عود عزيز إلى مصر
ثم استأنف الباشا الحديث وقال: ماذا عوَّلت أن تفعل الآن؟
قال عزيز: قد عولت أن أعود مع الوفد إلى كفر الدوار، ومن هناك أغتنم الفرصة لأرجع إلى القاهرة، فما الرأي؟
فقال الباشا: يلوح لي أن العرابيين طالما أصروا على الدفاع ومخالفة أوامر الخديوي، فالحرب لا تنتهي إلَّا بعد زمن طويل، فتطول إقامتك في كفر الدوار أو في غيرها من النقط الحربية. أما أنا فلست في مأمن من مرافقة الحزب العسكري؛ لأنها ذات خطر عليَّ إذا ظنوا بي سوءًا، ويخال لي أنهم توهموا ذلك من قبلُ فأمروا بجلائي من القاهرة، فتراني قلقًا على أهلي في مصر، وأخشى أن ينال فدوى ووالدتها سوءٌ وأنا بعيد عنهما، فلا آمن من وصولي إليهما سالمًا إذا ذهبت، ولا آمن عليهما وحدهما من شرٍّ إذا بقيت هنا.
فقال عزيز: أما خوفك على أهلك، فلا أخالفك فيه، وإذا شئت فإني أسعى في سرعة انتقالي إلى القاهرة، ومتى صرت هناك أتعهد لك بالمحافظة على راحتهن ما استطعت، غير أني أخشى ألا يثقن بي؛ لعدم علمهن منك بذلك.
بعد السلام … قد اضطرني بقائي في الإسكندرية وتعذر حضوري الآن إلى القاهرة، وما أخشاه عليك وعلى ابنتنا فدوى، إذا — لا سمح الله — حدث حادث في القاهرة، أن أسأل ولدي عزيز أفندي أن يكون عندكم مشجعًا وقائمًا بمهامكم؛ لأنه من رجال الجهادية، وهو من أخص أحبائي، وقد تبرع كرمًا منه بالقيام بهذه المهمة، فينبغي أن تعتبريه كولدك، ولا تظني به سوءًا، واعتمدي عليه في كل مهمة ريثما أحضر. والسلام.
ثم طوى الكتاب وأعطاه لعزيز، فتناوله وهو يكاد لا يصدق، ثم ودع الباشا وخرج يريد الوفد، فلما اجتمع بهم وانتهت مهمتهم، عادوا جميعًا إلى كفر الدوار، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى مصر، فسعى عزيز إلى أن عاد معهم.
أما فدوى، فما برحت تنتظر جوابًا على كتابها إلى أن مرَّ أسبوعان، فوقعت في اليأس، واستولى عليها الهم والغم؛ حتى لم تستطع طعامًا ولا شرابًا، فخارت قواها، وهزل جسمها، واكفهر لون وجهها الأبيض، وكادت تغور عيناها في وجهها، ولم يكن لها مؤنس في خلوتها إلَّا البكاء والنحيب، ولا مُعَزٍّ إلا خادمها الأمين بخيت، فكان لا ينفك عن تخفيف كربها، وتعليق آمالها بلعل وعسى، وهي كل يوم تزداد ضعفًا وكآبة، حتى كاد ينجلي أمرها، فدخل بخيت غرفتها مرة، فإذا هي منكبة على البكاء تردد قولها: آه! حبطت آمالي. ألم يوجد بعد؟ كيف أسلوه؟ يا إلهي، ترفق بهذه المسكينة. فدنا منها يطيب خاطرها قائلًا: خففي عنك يا سيدتي. لا تدفعي نفسك إلى اليأس، ولا تدعي عواطفك تأخذ مداها، فالله الذي جمع قلبيكما قادر أن يجمع شتاتكما، وقد تعاهدتما على حب طاهر مقدس تعززه الشهامة والشرف، وتصونه عزة النفس وكرم الأخلاق، فلا يخيب الله لكما أملًا. ولما وصل بخيت إلى هنا من الكلام أتت خادمة تدعو فدوى إلى مقابلة والدتها، فقال لها بخيت: اغسلي وجهك يا سيدتي، وأخفي اضطرابك؛ لئلا تلحظ شيئًا منه سيدتي والدتك. فنهضت وهي لا تفتأ تائهة في أحزانها، فلم تقو على المشي، فأسندت يدها إلى شيءٍ أمامها ريثما هدأ اضطرابها، فغسلت وجهها وتلاهت بترتيب شيء من رياش غرفتها إلى أن يزول عنها هذا الاضطراب، فلما طال أمرها عادت الخادمة تستنهضها للذهاب، وتقول لها: إن سيدتي والدتك قلقة لتأخرك. فنهضت وقد زال عنها معظم ذلك الاضطراب، فذهبت إلى والدتها، وكانت حينئذ في قاعة الاستقبال، فلما قاربت الدخول رأت شابًّا همَّ بالخروج من القاعة، فأجفلت؛ لأنها كانت بثياب البيت، وانزوتْ حياءً إلى أن خرج الرجل، وكان لابسًا لباس الجهادية، وهيئته هيئة قادم من سفر، فلما دخلت القاعة سألتها والدتها عن سبب تأخرها، ولحظت في وجهها أمارات الكآبة، فقالت: علام هذا التغير في وجهك يا حبيبتي؟ فقالت لها: إن انقباضي هذه الأيام لدواعي هذه التقلبات، ولأن والدي بعيد عنا تحت رحمة الأخطار في الإسكندرية. ولم تكذب فدوى بكلامها؛ لأن هذا الانقلاب وتغيب والدها مما يزيدها اضطرابًا على اضطرابها، فطيبت خاطرها وقالت لها: إن الإسكندرية هذه الأيام آمن من كل أنحاء القطر، وقد أتانا هذا النهار أحد أخصَّاء والدك وأعز أصدقائه منها وهو ينقل إلينا كتابًا منه، وقد وكل إليه النظر في أمر البيت؛ خوفًا من عواقب الحرب أن تمتد نيرانها إلى هنا. فأدركت فدوى أنه عزيز، فارتعدت فرائصها، لكنها أخفت اضطرابها ولم تبد شيئًا، فقالت والدتها: يظهر لي أن هذا الشاب غيور همام، فإنه جاءنا من القطار توًّا قبل أن يذهب إلى بيته ويغير أثوابه ويستريح من مشقة السفر. وإني قد امتننتُ من مجيئه واهتمامه بنا؛ لأننا في حاجة إلى من يحمي ذمارنا أثناء هذه التقلبات السياسية. وهذا ضابط جهادي يقدر أن يصون حِمانا، ويقينا غوائل الشر، بإذن الله، وقد أتانا بكتاب من والدك ينطوي على ثقته به، وكفاءته للقيام بهذا الأمر. قالت ذلك ودفعت الكتاب إليها، فتناولته وتلته بسكون إلى أن أتت على آخره، ثم ردته إلى والدتها ولم تُبد رأيًا ولا فاهت بكلام، لكنها تأثرت تأثرًا خفيًّا كاد ينكشف لوالدتها لو لم تبرحها في الحال وتذهب إلى غرفتها؛ لتترك مجالًا لعواطفها وقد أحست بانقباض أوشك أن يشتت صوابها، فلما شاهدها بخيت لحظ شيئًا من اضطرابها، فبادرها قائلًا: أرى الرجل قد جاءنا اليوم مجيئًا رسميًّا، فما الداعي لذلك يا تُرى؟ فقصَّت عليه الحكاية وهي تتميز من التأثر والانفعال.
فقال بخيت: إذا لم يكن للمرء زاجر من نفسه، فماذا تفيد الإهانة والتعنيف؟ فوالله لقد أخطأ هذا الغرُّ مرماه، وهوى بنفسه إلى حيث هلاكها، فليجرِ ما هو جارٍ، سواء عندنا قرُب منا أو بعُد، فهل يجسر على مخاطبتك أو يقوى على رؤيتك؛ فدعيه وشأنه يتزلف ما شاء إلى أن يقضي الله ما يشاء، فتأوَّهت فدوى عن فؤاد متبول وقالت: أرى قلبي لا يغشُّني، فإن مجيء هذا الرجل ينذرني بخطر قريب، ويزيد لوعتي على بعاد … الحبيب. قالت ذلك واستلقت رأسها بيدها، ولم تتمالك عن البكاء، فدخلت غرفتها وألقت بنفسها إلى سريرها، وشرعت تصعد الزفرات، فبقيت بقية ذلك اليوم عرضة للتذكرات المخيفة من ضياع الحبيب، وسفالة ذلك الرجل الذميم.