم فيما يرى فيه مصلحتهم، فبدءوا بعزل ناظر الجهادية — وكان شركسيًّا — ثم تطرقوا إلى المداخلة فيما وراء ذلك، وساعدهم على مرامهم ناظر الجهادية الذي خلف الشركسي — وكان وطنيًّا متحالفًا مع عرابي وجماعته سرًّا — فأخذوا يعقدون الاجتماعات السرية في منزل عرابي، ويتفاوضون ويتحالفون على جمع الكلمة وبث تلك المبادئ في سائر أنحاء البلاد.
فقرأ عزيز في جريدة الطائف التي هي لسان حال الحزب الوطني أنه «سيحتفل في ٢١ جُمادى الأولى سنة ١٢٩٨ (٢٠ أفريل سنة ١٨٨١) في سراي قصر النيل احتفالًا كبيرًا؛ لما أنعم به الجناب العالي من زيادة رواتب الضباط والعساكر، وتعديل القوانين العسكرية.» فلاح له أن يحضر ذلك الاحتفال. وكان احتفالًا حافلًا اجتمع فيه رؤساء الجهادية والنظار. ولما تم عقد الاجتماع، نهض بين الحضور رجل عليه لباس العسكرية العليا، وخطب يمتدح من إنعام الخديوي. وكان ذلك الخطيب ناظر الجهادية، ثم قام بعده رجل قصير القامة، خفيف شعر اللحية، سريع الحركة، فخطب أيضًا يذكر إنعام الخديوي، فكان عزيز واقفًا في أحد منزويات المكان، فسأل عن الرجل، فقيل له: إنه رئيس مجلس النظار. وأخيرًا انتصب رجل في لباس الضباط، ربع القامة، ضخم العضلات، أسمر اللون، فلما وقف صفق له الحضور وعلت الضوضاء، حتى لم تعد تسمع إلَّا طلب سكوت الجمهور إصغاءً لما سيقول الخطيب، فبدأ بمقدمة، وانتهى إلى شكر الخديوي والنظار، وحث المصريين على محبة الوطن ورفع شأنه، وكان كلما قال فقرة يصفق له الجمع فرحين وكلهم آذان تسمع مقاله، فتعجب عزيز لاحتفائهم الغريب بخطيبهم، فسأل ضابطًا أمامه عن الخطيب، فضحك من استفهامه واستجهله قائلًا: ألا تعلم من هو هذا البطل، قال: لا أعرفه، قال: أظنك غريبًا قادمًا إلى هذه البلاد من أمد قريب؟ قال: كلا، بل أنا مولود فيها، ولكن لم يقسم لي الحظ بمعرفته.
قال هو أحمد بك عرابي؛ رجل الوطن. وكان قد سمع عنه ولم يره.
فلما انتهى الاجتماع وارفضَّ الجمهور خرج عزيز وهو يعجب للنفوذ العسكري، وما لرجال الجهادية من المقام، فودَّ الدخول في تلك الخدمة ليكتسب الرفعة والمجد، وطمع في القانون الجديد المانح الوطنيين امتيازات متمايزة، وقيل له إنه بمساعدة درهمه يترقى في مدة قصيرة إلى أن يصير ضابطًا من رؤساء الحزب الوطني، فينال حظوة في عيني فدوى ووالدها.