التفتيش عن شفيق
أما سعدى فلم تعد تستطيع الجلوس، فذهبت إلى النافذة ووقفت مستطلة تنظر إلى الشارع المضيء بالغاز وعلى جانبيه الأشجار. وما زالا كذلك حتى دقت الساعة التاسعة، فهبَّ الرجل ولبس طربوشه ثم قال لامرأته: ها إني ذاهب للتفتيش عن شفيق، ولا أغيب عنك أكثر من ساعة وأرجع به، إن شاء الله. ثم أخذ عصاه بيده، وغادر امرأته على مثل جمر الغضا. أما هي فبقيت مستطلة من النافذة لا تحوِّل نظرها عن الشارع لحظةً حتى دقت الساعة العاشرة، ولمَّا لم يرجع أحد زاد خفقان قلبها، وأخذت ركبتاها ترتجفان، وهي إلى تلك الساعة لم تذق طعامًا، وكانت تفكر تارةً بولدها، وطورًا بزوجها، وطورًا بذلك الصندوق؛ حتى دقت الساعة الحادية عشرة، فأظلمت الدنيا في عينيها، فجلست إلى طاولة مستلقية رأسها بيدها على تلك الطاولة، وأخذت تندب سوءَ حظها.
وفيما هي في ذلك سمعت طارقًا يطرق باب الحجرة طرقًا خفيفًا، فهمَّت إلى الباب بعد أن مسحت دموعها، فإذا بالخادم، فسألته عن أمره فقال: يا سيدتي، إذا أذنتِ لي أسير وآتيك بسيدي شفيق، فأجفلتْ قائلة: وهل تعلم مكانه؟ قال: نعم؛ لأني أذكر قولًا قاله مرةً لعزيز أفندي، فترجح لديَّ معرفة مكانه الآن، فقالت بلهفة: وأين تظن مكانه، قال: أظنه ذهب مع صديقه عزيز (وحرق أسنانه) إلى احتفال فتح الخليج؛ لأني سمعت عزيزًا منذ بضعة أيام يُحبِّب إليه الذهاب إلى هناك لمشاهدة الأنوار، واستماع الأنغام، ورأيت سيدي يتمنَّع قائلًا: إنه لا يعتد بهذه المناظر، وإن المطالعة لأشهى لديه من كل الاحتفالات. وحضرتُك تعرفين دهاء هذا الشاب، وسلامة نية سيدي شفيق وإخلاصه لأصدقائه.
فقالت سعدى وقد لاحت على وجهها أمارات البِشْر: وما الذي خافه من ذهابه إلى ذلك الاحتفال؟ فكيف أنه لم يخبرنا ولا أظن والده كان يمنعه من ذلك؟ فقال أحمد: لا يا سيدتي، بل كان يمنعه؛ لأن هذا الاحتفال وأمثاله ليست هنا لمجرَّد الاحتفال المقصود، وإنما يحدث أحيانًا أمور مغايرة للآداب لا يرضاها سيدي الكبير؛ ولذلك قلت إنه كان يمنعه من الذهاب.
قالت سعدى: كيف كان الحال، فإن المراد أن تأتي بشفيق. ثم تنهدت وقالت له: سرْ، وفَّقَ الله مسعاك.
وكان أحمد هذا في الأصل من أنفار الجهادية، وقد تقلب مع الدهر وعرف دخائل الناس، وكان يظن في عزيز صديق شفيق سوءًا، ولا يحب صداقته لسيده، ولكنه لم يكن له أن يشور عليه في ذلك، فكان رصدًا وعينًا عليهما؛ لأنه كان يحب سيده وابن سيده محبة عظيمة، وكان همامًا غيورًا، فلما أذنت له سيدته بالذهاب خرج قاصدًا فم الخليج، ومكثت سعدى في البيت وهي بين وجل وريب حتى كاد يُغمى عليها، فنادت جارتها للاستئناس بها، وأخبرتها بغياب شفيق، فشاركتها باللهف، وأتتها ببعض المنعشات، ولبثت سعدى تنتظر باب الله والفتح.