التعرض في الطريق
لقد كانت فدوى — والله أعلم بحالها بعد فراق الحبيب — من اشتغال البال، وتباريح الهوى، فلا ترتاح إلَّا إلى ذكر الحبيب، أو استطلاع أحواله، فكانت تجتمع أحيانًا بوالدته سرًّا، وهي لا تقدر أن تكشف لها قلبها وما يطويه من الحب لشفيق؛ مراعاة للحياء والعادة، غير أن والدة شفيق كانت تقبل بكليتها على مقابلة فدوى، والاحتفاء بها؛ حتى إنها أحبتها محبتها لشفيق. وقد اجتمع قلبهما على حب طاهر مقدس، فكانت تحدثها عن شفيق ونجاحه، وما ذكرت الجرائد الوطنية عنه، فيقضيان مدة في الأحاديث عنه.
ففي أحد الأيام، خرجت فدوى بعربتها إلى شارع العباسية لترويح النفس، وما ترويح النفس إلَّا أن تمر ببيت الحبيب، وترمق الحي وآله؛ للاستئناس برؤيته، وما كان استئناسها إلَّا بقول الشاعر:
وفيما العربة سائرة بها وبخيت أمامها، لحظت من النافذة فارسًا يحاذي مركبتها بمسيره، فأشارت إلى بخيت أن يأمر السائق بسرعة المسير، غير أن الإسراع لم يخجل ذلك الطفيلي، فما زال سائرًا على محاذاة المركبة أسرعت أم أبطأت، فاغتاظت فدوى وقالت لبخيت: ما بال هذا لا يبرح محاذيًا عربتنا؟ فأمر بخيت السائق أن يوقف العربة، فلما وقفت داوم الفارس مسيره بضع خطوات، ثم لوى شكيمة جواده وعاد الهويناء حتى حاذى المركبة أو كاد. وهيئة هذا الفارس تُبيِّن أنه من رجال الجهادية، عليه لباس الضباط بالطربوش العزيزي، والشرائط القصبية، وقد أمال طربوشه على جبينه حتى يظهر شعره المصقول، فحاول النظر إلى فدوى، فأنزلت ستارة النافذة وانزوت داخل العربة.
فلما رأى بخيت تماديه وشراسته، نظر إليه بشطر عينه وقد عرفه قائلًا: ما غرضك يا أفندي؟
قال عزيز: لا غرض لي، ولكني أحيي حضرة السيدة.
قال بخيت: لم تجر العادة عندنا على مثل هذا.
قال: لُطْفها جرَّأني.
فرمقه بخيت باحتقار قائلًا: الأليق بك أن تمر بطريقك وتحفظ شرف الحلة التي أنت لابسها.
فقال عزيز: اعلم أنك تخاطب ضابطًا جهاديًّا (وأراد أن تسمعه فدوى ظنًّا منه أنها إذا علمت مكانته ترفع الستارة وتنظر إليه).
فقال بخيت: قد دلنا لباسك على مقامك، ولكن رجال الحرب لا يصقلون شعورهم، ولا يتطيَّبون تطيب المخدرات، ولا يتعرضون المارة وهم حامية البلاد ودعامة الأمن، وليس فزَّاعة لتخويف أبناء السبيل. وايم الله، لولا احترام كسوة العسكرية التي عليك لأذقتُك ما لم تذقه عمرك.
قال عزيز وهو ينتفض من الغضب والخجل: ليس من مقامي مخاطبة العبيد، وإنما أنا أخاطب سيدتك.
قال بخيت: احفظ مقامك وسِرْ، واكفنا شرَّ هذا اليوم.
قال عزيز: قل لسيدتك: ألعل شفيقًا الذي لا يزال غرًّا من تلامذة المدارس أولى بالمحادثة من ضابط جهادي؟
قال بخيت وقد اشتد غضبه وغاب عن الصواب: اخسأ يا ذميم، وسِرْ في طريقك قبل أن تذوق الوبال. قال ذلك وأمر السائق فعاد إلى البيت، وعزيز قد أذهله الفشل، وأخذه الجمود؛ لحبوط مسعاه، فلما عاد إلى صوابه لم يجزم بنفور فدوى منه؛ لأنها لم تشافهه ببنت شفة، فحمل ذلك على حذرها من بخيت؛ لئلا يطلع والدها على مكالمتها إياه.
أما فدوى فعنَّفت بخيتًا لإطالة الكلام معه إلى هذا المقدار، فقال: يا سيدتي، إنه مؤَملٌ — ولا أخجل أن أقول — بما يقصر عن نيله، ولا يراه في الحلم، ويخال له أن لباس الجهادية يزيده اعتبارًا في عيون الناس، ولم يفطن أن المرء بأصغريه لا ببرديه، ولكن مهلًا يا سيدتي، سأريه ما لم يره عمره، ولولا حرمة وجودك الآنَ لأذقتُه الهوان.
فقالت: ألا تعلم أن للجهادية هذه الأيام شأنًا عظيمًا، ولهم الأمر والنهي، فإذا أرادوا أمرًا لا يخالفهم فيه مخالفٌ، فأخشى إذا اتصل الأمر بوالدي أن يلومنا على ذلك؛ فالإعراض أولَى بنا.
قال بخيت: لا ريب أن نيل الجهادية ما طلبوه يوم حادثة عابدين يعد فوزًا تامًّا، ولكن عرابي أخذ بعد سفره بآلايه إلى رأس الوادي يبث مبادئه في مشايخ عربان الشرقية وغيرهم، ويحثهم على الاتحاد والتحالف. وهذا ما أوجب تحذر حكومتي فرنسا وإنكلترا من هذا التظاهر. وقد علمت أنهما بعثتا إلى الجناب العالي تتبرعان بالمساعدة في كل ما يئول إلى تأييد سلطة سُموِّه.
فقالت فدوى: وما الموجب الذي أوجب مداخلة هاتين الدولتين في مصالح البلاد؟
قال بخيت: لأن لهما على هذه الديار دينًا، فيحافظان عليها محافظة على حقوقهما.
ولما وصلت بهما العربة إلى المنزل، أوصت فدوى بخيتًا بكتم الأمر عن والدها.