ضرب الإسكندرية
فمرَّا بجهات الأزبكية وإذا الناس في هرج يتحدَّثون ويتساءلون ويتسارُّون، وأنفار الجهادية يخطرون في الطرقات مرحًا، ورءوسهم تكاد تدرك السحاب عجبًا وتِيهًا، فأوقف بخيت المركبة وسأل عن السبب، فقيل له: إنه قد قدم من الإسكندرية بعض المهاجرين، وأخبروا أن العمارة الإنكليزية قد أطلقت مدافعها على الحصون فهدمتها، ثم أنزلت عساكرها واحتلتها، ففر العرابيون إلى كفر الدوار يتحصنون ويستعدون لملاقاة العدو بعد أن أحرقوا الإسكندرية ونهبوها. أما جند القاهرة فلم يصدقوا الخبر؛ لأن جرائدهم كالطائف والمفيد كانت تذكره بعكس ذلك؛ تشجيعًا لهم؛ ولذلك كانوا يمرحون في الأسواق إعجابًا بالنصر، ولا سيما الذين هاجروا الإسكندرية فرارًا من الإنكليز، وجاءوا القاهرة، فإنهم كانوا يتحرشون بالمارة من الغرباء، ويوقعون بهم كل سوء، حتى صاروا لا يخرجون إلى الأسواق إلَّا متنكرين بزي الوطنيين حرصًا على حياتهم.
أما أهل القاهرة فكانوا أيضًا يتضررون من تصرف جالية الإسكندرية، فعرضوا شكواهم لضابط العاصمة إذ ذاك، وكان ساهرًا على مصلحته، فبذل قصارى جهده لملافاة تلك التعديات.
وكان يطوف في شوارع القاهرة جماعة من المشائخ على صدورهم مآزر ملوَّنة، وبأيديهم مباخر يبخرون بها وينادون بعالي صوتهم طالبين النصر لعرابي وأحزابه، وحبوط مساعي الإفرنج.
فلما شاهد بخيت هذا الاضطراب خشي أن ينال فدوى منه سوءٌ، فاستأذنها بالعود، وأمر السائق فعاد إلى البيت.
فدخلت غرفتها وإذا بوالدتها في انتظارها فحيَّتها، فشاهدت والدتها في وجهها أثر الاضطراب، فسألتها السبب، فنسبته إلى ثورة الإسكندرية، إلى أن قالت: أما سمعتِ ما حلَّ بالإسكندرية من القتل والحرق. وقصَّت عليها الحكاية وهي ترتعد من الخوف، فلما سمعت والدتها ذلك امتقع لونها، وأخذتها البهتة، ثم قالت: آه! يا إلهي! ماذا يكون حلَّ بوالدك؟ وماذا يترتب على بقائنا هنا تحت ظل الأخطار؟ آه! كم رغبت إليه مهاجرة هذا البَرِّ أثناء الثورة! فنلتجئ إلى دمشق الشام؛ لأن لنا فيها أهلًا وأقارب، ومتى سكنت الأحوال نعود، ولكنه أبى إلَّا البقاء هنا. وها قد ذهب الآن إلى الإسكندرية، فلا ندري ما أتى أو يأتي به المقدور.
فقالت فدوى: أظنه تمنَّع خوفًا على أملاكه من الضياع مدة هذه التقلبات، ولا إخاله ظن الثورة تبلغ هذا المبلغ. أما ذهابنا إلى الشام فما أحلاه لو كان! لأني شديدة الميل إلى مشاهدة مسقط رأسك، ومقر أهلك؛ فقد بلغت هذا المبلغ من العمر ولم يقسم لي الحظ برؤيتهم، فما أمرَّ البُعاد وأجفاه!
فتنهَّدت والدتها وخنقتها العبرات، ثم اتكأت إلى سنادة كرسي أمامها وهي تصعِّد الزفرات، فلما رأتها فدوى على هذه الحال اضطرب فؤادها، وظنَّت هذا التأثُّر خوفًا على والدها من مذبحة الإسكندرية، فأخذت تُهوِّن عليها لتُسكِّن اضطرابها، وأخبرتها عن دخول الإنكليز إلى الإسكندرية، وأن الجميع في سلام وطمأنينة.
فرفعت نظرها إلى فدوى وقالت: لم يكن اضطرابي كله يا حبيبتي على والدك؛ إذ لا خوف عليه بإذن الله؛ لأنه معروف من زعماء الثورة، وإنما تأوهي لذكرى حضرتني بتذكُّر الوطن.
فقالت فدوى: ما هي هذه الذكرى يا والدتي إن لم تكن الأهل والوطن؟
فقالت: تذكرت ضياع أخ لي منذ ١٩ سنة أثناء الحادثة المشئومة التي حدثت في دمشق الشام سنة ١٣٦٠ ولم أكن أعرف أباك بعد.
فقالت: كيف ذلك يا أماه؟ وهل لم تقفوا على خبره بعدُ. وأقبلتْ بكليتها لاستطلاع الخبر.
فقالت والدتها وقد مسحت دموع عينيها: اعلمي يا ابنتي أنني من عائلة معروفة في دمشق، وكان لي أخ غض الشباب، حسن الأحدوثة، شهم شجاع، وكنا عائشين في بسطة ورغد تحت كنف والدينا، حتى كانت سنة ١٨٦٠، فجَرتْ ثورة في دمشق قام فيها فتيان المسلمين على النصارى، فحصلت مذبحة هائلة عرفت بمذبحة سنة ٦٠، دارت فيها الدائرة على النصارى، وكان خالك في جملة أولئك الفتيان، فخرج صباح يوم في جملة من خرج للقتل والفتك، ولم نعد نراه أو نسمع عنه شيئًا. وا حسرتاه! لقد كان وحيد العائلة، فبقيت أنا وحدي مع والديَّ؛ جديك، وفي السنة التالية للمذبحة، جاء والدك إلى دمشق في مهمة، فتعرف بوالديَّ وخطبني منهما. ونظرًا لما هو فيه من الشهرة والغنى أجاباه، فتزوجني وجاء بي، وللآن لم نعلم خبرًا عن خالك.
فلما سمعت فدوى من والدتها هذا الكلام تذكرت ضياع شفيق، ففقدت صوابها ولم تتمالك عن البكاء، ولكنها قالت: إن ضياع خالي قد أحزنني، فكيف تكون حال ذينك الوالدين بعد فقد ولدهما الوحيد؟ ثم أردفت كلامها لئلا تلحظ منها شيئًا من الاضطراب: كيف يمكنك التصبُّر، يا أماه، على بُعد والديك كل هذه المدة والمسافة بين مصر وسورية قصيرة لا تحتاج إلى أكثر من بضعة أيام ذهابًا وإيابًا؟ آه لو نذهب لتمضية بضعة أيام هناك! لأني أميل من كل قلبي إلى مشاهدة جديَّ اللذين قسم لي الدهر ألا أراهما حتى الآن.
فتأوهت والدتها عن كبد حرَّى وقالت: أطلب إلى الله أن يستجيب دعوتك ويُنيلك مرامك.
لندع فدوى ووالدتها يتحدثان، ولنأتِ إلى عزيز.