شفيق وعزيز
أما شفيق، فكان شابًّا في التاسعة عشرة من العمر، طويل القامة، معتدلها، قمحي اللون، ذا عينين سوداوين تحت حاجبين متصلين، صغير الفم، واسع الجبهة، أسود الشعر، خفيف العارضين، وكان قد ربِّي في بيت أبيه تربية حسنةً جدًّا، فشبَّ كريم العنصر، طيب السريرة، لا يعرف أبواب المكر ولا أساليب الناس في الخداع. وكان مع ذلك ذكيًّا نبيهًا حاذقًا، فأدخله والده المدرسة التجهيزيَّة الأميرية؛ ليتم دروسه على نفقة الحكومة؛ لأنه لم يكن في سعة كبيرة من العيش، على نية أن يعلمه مهنة الطبِّ أو المحاماة لمَا رأى فيه من الذكاء.
وكان لباسه في غاية البساطة، وعلى الزيِّ المعتاد من السترة والبنطلون والطربوش العزيزي، وكان في وجهه — على صِغَر سنِّه — مهابة كبار الرجال؛ قلما يتجرأ أصدقاؤُه على ممازحته، ولو كانوا أكبر منه سنًّا، فكان لذلك كثير الهيبة لدى كل معارفه، وكان على صِغَر سنِّه يخاطب كلًّا حسب مقامه، وعلى مقتضى المقام، وقلَّما كنتَ تراه في مجلس أولاد أو معرض لهو؛ ولذلك كان أساتذة المدرسة وتلامذتها يحبونه، ويعتبرونه كثيرًا. وكان لفرط ذكائه لا يعاني تعبًا في الدرس، ولم يكن أبناءُ صفه يطالعون دروسهم إلَّا إذا جاء شفيق فيشرح لهم الدرس كأنهم تلامذة وهو أستاذهم.
ولم يكن أحد منهم يحسده لكثرة ما كانوا يحبونه، إلَّا عزيزًا؛ فإنه كان رفيقًا له في الدروس. وكان كلاهما في السنة الأخيرة من سني المدرسة.
أما عزيز، فكان مضادًّا لشفيق في أخلاقه ويحسده؛ لما رأى من منزلته الرفيعة لدى كل من يعرفه، وكان على جانب عظيم من الثروة التي اتصلت إليه بالإرث من والده، وكان قصير القامة، كبير الأنف، شديد سمرة البشرة، محبًّا للتفرنج، فلا يخرج إلى الشوارع إلَّا بالنظارات المسترسل خيطها من جانب عينيه على صدره على غير قصر في نظره، وكان يلبس طربوشه مائلًا فوق حاجبيه تيهًا وعجبًا، وحول عنقه قبة (ياقة) تُزاحم أحناكه، حتى لم يكن يستطيع إدارة رأسه ذات اليمين أو ذات اليسار إلَّا بصعوبة، وإذا وقف يقف منتصبًا، وإن شئت قل متطاولًا، في يده اليمنى عصًا غليظة معكوفة الرأس، وفي اليسرى سلسلة ساعته الذهبية الغليظة يلاعب أصابعه بها، وفي فمه السيكارة الإفرنجية الضخمة. ومِن شرِّ أخلاقه الادعاءُ والحسد والرياءُ وحب الرفعة عن غير استحقاق.
ولم يكن شفيق يودُّ مرافقته؛ لأنه يكره كل ما تقدم من أخلاقه، وإنما جمعته به جامعة المدرسة، وكان عزيز يعرف حقيقة أطوار صديقه، فكان يتظاهر أمامه بما يرضيه استبقاءً لصداقته؛ لأنه كان يحتاج إليه بأشياء كثيرة أخصها مراجعة الدروس معًا. ولا يخفى أيضًا أن الغنى والترف يكسبان المرءَ مظهرًا يقرِّبه من رضاء الجمهور.
وكان من عادة الخديوي إسماعيل باشا أن يختار أنجب تلامذة هذه المدرسة فيبعثهم إلى أوروبا؛ لدرس الطب والحقوق أو ما شاكل. وكان جميع التلامذة تلك السنة يتوقعون ذلك الفخر لشفيق؛ لامتيازه عنهم في كل شيءٍ، كما تقدم. أما عزيز، فكان كلما تصوَّر ذلك يكاد يتميز غيظًا، ليس رغبة في العلم، وإنما حبًّا للفخر، فصعب عليه أن يكون غنيًّا، ويكون شفيق أكثر اعتبارًا منه في عيون الناس. وكان لا ينفك باحثًا عن وسيلة تمكِّنه من حط شفيق في عيون الأساتذة أدبًا وعلمًا، وما زال حتى كانت أواخر السنة المدرسية والتلامذة يهتمون بمراجعة الدروس، فلاح له أن يسعى إلى إلهاء شفيق عن دروسه، وإيقاعه بما يعاب به، واتفق احتفال فتح الخليج في ذلك الأثناء، فأخذ قبل يوم الاحتفال ببضعة أيام يحسِّن له حضوره. وربما كان له بذلك غرض آخر. ولعِلمِه أنه يريد استئذان أبيه في الأمر قال له: دع هذا إليَّ؛ فإني أبعث لجناب والدك خبرًا مع المجري يوم عزمنا على المسير. وكان في نيته أن يهيج غضب والده عليه أيضًا، فعند انقضاء وقت المدرسة في ذلك اليوم، ألحَّ عزيز على شفيق أن يسير معه للتنزه في الجزيرة حتى يمسي المساءُ فيأتيا إلى مكان الاحتفال عند فم الخليج، فاعتذر بأنه لا بدَّ له من استئذان والده، فأكد له أنه سيبعث خادمه ليخبر والده ووالدته؛ لئلَّا يقلقا لغيابه. وكانت عربة عزيز تنتظرهما عند باب المدرسة وأمامها المجري بلباسه القصبي، فركبا وسارا.