على الباغي تدور الدوائر
إن امتلاك جنود العدو حصون التل الكبير يقضي على جميع أمراء العسكرية والملكية وأعيان البلاد بالحضور حالًا إلى سراي قصر النيل؛ للمفاوضة في الاحتياطات اللازمة لمنع العدو من دخول مدينة القاهرة؛ فيجب حضوركم حالًا حالًا إلى السراي المشار إليها.
فلما قرأ الباشا الكتاب تغير لون وجهه، فأمر بإحضار العربة، وركب وركب معه من حضر من أعيان البلاد إلى المحل المذكور، فانحل عقد الاجتماع، ولما وصل الباشا إلى قصر النيل، رأى القاعات ملأى بالأمراء والأعيان وهم يتفاوضون فيما يتخذونه من الاحتياطات لمنع العدو، فكثرت الآراء فيما بينهم، وتعددت وتناقضت، فنهض أحد الباشوات — وكان من الذين لا يزالون محافظين على ولاء الخديوي — فعنف الجهادية على عصيانهم، وحرَّضهم على وجوب التماس العفو من مولاهم، ووافقه كثيرون ممن حضر، فألفوا لجنة لتكتب عرضًا بطلب العفو، فكتبته وأرسلته بمعية وفد إلى الإسكندرية، غير أنه لم يُقبل.
وبعد مسير الوفد من القاهرة، أصرَّ البعض على وجوب الدفاع، وأقروا على إنشاء خطوط نارية في ضواحي المحروسة، فذهب عرابي لتنفيذ ذلك في العباسية، وكانت العاصمة حينذاك في اختلاط ولغط؛ خوفًا من حدوث ما حصل في الإسكندرية من حريق وخراب.
كل هذا الاضطراب وعزيز لا همَّ له إلَّا الظفر بفدوى، فلما أقبل المساء ولم يأتِ الباشا خاف أن هذا الانقلاب السياسي يعرقل مساعيه، وخصوصًا إذا جاءَ شفيق العاصمة، فتحبط آماله، وتظهر خيانته له، فيعمل على الانتقام منه، فصورت له بصيرته أن يأتي بزمرة من الرعاع على شاكلته ويتهدد فدوى ويختطفها غصبًا، وهكذا فعل، فلما وصل باب غرفتها وهمَّ بالدخول اعترضه بخيت، فلم يرتد، فدفعه في صدره قائلًا: لا تزيدك الأيام إلَّا سفالة، فهجم رفاقه يريدون فتح الباب قهرًا، فلما رآهم بخيت على هذه الحال أطلق فيهم الفرد، ولكنه صوبه إلى عزيز فأصاب منه جنبه، فسقط إلى الأرض، فعلت الغوغاء من رفاقه، وهجموا على بخيت بالنبابيت والعصي. أما هو فدافع حتى كاد يقع في اليأس، وحينئذ اضطربت فدوى لهذه الغوغاء، وإطلاق البارود، فتناولت الجرعة السامَّة ويداها ترتعشان وفرائصها ترتعد، ثم أخرجت تذكار شفيق، وجعلت تُقبِّله وتذرف عليه العبرات وهي تقول: على الدنيا ومن فيها السلام إذا خلت ممن يحبه قلبي؛ فالوداع الوداع أيها الحبيب إذا كنت لا تزال من أهل الحياة، واللقاء اللقاء إذا كنت قد انتقلت إلى أهل البقاء. ثم لم تقوَ على الوقوف، فألقت بنفسها إلى المقعد وهي غائبة بذكرى الحبيب، فسمعت جلبة عقبها سكوت وصوت رخيم ينادي: ما هذا التحامل؟ أين فدوى؟ مَن هؤلاء يا بخيت؟ كيف يقوون على اختراق حرمة المخدرات؟ فلما سمعت فدوى هذا الكلام خافت افتضاح أمرها، ورفعت الكأس إلى فيها، فسمعت أيضًا: أين فدوى؟ من يظلم هذا الملاك؟ فبهتت وأخذتها الدهشة، واشتبهت في صوت من تحب، فاحلولت لها الحياة، ورغبت في استطلاع الخبر قبل أن تأتي أمرًا فريًّا، والسم الذي ظنته منذ هنيهة مقرِّبًا من الحبيب رأته مفرِّقًا عنه، فأي عبارة تفي بوصف حالة هذه الذات الملائكية وهي بين هذه التقلبات؛ تارة ترتجف من الخوف وتختار الموت، وأخرى تهتز بسكرة الحب وتطيب لها الحياة، فتتصور أن الحبيب حي سيوافيها، ثم سمعت أيضًا: اذهبوا. لا يبق منكم أحد. وبعد بضع ثوانٍ لم تعد تسمع صوتًا، ثم فُتح الباب ودخل فيه ضابط إنكليزي، فلما رأته فدوى خافته، فإذا هو يقول: لا تخافي يا حبيبتي؛ أنا شفيق. وكانت لا تزال جالسة والجرعة السامة في يدها، فلما سمعت ذلك سقطت الجرعة من يدها وقالت: أحبيبي في قيد الحياة؟ وسقطت على الأرض مغشيًّا عيها، فرشَّها شفيق بالماء إلى أن استفاقت، وأجلسها على المتكأ وهو يقول: خفِّضي من اضطرابك، فلما رأت شفيقًا وتأكَّدت أنه هو باللباس الإنكليزي، لم تتمالك أن صرخت وهي غائبة عن الصواب: حبيبي، حبيبي شفيق، قد شفق الله على حياتي فأرسل إليَّ ملاكي الحارس. فأخذ شفيق يسكن روعها ويلاطفها إلى أن هدأ بالها.
ثم نهض شفيق ليرى ما تمَّ لعزيز، فإذا به يئن من ألم الجرح وقد همَّ بخيت أن يقضي عليه، فمنعه وأمره بنقله إلى غرفة لمداواته، فقالت فدوى: أتريد إحياء خائن أراد بك سوءًا؟ فقال: تمهلي يا حبيبتي، ولا تأخذي الناس بأعمالهم؛ فهذا الشاب كان من أصدقائي، وهو الآن مطروح بين حي وميت، فيجب علينا معاملته معاملة الجريح في الحرب. ثم أمر بنقله إلى غرفة ثانية، وغسل جراحه وضمدها، حتى استفاق فرأى شفيقًا فوق رأسه، فبكى وأحس بما أساء به إلى هذا الباسل، فهمَّ أن يلقي بنفسه إلى الأرض ويطلب إليه المغفرة، فمنعه وطيَّب خاطره قائلًا: لا بأس عليك يا عزيز، أنا أعلم أنها هفوة صدرت منك، فلا أؤاخذك عليها؛ فاضطجع ريثما تستريح وسأعود إليك. ثم تركه وعاد إلى فدوى.