حديث في لندرا
بقيت والدة شفيق كاتمة عن زوجها أمر حب شفيق لفدوى حتى أتاها كتاب منه يخبرها برضاء والد فدوى عنه، وأنه يميل إلى تزويجه بها، ويطلب إليها أن تطلع والده على حقيقة الخبر وتستطلع أفكاره في ذلك.
فسُرَّت لأنَّها لم تكن تطمع بذلك لفرط ثروة الباشا، فأحبت إطْلاع زوجها ليشاركها بالفرح، فبقيت تترقب الفرص لتراه مسرورًا واسع الصدر، حتى كانت ليلة من ليالي الصيف في لندرا كان فيها زوجها أقلَّ انقباضًا من عادته، فجلست إليه وبدأت تلاطفه بالحديث إلى أن قالت: ألا تبرح مصرًّا على كتمان حكاية الشعر عني يا إبراهيم.
فتأفف إبراهيم من تكرار هذا السؤال عليه؛ لأنه ينقبض عند تذكره، فقال: أستحلفك بالله ألا تعيدي على مسمعي ذكر الشعر؛ فقد قلت لك إنني لا أستطيع إطلاعك على شيءٍ من أمره.
فضحكت سعدى وقالت: أتظن لا أحد يحمل أسرارًا إلَّا أنت فأُعجبتْ بما كتمتَ؛ فإن لديَّ سرًّا لو أطْلعتُك عليه لزالت كل أكدارك وتبدلت بالأفراح.
قال: وما هو يا ترى السر الذي يجلب الأفراح وتكتمينه؟ قالت وهي تبتسم في وجهه: لا أستطيع أن أنقله لك قبل أن تسمح لي بفض الكتاب، أو تُطلعني على حكاية الشعر.
فقال: إذا كان في معرفة سرك ما يفرح، ففي سري ما يحزن؛ فالأحرى أن نتجنب الحزن، ثم إني لا أستطيع التصريح بسري، فإذا كان سرك كما قدَّمت فهاته؛ لعلنا نجلي شيئًا من صدأ الأحزان والأكدار، فقد كفانا ما كابدناه أثناء ضياع شفيق من المشقة، فلنشكر الرب على بقائه حيًّا، ونطلب إليه أن يحفظ لنا حياته، ويقدر له نصيبًا يحفظ له سعادته وهناءه؛ لأن معظم سعادة الرجل تتوقف على حكمة امرأته وحسن أخلاقها.
فلما رأت سعدى أن الحديث قد سهل لها الخوض في أمر اقتران شفيق قالت: لا تظن أني أقلُّ اهتمامًا منك في أمر اختيار عروس لولدنا تقرر له سعادة حياته، وأنا أُفضِّل أن تكون من عائلة ذات ثروة واسعة؛ لأنه يستحق كل خير، فما رأيك في الابنة الغنية؛ ألا تفضلها على الجميلة؟
فتنهد إبراهيم كمن يريد التكلم ويمنعه الرقيب، فقال: إذا أردت رأيي، فلا أريد له ابنة إلَّا من ذوي قرباه، سواء كانت غنية أو فقيرة، جميلة أو غير جميلة.
فقالت: أتقصد من أقربائك أو أقربائي؟
قال: من أقربائي؟
فرمقته بنظر المدهوش قائلة: قد مرَّ عليَّ برفقتك كل هذا الزمن ولم تطلعني على شيءٍ من أمر وطنك أو ذوي قرباك؛ أليس هذا إجحافًا منك أن أعيش معك زهاء عشرين سنة ولا تُعلمني من أي البلاد بلادك، ولا من أي الناس أهلك؟ فكتمانك عني هذا الأمر أشبه بكتمان أمر الصندوق.
فقال وهو يبتسم مستهزئًا: اعلمي أن معرفة أحد السرَّينِ يترتب عليه معرفة الآخر.
فازدادت سعدى تطلعًا إلى استطلاع السر، غير أنها لم تقوَ عليه ذلك الحين، فاستأنفت الحديث عن شفيق قائلة: إن أسرارك قد أذابت كبدي؛ فدعها إلى الوقت الذي تشاء. أما مسألة زواج شفيق، فأحب معرفة رأيك فيها، فإذا اختار ابنة من بنات مصر الغنيات، وكانت ذات حسب ونسب وتهذيب وتعقل؛ أفلا تكون مسرورًا؟
فأجابها: كلا، بل أكون متكدرًا ولو كانت الابنة من بنات الباشوات؛ لأني أفضل له ابنة من بنات أعمامي ولو كانت فقيرة، فقالت: ولو أحب وأصرَّ على أخذها! قال: لا أظنه يخالفني، وإذا فعل ذلك أكون مُنكَّدًا مدة حياتي.
فاضطربت سعدى عند ذلك الخطاب، وأوجست مما يجلب الكدر لشفيق؛ لأنه مغرم بفدوى، ولم تستطع مراجعة زوجها لئلا يفهم قصدها، فسكتت وهي مرتبكة الخاطر، ولم تقدر أن تطلع شفيقًا على أفكار والده خوفًا من سوء عاقبة ذلك، فتربصت لما يأتي به المقدور أو تقدره الأحوال.
وبعد المداولة في أحاديث مختلفة قال إبراهيم: وما سرك الذي تفاخرين به؟ قالت: ليس لديَّ سر، وإنما أردت تحريضك على مكاشفتي بسرك فلم أنجح. ثم عاد كلٌّ منهما إلى غرفته.
أما سعدى فلما دخلت غرفتها جلست تكتب كتابًا لشفيق، فأخبرته أنها لم تعلم والده بأمر الزواج لأنها لم تر فرصةً لذلك، وأنها ستخبره في أول فرصة، وأما مجيئهما إلى مصر فسيكون بعد أجل غير معين؛ لأن الحكومة الإنكليزية استَبْقَتْ والده تستخدمه في بعض المهام المتعلقة بمصر؛ لما تعلمه من خبرته بأحوال ذلك القطر، ثم تشير على شفيق ألا يستعجل في أمر الزواج، وأن يدع كل شيء ريثما يحضران.
أما شفيق فكان بانتظار قدوم والديه إلى مصر، وظن أن ذلك يكون أثر مجيء اللورد دفرين؛ الذي أرسلته الحكومة الإنكليزية ليأتيها بتقرير عن أحوال القطر، غير أن ذلك الظن لم يتحقق — وكان شفيق قد وعد الباشا أنه يكتب لوالده ليكتب إلى الباشا لتتم المعرفة بين الجانبين — فلما جاءَ كتاب والدته خشي أن تطول المدة قبل اطِّلاع والده على الأمر، فيتوهم الباشا في شفيق الخداع والنفاق، فلبث ينتظر بشرى والدته بإطلاع والده وهو على مثل الجمر.
أما فدوى، فكانت تعد الساعات والأيام في انتظار قدوم والدي شفيق؛ لأن وجودهما يسهل أمر الاقتران، ويضع حدًّا لكل المشاكل التي كانت تخافها، وخصوصًا دسائس عزيز، وكان قد عزل من خدمة الجيش المصري في جملة من عزل من أبناء القطر؛ لأن الخديو أمر بعد الحوادث العرابية بإلغاء الجيش القديم، وتنظيم جيش جديد، ولكنها مع ذلك لم تفتأ في قلق دائم من دسائسه؛ لما فطر عليه من الشر والخيانة، وما يساعده على قبائحه من سعة غناه.