معدات الزفاف
وبعد بضعة أيام، جاءَ والد فدوى، فأتى عزيز للسلام عليه، فزاد الباشا في إكرامه وتبجيله، فلما بلغ فدوى ذلك خافت سوء العقبى.
وبعد يومين من مجيء الباشا، اختلى بفدوى وفاتحها في مسألتها وأمر خطبتها لعزيز، وأطنب في مدح صفاته ومروءته، وأنه قد نجَّاه من الموت في الإسكندرية، إلى أن قال لها: قد سبق مني القول له أن يكون لك بعلًا.
فقالت: أمر والدي لا أقدر أن أرفضه، إلَّا أنني أطلب إليك الإمهال في هذه المسألة.
فقال: وما الفائدة من الإمهال وقد عرفت هذا الشاب معرفة جيدة، وهو الذي أنقذني من الموت على يد أحد أصحابه؟ وفوق ذلك فهو رجل ذو ثروة واسعة، فعلام الإمهال؟
فقالت: إن البلاد الآن في خطر، والأفكار مضطربة، فهلَّا تمهلت في الأمر ريثما تهدأ الأحوال.
قال: إن ذلك لا يوجب الإمهال، ولا بدَّ من إتمام الأمر؛ فالشاب ممن يليقون بنا.
قالت: ولكن … وخنقتها العبرات.
فبادرها قائلًا: لا حاجة بنا إلى التردد وقد قضي الأمر ووعدت الرجل وعدًا شافيًا بك. فلم تستطع فدوى جوابًا لشدة تأثرها واشتغالها بالبكاء.
فغضب الباشا منها وانتهرها قائلًا: ما معنى هذا البكاء؟ ألعلك تريدين خداعي بدموعك؟ فلا حاجة بنا إلى الإطالة، فالغد موعد الاقتران.
فترامت على يدي والدها تقبلهما وهي تقول: ارحم، يا أبتاه، ابنة مسكينة، واسمح لها بكلمة فأحس بالحنو الوالدي. فانعطف قلبه نحوها وقال: تكلمي ما بدا لك، فقالت: سيدي، لا تظلم ابنتك ولا تُحمِّلها ما لا تطيق، فأنا مجبورة على تتميم أوامرك كلها، ولكن هذا شيء … لا أقدر على … إجرائه.
فقال: ماذا …؟ وهل تعنين مخالفة قولي؟
– سيدي ووالدي، ما اعتدت أن أخالف لك أمرًا إلَّا هذا فقط.
فقاطعها وهو يتميز من الغضب قائلًا: يكفي. لا تزيدي. أتظنين أني لم أطَّلع على مكاتبتك لذلك الشقي إلى بلاد الإنكليز، فهذا أمرٌ لا يليق بك، ولم يسبق له نظير عندنا.
فقاطعته قائلة: يا أبتي … خيانة … وخداع. لا تظلم هذه الابنة. الموت أقرب إليَّ من القبول بهذا الأمر، قال: لا يعنيني كيف كان هذا الأمر، بل يهمني أني وعدت هذا الرجل بقرانك. أفهمت؟
فأوشكت فدوى أن تفقد صوابها من التأثر والبكاء فقالت بصوت ضعيف ونغمة حزينة: الموت … الموت … أحب إليَّ ولا …
فانتهرها قائلًا: أهذه نتيجة التربية يا فدوى؛ أن تعقي والديك؟
فقالت: لا لا … يا أبتي، وإنما أطلب إليك … الإمهال بالأمر ريثما تختبر من غشتك ظواهره.
فقال: عبثًا تتكلمين، فغدًا ميقات الاقتران قبلتِ أم لم تقبلي. ثم تركها وخرج لا يلوي على شيءٍ، وأخذ يهتم بمعدات الفرح، وبقيت تلك المسكينة تتقلب على نار الأسى، وتندب سوء بختها، فتراءى لها أن تستنجد والدتها، فلما ذهبت إليها وأطلعتها على الأمر أجابتها: خير لك الانصياع إلى أمر والدك من مخالفته؛ لأنه يسعى إلى خيرك، فما معنى مخالفتك له؟ ألعلك خبرت الدهر أكثر منه؟ أو لعله يريد بك سوءًا؟ فعادت فدوى إلى غرفتها تضرس أنامل الأسى وتشكو المعاكسات التي ألمت بها، ولم ترثِ منصفة لضعفها، وبقيت بياض النهار وسواد الليل تتقلب على جمر الغضى، فلما كان الصباح أعد الباشا معدات الفرح من مأكول ومشروب، وأعدت تلك السيئةُ البخت جرعة سامة أخفتها حتى تكون في مأمن من انكشاف أمرها للسوى، حتى إذا تحققت وقوع المقدور تتجرعها وتتخلص من حياة تسخر قلبها فيها لسوى الحبيب.
أما عزيز فأخذته هزَّة الطرب لما نال من الفوز، فدعا من استطاع من أصدقائه إلى الاحتفال، ولبس أفخر ما لديه من اللباس متناسيًا حالة البلاد التي كانت في خطر عظيم؛ فالجنود المصريون كانوا في التل الكبير يتوقعون هجوم الإنكليز عليهم وهم في تأخر مبين، والجنود الإنكليزية صاروا على مقربة منهم، وأما عزيز فنزع ثوبه الجهادي، ولبس ما اختار من اللباس؛ ليظهر به جميلًا ذلك اليوم، ولو ساعدته الأحوال لجاء بالمغنين والمغنيات، واحتفل احتفالًا عظيمًا.
فما كانت عصارى النهار إلَّا امتلأت القاعات بالمدعوين، فلما تأكدت فدوى الأمر وقعت في اليأس، وانفردت في غرفتها تندب شفيقًا والحياة، وعوَّلت على الإيقاع بذلك الخائن ثم بنفسها تخلصًا من العار، فأرسلت تستدعي بخيتًا. ولما حضر ألقت إليه الأمر، وأطلعته على عزمها من تجرع كأس الموت، فقال لها ودموعه تتناثر: لا تفعلي يا سيدتي، ولا تبيعي حياتك رخيصة. إن هذا الخائن والله غير بالغ ما يريد وأنا حي أُرزق، فلا بدَّ من أن أخطف روحه قبل أن يدركك ببصره، وبعد ذلك سواء عندي عشت أو مت؛ لأني أكون قد أقمت بما يجب عليَّ، وخلَّصت نفسًا طاهرة من العذاب والموت. وكان بخيت قد أعد فردًا ناريًّا (ريفولفر)، حتى إذا تأكد عقد الزواج يطلقه على عزيز فيميته، ثم على نفسه فيموت الاثنان فداءً لفدوى.