اجتماع الحبيبين وكشف القناع
فلما سمع الشرطة إطلاق البارود أتى بعضهم فشاهد ضابطًا إنكليزيًّا داخلًا البيت — وكان قد سمع بدخول الإنكليز مدينة القاهرة في ذلك المساء — فظنه قد فعل ذلك عمدًا، فلم يستطع كلامًا.
أما والدة فدوى، فلما سمعت الضوضاء وإطلاق البارود اضطربت وخرجت فرأت الازدحام، ثم أتى الضابط الإنكليزي ولم يصبر أن دخل غرفة فدوى، فخافت عليها ونادت الخدم أن يمنعوه، فلم يجسر أحد منهم على ذلك، فظنَّت أن الإنكليز بعد دخولهم القاهرة جاءوا للقتل والنهب، وبقيت في قلق عظيم على ابنتها إلى أن أتى الباشا فأطلعته على الخبر، فلم يستطع الآخر في بادئ الأمر الدخول خوفًا على حياته، وصار ينتفض من الخوف والغضب، ويفكر في مخرج ليخلِّص ابنته، وإذا ببخيت قد أتى إليه ودلائل الفرح والاستبشار بادية على وجهه وهو يقول: لم لا يدخل سيدي؟ فدخل الباشا غرفة ابنته فإذا هي جالسة إلى ذلك الضابط، فاستاء منها لما كان يجب عليها من التحجب عن الغرباء، خصوصًا لأنه كان يعهد فيها المحافظة على تلك العادة، غير أنه لم يقوَ على إبداء ملاحظة في هذا الشأن، فنسب ذلك إلى خوفها، فلما اقترب منهما كان يرجف من الخوف والغضب، غير أنه حالما تفرَّس في وجه شفيق عرفه؛ إنه هو الذي نجَّاه من الموت في الإسكندرية، فألقى بنفسه إليه وقال: أهلًا وسهلًا، إني لا أنسى فضلك مدى العمر. فما هذا الاتفاق السعيد؟ ومتى جئت؟ قال: جئت هذا المساء مع الجيوش الإنكليزية، فقال: هل على المدينة من بأس منهم، قال: لا، لأنهم دخلوها وجعلوا الخفر في كل جهاتها، واحتلوا القلاع والحصون، ولا يلبثون أن يقبضوا على عرابي. وها قد تمَّت نبوءة قائد الحملة الجنرال ولسلي بأنه يدخلها في ١٤ سبتمبر.
أما فدوى، فدهشت لترحيب والدها بشفيق، ولكن أمارات الوجل كانت لا تزال على وجهها إثر ما قاست هذين اليومين، ثم ما كان من دخول شفيق عليها بغتة.
وكان الباشا جاهلًا كيفية إصابة عزيز، ولا ينفك مفكرًا في سبب دخول ذلك الضابط لبيته والجلوس إلى ابنته، فلاح له أن شفيقًا هو الجاني على عزيز لدواع جنسية — وكانت الحياة إذ ذاك لا قيمة لها — فأسف لضيم صبره، وأوجس من ضياع الثروة، ورغب في استطلاع الخبر، فسأل شفيقًا، فبادرته فدوى — وكانت قد استردَّتْ روعها: إن بخيتًا يا أبتِ ضرَبه، ويا ليتها كانت القاضية! قال: ولماذا؟ قالت: أطلب إليك قبل قصِّ الخبر أن تُعلمني كيف عرفت حضرة الضابط. ورمت شفيقًا بنَبْل من عينيها خرقت أحشاءه، وتبسَّمت تبسمًا مملوءًا من الحب.
فقال الباشا: هذا الذي أنقذنا من الموت في الإسكندرية أنا وعزيز، قالت: أتعرف أن اسمه شفيق، قال (وقد بُهت إذ تذكَّر ذلك الاسم): ولعله الذي خبرت عنه من عزيز! قالت: نعم، هذا هو الملاك الحارس الذي أنقذك من الموت مرة، وأنقذني منه مرتين، وأنقذ ذلك الخائن مرارًا. فخجِل شفيق وقد أذهله لطف حديث فدوى، حتى أوشك أن يغيب بسكرة الحب، فهمَّ أن يتجمل بالاعتذار لمبالغتها بالوصف، فأدركت ذلك منه وقالت (وهي ترمقه بألحاظ ناطقة بأن لا أخشى في حبك لوم اللائمين): إذا ذكرتُ بسالتك فلا أُكسبك رفعةً؛ لأن أعمالك المتجددة مع الأيام ناطقة بذلك، فلا تحسب شكري لك على ما أوليتني من الفضل ثناء عليك. ولكي لا تدع له مجالًا للكلام، وجهت الخطاب إلى والدها بعد أن أفهمته بألحاظها المراد، وقالت: أتلومني بعد هذا يا والدي إذا كنت … وكأنها أحست بعدم لياقة ذكر الحب لوالدها، فكادت تتلعثم، فأتم والدها قولها إذا كنت تحبينه؛ أليس كذلك؟ فخجلت، ولكنها استأنفت الكلام قائلة: لا أجهل يا أبتِ أن وجودي بالقرب منه ولو ملثمة محظورٌ في عوائدنا، غير أني لا أستحيي أن أقول إنه يجب معاملة مَن كان كهذا الشهم وقد أنقذني من الموت مرتين معاملة أقرب الناس مني، فأُعِد مقابلتي له على هذه الحالة مقابلتي لأقرب أقربائي.
فنهض الباشا حينئذ إلى شفيق وقبله ومدحه، فكرر شفيق ما حضره من عبارات الشكر والامتنان؛ لما أظهراه له، ثم أخذوا بأطراف الحديث عن عزيز وأعماله، حتى انكشفت للكل سعايته، ورداءة جوهره، فأسف الباشا على ثقته به قدر أسفه على فقد ثروته بهذا الحادث، ثم سأل الباشا شفيقًا: مَن أبوه؟
فقال: إن والدي اسمه إبراهيم، وهو أحد مستخدمي قنصلاتو إنكلترا في القاهرة، وقد قضى حتى الآن في خدمتها زهاء ١٨ سنة. فدُهش الباشا لذلك وخاف ألا يكون مسلمًا، فقاطعه قائلًا: ومِن أي الطوائف؟ قال: من الطائفة الإسلامية. فازداد دهشة وقال: أمن الطائفة الإسلامية وقد قضى في خدمة الحكومة الإنكليزية جل عمره؟ فقد سمعتُ أنه ليس منها، فقال شفيق: كلا، بل هو منها، وأما تقرُّبه من هذا القنصلاتو فيلوح لي أن له به سرًّا يودُّ إخفاءه.
فقال الباشا: وأظن هذه البلاد ليست بلادكم؟
فقال شفيق: أعترف لك بجهلي الحقيقة كما هي، وإنما يترجح لديَّ أن والدي من أنحاء بر الشام. فاستأنف الباشا الحديث لئلا يضايق شفيقًا، وعاد إلى التكلُّم في أمر عزيز، ولكنه أضمر في سرِّه أن يبحث عن حقيقة حسب شفيق ونسبه قبل إتمام أمر الاقتران.