عزيز أفندي
فلما رأى عزيز ما ناله جماعة الجهادية من نفوذ الكلمة ازداد شوقًا للانتظام بتلك الخدمة، ولكنه رغب في استطلاع خاطر فدوى وميلها للجهادية، فإذا كانت تميل إليها يتيسر له التقرب منها، فذهب إلى صديقته الدهياء وأطلعها على مراده، فقالت: إني أستطلع رأيها وأنبئك بالخبر اليقين. فذهبت يومًا ببضاعتها كجاري العادة إلى منزل الباشا ودخلت دار الحريم، فلما درت نسوة القصر بمجيئها أتين ليشاهدن ما جاءَت به من السلع، وكن يتهادين في مشيهن وفي وسطهن فدوى بلباس البيت، الذي زادتها بساطته جمالًا وحسنًا، فلما قابلنها ترحبت بهن، فسألْنَها عن بضاعتها، فمدت يدَّها واستخرجت مشطًا مصنوعًا من سن السمك، لطيف الشكل، وقدَّمته إلى فدوى قائلة: هل لكِ أن تتنازلي، يا سيدتي، لقبول هذه الهدية الحقيرة؛ لكي تتشرف بمس هذا الشعر الجميل. وما جرَّأني على تقديمها إلَّا ما يقال من أن الهدية على مقدار مهديها. فأُعجبت فدوى من ملاطفتها وقبِلَتْه مرضاة لها.
ثم مالت بنظرها إلى ما جاءَت به تلك الدلالة من السلع، ثم جلسن جميعهن يُقلِّبن تلك السلع ويتحادثن في أحاديث مختلفة، حتى قادهن الحديث إلى حادثة عابدين.
فقالت دليلة: إن رجال الجهادية هم زهرة البلاد ويدها اليمنى، وبهم تفتخر الأمة، وعليهم حماية الحصون، ودفع الأعداء، وهم نصراء الوطن.
فقالت فدوى: إن رجال الجند يا خالتي، إذا كانوا رجالًا في الحرب كما هم في السلم؛ فهم بالحقيقة، كما وصفت. أما الجندية بوجه العموم؛ فإنها أشرف المصالح.
فقالت لها دليلة: أتفضلين يا سيدتي الضابط الحربي على التاجر أو العالم؟ وتبسمت.
فأدركت فدوى أنها تريد مباغمتها بما يخجلها، فلم تجب.
فأدركت العجوز أن فدوى تحب رجال الجهادية، فلم تزد، ثم عُدنَ إلى النظر في الأمتعة، فاشترين ما شئِنَ، وعادت العجوز إلى منزلها، فرأت عزيزًا في انتظارها، فقالت له: أبشر يا ولدي، لقد قضي الأمر.
قال: وكيف ذلك؟
قالت: إنها تحب رجال الجهادية؛ فافعل ما بدا لك.
فتنهَّد عن قلب حزين، ونطق بلسان خاشع وقال: هذه هي كل العقبات يا خالتي. وودعها وخرج إلى والدها؛ ليستطلع رأيه، فإذا رأى من الاثنين ميلًا للجهادية هان الأمر عليه.
فلما دخل عليه وجلس إليه رآه منقبض النفس، مرتبك الأفكار، فبادأه بالحديث قائلًا: هل حضرتم سعادتكم يوم عابدين وشاهدتم ما كان من فوز الجهادية؛ فقد حبب إليَّ ذلك خدمة الجيش.
فقال الباشا: إن الخدمة العسكرية من أشرف الخدمات، ولكنها محفوفة بالأخطار.
قال عزيز: لا خطر فيها إلَّا أيام الحرب.
قال الباشا: ولكنك غني عن هذه الخدمة لما أنت فيه من الثروة، فإذا كانت حربٌ، فماذا تفعل؟
قال: أقوم بما تقترفه عليَّ مصلحتي؛ «ولا بدَّ دون الشهد من إبر النحل.» (أراد التظاهر بالبسالة وقد أضمر في نفسه الفرار إذا نشبت حربٌ).
فقال الباشا: إذا كان لا بدَّ لك من ذلك، فإني أعطيك كتاب توصية لعرابي بك؛ لأني أعرفه، وهو يتوسط لك لدى ناظر الجهادية، فيقلدك منصب ضابط، ولكن هل لك معرفة بالحركات العسكرية؟
قال عزيز: هذا ليس أمرًا صعبًا؛ فقد تعلمت بعضها، وأقدر أن أتمم علمها بسهولة.
فكتب له كتابًا إلى عرابي يوصيه أن يشمل عزيزًا بأنظاره، فأخذ عزيز الكتاب وودَّعه وسار حتى وصل منزل عرابي، فإذا فيه جماهير الناس والأعيان بين منتظرٍ أمرًا، ومتظلِّمٍ من أمر يدخلون إليه الواحد بعد الآخر يتفاوضون أو يستعطفون، وهو يقابل كلًّا حسب مقامه، ويجتهد في إرضاء الجميع، حتى جاء دور عزيز، فدخل عليه وقد زرَّ ثوبه اعتبارًا، فقابله بالبشاشة واللطف، وبعد تلاوة الكتاب قال له: ألعلَّك عزيز أفندي جندب ابن المرحوم السيد جندب المشهور؟ قال: نعم. فأجلسه إلى جانبه وقال: ما الذي حملك على الانتظام في الجهادية وأنت في غنى عنها؟
قال: رغبة في خدمة الوطن.
قال عرابي: والله لقد أعجبني حبك للوطن المصري وأنت مغربي الأصل على ما أسمع، قال عزيز إن جدي — رحمه الله — جاء من بلاد المغرب للخدمة في جيش محمد علي باشا، فأقام في مصر واتخذها وطنًا له، وأنا أعد نفسي وطنيًّا، فقال عرابي: بورك فيك، ولكن يطلب منك أن تتعهد بالمساعدة المالية للجهادية عند الاقتضاء خدمةً لمصلحة البلاد.
فندم عزيز على إقدامه، ولكنه لم يعد يستطيع الإحجام، فلم يسعه إلَّا الإجابة رغمًا عنه، وحذرًا من نقمة عرابي عليه، فقال: أنا وما أملك تحت أمر سعادتكم.
فشكره عرابي وأطنب بشهامته وقال له: إن مثلك يستحق التشرف بخدمة العسكرية. ثم أمر فكُتب له كتاب إلى ناظر الجهادية يوصيه به.
فأخذ الكتاب وأتى الناظر، فوعده بإنجاز طلبه، وبعد مدة ألبسوه الحلة العسكرية بالشريطة الصفراء القصبية على الكُمَّين؛ وهي علامة رتبة الملازم، وصار من ذلك الحين يتدرب في الحركات العسكرية.