إباحة الأسرار كإباحة الأعمار
أتت دليلة صباح يوم إلى بيت عزيز جريًا على العادة، فرأته يخطر في غرفته ذهابًا وإيابًا، وفي يده رسالة ينظر إليها، وسمات الطرب بادية على وجهه، فلما لحظ العجوز مقبلة عليه رحَّب بها وقال: وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. أتدري ممن هذا الكتاب …؟ هو من فدوى إلى والدة شفيق. خذي انظري وتعجبي. لقد قُضي الأمرُ وحبطت آمال تلك الحبيبة الجافية.
فسألته: وكيف ذلك؟!
قال: ضاع حبيبها شفيق، ولم يطَّلع والداه له على خبر، فهل بعد ذلك مانع من نيلها!
فقالت دليلة: ها إنك قد اطَّلعت على أسرارها، فيمكنك بهذه الرسالة تحقيرها في عيني والدها، وحينئذٍ لا يشك في محبتك له، وغيرتك على شرف ابنته، فيزداد بك ثقةً، حتى إذا أظهرت له أقلَّ ميل بمصاهرته لا يتردد في إجابة طلبك، وإذا مانعت ابنته يجبرها انتقامًا منها؛ لأنه غيور عليها.
فلما سمع عزيز كلام العجوز أخذته هزة الطرب وقال: لا أشك بأن الباشا يرغب كثيرًا في مصاهرتي، لكنني كنت أخاف أن تمتنع هي فأرجع بصفقة المغبون؛ ولذلك سعيت عبثًا في استجلابها فلم أظفر، والذي يتراءى لي أن حبها لشفيق لم يدع في قلبها مكانًا لمحبة سواه. ولمَّا لم أقوَ على استجلابها بالملاطفة التجأت إلى إذلالها، وإيقاع المكيدة بها، فظفرت. أما الآن وقد وقعت في شرك كبرها وترفعها، فلا تقوى على رد أوامر والدها بعد أن ينكشف له حبُّها لشفيق.
وبينما عزيز في الحديث أتاه الخادم بكتاب ففضَّه، فإذا هو من أركان حرب عرابي يطلبون إليه به أن يعد عددًا من الخيل، ومقدارًا من المَئُونة مساعدةً للجيش ويُقدِّمها بأقرب ما يمكن من الوقت. وبعد ذلك يطلبون إليه السفر إلى الإسكندرية، فلما قرأ الكتاب تغيرت ملامح وجهه، فقطب جبينه، وجلس إلى متكأ أمامه، واستلقى رأسه بيده؛ كأنه وقع في أمر عظيم، فسألته العجوز عن سبب هذا الانقلاب، فلم يجبها أولًا، ثم أعلمها بواقعة الحال، فخفَّضت عنه وقالت له: ألم تعلم قبل انخراطك في سلك الجهادية أن أوامرها لا مردَّ لها، وخصوصًا في مثل هذه الأحوال.
فرفع عزيز رأسه بعد تفكر طويل وقال إني مسافر إلى الإسكندرية بعد غد فأعهد إليك في مراقبة حركات فدوى واستعطافها إذا وجدت إلى ذلك سبيلًا فطيبت خاطره ووعدته بما يريد.
فسافر عزيز، ولما وصل إلى كفر الدوار علم أن عرابيًّا لا يلبث أن يأتيها، فيعود بجنده من ضواحي الإسكندرية ويتحصن في كفر الدوَّار لدفع الإنكليز، فخاف عزيز أن يلتحم الجيشان هناك فيصيبه سوء، وقد تبادر إلى ذهنه أن موته يعود بالنفع على شفيق إذا كان لا يزال حيًّا، فصوَّر له حسده أن يبحث عن مكان والد فدوى، ويرسل إليه الكتاب ليهيج فيه عاطفة الانتقام، ويعرقل مساعي شفيق. وبعد البحث، علم أنه لا يزال في الإسكندرية، فتربص مكانه يرقب فرصة ينزل بها إلى الإسكندرية، حتى ورد أمرٌ من الجناب العالي في الإسكندرية إلى عرابي يأمره بالإمساك عن الأعمال الحربية، وحشد الجند؛ لأن الجنرال سيمور؛ أميرالاي العمارة الإنكليزية، قد صرح بالخروج من الإسكندرية حالما يتأكد انحلال عقد الجهادية، والتوقف عن الاستعدادات الحربية، ويطلب سموُّه إلى عرابي الحضور إلى الإسكندرية، فسُرَّ عزيز بذلك؛ لأنه يتمكن من نيل مراده بالذهاب إليها، ولكن خاب ظنه؛ لأن عرابي لم يذعن للأوامر، بل كتب إلى وكيل الجهادية في القاهرة يخبره بما حصل، فجمع ذلك أعيان العاصمة ورجال حكومتها، وبعد المفاوضة أقروا على وجوب المثابرة على الأعمال الحربية، وبعثوا لجنة مؤلَّفة من ستة مندوبين لمخاطبة الجناب العالي بذلك.
فسارت اللجنة من القاهرة ومرَّت بطريقها على كفر الدوار تعلن مهمتها لعرابي، فرأى عزيز أن يسعى لمرافقة هؤلاء إلى الإسكندرية؛ إذ لا يتسهل له السفر إلَّا بمثل هذه الطريقة؛ لأن السكك الحديدية في مصر أصبحت بعد ضرب الإسكندرية لا تسير قطاراتها إلَّا بأمر العرابيين؛ إذ قد حظروا السفر فيها لغير حاجياتهم من صادر ووارد، فاغتنم عزيز هذه الفرصة، وطلب إلى رئيسه أن يسمح له بمرافقة هذا الوفد إلى الإسكندرية، فأذن له. ولما وصلوا المدينة، انفرد عزيز ليفتش عن بيت الباشا، فاستولى عليه الذهول لما حلَّ بتلك المدينة العظيمة من الدمار إثر الحريق الذي ذهب بأعظم مبانيها، وأصبحت المنشية آكامًا من الأتربة والأحجار. وكان الدخان لا يزال يتصاعد عنها، وحوانيتها العظيمة التي كانت ملأى بالأقمشة والملابس على أنواعها، والحلي والمجوهرات، ذهبت طعامًا للنار، فصارت آكامًا خربة، وأطلالًا بالية ينعق فيها البوم، بعد أن كانت تزهو بهاءً وجلالًا. وبعد أن كان الأمن مخيمًا فيها، والناس في الشوارع زرافاتٍ ووحدانًا يترنحون بخمرة الزهو والعز بأزياء مختلفة، وعوائد متنوعة، وعربات متباينة الشكل بين مُتَّشحٍ بالثياب الفاخرة، ومتأنق بركوب العربات الباهرة، ومُباهٍ بكثرة الخدم والحشم، ومُفاخِر بالزهو والبذخ. هذه البلاد بعد عزِّها وزهوها هجرها أهلوها، وغشيها البلى والدمار، وما لم تأكله النار من مبانيها ذهب فريسة النهب، فتعجب عزيز لهذا الانقلاب السريع. وكان لا يشاهد أثناء سيره من المارة إلَّا أزواجًا من الشرطة بزي الإنكليز؛ بعضهم خيالة، وبعضهم مشاة، وكلهم بالسلاح الكامل يطوفون بالبلد حفاظًا للأمن، وقلما شاهد مارة في الشوارع من غير الشرطة، فخاف أن تقع فيه شبهة ويساق بتهمة، فيعود ذلك بالوبال عليه.