نجاة عزيز من الموت
أما محل سكن الباشا في الإسكندرية فكان إلى جهة منحرفة من السكة الجديدة، فلما اهتدى عزيز إلى منزله وهمَّ بالدخول إذا بنفر من الجنود الإنكليزية قد أمسكوا به — وكانوا آتين للقبض على الباشا؛ حيث اتهمه البعض بكونه من العصاة المختبئين — فلما رأوا عزيزًا وغبار القطار الحديدي على ثيابه بلباس الجند المصري، ظنُّوه قادمًا بدسيسة من عرابي وأتباعه إلى الباشا، فقبضوا عليهما وساقوهما موثقين إلى المحافظة، بعد أن ضبطوا ما وجدوه معهما من الأوراق ولفُّوها رزمة واحدة، فلما صار الباشا على الطريق لحظ عزيز فعرفه، وظن أنه الواشي به. أما عزيز فكان يلعن الساعة التي أتى فيها الإسكندرية، ويندب سوء بخته وقد اكفهر لونه، واصطكت ركبتاه، وارتعدت فرائصه، حتى كاد يقع في الطريق من شدة الخوف. ولم يكن الباشا أقلَّ منه اضطرابًا، فبينما هما في الطريق وقد اقترب بهما الجند من ساحة المنشية، تصدَّى لهم ضابط إنكليزي، فوقف الجند بالسلام العسكري المعتاد عندهم، وتأمل الضابط الرجلين الموثقين وأشار إلى الجند وخاطبهم باللغة الإنكليزية، فتركوهما وألقوا إلى الضابط ملف الأوراق وساروا.
فتعجب الباشا وعزيز منه، وظنَّاه المُفوَّض إليه أمر إعدامهما. أما هو فأشار إليهما أن يتبعاه، فتبعاه حتى خرج بهما من شوارع البلدة إلى جهة معروفة بسكة المسلة، فوصل إلى منعطف فأدخلهما بيتًا فيه وأغلق خلفهما الباب.
أما هما، فتحقق لديهما دنو الأجل، وأنهما لا محالة مسوقان إلى القتل، فرجفا من الخوف، وسقطا إلى الأرض، فاقترب الضابط منهما ورفع قبعته وخاطبهما باللغة العربية قائلًا: «السلام عليكما.» فانذهل كلاهما لهذا المشهد وتأمَّلاه، فإذا به كأنهما يعرفانه. أما عزيز فما أطال نظره إليه حتى ألقى بنفسه عليه قائلًا: شفيق … شفيق، ما أسعد هذه المصادفة! أخي حبيبي.
فقال الباشا: هل أنت مصري الوطن يا سيدي، قال: نعم، وقد رأيتكما في خطر فسعيت إلى إنقاذكما من مخالب الموت.
فقال الباشا: إننا مديونون لك بحياتنا أيها الشهم الباسل؛ فاطلب إلينا ما تشاء، لعلنا نفي بعض الواجب علينا.
فقال شفيق: يكفيني مكافأة أن قدَّر لي الله إنقاذكما من الموت أو الإهانة، ثم حلَّ وثاقهما ودعاهما إلى الاستراحة، ودخل هو إلى غرفة أخرى، وفضَّ ملف الورق ليرى ما يحتويه، فعثر على الكتاب المرسل من فدوى إلى والدته، فلم يتمالك أن قرأه على نفسه، فثارت عواطفه، وأخذته رجفة الحب، ولم يقوَ على الوقوف، فقعد على مقعد هناك وهو يكاد يغيب عن الوجود، وصبر إلى أن هدأت عواطفه، فأرسل خادمًا عنده أن يدعو الرجلين إلى حضرته، فلما حضرا أكرمهما، ثم سألهما: ما سبب وجود هذا الكتاب بين أوراقكما؟ فتدارك عزيز وقال: قد كان بين أوراقي، أيها الحبيب، واقترب منه كأنه يسأله المحادثة بالأمر سرًّا، فطاوعه شفيق وقام، وخرجا الاثنان بعد أن استأذنا الباشا. ولما انفردا بادَأَه عزيز بما فطر عليه من الدهاء والكذب قائلًا: ما برحت أذكر أيها العزيز ما تفرضه عليَّ واجبات الصداقة والإخاء نحو شخصكم الكريم، فسعيت إلى ما وعدتك به من تسهيل أمر اقترانك بفدوى، فبقيت مدة أتردد إلى بيت الباشا حتى تسنَّى لي أن أساعد بخيتًا في إيصال كتبها لك إلى البوسطة سرًّا؛ لأن والدها لم يكن يأذن لأحد بمخاطبتها غير بخيت. وهذا لم يجسر على إيصال التحارير إلى البوسطة؛ خوفًا من اطلاع الباشا عليها؛ فينتقم منه. أما أنا فلم أخاطب الباشا بشيء من مقاصدك؛ خوفًا من أنك لا تريد ذلك. وهذا الكتاب أعطاني إياه بخيت لأوصله إلى البوسطة، وبما أن إدارة البوسطة هذه الأيام بيد العرابيين يستطلعون من المراسلات فيها تساؤلًا، فلا أكون على ثقة من وصوله إليكم، فأبقيته معي؛ لأنني كنت عازمًا على النزول إلى الإسكندرية فأضعه في مكتب من مكاتب البوسطات الفرنجية، فيصلكم لا محالة. ومما رغبني في المجيء أيضًا إلى الإسكندرية، أن الباشا مقيم فيها، فاغتنمت الفرصة إلى أن أتيتها وذهبت إلى بيته، ولما وصلته قبض الجند عليَّ وعليه، وكان ما رأيت.
فبادر إليه شفيق وقبَّله قائلًا: لقد أوليتني فضلًا عظيمًا، أيها الصديق الحميم، فأراني مقصرًا عن تأدية الشكر لك، لا بل أرى عبارات الشكر تنفد ولا تحيط بفضلك، غير أني أرجو من لطفك وقد قلدتني هذه المنَّة أن تُعلمني عن حالة فدوى.
قال: هي على ما تريد من الكمال والجمال، وكأن الله — سبحانه وتعالى — قد خلق هذه الذات المتحلية بفضائل النفس ليجمع بكما فضائل النفس والجسد.
وأراد عزيز أن يجعل في شفيق ثقة عمياء فيه؛ لكي يستعين بها على نيل أرَبه، فكأن الله قد قدَّ قلب هذا الجلف من حجر، فلا يؤثر فيه جميل ولا إخلاص.
أما شفيق، فأخذ كلامه مأخذ الإخلاص، وظنَّه صادرًا عن شعائر كريمة، ومحبة صادقة، حتى لم يدر كيف يبدي له شكره، ثم حول نظره إلى حلة عزيز العسكرية وقال: أراك قد انتظمت في سلك الجهادية! فقص عزيز عليه حكاية انتظامه في الجهادية، وأدخل عليها ما شاء من الأكاذيب المُلفَّقة، ثم قال: وأنت؛ أراك لابسًا لبس الضباط الإنكليز، فكيف ذلك؟!
قال شفيق: إنني لما سمعت بالثورة العرابية وما أصاب الديار المصريَّة من اختلال الأحوال، أشفقت على فدوى أن ينالها سوء، فدخلت متطوعًا في الجندية الإنكليزية لمرافقة هذه الحملة، فأشاهد الأهل والأحباب؛ لعلي أقوى على غوثهم، وخصوصًا فدوى؛ لأن حبها شغل كل جوارحي حتى منعني من الافتكار بسواها. أقول غير خَجلٍ؛ لأنك تعلم مقدار حبنا المتبادل، ولا يخفى عليك أيضًا أن انتظامي في الجندية الإنكليزية كان رابع المستحيلات لو لم أستخدم وسائط كثيرة، وأكون ممن يعرفون اللغتين العربية والإنكليزية، فأقوم أحيانًا مقام المترجم. ولي أمل عظيم إذا نلت حظوة في عيني رئيسي أن أحصل على التعيين النهائي في الجيش فأُغفل مهنة المحاماة. فما رأيك بعد هذا يا عزيز؛ هل أكاشف الباشا الآن بحقيقة حبي لفدوى أم … فقاطعه عزيز قائلًا: أرى الأفضل أن تنوط الأمر بي فأديره بما تقتضيه الحكمة والدراية.
فقال: إنني أشكر اهتمامك، وأتقدم إليك إذا رجعت إلى العاصمة قبلي أن تبلغها تحياتي، وتخبرها أني لا أزال على العهد، وعما قليل أكون عندها، فلا تشغل بالها عليَّ، وسأكتب لها في الغد. قال عزيز: لا تنقل كتبك في البوسطة؛ لأنها محتلة كما أخبرتك. أما إذا شئت، فإني أنقل لك ما تريد، ولكني أخشى أن تغشني فدوى، فهل من علامة ترفع الشبهة عني؟ فقال شفيق: لديَّ علامة، لكني لا أحب أن يطَّلع عليها أحد. أما أنت فسأُطلعك عليها؛ لأنك عالم بما بيننا. ثم أخرج الدبوس من جيبه، وأراه لعزيز قائلًا: هذا الدبوس أخذته منها في حديقة قصر النزهة تذكارًا للحب والولاء، فإذا ذكرته لها تثق بك.
فأظهر عزيز استحسانه لتلك الإفادة، وشكر شفيقًا على ثقته فيه، ثم دخلا على الباشا في الغرفة واعتذرا إليه على انفرادهما، ثم دفع شفيق الأوراق إليهما، ونسي كتاب فدوى بينها، وقال لهما: إذا أردتما الذهاب فهاكما شعار الأمان المصطلح عليه هنا؛ وهو إذا التقى بكما أحد فقولا له: «السلام.» فهذا هو الشعار الأخير، فخرج الاثنان ينفضان غبار الموت عن منكبيهما، حتى أتيا مختبأ الباشا، وعزيز كل الطريق مشتت البصر لهذا الاتفاق العجيب، وهو يقول: من أين أتى …؟ لا حول ولا …! ألا يزال في قيد الحياة؟ فوالله إذا التحم الحرب بيننا وبين جيوش الإنكليز لأسعينَّ إلى قتله ولو كلفني ذلك الحياة!