دليلة وعزيز
ما برح عزيز يزداد هيامًا بعد تلك الإهانة من بخيت على شارع العباسية، فكأن الإهانة في مثل هذه الأحوال تحمل الإنسان على الانتقام لنفسه، فيستعمل ما لديه من الوسائط السافلة لاستطلاع أسرار خصمه، ويتخذها سلاحًا له ليذﻟﻠﻪ بها، وهكذا فعل عزيز، فذهب إلى المفتش الذي أقامه العرابيون في مصلحة البوسطة لفضِّ الرسائل المرسلة من أعيان البلاد ورجال حكومتها، والرسائل الواردة إليهم؛ استطلاعًا لضمائرهم نحوه، وأوصاه سرًّا إذا عثر على كتاب مرسل إلى بلاد الإنكليز بعنوان كذا أن يطلعه عليه، إلى أن قال: إن عرابي باشا يريد ذلك. وقد كان هذا المفتش من الملكية، ولم يقبل تلك المهمة إلَّا خوفًا من صولة الجهادية إذ ذاك.
وفضلًا عن ذلك، فإن عزيزًا أقام الأرصاد على فدوى، حتى إذا خرجت من بيتها يسعى إلى اكتسابها بأي طريقة كانت. ولما لم ينل جدوى قصد صديقته دليلة، وعرض لها الأمر وقال: لا بدَّ من نيل هذه الفتاة على أي الطرق؛ فالذين كنت أخشاهم بعيدون عنها الآن، وقد ساعدتني جميع الأحوال، ولم يبق إلَّا رضاها، فالحوادث العرابية قضت بإبعاد والدي شفيق إلى أجلٍ غير مسمًّى، وقد سعيت إلى إبعاد والدها إلى الإسكندرية، فظننت أنها تذل بعد هذا وتخاف الجهادية، فاعترضتُ لها مرة في شارع العباسية فقابلني خصيُّها بشراسة، وهي لم تَفُه ببنت شفة، ولا أدري إذا كان سكوتها احتقارًا لي أو خوفًا من خصيها؛ لئلا يوصل كلامها إلى مسامع والدها.
فقالت دليلة: أما أنا، فأظنها لا تفضِّل سواك؛ لأنك شاب غني عنها بالمال والجاه، وقد حصلت على رتب الجهادية التي هي أشرف مناصب الحكومة الآن، ولكنك — سامحك الله — لا تعلم من أين تؤكل الكتف، والجنس اللطيف لا يؤخذ إلَّا بالملاطفة، وليس بالعنف، ولا يخفى عليك أن تصديك لها على قارعة الطريق مما ينفرها منك، ولا بدَّ لك في مثل هذه الحال أن تجعل بينك وبينها من لها خبرة بذلك.
فقال: نِعم الواسطة أنت! فهل لك أن تقومي لي بهذه المهمة؟ قالت: مرحبًا بك، ولكنها تكلف إنفاق قدر طائل من المال؛ إذ إن مرادي أن أصنع خاتمًا عليه اسمك، وأقدمه لها بلطف وحسن أسلوب، وأرى ماذا يظهر منها، فمد يده وناولها مبلغً كبيرًا، فأخذته وخرجت إلى الصائغ فاصطنعت الخاتم، وذهبت إليها وجرى بينهما ما قد تقدم ذكره.
فلما عادت بخفي حنين اتقدت في قلبها نار الانتقام؛ لأنها اعتبرت معاملة فدوى لها على تلك الصورة إهانة، فسارت توًّا إلى منزل عزيز الذي كان في انتظارها على مثل الجمر، فلما رآها بما هي عليه من الغضب خفق قلبه وسألها، فقصت عليه القصة إلى أن قالت: طبْ نفسًا، يا ولدي، وقرَّ عينًا؛ فإن هذه الابنة إذا أصرت على عنادها أخذتها لك قهرًا، رضيتْ أم لم ترض.
فقال لها: أتقدم إليك أن تأتي إليَّ كل يوم مرة للمفاوضة في الأمر، وأخشى أن ترِدَ عليَّ الأوامر بالسفر إلى الإسكندرية بغتة، وعند ذلك لا بدَّ لي من الاعتماد عليك في هذه المهمة.
فقالت: وهل إذا جاءتك الأوامر بالسفر إلى الإسكندرية تسافر وأنت عالم أن ذلك الثغر في خطر عظيم؛ تتهدده دوارع دولتي إنكلترا وفرنسا الواقفة له بالمرصاد؟ وزد على ذلك أن ذهابك هذا يعرقل مساعيَّ من جهة فدوى، قال: «ما كل ما يتمنى المرء يدركه.» فكنت عوَّلت منذ انتظامي في سلك العسكرية أني حالما أعلم باقتراب الحرب أستعفي من الخدمة، ولكني رأيت من الجهة الواحدة أني ارتقيتُ وصرتُ عظيمًا في أعين الناس، ومن الجهة الأخرى، علمتُ أن القوانين العسكرية لا تجيز الاستعفاء وقت الحرب، فلا بدَّ لي من البقاء في الجيش على كل حال، ويجب عليَّ إطاعة الأوامر. أما إذا ذهبت إلى حربٍ، فلا أعرِّض بنفسي إلى مكان الهلاك؛ لأنها عزيزة عليَّ، ومتى انتهت مهمتي أعود إلى القاهرة، وأسعى إلى ما أتطلبه.